☰ جدول المحتويات
- كمال النفس بمعرفة الله مع العمل الصالح لا بمجرد معرفة الله فضلا عن كونه يحصل بمجرد علم الفلسفة
- مأخذ علوم ابي علي ابن سينا وشيء من احواله
- تزييف القول بأن الايمان مجرد معرفة الله
- الوجه السادس: البرهان لا يفيد امورا كلية واجبة البقاء في الممكنات
- طريقة الانبياء في الاستدلال
- الاستدلال بالآيات في القرآن
- عظم الفرق بين اثبات الرب بالايات وبين اثباته بالقياس البرهاني
- دلالة قياس الاولى في إثبات صفات الكمال
- لا بد من الاسماء المشككة من معنى كلى مشترك
- الخلاف في الاسماء التي تطلق عليه تعالى وعلى العباد
- شناعة زعمهم أن علم الله أيضا يحصل بواسطة القياس
- فصل: اقوال المنطقيين في الدليل والقياس
- رد المصنف أقوالهم في الدليل والقياس
- بطلان حصر الادلة في القياس والاستقراء والتمثيل
- الاستدلال بالكلى على الكلى وبالجزئي على الجزئي الملازم له
- حد الدليل عند النظار
كمال النفس بمعرفة الله مع العمل الصالح لا بمجرد معرفة الله فضلا عن كونه يحصل بمجرد علم الفلسفة
الوجه الخامس ان يقال هب ان النفس تكمل بالكليات المجردة كما زعموه فما يذكرونه في العلم الاعلى عندهم الناظر في الوجود ولو احقه ليس كذلك فان تصور معنى الوجود فقط امر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره فليس هو المطلوب وانما المطلوب اقسامه
ونفس انقسامه الى واجب وممكن وجوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث هو اخص من مسمى الوجود وليس في مجرد معرفة انقسام الامر العام في الذهن الى اقسام بدون معرفة الاقسام ما يقتضى علما عظيما عاليا على تصور الوجود
فاذا عرفت الاقسام فليس فيها ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغير والاستحالة فان هذه الاقسام عامتها انما هو في هذا العالم وكل ذلك يقبل التغير والاستحالة وليس معهم دليل اصلا يدلهم على ان العالم لم يزل ولا يزال هكذا
وجميع ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك فانما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه لا على قدم شيء معين ولا دوام شيء معين فالجزم بأن مدلول تلك الادلة هو هذا العالم او شيء منه جهل محض لا مستند له الا عدم العلم بموجود غير هذا العالم وعدم العلم ليس علما بالعدم
ولهذا لم يكن عند القوم ايمان بالغيب الذي اخبرت به الانبياء فهم لا يؤمنون لا بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت
واذا قالوا نحن نثبت العالم العقلي او المعقول الخارج عن العالم المحسوس وذلك هو الغيب فان هذا وان كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال فان ما سواء من المعقولات انما يعود عند التحقيق الى امور مقدرة في الاذهان لا موجودة في الاعيان والرسل اخبرت عما هو موجود في الخارج وهو اكمل واعظم وجودا مما نشهده في الدنيا فأين هذا من هذا
وهم لما كانوا مكذبين بما اخبرت به الرسل في نفس الامر واحتاجوا الى الجمع بين قولهم وبين تصديق الرسل لما بهرهم من امر الرسل قالوا ان الرسل قصدوا اخبار الجمهور بما يتخيل اليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي اقاموه لهم
ثم منهم من يقول ان الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الامور ومنهم من يقول بل لم يكونوا يعرفون هذا وانما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية واقل اتباع الرسل اذا تصور حقيقة ما عندهم وجده مما لا يرضى به اقل اتباع الرسل
و اذا علم بالادلة العقلية ان هذا العالم يمتنع ان يكون شيء منه قديما ازليا وعلم بأخبار الانبياء المؤيدة بالعقل انه كان قبله عالم اخر منه خلق وانه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك علم ان غاية ما عندهم من الاحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم
وهب انهم لم يعلموا ما اخبرت به الرسل فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الانواع الكلية التي في هذا العالم ازلية ابدية لم تزل ولا تزال فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة وعامة فلسفتهم الاولى وحكمتهم العليا من هذا النمط
وكذلك من صنف على طريقتهم كصاحب المباحث المشرقية وصاحب حكمة الاشراق وصاحب دقائق الحقائق ورموز الكنوز وصاحب كشف الحقائق وصاحب الاسرار الخفية في العلوم العقلية وامثال هؤلاء ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقا ولا تخلص من اشراك ضلالهم مطلقا بل شاركهم فى كثير من ضلالهم و شاركهم فى كثير من محالهم وتخلص من بعض و بالهم و ان كان ايضا لم ينصفهم فى بعض ما اصابوا فيه و اخطا لعدم علمه بمرادهم او لعدم معرفته ان ما قالوه صواب
مأخذ علوم ابي علي ابن سينا وشيء من احواله
ثم ان هؤلاء انما يتبعون كلام ابن سينا وابن سينا تكلم في اشياء من الالهات والنبويات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت اليها عقولهم ولا بلغتها علومهم فإنه استفادها من المسلمين وان كان انما اخذ عن الملاحدة المنتسبين الى المسلمين كالاسماعيلية وكان اهل بيته من اهل دعوتهم من اتباع الحاكم العبيدي الذي كان هو اهل بيته واتباعه معروفين عند المسلمين بالالحاد احسن ما يظهرونه دين الرفض وهم في الباطن يبطون الكفر المحض
