☰ جدول المحتويات
- المقام الثالث: المقام السلبي في الاقيسة والتصديقات، في قولهم إنه لا يعلم شئ من التصديقات إلا بالقياس
- الفرق بين البديهي والنظري أمر نسبي محض
- بطلان التفريق بين الذاتي واللازم لثبوت كل منهما بغير وسط
- اختلاف احوال الناس في احتياجهم وعدم احتياجهم الى الدليل
- بطلان منع المنطقيين الاحتجاج بالمتواترات والمجربات والحدسيات
- المجربات تحصل بالحس والعقل
- استطراد
- عود إلى أصل الموضوع
- إنكار المتواترات هو من أصول الالحاد والكفر
- شرك الفلاسفة أشنع من شرك الجاهلية: بحث قيم على سبيل الاستطراد
- بطلان دعواهم لا بد في البرهان من قضية كلية
- فساد قولهم بأنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين
- الكلام على تمثيلهم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام
- التمثيل بصور مجردة عن المواد المعينة
المقام الثالث: المقام السلبي في الاقيسة والتصديقات، في قولهم إنه لا يعلم شئ من التصديقات إلا بالقياس
فصل
وأما القياس فالكلام في المقامين ايضا
المقام الاول السلبي فنقول
حصر العلم على القياس قول بغير علم
قولهم إنه لا يعلم شئ من التصديقات إلا بالقياس الذي ذكروا صورته ومادته قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة ولم يذكروا على هذا السلب دليلا أصلا فصاروا مدعين مالم يبينوه بل قائلين بغير علم إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم فمن اين لهم انه لا يمكن أحدا من بني آدم ان يعلم شيئا من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته
الفرق بين البديهي والنظري أمر نسبي محض
والثاني أن يقال هم معترفون بما لا بد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري الى البديهي
وإذا كان كذلك فالفرق بين البديهي والنظري إنما هو بالنسبة الاضافة
فد يبده هذا من العلم ويبتدى في نفسه ما يكون بديهيا له وإن كان غيره لا يناله إلا بنظر قصير أو طويل بل قد يكون غيره يتعسر عليه حصوله بالنظر وقد تقدم التنبيه على هذا في التصورات لكن نزيده هنا دليلا يختص هذا فنقول
البديهي من التصديقات هو ما يكفى تصور طرفيه موضوعه ومحموله في حصول تصديقه فلا يتوقف على وسط يكون بينهما وهو الدليل الذي هو الحد الاوسط سواء كان تصور الطرفين بديهيا او لم يكن
ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الاذهان اعظم من تفاوتهم في قوى الابدان فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كبيرة وحينئذ فيتصور الطرفين تصورا تاما بحيث تتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لغيره الذي لم يتصور الطرفين التصور التام
وذلك ان من الناس من يكون لم يتصور الطرفين إلا ببعض صفاتهما المميزة فيكون من تصورهما ببعض صفاتهما المشتركة مع ذلك سواء سميت ذاتية او لم تسم عالما بثبوت تلك الصفات لهما وثبوت كثير مما يكون لازما لهما بخلاف من لم يتصور إلا الصفات المميزة
بطلان التفريق بين الذاتي واللازم لثبوت كل منهما بغير وسط
وذلك أنهم قرروا في المنطق ان من اللوازم ما يكون لازما بغير وسط فهذا يعلم بنفس تصور الملزوم
والوسط المذكور في هذه المواضع هو عند ابن سينا ومحققيهم هو الدليل، وهو الحد الاوسط
وهذا يختلف باختلاف الناس فقد يحتاج هذا في العلم بالملزوم الى دليل بخلاف الاخر
ومن لم يفهم مرادهم في هذا الموضع يظن أنهم أرادوا بالوسط ما هو وسط في نفس الموصوف بحيث يكون ثبوت الوصف اللازم ل الملزوم بواسطته لا يثبت بنفسه كما قد فهم ذلك عنهم طائفة منهم الرازي وغيره وهذا مع انه غلط عليهم كما بينا الفاظهم في غير هذا الموضع فهو ايضا باطل في نفسه
ولا ريب ان من اللوازم ما يفتقر الى وسط ومنها ما لا يفتقر الى وسط عندهم وهذا احد الفروق الثلاثة التي فرقوا بها بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية وقد أبطلوا هذا الفرق ويعبر بعضهم عن هذا الفرق بالتعليل كما يعبر به ابن حاجب
فاذا كان في اللوازم ما هو ثابت في نفس الامر بغير وسط ولا علة لم يبق هذا فرقا بين الذاتي وبين هذه اللوازم فبطلت التصديق بهذا لكن من تصور الذات بهذه اللوازم فتصوره أتم ممن لم يتصورها بهذه اللوازم
وإذا كان المراد بالوسط الدليل الذي يعلل به الثبوت الذهني لا الخارجي فهذا يختلف باختلاف الناس ولا ريب أن ما يستدل به سواء سمى قياسا أو برهانا أو غير ذلك قد يكون هو علة لثبوت الحكم في نفس الامر ويسمى قياس العلة وبرهان العلة وبرهان لم وقد لا يكون كذلك وهو الدليل المطلق ويسمى قياس الدلالة وبرهان الدلالة وبرهان ان وهذا مراد ابن سينا وغيره بالوسط وهذا مما تختلف فيه أحوال الناس
