☰ جدول المحتويات
- خلط مقالات أهل المنطق بالعلوم النبوية وإفساد ذلك للعقول والأديان
- الأدلة على بطلان دعواهم ان الحدود تفيد تصوير الحقائق
- الوجه الاول: الحد سواء جعل مركبا أو مفردا لا يفيد معرفة المحدود
- عود إلى اصل الموضوع
- الوجه الثاني: خبر الواحد بلا دليل لا يفيد العلم
- الوجه الثالث: لو حصل تصور المحدود بالحد لحصل ذلك قبل العلم بصحة الحد
- الوجه الرابع: معرفة المحدود يتوقف على العلم بالمسمى واسمه فقط
- الحد قد ينبه تنبيها
- اعتراف ابن سينا بأن من الامور ما هو متصور بذاته
- التحقيق السديد في مسألة التحديد
- مطلوب السائل المتصور للمعنى الجاهل بدلالة اللفظ عليه
- الترجمة وأحكامها
- معرفة الحدود الشرعية من الدين
- أقسام الحدود اللفظية
- الاجتهاد و التأويل
- فصل
- مطلوب السائل الغير المتصور للمعنى الجاهل باسمه
خلط مقالات أهل المنطق بالعلوم النبوية وإفساد ذلك للعقول والأديان
وقد تفطن ابو عبدالله الرازي بن الخطيب لما عليه ائمة الكلام وقرر في محصله وغيره ان التصورات لا تكون مكتسبة وهذا هو حقيقة قول القائلين إن الحد لا يفيد تصوير المحدود لكنه لم يهتد هو وأمثاله الى ما سبق اليه ائمة الكلام في هذا المقام
وهذا مقام شريف ينبغي ان يعرف فانه بسبب إهماله دخل الفساد في العقول والاديان على كثير من الناس إذ خلطوا ما ذكره اهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت به الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصارى بل وسائر العلوم كالطب والنحو وغير ذلك
وصاروا يعظمون أمر الحدود ويدعون أنهم هم المحققون لذلك وأن ما يذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان وإتعاب الاذهان وكثرة الهذيان ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يضلها عما لا بد لها منه وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعوا انه أصل المعرفة والتحقيق
وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه وإن كان الذي نهوا عنه خيرا من هذا واحسن إذ هو كلام في أدلة وأحكام ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون ان يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما دخل في ذلك متأخروهم الذين يظنون ذلك من التحقيق وإنما هو زيغ عن سواء الطريق
ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها لا تفيد الانسان علما لم يكن عنده وإنما تفيده كثرة كلام سموهم أهل الكلام
وهذا لعمرى في الحدود التي ليس فيها باطل فأما حدود المنطقين التي يدعون انهم يصورون بها الحقائق فانها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين
الأدلة على بطلان دعواهم ان الحدود تفيد تصوير الحقائق
ونحن نبين ان الحدود لا تفيد تصوير الحقائق وان حدود اهل المنطق التي يسمونها حقيقية تفسد العقل والدليل على ذلك وجوه
الوجه الاول: الحد سواء جعل مركبا أو مفردا لا يفيد معرفة المحدود
احدها إن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فانه إذا قال حد الانسان مثلا إنه الحيوان الناطق أو الضاحك فهذه قضية خبرية ومجرد دعوى خلية عن حجة فاما ان يكون المستمع لها عالما يصدقها بدون هذا القول وإما ان لا يكون فان كان عالما بذلك ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد وإن لم يكن عالما يصدقه بمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم كيف وهو يعلم انه ليس بمعصوم في قوله فقد تبين انه على التقديرين ليس الحد هو الذي يفيده معرفة المحدود
فان قيل الحد ليس هو الجملة الخبرية وإنما هو مجرد قولك حيوان ناطق وهذا مفرد لا جملة وهذا السؤال وارد على احد اصطلاحيهم فانهم تارة يجعلون الحد هو الجملة كما يقول الغزالي وغيره وتارة يجعلون الحد هو المفرد المفيد كالاسم وهو الذي يسمونه التركيب التقييدي كما يذكر ذلك الرازي ونحوه قيل التكلم بالمفرد لا يفيد ولا يكون جوابا للسائل سواء كان موصوفا تركيبا مركبا تركيبا تقييديا او لم يكن كذلك