وقد صنف المسلمون في كشف اسرارهم وهتك استارهم كتبا كبارا وصغارا وجاهدوهم باللسان واليد اذ كانوا احق بذلك من اليهود والنصارى ولو لم يكن الا كتاب كشف الاسرار وهتك الاستار للقاضي ابي بكر محمد بن الطيب وكتاب عبد الجبار بن احمد وكتاب ابي حامد الغزالي وكلام ابي اسحاق وكلام ابن فورك والقاضي ابي يعلى وابن عقيل والشهر ستاني وغير هؤلاء مما يطول وصفه
والمقصود هنا ان ابن سينا اخبر عن نفسه ان اهل بيته اباه واخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة وانه انما اشتغل بالفلسفة بسبب ذاك فانه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس
وهؤلاء المسلمين الذين كان ينتسب اليهم هم مع الالحاد الظاهر والكفر الباطن اعلم بالله من سلفه الفلاسفة كأرسطو واتباعه فان اولئك ليس عندهم من العلم بالله الا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه
وقد ذكرت كلام ارسطو نفسه الذي ذكره في علم ما بعد الطبيعة في مقالة اللام وغيرها وهو اخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل فانه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الالهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى واهل البدع من المسلمين وغيرهم اجهل من هؤلاء ولا ابعد عن العلم بالله تعالى منهم
نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد لكنهم جهال بالعلم الالهي الى الغاية ليس عندهم منه الا قليل كثير الخطأ
وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة اراد ان يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما اخذه من سلفه فتكلم في الفلسفة بكلام مركب من كلام سلفه ومما احدثه مثل كلامه في النبوات واسرار الايات والمنامات بل وكلامه في بعض الطبيعيات و المنطقيات وكلامه واجب الوجود ونحو ذلك
والا فأرسطو واتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود ولا شيء من الاحكام التي ل واجب الوجود وانما يذكرون العلة الاولى ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به
فابن سينا اصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض اصلاح حتى راجت على من لم يعرف دين الاسلام من الطلبة النظار وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده ولكن سلموا لهم اصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والالهيات ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببا الى ضلالهم في مطالب عالية ايمانية ومقاصد سامية قرانية خرجوا بها عن حقيقة العلم والايمان وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون بل يستسفطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات
والمقصود هنا التنبيه على انه لو قدر ان النفس تكمل بمجرد العلم كما زعموه مع انه قول باطل فان النفس لها قوتان قوة علمية نظرية وقوة ارادية علمية فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته وعبادته تجمع محبته والذل له فلا تكمل نفس قط الا بعبادة الله وحده لا شريك له والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له وبهذا بعث الله الرسل وانزل الكتب الالهية كلها تدعو الى عبادة الله وحده لا شريك له
وهؤلاء يجعلون العبادات التي امرت بها الرسل مقصودها اصلاح اخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا انه كمال النفس او مقصودها اصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية فيجعلون العبادات وسائل محضة الى ما يدعونه من العلم ولهذا يرون ذلك ساقطا عمن حصل المقصود كما تفعل الملاحدة الاسماعيلية ومن دخل في الالحاد او بعضه وانتسب الى الصوفية او المتكلمين او الشيعة او غيرهم
تزييف القول بأن الايمان مجرد معرفة الله
والجهمية قالوا الايمان مجرد معرفة الله وهذا القول وان كان خيرا من قولهم فانه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولو احقه وهذا امر لو كان له حقيقة في الخارج لم يكن كمالا للنفس الا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى
فهؤلاء الجهمية من اعظم مبتدعة المسلمين بل جعلهم غير واحد خارجين عن اثنتين وسبعين فرقة كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك ويوسف بن اسباط وهو قول طائفة من المتأخرين من اصحاب احمد وغيرهم وقد كفر غير واحد من الائمة كوكيع بن الجراح واحمد بن حنبل وغيرهما لمن يقول هذا القول وقالوا هذا يلزم منه ان يكون ابليس وفرعون واليهود الذين يعرفونه كما يعرفون ابناءهم مؤمنين
فقول الجهمية خير من قول هؤلاء فان ما ذكروه هو اصل ما تكمل به النفوس لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين ارادتها التي هي مبدا القوة العملية وجعلوا الكمال في نفس العلم وان لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من اصول الايمان ولوازمه
واما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد
والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط وانما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب اصولهم الفاسدة