فالتقريق بين الذاتي والعرضي اللازم ابعد ولهذا ابطل ابن سينا الفرق بهذا كما قد ذكرنا لفظه في موضع آخر فانه على التفسيرين من اللوازم ما يثبت بغير وسط
فاذا قيل الذاتي ما يثبت بغير وسط وقد عرف ان من اللوازم ما ثبت بغير وسط تبين بطلان هذا الفرق على كل تقدير
اختلاف احوال الناس في احتياجهم وعدم احتياجهم الى الدليل
وأما كون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر اليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض فهذا امر بين فان كثيرا من الناس تكون القضية عنده حسية أو مجربة او برهانية او متواترة وغيره إنما عرفه بالنظر والاستدلال
ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول ل الموضوع الى دليل لنفسه بل لغيره ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غنى عنها حتى يضرب له أمثالا ويقول له أليس كذا أليس كذا ويحتج عليه من الادلة العقلية والسمعية بما يكون حدا أوسط عند المخاطب مما لا يحتاج اليه المستدل بل قد يعلم الشئ بالحس ويستدل على ثبوته لغيره بالدليل
وهذا أكبر من أن يحتاج الى تمثيل فما أكثر من يرى الكواكب ويرى الهلال وغيره فيقول قد طلع الهلال وتكون هذه القضية له حسية وقد تكون عند غيره مشكوكا فيها او مظنونة او خبرية بل قد يظنها كذبا إذا صدق المنجم الخارص القائل إنه لا يرى
بطلان منع المنطقيين الاحتجاج بالمتواترات والمجربات والحدسيات
وقد ذكر من ذكر من هؤلاء المنطقيين ان القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذه الطريق فلا تكون حجة على غيره بخلاف غيرها فانها مشتركة يحتج بها على المنازع
وقد بينا في غير هذا الموضع ان هذا تفريق فاسد
فان الحسيات الظاهرة والباطنة تنقسم الى خاصة وعامة وليس ما رآه زيد أو شمه أو ذاقة او لمسة يجب اشتراك الناس فيه وكذلك ما وجده في نفسه من جوعه وعطشه وألمه ولذته ولكن بعض الحسيات قد تكون مشتركة بين الناس كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والكواكب وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل وجامع ونهر وغير ذلك من الامور المخلوقة والمصنوعة
وكذلك الامور المعلومة بالتواتر والتجارب قد يشترك فيها عامة الناس كاشتراك الناس في العلم بوجود مكة ونحوها من البلاد الشهورة واشتراكهم في وجود البحر وأكثرهم ما رآه وأشتراكهم في العلم بوجود موسى وعيسى ومحمد وادعائهم النبوة ونحو ذلك فان هؤلاء قد تواتر خبرهم الى عامة بني آدم وإن قدر من لم يبلغه أخبارهم فهم في أطراف المعمورة لا في الوسط
المجربات تحصل بالحس والعقل
وكذلك المجربات فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري وأن قطع العنق يحصل معه الموت وأن الضرب الشديد يوجب الالم
والعلم بهذه القضية الكلية تجربي فان الحس إنما يدرك ريا معينا وموت شخص معين وألم شخص معين أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك
فهذه القضية الكلية لا تعلم بالحس بل بما يتركب من الحس والعقل وليس الحس هنا هو السمع
وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله تجربيات وبعضهم يجعله نوعين تجربيات وخدسيات فان كان الحس المقرون بالعقل من فعل الانسان كأكله وشربه وتناوله الدواء سماه تجربيا وإن كان خارجا عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه حدسيا والاول اشبه باللغة فان العرب تقول رجل مجرب بالفتح لمن جربته الامور واحكمته وإن كانت تلك من أنواع البلايا التي لا تكون باختياره
وذلك ان التجربة تحصل بنظره واعتباره وتدبره كحصول الاثر المعين دائرا مع المؤثر المعين دائما فيرى ذلك عاده مسمرة لا سيما إن شعر بالسبب المناسب فيضم المناسب الى الدوران مع السبر والتقسيم فانه لا بد في جميع ذلك من السبر والتقسيم الذي ينفى المتزاحم وإلا فمتى حصل الاثر مقرونا بأمرين لم تكن إضافته الى أحدهما دون الآخر بأولى من العكس ومن إضافته إلى كليهما
وما يحتج به الفقهاء في إثبات كون الوصف علة للحكم من دوران ومناسبة وغير ذلك إنما يفيد المقصود مع نفى المزاحم وذلك يعلم بالسبر والتقسيم فان كان نفى المزاحم ظنيا كان اعتقاد العلية ظنيا وإن كان قطعيا كان الاعتقاد قطعيا إذا كان قاطعا بأن الحكم لا بد له من علة وقاطعا بأنه لا يصلح للعلة إلا الوصف الفلاني