ولهذا لما مر بعض العرب بمؤذن يقول اشهد ان محمدا رسول الله بالنصب قال فعل ماذا
فاذا قيل ما هذا قيل طعام فهذا خبر مبتدإ محذوف باتفاق الناس تقديره هذا طعام كقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله الزمر وقوله قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس الى قوله قل الله (الأنعام) وكقوله سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم الكهف أي هم ثلاثة وهم خمسة وهم سبعة
ومنه قوله تعالى وقل الحق من ربكم الكهف أي هذا الحق من ربكم ليس كما يظنه بعض الجهال أي قل القول الحق فان هذا لو اريد لنصب لفظ الحق والمراد إثبات ان القرآن حق ولهذا قال الحق من ربكم ليس المراد ههنا بقول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله وإذا قلتم فاعدلوا (الأنعام) وقوله الم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق (الأعراف)
ثم إذا قدر ان الحد هو المفرد فالمفرادات اسماء وغاية السائل ان يتصور مسماها لكن من أين له إذا تصور مسماها أن هذا المسمى هو المسئول عنه وأن هذا المسمى هو حقيقة المحدود
فان قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير ان يحكم أنه هو ذلك أو غير ذلك بل تصور إنسان قيل فحينئذ يكون هذا كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه كما لو قيل الانسان وهذا يحقق ما قلناه من أن دلالة الحد كدلالة الاسم وهذا هو قول أهل الصواب الذين يقولون الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال وحينئذ فيقال ان لا نزاع بين العقلاء ان مجرد الاسم لا يوجب تصوير المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والاشارة إليه
ولهذا قالوا إن المقصود باللغات ليس هو دلالة اللفظ المفرد على معناه وذلك لان اللفظ المفرد لا يعرف دلالته على المعنى إن لم يعرف أنه موضوع له ولا يعرف انه موضوع له حتى يتصور اللفظ والمعنى فلو كان المقصود بالوضع استفاده معانى الالفاظ المفردة لزم الدور
وإذا لم يكن المقصود من الاسماء تصوير معانيها المفردة ودلالة الحد كدلالة الاسم لم يكن المقصود من الحد تصوير معناه المفرد وإذا كان دلالة الاسم على مسماه مسبوقا بتصور مسماه وجب أن تكون دلالة الحد على المحدود مسبوقا بتصور المحدود وإذا كان كل من المحدود والمسمى متصورا بدون الاسم والحد وكان تصور المسمى والمحدود مشتركا في دلالة الحد والاسم على معناه امتنع أن تتصور المحدودات بمجرد الحدود كما يمتنع تصور المسميات بمجرد الاسماء وهذا هو المطلوب
ولهذا كان من المتفق عليه بين جميع اهل الارض أن الكلام المفيد لا يكون إلا جملة تامة كاسمين أو فعل واسم
هذا مما اعترف به المنطقيون وقسموا الالفاظ الى اسم وكلمة وحرف يسمى اداة وقالوا المراد بالكلمة ما يريده النحاة بلفظ الفعل لكنهم مع هذا يناقضون ويجعلون ما هو اسم عند النحاة حرفا في اصطلاحهم فالضمائر ضمائر الرفع والنصب والجر والمتصلة والمنفصلة مثل قولك رأيته ومر بي فان هذه اسماء ويسميها النحاة الاسماء المضمرة والمنطقيون يقولون إنها في لغة اليونان من باب الحروف ويسمونها الخوالف كأنها خلف عن الاسماء الظاهرة
فأما الاسم المفرد فلا يكون كلاما مفيدا عند أحد من أهل الارض بل ولا اهل السماء وإن كان وحده كان معه غيره مضمرا أو كان المقصود به تنبيها أو إشارة كما يقصد بالأصوات التي لم توضع لمعنى لا أنه يقصد به المعاني التي تقصد بالكلام استطراد
ولهذا عد الناس من البدع ما يفعله بعض النساك من ذكر اسم الله وحده بدون تأليف كلام فان النبي ﷺ - قال أفضل الذكر لا إله إلا الله وافضل الدعاء الحمد لله رواه ابو حاتم في صحيحه وقال أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير رواه مالك وغيره
وقد نواتر عن النبي ﷺ انه كان يعلم امته ذكر الله تعالى بالجمل التامة مثل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله افضل الكلام بعد القرآن أربع وهي من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رواه مسلم وفي صحيح مسلم عنه ﷺ - أنه قال لأن اقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب الى مما طلعت عليه الشمس وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وأمثال ذلك