واعلم ان بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض لا يستلزم كونهم اشقياء في الاخرة الا اذا بعث الله اليهم رسولا فلم يتبعوه
بل يعرف به ان من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم الى طريق هؤلاء كان من الاشقياء في الاخرة
والقوم لولا الانبياء لكانوا اعقل من غيرهم لكن الانبياء جاؤا بالحق وبقاياه في الامم وان كفروا ببعضه حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين ابراهيم فكانوا بها خيرا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون ارسطو وامثاله على اصولهم
الوجه السادس: البرهان لا يفيد امورا كلية واجبة البقاء في الممكنات
الوجه السادس انه ان كان المطلوب ب قياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة فتلك ليس فيها واجب البقاء على حال واحدة ازلا وابدا بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر انه من اللازم لموصوفه فنفس الموصوف ليس بواجب البقاء فلا يكون العلم به علما بموجود واجب الوجود
وليس لهم على ازلية شيء من العالم دليل صحيح كما قد بسط في موضعه وانما غاية ادلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة وذلك ممكن موجود عين بعد عين من ذلك النوع ابدا مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح فان القول ب ان المفعول المعين مقارن لفاعله ازلا وابدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه أي شيء قدر فاعله لا سيما اذا كان فاعلا باختياره كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة اصول العلم والدين كالرازي وامثاله كما بسط في موضعه
وما يذكرونه من اقتران المعلول بعلته فاذا اريد بالعلة ما يكون مبدعا للمعلول فهذا باطل بصريح العقل ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل ولما كان هذا مستقرا في الفطر كان نفس الاقرار بأنه خالق كل شيء وموجبا لان يكون كل ما سواه محدثا مسبوقا بالعدم
وان قدر دوام الخالقية لمخلوق بعد مخلوق فهذا لا ينافي ان يكون خالقا لكل شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه بل ذلك اعظم في الكمال والجود والافضال
واما اذا اريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل من شيء بل هو من باب المشروط والشرط قد يقارن المشروط
واما الفاعل فيمتنع ان يقارنه مفعوله المعين وان لم يمتنع ان يكون فاعلا لشيء بعد شيء فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة وذلك لا ينافي حدوث كل جزء من اجزائها بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه
وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الامم حتى ارسطو واتباعه فانهم وان قالوا بقدم العالم فهم لم يثبتوا له مبدعا ولا علة فاعلة بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها لان حركة الفلك ارادية
وهذا القول وهو ان الاول ليس مبدعا للعالم وانما هو علة غائية للتشبه به وان كان في غاية الجهل والكفر فالمقصود انهم وافقوا سائر العقلاء في ان الممكن المعلول لا يكون قديما بقدم علته كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه
ولهذا انكر هذا القول ابن رشد وامثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة ارسطو وسائر العقلاء في ذلك وبينوا ان ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء وكان قصده ان يركب مذهبا من مذهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب مفعولا له مع كونه ازليا قديما بقدمه واتبعه على امكان ذلك اتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي والرازي والامدي والطوسي وغيرهم
زعم الرازي ما ذكره في محصلة ان القول بكون الممكن المفعول المغلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة والمتكلمون لكن المتكلمون يقولون بالحدوث ولكون الفاعل عندهم فاعلا بالاختيار
وهذا غلط على الطائفتين بل لم يقل ذلك احد لا من المتكلمين ولا من الفلاسفة المتقدمين الذين نقلت الينا اقوالهم كأرسطو وامثاله وانما قاله ابن سينا وامثاله
والمتكلمون اذا قالوا بقدم ما يقوم بالرب من الصفات ونحوها فلا يقولون انها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب واجبا قديما الا ب صفاته اللازمة له كما قد بسط في موضعه ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله
وكذلك اساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع ان يكون الممكن لم يزل واجبا سواء قيل انه واجب بنفسه او بغيره
ولكن ما ذكره ابن سينا وامثاله في ان الممكن قد يكون قديما واجبا بغيره ازليا ابديا كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في الامكان من الاسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم ان يجيبوا عنه كما قد بسط في موضعه فان ليس موضع تقريره هذا ولكن نبهنا به على ان برهانهم القياسي الي لا يفيد امورا كلية واجبة البقاء في الممكنات
واما واجب الوجود تبارك وتعالى فالقياس الذي يدعونه لا يدل على ما يختص به وانما يدل على امر مشترك كلى بينه وبين غيره اذا كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس الا امور كلية مشتركة وتلك لا تختص بواجب الوجود رب العالمين سبحانه وتعالى