وهكذا القضايا العادية من قضايا الطب وغيرها هي من هذا الباب وكذلك قضايا النحو والتصريف واللغة من هذا الباب ولكن في اللغة يدور المعنى مع اللفظ لا هذا الباب وفي النحو والتصريف يدور الحكم مع النوع وهذا كالعلم بأن أكل الخبز ونحو ه يشبع وشرب الماء ونحوه يروى ولبس الحشايا يوجب الدفأ والتجرد من الثياب يوجب البرد ونحو ذلك
لكن من لا يثبت الأسباب والعلل من أهل الكلام كالجهم وموافقيه في ذلك مثل ابي الحسن وأتباعه يجعلون المعلوم اقتران احد الامرين بالاخر لمحض مشيئة القادر المريد من غير أن يكون احدهما سببا للاخر ولا مولدا له
وأما جمهور العقلاء من المسلمين وغير المسلمين وأهل السنة من أهل الكلام والفقة والحديث والتصوف وغير أهل السنة من المعتزلة وغيرهم فيثبتون الاسباب ويقولون كما يعلم اقتران احدهما بالاخر فيعلم أن في النار قوة تقتضى التسخين وفي الماء قوة تقتضى التبريد وكذلك في العين قوة تقتضى الابصار وفي اللسان قوة تقتضى الذوق ويثبتون الطبيعة التي تسمى الغريزة والنحيزة والخلق والعادة ونحو ذلك من الاسماء
ولهذا كان السلف كاحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما يقولون العقل غريزة وأما نفاة الطبائع فليس العقل عندهم إلا مجرد العلم كما هو قول أبى الحسن الاشعري والقاضي أبى بكر والقاضي أبى يعلى وأبن عقيل وأبي الخطاب والقاضي ابي بكر بن العربي وغيرهم وإن كان بعض هؤلاء قد يختلف كلامهم فيثبتون في موضع آخر الغرائز والاسباب كما هو مذهب الفقهاء والجمهور
فالمقصود ان لفظ التجربة يستعمل فيما جربه الانسان ب عقله وحسه وإن لم يكن من مقدوراته كما قد جربوا انه إذا طلعت الشمس انتشر الضوء في الافاق وإذ غابت أظلم الليل وجربوا انه إذا بعدت الشمس عن سمت رؤؤسهم جاء البرد وإذا جاء البرد سقط ورق الاشجار وبرد ظاهر الارض وسخن باطنها وإذا قربت من سمت رؤوسهم جاء الحر وإذا جاء الحر أورقت الاشجار وأزهرت فهذا امر يشترك في العلم به جميع الناس لما قد اعتادوه وجربوه
ثم يعلم من يثبت الاسباب ان سبب ذلك ان شبيه الشئ منجذب اليه وضده هارب منه فاذا برد الهواء برد ظاهر الارض وظاهر ما عليها فهربت السخونة الى البواطن فيسخن جوف الارض ويسخن الماء الذي في جوفه ولهذا تكون الينابيع في الشتاء حارة وتكون اجواف الحيوان حارة فتاكل في الشتاء أكثر مما تأكل في الصيف بسبب هضم الحرارة للطعام وإذا كان الصيف سخن الهواء فسخنت الظواهر وهربت البرودة الى البواطن فيبرد باطن الارض وأجواف الحيوان وتبرد الينابيع ولهذا يكون الماء النابع في الصيف ابرد منه في الشتاء ويضعف الهضم للطعام
فهذه القضايا ونحوها مجربات عاديات وإن كان كثير منها يقع بغير فعل بنى آدم
وكذلك ماعلم من سنة الله تعالى من نصر أنبيائه وعباده المؤمنين وعقوباته لأعدائه الكافرين هو مما قد علم ويحصل به الاعتبار وإن لم يكن ذلك مما يقدر عليه المجرب نفسه وقد يعلم الانسان من فعل غيره ما يحصل له به العلم التجربي وإن لم يكن له قدرة على فعل الغير
وأيضا فالسبب المقتضى للعلم بالمجربات هو يكرر اقتران أحد الأمرين بالآخر إما مطلقا وإما مع الشعور بالمناسب وهذا القدر يشترك فيه ما تكرر بفعله وما تكرر بغير فعله فكونه بفعله وصف عديم التأثير في اقتضاء العلم فلا يحتاج أن يجعل هذا نوعا غير النوع الآخر مع تساويهما في السبب المقتضى للعلم إلا لبيان شمول المجربات لهذين الصنفين كما يقال في الحسيات أنها تتناول ما أحسه ببصره وسمعه وشمه وذوقه ولمسه ونحو ذلك
مع أن الفرق الذي بين أنواع الحسيات تختلف فيه أنواع العلوم أعظم مما تختلف في هذا فان البصر يرى غير مباشرة المرئي والذوق والشم واللمس لا يحصل له الاحساس إلا بمباشرة المحسوس والسمع وإن كان يحس الأصوات فالمقصود الأعظم به معرفة الكلام وما يخبر به المخبرون من العلم
وهذا سبب تفضيل طائفة من الناس ل السمع على البصر كما ذهب إليه ابن قتيبية وغيره وقال الأكثرون البصر أفضل من السمع والتحقيق أن إدراك البصر أكمل كما قاله الأكثرون كما قال النبي ﷺ - ليس المخبر كالمعاين لكن السمع يحصل به من العلم لنا أكثر مما يحصل بالبصر ف البصر أقوى وأكمل والسمع أعم وأشمل
وهاتان الحاستان هما الأصل في العلم بالمعلومات التي يمتاز بها الانسان عن البهائم
استطراد
ولهذا يقرن الله بينهما الفؤاد في مواضع
كقوله تعالى إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا
وقوله تعالى والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصاروالافئدة لعلكم تشكرون
وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك ك(الأنعام) بل هم أضل اولئك هم الغافلون
وقال وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون
وقال تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة
وقال تعالى صم بكم عمى فهم لا يرجعون في حق المنافقين وقال في حق الكافرين فهم لا يعقلون
وقال تعالى وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي ءاذاننا ومن بيننا وبينك حجاب
وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه وفي ءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ونظائر هذا متعددة
عود إلى أصل الموضوع
وأما الشم والذوق واللمس فحس محض لا يحصل إلا بمباشرة الحيوان لذلك فالثلاثة كالجنس الواحد وقد قال تعالى ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون
فالجلود إن خصت باللمس لم يدخل فيها الشم والذوق وإن قيل بل يدخل فيها عمت الجميع وإنما ميزت عن اللمس لاختصاصها ببعض الأعضاء وبنوع من المدركات وهو الطعوم والروائح فان سائر البدن لا يميز بين طعم وطعم وريح وريح ولكن يميز بين الحار والبارد واللين والصلب والناعم والخشن ويميز بين ما يلتذ به وبين ما يتألم ونحو ذلك
والمقصود انهم جعلوا المجربات والمتواترات مما يختص به من حصل له ذلك فلا يصلح أن يحتج به على غيره وهذه قد يحصل فيها اختصاص واشتراك كما أن الحسيات كذلك قد يحصل فيها اختصاص واشتراك
وأيضا فالاشتراك قد يكون في عين المعلوم المدرك وقد يكون في نوعه فالأول كاشتراك الناس في رؤية الشمس والقمر وغيرهما والثاني كاشتراكهم في معرفة الجوع والعطش والري والشبع واللذة والألم
فان المعين الذي ذاقه هذا الشخص ليس هو المعين الذي ذاقه هذا إذ كل إنسان يذوق ما في باطنه ولكن يشترك الناس في معرفة جنس ذلك
وما يسمونه من الرعد وما يرونه من البرق يشترك أهل المكان الواحد في رؤية المعين وسمعه ويشترك الناس في رؤية النوع وسمعه إذ الرعد والبرق الذي يحصل في زمان ومكان يكون غير ما يحصل في زمان آخر ومكان آخر
ومن المحسوسات المعروفة بالرؤية أنواع كثيرة من الحيوان والنبات وغير ذلك يوجد ببعض البلاد دون بعض فتكون مشهورة ومرئية لمن رآها دون سائر الناس فانهم إنما يعلمون ذلك بالخبر وذلك الخبر قد يكون المشتركون فيه أكثر من المشتركين في الرؤية
فتبين أن القضايا الحسية والمتواترة والمجربة قد تكون مشتركة وقد تكون مختصة فلا معنى للفرق بأن هذه يحتج بها على المنازع دون هذه
إنكار المتواترات هو من أصول الالحاد والكفر
ثم هذا الفرق مع ظهور بطلانه هو من أصول الالحاد والكفر فان المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها يقول احد هؤلاء بناء على هذا الفرق هذا لم يتواتر عندي فلا يقوم به الحجة على فيقال له اسمع كما سمع غيرك وحينئذ يحصل لك العلم
وإنما هذا كقول من يقول رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس وانا لم أره فيقال له أنظر إليه كما نظر غيرك فتراه إذا كنت لم تصدق المخبرين
وكمن يقول العلم بالنبوة لا يحصل إلا بعد النظر وأنا لا أنظر أو لا أعلم وجوب النظر حتى أنظر
ومن جواب هؤلاء أن حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها
ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة
فلذلك قال تعالى وإذا تتلى عليه ءايتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في اذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم
وقال تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا
وقال تعالى وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرأ
وقال تعالى فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك ءايتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
وقال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت النفقين يصدون عنك صدودا
وقال ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون
ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث والسنة من الآثار النبوية والسلفية المعلومة عندهم بل المتواترة عندهم عن النبي ﷺ - والصحابة والتابعين لهم باحسان، فان هؤلاء يقولون هذه غير معلومة لنا كما يقول من يقول من الكفار إن معجزات الأنبياء غير معلومة لهم وهذا لكونهم لم يطبلوا السبب الموجب للعلم بذلك وإلا فلو سمعوا ما سمع اولئك وقرأوا الكتب المصنفة التي قرأها أولئك تحصل لهم من العلم ما حصل لأولئك
وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود فهم إذا لم يعلموا ذلك لم يكن هذا علما منهم بعدم ذلك ولا بعدم علم غيرهم به بل هم كما قال الله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله
وتكذيب من كذب بالجن هو هذا الباب وإلا فليس عند المتطيب والمتفلسف دليل عقلي ينفي وجودهم لكن غايته أنه ليس في صناعته ما يدل على وجودهم وهذا إنما يفيد عدم العلم لا العلم بالعدم وقد اعترف بهذا حذاق الأطباء والفلاسفة كأبقراط وغيره
والمقصود هنا التنبيه على كليات طرق العلم التي تكلم فيها هؤلاء وغيرهم
شرك الفلاسفة أشنع من شرك الجاهلية: بحث قيم على سبيل الاستطراد
ولهذا لما صنف طائفة في تقدير الشرك على أصولهم وأثبتوا الشفاعة التي يثبتها المشركون كان شرك هؤلاء شرا من شرك مشركي العرب وغيرهم
فان مشركي العرب وغيرهم ممن يقر بأن الرب فاعل بمشيئته وقدرته وأنه خالق كل شيء وأن السموات والأرض مخلوقة لله ليست مقارنة له في الوجود دائمة بدوامه كانوا يعبدون غير الله ليقربوهم إليه زلفى ويتخذونهم شفعاء يشفعون لهم عند الله بمعنى أنهم يدعون الله لهم فيجيب الله دعاءهم له وهؤلاء المشركون الذين بين القرآن كفرهم وجاهدهم رسول الله ﷺ - على شركهم
قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله
وقال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتهم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ان عذاب ربك كان محذورا قالت طائفة من السلف كان اقوام يدعون الملائكة والانبياء فقال تعالى هؤلاء الذين تدعونهم يتوسلون الى كما تتوسلون الى ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي
وقال تعالى ما كان لبشر ان يؤتية الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبين اربابا يأمر بالكفر بعد اذ انتم مسلمون
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيها من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنغع الشفاعة عنده الا لمن اذن له
وقال تعالى وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد ان يأذن الله لمن يشاء ويرضى
وقال تعالى ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون
ومثل هذا في القران كثير
والعرب كانوا مع شركهم وكفرهم يقولون ان الملائكة مخلوقون وكان من يقول منهم ان الملائكة بنات يقولون ايضا انهم محدثون ويقولون انه صاهر إلى الجن فولدت له الملائكة
وقولهم من جنس قول النصارى في أن المسيح ابن الله مع ان مريم امه ولهذا قرن سبحانه بين هؤلاء وهؤلاء
وقول هؤلاء الفلاسفة شر من قول هؤلاء كلهم
فان الملائكة عند من آمن بالنبوات منهم هي العقول العشرة وتلك عندهم قديمة ازلية والعقل رب كل ما سوى الرب عندهم وهذا لم يقل مثله احد من اليهود والنصارى ومشركي العرب لم يقل احد ان ملكا من الملائكة رب العالم كله
ويقولون ان العقل الفعال مبدع لما تحت فلك القمر وهذا ايضا كفر لم يصل اليه احد من كفار اهل الكتاب ومشركي العرب
وهؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا واتباعه كصاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها ومن وافقهم من القرامطة والباطنية من الملاحدة والجهال الذين دخلوا في الصوفية واهل الكلام كأهل وحدة الوجود وغيرهم يجعلون الشفاعة مبنية على ما يعتقدونه من ان الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته وليس عالما بالجزئيات ولا يقدر ان يغير العالم بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه، فيقولون اذا توجه المستشفع الى من يعظمه من الجواهر العالية كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر او الى النفوس المفارقة مثل بعض الصالحين فانه يتصل بذلك المعظم المستشفع به فاذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا المستشفع من جهة شفيعة
ويمثلونه بالشمس اذا طلعت على مرآة فانعكس الشعاع الذي على المراة على موضع اخر فأشرق بذلك الشعاع فذلك الشعاع حصل له بمقابلة المراة وحصل للمراة بمقابلة الشمس
فهذا الداعى المستشفع اذا توجه الى شفيعه اشرق عليه من جهته مقصود الشفاعة وذلك الشفيع يشرق عليه من جهة الحق
ولهذا يرى هؤلاء دعاء الموتي عند القبور وغير القبور ويتوجهون اليهم ويستعينون بهم ويقولون ان ارواحنا اذا توجهت الى روح المقبور في القبور اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته
وكثير منهم ومن غيرهم من الجهال يرون الصلوة والدعاء عند قبور الانبياء والصالحين من اهل البيت وغيرهم افضل من الصلوات الخمس والدعاء في المساجد وافضل من حج البيت العتيق
ومعلوم ان كفر هؤلاء بما يقولونه في الشفعاء اعظم من كفر مشركي العرب بما قالوه فيهم لان كلتى الطائفتين عبدوا من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله لكن العرب اقروا بأن الله عالم بهم قادر عليهم يخلق بمشيئته وقدرته وقالوا إن هؤلاء ينفعونا بدعائهم لنا