فظن طائفة من الناس ان ذكر الاسم المفرد مشروع بل ظنه بعضهم افضل في حق الخاصة من قول لا إله إلا الله ونحوها وظن بعضهم ان ذكر الاسم المضمر وهو هو هو افضل من ذكر الاسم المظهر، وأخرجهم الشيطان إلى أن يقولوا لفظا لا يفيد إيمانا ولا هدى بل دخلوا بذلك في مذهب اهل الزندقة والالحاد أهل وحده الوجود الذين يجعلون وجود المخلوقات وجود الخالق ويقول احدهم ليس إلا الله والله فقط ونحو ذلك
وربما احتج بعضهم عليه بقوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وظنوا انه مأمور بان يقول الاسم مفردا وإنما هو جواب الاستفهام حيث قال وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قال الله تعالى قل من انزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا قل الله (الأنعام) أي الله انزل الكتاب الذي جاء به موسى
عود إلى اصل الموضوع
وإذا عرف ان مجرد الإسم ومجرد الحد لا يفيد ما يفيده الكلام بحال علم ان الحد خبر مبتدإ محذوف لتكون جملة تامة
ثم قد بينا فساد قولهم سواء جعل الحد مفردا كالاسماء او مركبا كالجمل وأنه على التقديرين لا يفيد تصوير المسمى وهو المطلوب
ودعوى المدعى أن الحد مجرد المفرد المفيد كدعواهم ان التصور الذي هو احد نوعى العلم هو التصور المجرد عن كل نفي وإثبات ومعلوم أن مثل هذا لا يكون علما عند أحد من العلماء بل إذا خطر ببال الانسان شيء ما ولم يخطر له ثبوته ولا انتفاءه بوجه من الوجوه لم يكن قد علم شيئا مثل من خطر له بحر زئبق أو جبل ياقوت خاطرا مجردا عن كون هذا التصور ثابتا في الخارج أو منتفيا ممكنا أو ممتنعا فان هذا من جنس الوسواس لا من جنس العلم
وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع متعددة مثل الكلام على المحصل وبينا أن المشروط في التصديق من جنس العلم المشروط في القول فمن صدق بما لم يتصوره كان قد تكلم بغير علم ومن صدق بما تصوره كان كالمتكلم بعلم فقولهم في الحدود ألقولية من جنس قولهم في التصورات الذهنية
الوجه الثاني: خبر الواحد بلا دليل لا يفيد العلم
الثاني انهم يقولون الحد لا يمنع ولا يقوم عليه دليل وإنما يمكن إبطاله بالنقض والمعارضة بخلاف القياس فانه يمكن فيه الممانعة والمعارضة
فيقال إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد إلا بقوله وقوله محتمل للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله
ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية ويجعلون العلم بالمفرد أصلا للعلم بالمركب ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم ولا ريب أن مجرد خبر الواحد الذي لا دليل على صدقة لا يفيد العلم لكن هذا بعينه قولهم في الحد وإنه خبر واحد لا دليل على صدقه بل ولا يمكن عندهم إقامة دليل على صدقه فلم يكن الحد مفيدا لتصور المحدود
ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصوير وهذا بين
وتلخيصه أن المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر فلا يعلم المحدود بالحد
ومن قال أنا أريد بالحد المفرد لم يكن قوله مفيدا لشيء أصلا فإن التكلم بالاسم المفرد لا المستمع شيئا بل إن كان تصور المحدود بدون هذا اللفظ كان قد تصوره بدون هذا اللفظ المفرد وإن لم يكن تصوره لا قبله ولا بعده
الوجه الثالث: لو حصل تصور المحدود بالحد لحصل ذلك قبل العلم بصحة الحد
الثالث أن يقال لو كان مفيدا لتصور المحدود لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد فانه دليل التصور وطريقه وكاشفه فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرف المحدود قبل العلم بصحة المعرف والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبر عنه من غير تقليد المخبر وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر والمخبر ليس هو من باب الاخبار عن الأمور الغائبة