فلم يعرفوا ببرهانهم شيئا من الامور التي يجب دوامها لا من الواجب ولا من الممكنات
واذا كانت النفس انما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه وهم لم يعلموا علما يبقى ببقاء معلومه لم يستفيدوا ب برهانهم ما تكمل به النفس من العلم فضلا عن ان يقال ان ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل الا ببرهانهم
طريقة الانبياء في الاستدلال
ولهذا كانت طريقة الانبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر اياته وان استعملوا في ذلك القياس استعملوا القياس الا ولى ولم يستعملوا قياس شمول يستوى افراده ولا قياس تمثيل محض فان الرب تعالى لا مثل له ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي يستوي افراده بل ما ثبت بغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الاولى وما تنزه عنه غيره من النقائص فتنزهه عنه بطريق الاولى
استعمال قياس الاولى في القران
ولهذا كانت الاقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القران من هذا الباب كما يذكره في دلائل ربو بيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وامكان المعاد وغير ذلك من المطالب العالية السنية والمعالم الالهية التي هي اشرف العلوم واعظم ما تكمل به النفوس من المعارف وان كان كما لها لا بد فيه من كمال علمها وقصدها جميعا فلا بد من عبادة الله وحده المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له
الاستدلال بالآيات في القرآن
واما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القران والفرق بين الايات وبين القياس ان الاية هي العلامة وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول لا يكون مدلوله امرا كليا مشتركا بين المطلوب وغيره بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول كما ان الشمس آية النهار قال تعالى وجعلنا اليل والنهار ايتين فمحونا اية اليل وجعلنا اية النهار مبصرة فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار
وكذلك آيات نبوة محمد ﷺ - نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه لا يوجب امرا كليا مشتركا بينه وبين غيره
وكذلك آيات الرب تعالى نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى لا يوجب علما كليا مشتركا بينه وبين غيره
والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل
فكل دليل في الوجود لا بد ان يكون مستلزما للمدلول والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب اقرب الى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة والقضايا الكلية هذا شأنها فان القضايا الكلية ان لم تعلم معيناتها بغير التمثيل والا لم تعلم الا بالتمثيل فلا بد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الاوسط
فلا بد ان يعرف ان كل فرد من افراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من افراد الدليل كما اذا قيل كل ا ب وكل ب ج فكل ج ا فلا بد ان يعرف ان كل فرد من افراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الالف ومعلوم ان العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين والباء المعين للالف المعين اقرب الى الفطرة من هذا
وهذا كما قدمناه في امثلة اقيستهم البرهانية مثل قولهم الكل اعظم من الجزء
و الاشياء المساوية لشيء واحد متساوية و الضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ونحو ذلك فان هذه قضايا كلية
ومعلوم ان الانسان اذا تصور ما يتصوره من معين او جزئه فان تصوره لكون هذا الكل المعين اعظم من جزئه اسبق الى عقله من ان يتخيل ان كل كل اعظم من جزئه فهو يتصور ان بدنه اعظم من يده ورجله وان السماء اعظم من كواكبها والجبل اعظم من بعضه والمدينة اعظم من بعضها ونحو ذلك قبل ان يتصور القضية الكلية الشاملة لجميع هذه الافراد
ولذلك اذا تصور شيئا معينا يعلم انه لا يكون موجودا معدوما في حال واحدة قبل ان يتصور ان كل نقيضين لا يجتمعان ولذلك اذا تصور سوادا معينا علم انه لا يكون اللون الواحد سوادا بياضا قبل ان يتصور ان كل ضدين لا يجتمعان وامثال ذلك كثيرة
واذا قيل تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة او بديهة من واهب العقل قيل فحصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل اقرب
عظم الفرق بين اثبات الرب بالايات وبين اثباته بالقياس البرهاني
ومعلوم ان كل ما سوى الله من الممكنات فانه مستلزم لذات الرب تعالى يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى وتقدس
وان كان مستلزما ايضا لامور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين اعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهو سبحانه يعلم الامور على ما هي عليه فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها ويعلم الكليات انها كليات فيلزم من وجود الخاص وجود العام المطلق أي حصة المعين من ذلك العام كما يلزم من وجود هذا الانسان وجود الانسان ومن وجود هذا الانسان وجود الانسانية والحيوانية القائمة به
فكل ما سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة فان الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الاعيان فضلا عن ان يكون خالقا لها مبدعا