وأما مشركو الفلاسفة كما ذكره ابن سينا ومن اتبعه فيقولون إن من يستشفع به لا يدعو الله لنا بشئ والله لا يعلم دعاءنا ولا دعاءه ولا يسمع نداءنا ولا نداءه بل ولا يعرف بنا ولا نراه ولا يعرف به فانا نحن من الجزئيات والله لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يقدر على تغيير شئ من العالم ولا يفعل بمشيئته
لكن قالوا لكن نحن إذا توجهنا الى هؤلاء بالدعاء لهم والسؤال منهم بل وبالعبادة لهم فاض علينا ما يفيض منهم وفاض عليهم ما يفيض من جهة الله
ثم إن طائفة من أهل الكلام يردون عليهم باطلهم بقول باطل فيردون فاسدا بفاسد وإن كان أحدهما أكثر فسادا مثل إنكار كثير منهم لكثير من الامور الرياضية كاستدارة الفلك وغير ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة وآثار السلف مع دلالة العقل
أو يفعلون كما فعله الشهرستاني في الملل و(النحل) حيث اخذ يذكر المفاضلة بين الارواح العلوية وبين الانبياء ويجعل إثبات هذه وسائط آولى من تلك تفضيلا لأقوال الحنفاء على أقوال الصابئة وهذا غلط عظيم، فان الحنفاء لا يثبتون بين الله وبين مخلوقاته واسطة في عبادته وسؤاله وإنما يثبتون الوسائط في تبليغ رسالاته فأصل الحنفاء شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا وغيره من الرسل رسل الله
وأما الوسائط التي يثبتها المشركون فيجعلون الملئكة معبودين وهذا كفر وضلال وتوسط الملئكة بمعنى تبليغ رسالات الله أو بمعنى أنهم يفعلون ما يفعلونه باذن الله مما اتفق عليه الحنفاء
ومعلوم أن المشركين من عباد الاصنام وغيرهم كانت الشياطين تضلهم فتكلمهم وتقضى لهم بعض حوائجهم وتخبرهم بأمور غائبة عنهم
وكان للكهان شياطين تخبرهم وتأمرهم وإن كان الكذب فيما يقولونه اكثر من الصدق
وهكذا المشركون في زماننا الذين يدعون غير الله كالشيوخ الغائبين والموتى تتصور لهم الشياطين في صور الشيوخ حتى يظنوا ان الشيخ حضر وأن الله صور على صورته ملكا وأن ذلك من بركة دعائه وإنما يكون الذي تصور لهم شيطان من الشياطين
وهذا مما نعرف أنه ابتلى في زماننا وغير زماننا خلق كثير أعرف منهم عددا وأعرف من ذلك وقائع متعددة
والشياطين ايضا تضل عباد القبور كما كانت تضل المشركين من العرب وغيرهم
وكانت اليونان من المشركين يعبدون الاوثان ويعانون السحر كما ذكروا ذلك عن أرسطو وغيره وكانت الشياطين تضلهم وبهم يتم سحرهم وقد لا يعرفونهم أن ذلك من الشياطين بل قد لا يقرون بالشياطين بل يظنون ذلك كله من قوة النفس او من أمور طبيعية او من قوى فلكية فان هذه الثلاثة هي اسباب عجائب العالم عند ابن سينا وموافقيه وهم جاهلون بما سوى ذلك من أفعال الشياطين الذين هم أعظم تأثيرا في العالم في الشر من هذا كله وجاهلون بملائكة الله الذين يجرى بسببهم كل خير في السماء والارض. وما يدعونه من جعل الملئكة هي العقول العشرة او هي القوى الصالحة في النفس وأن الشياطين هي القوى الخبيئة مما قد عرف فساده بالدلائل العقلية بل بالضرورة من دين الرسول
فاذا كان شرك هؤلاء وكفرهم في نفس التوحيد وعبادة الله وحده أعظم من شرك مشركى العرب وكفرهم فأى كمال للنفس في هذه الجهالات
وهذا وأمثاله يفتقر الى بسط كثير وقد ذكرنا منه طرفا في مواضع غير هذا
والمقصود هنا ذكر ما ادعاه هؤلاء في البرهان المنطقي
بطلان دعواهم لا بد في البرهان من قضية كلية
وايضا فاذا قالوا العلوم اليقينية النظرية لا تحصل إلا بالبرهان الذي هو عندهم قياس شمولي وعندهم لا بد فيه من قضية كلية موجبة
ولهذا قالوا لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شئ من انواع القياس لا بحسب صورته كالحملي والشرطي المتصل والمنفصل ولا بحسب مادته لا البرهانى ولا الخطابي ولا الجدلى بل ولا الشعري
فيقال إذا كان لا بد في كل ما يسمونه برهانا من قضية كلية فلا بد من العلم بتلك القضية الكلية أي من العلم بكونها كلية وإلا فمتى جوز عليها أن لا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها والمهملة وهي المطلقة التي يحتمل لفظها أن يكون كلية وجزئية في قوة الجزئية
وإذا كان لا بد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم ب قضية كلية موجبة فيقال العلم بتلك القضية إن كان بديهيا أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيا بطريق الاولى
وإن كان نظريا احتاج الى علم بديهي فيفضى الى الدور المعى أو التسلسل في أمور لها مبدأ محدود فان علم ابن آدم إذا توقف على علم منه وعلمه على علم منه فعلمه له مبدأ لانه نفسه مبدأ ليس هذا ك تسلسل الحوادث الماضية وأيضا فانه تسلسل في المؤثرات وكلاهما باطل
وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان ويسمونها الواجب قبولها سواء كانت حسية ظاهرة او باطنة وهي التي يحسها بنفسه
أو كانت من المجربات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من اليقينيات الواجب قبولها
مثل العلم بكون ضوء القمر مستفادا من الشمس إذا راى اختلاف اشكاله عند اختلاف محاذياته للشمس كما يختلف إذا فارقها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال وإذا كان ليلة الاستقبال عند الابدار وهم متنازعون هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا
ومثل العقليات المحضة كقولنا الواحد نصف الاثنين والكل أعظم من الجزء والاشياء المساوية لشئ واحد متساية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان
فما من قضية من هذه القضايا الكلية التي تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان بل هو الواقع كثيرا
فاذا علم ان كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهما واحد فانه يعلم ان هذا الواحد نصف هذين الاثنين وهلم جرا في سائر القضايا المعينة من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية
وكذلك كل كل وجزء يمكن العلم بأن هذا الكل اعظم من جزئة بدون توسط القضية الكلية
وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فانه يعلم انهما لا يجتمعان ولا يرتفعان فكل أحد يعلم أن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ولا يخلو من الوجود والعدم كما يعلم المعين الآخر ولا يحتاج ذلك الى ان يستدل عليه بأن كل شئ لا يكون موجودا معدوما معا
وكذلك الضدان فان الانسان يعلم ان هذا الشئ لا يكون اسود ابيض ولا يكون متحركا ساكنا كما يعلم أن الاخر كذلك ولا يحتاج في العلم بذلك الى قضية كلية بان كل شئ لا يكون اسود ابيض ولا يكون متحركا ساكنا وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فان علم تضاد المعينين علم انهما لا يجتمعان وإن لم يعلم تضادهما لم يغنه العلم بالقضية الكلية وهي علمه بأن كل ضدين لا يجتمعان فان العلم بالقضية الكلية يفيد العلم بالمقدمة الكبرى المشتملة على الحد الاكبر وذلك لا يغنى بدون العلم بالمقدمة الصغرى المشتملة على الحد الاصغر والعلم بالنتيجتة وهو أن هذين المعينين ضدان فلا يجتمعان يمكن بدون العلم بالمقدمة الكبرى وهو أن كل ضدين لا يجتمعان فلم يفتقر العلم بذلك الى القياس الذي خصوه باسم البرهان
وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما يسمونه هم البرهان وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل على القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه
مثال ذلك انه إذا اريد إبطال قول من يثبت الاحوال ويقول إنها لا موجودة ولا معدومة فقيل هذان نقيضان وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان فان هذا جعل للواحد لا موجودا ولا معدوما ولا يمكن جعل شئ من الاشياء لا موجودا ولا معدوما في حال واحدة فلا يمكن جعل الحال لا موجودة ولا معدومة كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ممكنا بدون هذه القضية الكلية فلا يفتقر العلم بالنتيجة الى البرهان
وكذلك إذا قيل إن هذا ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح لوجوده على عدمه على اصح القولين أو لاحد طرفيه على قول طائفة من الناس او قيل هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث فتلك القضية الكلية وهى قولنا كل محدث لا بد له من محدث وكل ممكن لا بد له مرجح يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها فيعلم ان هذا المحدث لا بد له من محدث وهذا الممكن لا بد له من مرجح
فان شك عقله وجوز ان يحدث هو بلا محدث احدثه او ان يكون وهو ممكن يقبل الوجود والعدم بدون مرجح يرجح وجوده جوز ذلك في غيره من المحدثات والممكنات بطريق الاولى وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه بالنتيجة المعينة وهو قولنا وهذا محدث فله محدث أو هذا ممكن فله مرجح الى العلم بالقضية الكلية فلا يحتاج الى القياس البرهاني
ومما يوضح هذا أنك لا تجد أحدا من بني آدم يريد ان يعلم مطلوبا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي
فساد قولهم بأنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين
ولهذا لا تجد أحدا من سائر اصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول
ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة وقد يكون مقدمتين وقد يكون مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل إذ حاجة الناس تختلف
وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال إنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما ولا يحتاج الى أكثر منهما كما يقوله من يقوله من المنطقيين
وهذا ينبغي ان تأخذه من المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الانبياء فانه يظهر بها فساد منطقهم
الكلام على تمثيلهم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام
وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بأقوال الانبياء فانه يظهر الاحتياج الى القضية الكلية كما إذا أردنا بيان تحريم النبيذ المتنازع فيه فقلنا النبيذ مسكر وكل مسكر حرام او قلنا إنه خمر وكل خمر حرام
فقولنا النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص وهو قول النبي ﷺ - كل مسكر خمر وقولنا كل خمر حرام يعلم بالنص والاجماع وليس في ذلك نزاع وإنما النزاع في المقدمة الصغرى وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ - انه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام
وفي لفظ كل مسكر خمر وكل خمر حرام وقد يظن بعض الناس ان النبي ﷺ - ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة بالمقدمتين كما يفعله المنطقيون وهذا جهل عظيم ممن يظنه فان النبي ﷺ - أجل قدرا من ان يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم
بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء امته لا يرضى لنفسه ان يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون الاستدال ويقولون هؤلاء قوم كانوا يحسنون الصناعات كالحساب والطب ونحو ذلك وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الالهية فلم يكونوا من رجالها
وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم وبسطوا الكلام عليهم
وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون فلا يحتاجون الى معرفة ذلك بالقياس
وإنما شك بعضهم في أنواع من الاشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك كما في الصحيحين عن أبي موسى الاشعري أنه قيل: يا رسول الله عندنا شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر قال وكان قد أوتى جوامع الكلم فقال كل مسكر حرام فأجابهم ﷺ - بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم وبين ايضا ان كل ما يسكر فهو خمر
وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر متوقفا على العلم بهما جميعا
فان من علم أن النبي ﷺ - قال كل مسكر حرام وهو من المؤمنين به علم ان النبيذ المسكر حرام ولكن قد يحصل له الشك هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر وهذا شك في مدلول قوله فاذا علم مراده ﷺ - علم المطلوب
وكذلك إذا علم ان النبيذ خمر والعلم بهذا او كد في التحريم فان من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرا فاذا علم بالنص ان كل مسكر خمر كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الايمان الذين يعلمون ان الخمر محرم وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول فهذا لا يستدل بنصه
وإن علم ان محمدا رسول الله لكن لم يعلم انه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله كل مسكر خمر بل ينفعه قوله كل مسكر حرام وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر لأن الخرم والمسكر اسمان لمسمى واحد عند الشارع وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر
وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية بل التنبيه على التمثيل فان هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين
التمثيل بصور مجردة عن المواد المعينة
والمنطقيون يمثلون بصور مجردة عن المواد لا تدل على شئ يعينه لئلا يستفاد العل بالمثال من صورته المعينة كما يقولون
كل ا ب
وكل ب ج
فكل ا ج
لكن المقصود هو العلم المطلوب من المواد المعينة فاذا جردت يظن الظان ان هذا يحتاج اليه في المعينات وليس الامر كذلك
بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم بالمعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفا على البرهان
فالقضايا النبوية لا تحتاج الى القياس العقلى الذي سموه برهانا وما يستفاد بالعقل من العلوم ايضا لا يحتاج الى قياسهم البرهاني فلا يحتاج اليه لا في العقليات ولا في السمعيات
فامتنع أن يقال لا يحصل علم إلا بالقياس البرهاني الذي ذكروه