→ فصل عذاب القبر وعذاب البرزخ | الروح - المسألة السابعة - فصل البعث المؤلف: ابن القيم |
المسألة الثامنة ← |
فصل البعث |
الأمر العاشر: إن الموت معاد وبعث أول، فإن اللّه سبحانه وتعالى جعل لابن آدم معادين وبعثين يجزي فيهما الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن ومصيرها إلى دار الجزاء الأول.
و البعث الثاني: يوم يرد اللّه الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار وهو الحشر الثاني، ولهذا ورد في الحديث الصحيح «و تؤمن بالبعث الآخر» فإن البعث الأول لا ينكره أحد، وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب، وقد ذكر اللّه سبحانه وتعالى هاتين القيامتين وهما الصغرى والكبرى في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة القيامة، وسورة المطففين، وسورة الفجر، وغيرها من السور، وقد اقتضى عدله وحكمته أن جعلها داري جزاء المحسن والمسي ء، ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثاني في دار القرار، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[3:185].
و قد اقتضى عدله وأوجبت أسماؤه الحسنى، وكماله المقدس، تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، فلا بد أن يذيق بدن المطيع له وروحه من النعيم واللذة ما يليق به، ويذيق بدن الفاجر العاصي له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه، وهذا موجب عدله وحكمته وكماله المقدس. ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان، لا دار جزاء لم يظهر فيها ذلك، وأما البرزخ فأول دار الجزاء، فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضي الحكمة إظهاره، فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفيّ أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما، فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة و نعيمها وهو مشتق منه، وواصل إلى أهل البرزخ هناك، كما دل عليه القرآن والسنّة الصحيحة الصريحة في غير موضع دلالة صريحة، كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فيفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها»، وفي الفاجر: «فيفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها». ومعلوم قطعا أن البدن يأخذ حظه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظها فإذا كان يوم القيامة دخل من هذا الباب لمقعده الذي هو داخله، وهذان البابان يصل منهما إلى العبد في هذه الدار أثر خفي محجوب بالشواغل والغواشي الحسية والعوارض، ولكن يحس به كثير من الناس وإن لم يعرف سببه ولا يحسن التعبير عنه، فوجود الشي ء غير الإحساس به والتعبير عنه، فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذينك البابين أكمل، فإذا بعث كمل وصول ذلك الأثر إليه، فحكمة الرب تعالى منتظمة لذلك أكمل النظام في الدور الثلاث.
هامش