ثم يلزم من وجوده المعين الوجود المطلق المطابق للمعين فاذا تحقق الوجود الواجب تحقق الوجود المطلق المطابق للمعين واذا تحقق الفاعل لكل شيء تحقق الفاعل المطلق المطابق واذا تحقق القديم الازلي تحقق القديم المطلق المطابق واذا تحقق الغنى عن كل شيء تحقق الغنى المطابق واذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق كما ذكرنا انه اذا تحقق هذا الانسان وهذا الحيوان تحقق الانسان المطلق المطابق والحيوان المطلق المطابق
لكن المطلق لا يكون مطلقا الا في الاذهان لا في الاعيان والله تعالى هو الخالق للامور الموجودة في الاعيان والمعلم للصور الذهنية المطابقة لما في الاعيان
ولهذا كان اول ما انزل على رسوله اقرا باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرا وربك الاكرم الى قوله ما لم يعلم بين في اول ما انزل انه خالق الاعيان عموما وخصوصا فكما انه خالق الموجودات العينية فهو المعلم للماهيات الذهنية فالموجودات الخارجية ايات مستلزمة لوجود عينه واذا تصورتها الاذهان معينة او مطلقة فهو المعلم لهذا المتصور إذ الصور الذهنية ايضا من آياته المستلزمة لوجود عينه لكنها تدل مع ذلك على هدايته وتعليمه كما قال تعالى سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى الاعلى وقال موسى ربنا الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى
كما ان الموجودات العينية من آيات وجوده والصور الذهنية من حيث انها موجودات عينيه من هذا الباب كما أنها من جهة مطابقتها للموجودات الخارجية من الباب الاول
لكن إذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس المعين كذلك من علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقا وغنيا مطلقا لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره
وذلك هو مدلول آياته تعالى فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها وكل ما سواه دليل على عينه وآية له فانه ملزوم لعينه وكل ملزوم فانه دليل على لازمة ويمتنع تحقق شئ من الممكنات إلا مع تحقق عينه فكلها ملزوم لنفس الرب دليل عليه آية له
ودلالتها بطريق قياسهم على الامر المطلق الكلى الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ب برهانهم ما يختص بالرب تعالى ولهذا ما يثبتونه من واجب الوجود عند التحقيق إنما هو أمر كلى لا يختص بالرب تعالى حتى قد يجعلونه مجرد الوجود
دلالة قياس الاولى في إثبات صفات الكمال
وأما قياس الاولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على انه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا يحصر قدره وهو يعلم ان فضل الله على كل مخلوق اعظم من فضل مخلوق على مخلوق كان هذا مما يبين له ان ما يثبت للرب اعظم مما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره فكأن قياس الاولى يفيده امرا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الامر
لا بد من الاسماء المشككة من معنى كلى مشترك
ولهذا كان الحذاق يختارون ان الاسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك الذي هو نوع من التواطئ العام ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل افراده بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن وهو في الواجب أكمل وافضل من فضل هذا البياض على هذا البياض
لكن التفاضل في الاسماء المشككة لا يمنع ان يكون اصل المعنى مشتركا كليا بينهما فلا بد في الاسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن وذلك مورد التقسيم تقسيم الكلي الى جزئياته إذا قيل الموجود ينقسم الى واجب وممكن فان مورد التقسيم مشترك بين الاقسام ثم كون وجود هذا الواجب اكمل من وجود الممكن لا يمنع ان يكون مسمى الوجود معنى كليا مشتركا بينهما
وهكذا في سائر الاسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته
الخلاف في الاسماء التي تطلق عليه تعالى وعلى العباد
والناس تنازعوا في هذا الباب فقالت طائفة كأبي العباس الناشئ من شيوخ المعتزلة الذين كانوا اسبق من ابي علي هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق
وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة وبالعكس هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق
وقال جماهير الطوائف هي حقيقة فيهما وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة والاشعرية والكرامية والفقهاء واهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة
لكن كثيرا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بانها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك وينازع في بعضها لشبه نفاه الجميع والقول فيما نفاه نظير القول فيما اثبته ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين ونفي الجميع يمتنع ان يكون موجودا
وقد علم ان الموجود ينقسم الى واجب وممكن وقديم وحادث وغنى وفقير ومفعول وغير مفعول وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب ووجود المحدث يستلزم وجود القديم ووجود الفقير يستلزم وجود الغنى ووجود المفعول يستلزم وجود غير المفعول وحينئذ فبين الوجودين امر مشترك والواجب يختص بما يتميز به فكذلك القول في الجميع
