الرئيسيةبحث

الروح/المسألة السابعة/فصل أقسام الدور

فصل أقسام الدور

الأمر الثالث: أن اللّه سبحانه جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية. والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيما أو عذابا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيما أو عذابا، فأحط بهذا الموضع علما وأعرفه كما ينبغي يزيل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج.
و قد أرانا اللّه سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلا والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
و أعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس، فإذا كانت الروح تتألم وتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم، فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب [في] [1] الأرواح والأجساد ظاهرا باديا أصلا.
و متى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه، وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أتى كما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائم في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه، وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر، فأمر البرزخ أعجب من ذلك.

هامش

  1. زيدت على المطبوع لوضوح العبارة.