والاسماء المشككة هو متواطئة باعتبار القدر بالمشترك ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله فالمشككة قسم من المتواطئة العامة وقسيم المتواطئة الخاصة
وإذا كان كذلك فلا بد في المشككة من إثبات قدر مشترك كلي وهو مسمى المتواطئة العامة وذلك لا يكون مطلقا إلا في الذهن وهذا مدلول قياسهم البرهاني
ولا بد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة وذلك هو مدلول الاقيسة البرهانية القرانية وهي قياس الاولى
ولا بد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه وذلك مدلول آياته سبحانه التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه لا يدل على هذه قياس لا برهانى ولا غير برهانى
فتبين بذلك ان قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها فضلا عن ان يقال لا تعلم المطالب إلا به
وهذا باب واسع لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة وهي قولهم إن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم
شناعة زعمهم أن علم الله أيضا يحصل بواسطة القياس
ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا وقصروا العلوم على طريق ضيقه لا تحصل إلا مطلوبا لا طائل فيه حتى زعموا ان علم الله وعلم انبيائه وأوليائه إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الاوسط كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه
وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم انبيائه من سلفهم الذين هم من اجهل الناس برب العالمين وبأنبيائه وبكتبه
فابن سينا لما تميز عن أولئك بمزيد عقل وعلم سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك وصاروا سالكوا هذه الطريق وإن كانوا اعلم من سلفهم وأكمل فهم اضل من اليهود والنصارى وأجهل إذ كان أولئك حصل لهم من الايمان ب واجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال وهم من أتباع فرعون وأمثاله ولهذا تجدهم لموسى ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين او معادين
قال الله تعالى إن الذين يجادلون في آيت الله بغير سلطان أتهم ان في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه المؤمن وقال الذين يجادلون في آيت الله بغير سلطان أتهم كبر مقتا عند الله وعند الذين امنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار المؤمن وقال فلما جاءتهم رسلهم بالبينت فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون فلما راؤا باسنا قالوا امنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم ايمانهم لما راوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون المؤمن
وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمرود بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله صلوات الله عليهم في مواضع
وقد جعل الله آل ابراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة وآل فرعون ائمة لاهل النار
وقال تعالى واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنوا انهم إلينا لا يرجعون فاخذناه وجنوده فنبدناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظلمين وجعلنهم ائمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعنهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ولقد آتينا موسى الكتب من بعد ما اهلكنا القرون الاولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلم يتذكرون الى قوله قال فأتوا بكتب من عند الله هو اهدى منهما اتبعة ان كنتم صدقين القصص
وقال في آل ابراهيم وجعلنا منهم ائمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بايتنا يوقنون السجدة
والمقصود ان متأخريهم الذين هم اعلم منهم جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني وكذلك علم انبيائه وقد سطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم إنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه وإذا كان هذا السلب باطلا في حكم آحاد الناس كان بطلانه اولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى ثم ملئكته وأنبيائه صلوات الله عليهم اجمعين
فصل: اقوال المنطقيين في الدليل والقياس
وايضا فانهم قسموا جنس الدليل الى القياس والاستقراء والتمثيل قالوا لان الاستدلال إما ان يكون بالكلى على الجزئي او بالجزئي على الكلي او بأحد الجزئين على الاخر وربما عبروا عن ذلك بالخاص والعام فقالوا إما أن يستدل بالعام على الخاص أو بالخاص على العام أو بأحد الخاصين على الاخر
قالوا والاول هو القياس يعنون به قياس الشمول فانهم يخصونه باسم القياس وكثير من أهل الاصول والكلام يخصون باسم القياس التمثيل واما جمهور العقلاء فاسم القياس عندهم يتناول هذا وهذا
قالوا والاستدلال بالجزئيات على الكلي هو الاستقراء فان كان تاما فهو الاستقراء التام وهو يفيد اليقين وإن كان ناقصا لم يفد اليقين فالاول هو استقراء جميع الجزئيات والحكم عليه بما وجد في جزئياته والثاني استقراء أكثرها وقد يكذب كقول القائل الحيوان إذا أكل حرك فكه الاسفل، لأنا استقريناها فوجدناها هكذا فيقال هل التمساح يحرك الاعلى
ثم قالوا القياس ينقسم الى الاقتراني والاستثنائي ف الاستثنائي ما تكون النتيجة او نقيضها مذكورة فيه بالفعل والاقترانى ما تكون فيه بالقوة كالمؤلف من القضايا الحملية كقولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام
والاستثنائي ما يؤلف من الشرطيات وهو نوعان
احدهما متصلة كقولنا إن كانت الصلوة صحيحة فالمصلى متطهر واستثناء عين المقدم ينتج عين التالى واستثناء نقيض التالى ينتج نقيض المقدم
والثاني المنفصلة هي إما مانعة الجمع والخلو كقولنا العدد إما زوج وإما فرد فان هذين لا يجتمعان ولا يخلو العدد عن أحدهما وإما مانعة الجمع فقط كقولنا هذا إما ابيض وإما اسود أي لا يجتمع السواد والبياض وقد يخلو المحل عنهما وإما مانعه الخلو فهى التي يمتنع فيها عدم الجزئين جميعا ولا يمتنع اجتماعهما
وقد يقولون مانعة الجمع والخلو هي الشرطية الحقيقية وهي مطابقة للنقيضين في العموم والخصوص ومانعة الجمع هي أخص من النقيضين فان الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان وهما اخص من النقيضين
وأما مانعة الخلو فانها أعم من النقيضين وقد يصعب عليهم تمثيل ذلك بخلاف النوعين الاولين فان أمثالهما كثيرة ويمثلونه بقول القائل هذا راكب البحر أو لا يغرق فيه أي لا يخلو منهما فانه لا يغرق إلا إذا كان في البحر فاما أن لا يغرق فيه وحينئذ لا يكون راكبه وإما أن يكون راكبه وقد يجتمع ان يركب ويغرق
والامثال كثيرة كقولنا هذا حي او ليس بعالم أو قادر او سميع او بصير او متكلم فانه إن وجدت الحيوة فهو احد القسمين وإن عدمت عدمت هذه الصفات وقد يكون حيا من لا يوصف بذلك وكذلك إذا قيل هذا متطهر او ليس بمصل فانه إن عدمت الصلوة عدمت الطهارة وإن وجدت الطهارة فهو القسم الاخر فلا يخلو الامر منهما
وكذلك كل عدم شرط ووجود مشروطه فانه إذا ردد الامر بين وجود المشروط وعدم الشرط كان ذلك مانعا من الخلو فانه لا يخلو الامر من وجود الشرط وعدمه وإذا عدم عدم الشرط فصار الامر لا يخلو من وجود المشروط وعدم الشرط
ثم قسموا الاقترانى الى الاشكال الأربعة لكون الحد الاوسط إما محمولا في الاولى موضوعا في الصغرى وهو الشكل الطبيعي وهو ينتج المطالب الاربعة الجزئي والكلى والايجابي والسلبي وإما ان يكون الاوسط محمولا فيهما وهو الثاني ولا ينتج إلا السلب وإما ان يكون موضوعا فيهما ولا ينتج إلا الجزئيات والرابع ينتج الجزئيات والسلب الكلى لكنه بعيد عن الطبع
ثم إذا ارادوا بيان إنتاج الثاني والثالث وغير ذلك من المطالب احتاجوا الى الاستدلال بالنقيض والعكس وعكس النقيض فانه يلزم من صدق القضية كذب نقيضها وصدق عكسها المستوى وعكس نقيضها فاذا صدق قولنا ليس احد من الحجاج بكافر صح قولنا ليس احد من الكفار حاجا وإذا صح قولنا كل حاج مسلم صح قولنا بعض المسلمين حاج وقولنا من ليس بمسلم فليس بحاج
رد المصنف أقوالهم في الدليل والقياس
فنقول هذا الذي قالوه إما أن يكون باطلا وإما أن يكون تطويلا يبعد
الطريق على الطالب المستدل فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق او طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل الى الحق مع إمكان وصوله بطريق قريب كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له أين أذنك فرفع يده فوق رأسه رفعا شديدا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى وقد كان يمكنه الاشارة الى اليمنى او اليسرى من طريق مستقيم وما أشبه هؤلاء بقول القائل
اقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء
وبقول الاخر
وإنى وإنى ثم إنى وإننى ... إذا انقطعت نعلى جعلت لها شسعا
وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله ان هذا القرآن يهدى للتي هي اقوم الاسراء فأقوم الطرق الى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله وأما طريق هؤلاء فهى مع ضلالهم في البعض وأعوجاج طريقهم وطولها في البعض الاخرى إنما يوصلهم الى امر لا ينجى من عذاب الله فضلا عن ان يوجب لهم السعادة فضلا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم
بطلان حصر الادلة في القياس والاستقراء والتمثيل
بيان ذلك ان ما ذكروه من حصر الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل حصر لا دليل عليه بل هو باطل وقولهم أيضا إن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص قول لا دليل عليه بل هو باطل
واستدلالهم على الحصر بقولهم إما ان يستدل بالكلى على الجزئي او بالحزئي على الكلى او بأحد الجزئين على الاخر والاول هو القياس والثاني هو الاستقراء والثالث هو التمثيل
يقال لم تقيموا دليلا على انحصار الاستدلال في هذه الثلاثة فانكم إذا عنيتم
بالاستدلال بجزئي على جزئي قياس التمثيل لم يكن ما ذكرتموه حاصرا وقد بقى الاستدلال بالكلى على الكلي الملازم له وهو المطابق له في العموم والخصوص وكذلك الاستدلال بالجزئي الملازم له بحيث يلزم من وجود احدهما وجود الاخر ومن عدمه عدمه فان هذا ليس مما سميتموه قياسا ولا استقراء ولا تمثيلا وهذه هي الايات
الاستدلال بالكلى على الكلى وبالجزئي على الجزئي الملازم له
وهذا كالاستدلال بطوع الشمس على النهار وبالنهار على طلوع الشمس فليس هذا استدلالا بكلى على جزئي بل الاستدلال بطوع معين على نهار معين استدلالا بجزئي على جزئي وبجنس النهار على جنس الطلوع استدلالا بكلى على كلى
وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلالا بجزئي على جزئي كالاستدلال بالجدي وبنات نعش والكوكب الصغير القريب من القطب الذي يسميه بعض الناس القطب كما يسمى بعض الناس الجدي القطب وإن كان القطب في الحقيقة جزءا من الفلك قريبا من ذلك الكوكب الصغير
وكذلك الاستدلال بظهور كوكب على ظهور نظيره في العرض والاستدلال بطلوعه على غروب آخر وتوسط آخر ونحو ذلك من الادلة التي اتفق عليها الناس قال تعالى وبالنجم هم يهتدون
والاستدلال على المواقيت والامكنة بالامكنة امر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة فاذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقا ومغربا ويمينا وشمالا من الكواكب كان استدلالا بجزئي على جزئي لتلازمهما وليس ذلك من قياس التمثيل وإن قضى به قضاء كليا كان استدلالا بكلى على كلى وليس استدلالا بكلى على جزئي بل بأحد الكليين المتلازمين على الاخر
ومن عرف مقدار ابعاد الكواكب بعضها من بعض وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر استدل بما رآه منها على مقدار ما مضى من الليل وما بقى منه وهو استدلال بأحد المتلازمين على الاخر ومن علم الجبال والانهار والرياح استدل بها على ما يلازمها من الامكنة
ثم اللزوم إن كان دائما لا يعرف له ابتداء بل هو منذ خلق الله الارض كوجود الجبال والانهار العظيمة النيل والفرات وسيحان وجيحان والبحر كان الاستدلال مطردا
وإن كان اللزوم أقل من ذلك مدة مثل الكعبة شرفها الله فان الخليل بناها ولم تزل معظمة لم يعل عليها جبار قط استدل بها بحسب ذلك فيستدل بها وعليها فان أركان الكعبة مقابلة لجهات الارض الاربعة الحجر الاسود يقابل المشرق والغربي الذي يقابله ويقال له الشامي يقابل المغرب واليماني يقابل الجنوب وما يقابله يقال له العراقى إذا قيل الذي من ناحية الحجر الشامي وإن قيل لذاك الشامي قيل لهذا العراقى فهذا الشامي العراقي
يقابل الشمال وهو يقابل القطب وحينئذ فيستدل بها على الجهات ويستدل بالجهات عليها
وما كان مدته اقصر من مدة الكعبة كالابنية التي في الامصار والاشجار كان الاستدلال بها بحسب ذلك فيقال علامة الدار الفلانية ان على بابها شجرة من صفتها كذا وكذا وهما متلازمان مدة من الزمان
فهذا وأمثاله استدلال بأحد المتلازمين على الاخر وكلاهما معين جزئي وليس هو من قياس التمثيل
حد الدليل عند النظار
ولهذا عدل نظار المسلمين عن طريقهم فقالوا الدليل هو المرشد الى المطلوب وهو الموصل الى المقصود وهو ما يكون العلم به مستلزما للعلم بالمطلوب
أو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا الى المطلوب وهو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا الى علم او الى اعتقاد راجح
ولهم نزاع اصطلاحي هل يسمى هذا الثاني دليلا او يخص باسم الامارة والجمهور يسمون الجميع دليلا ومن اهل الكلام من لا يسمى بالدليل الا الاول
ثم الضابط في الدليل ان يكون مسستلزما للمدلول فكل ما كان مستلزما لغيره امكن ان يستدل به عليه ان كان التلازم من الطرفين امكن ان يستدل بكل منهما على الاخر فيستدل المستدل مما علمه منهما على الاخر الذي لم يعلمه
ثم ان كان اللزوم قطعيا كان الدليل قطعيا وان كان ظاهرا وقد يتخلف كان الدليل ظنيا
فالاول كدلالة المخلوقات على خالقها سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته فان وجودها مستلزم لوجود ذلك ووجودها بدون ذلك ممتنع فلا توجد الا دالة على ذلك
ومثل دلالة خبر الرسول على ثبوت ما اخبر به عن الله فانه لا يقول عليه الا الحق اذ كان معصوما في خبره عن الله لا يستقر في خبره عنه خطأ البتة
فهذا دليل مستلزم لمدلوله لزوما واجبا لا ينفك عنه بحال وسواء كان الملزوم المستدل به وجودا او عدما فقد يكون الدليل وجودا وعدما ويستدل بكل منهما على وجود وعدم فانه يستدل بثبوت الشيء على انتفاء نقيضه وضده ويستدل بأنتقاء نقيضه على ثبوته ويستدل بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتقاء اللازم على انتقاء الملزوم بل كل دليل يستدل به فانه ملزوم لمدلولة وقد دخل في هذا كل ما ذكروه وما لم يذكروه
فان ما يسمونه الشرطي المتصل مضمونه الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم سواء عبر عن هذا المعنى بصيغة الشرط او بصيغة الجزم واختلاف صيغ الدليل مع اتحاد معناه لا يغير حقيقية والكلام إنما هو في المعاني لا في الالفاظ
فاذا قال القائل إن كانت الصلوة صحيحة فالمصلى متطهر وإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإن كان الفاعل عالما قادرا فهو حي ونحو ذلك فهذا معنى قوله صحة الصلوة تستلزم صحة الطهارة وقوله يلزم من صحة الصلوه صحة ثبوت الطهارة وقوله لا يكون مصليا إلا مع الطهارة وقوله الطهارة شرط في صحة الصلوة وإذا عدم الشرط عدم المشروط وقوله كل مصل متطهر فمن ليس بمتطهر فليس بمصل وأمثال ذلك من انواع التأليف للالفاظ والمعاني التي يتضمن هذا الاستدلال من غير حصر الناس في عبارة واحدة