الوجه الرابع: معرفة المحدود يتوقف على العلم بالمسمى واسمه فقط
الرابع أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية ويسمونها اجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها ونحو ذلك من العبارات
فان لم يعلم المستمع ان المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع ان يتصوره وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد فثبت انه على تقدير النقيضين لا يكون قد تصوره بالحد وهذا بين
فانه إذا قيل الانسان هو الحيوان الناطق فان لم يكن قد عرف الانسان قبل هذا كان متصورا لمسمى الحيوان الناطق ولا يعلم انه الانسان احتاج الى العلم بهذه النسبة وإن لم يكن متصورا لمسمى الحيوان الناطق احتاج الى شيئين الى تصور ذلك وإلى العلم بالنسبة المذكورة وإن عرف ذلك كان قد تصور الانسان بدون الحد
الحد قد ينبه تنبيها
نعم الحد قد ينبه على تصور المحدود كما ينبه الاسم فان الذهن قد يكون غافلا عن الشئ فاذا سمع اسمه أو حده اقبل بذهنه الى الشئ الذي اشير اليه بالاسم او الحد فيتصوره فيكون فائدة الحد من جنس فائدة الاسم وهذا هو الصواب وهو التمييز بين الشئ المحدود وغيره
ويكون الحدود للانواع بالصفات كالحدود للاعيان بالجهات كما إذا قيل حد الارض من الجانب القبلي كذا ومن الجانب الشرقي كذا وميزت الارض باسمها وحدها وحد الارض يحتاج اليه إذ خيف من الزيادة في المسمى او النقص منه فيفيد إدخال المحدود جميعه وإخراج ما ليس منه كما يفيد الاسم وكذلك حد النوع
وهذا يحصل بالحدود اللفظية تارة وبالوصفية أخرى وحقيقة الحد في الموضعين بيان مسمى الاسم فقط وتمييز المحدود عن غيره لا تصوير المحدود وإذا كان فائدة الحد بيان مسمى الاسم والتسمية امر لغوي وضعي رجع في ذلك الى قصد ذلك المسمى ولغته ولهذا يقول الفقهاء من الاسماء ما يعرف حده باللغة ومنه ما يعرف حده بالشرع ومنه ما يعرف حده بالعرف
ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبيين مراد المتكلم فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره فانه يحتاج الى معرفة دليل صحة الكلام فالاول فيه بيان تصوير كلامه والثاني بيان تصديق كلامه
وتصوير كلامه كتصوير مسميات الاسماء بالترجمة تارة لمن يكون قد تصور المسمى ولم يعرف ان ذلك اسمه وتارة لمن لم يكن قد تصور المسمى فيشار له إلى المسمى بحسب الامكان إما إلى عينة وإما الى نظيره ولهذا يقال الحد تارة يكون ل الاسم وتارة يكون ل المسمى
وأئمة المصنفين في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون عند التحقيق بهذا كما ذكر أبو حامد الغزالي في كتاب معيار العلم الذي صنفه في المنطق بعد ان قال
البحث النظري الجاري في الطلب إما أن يتجه الى تصور او إلى تصديق فالموصل الى التصور يسمى قولا شارحا فمنه حد ومنه رسم والموصل الى التصديق يسمى حجة فمنه قياس ومنه استقراء وغيره
قال الغزالي:
مضمون هذا الكتاب تعريف مبادئ القول الشارح لما أريد تصوره حدا كان أو رسما وتعريف مبادئ الحجة الموصلة الى التصديق قياسا كان او غيره مع التنبيه على شروط صحتها ومثار الغلط فيها
قال:
فان قلت كيف يجهل الانسان العلم التصوري حتى يفتقر الى الحد قلنا بان يسمع الانسان اسما لا يعرف معناه كمن قال ما الخلاء وما الملاء وما الشيطان وما العقار فيقال العقار الخمر فان لم يعرفه باسمه المعروف يفهمه بحده فيقال الخمر هو شراب مسكر معتصر من العنب فيحصل له علم تصوري بذات الخمر
قلت فقد بين أن فائدة الحدود من جنس فائدة الاسماء وان ذلك كمن سمع اسما لا يعرف معناه فيذكر له اسم فان لم يتصوره وإلا ذكر له الحد
وهذا مما يعترف به حذاقهم حتى بين معلمهم الثاني ابو نصر الفارابي وهو أعظم الفلاسفة كلاما في المنطق وتفاريعه من برهانه
ومعلوم ان الاسم لا يفيد بنفسه تصوير المسمى وإنما يفيد التمييز بينه وبين غيره وأما تصور المسمى فتارة يتصوره الانسان بذاته بحسه الباطن أو الظاهر وتارة يتصوره بتصور نظيره وهو ابعد فمن عرف عين
الخمر إذا لم يعرف مسمى لفظ العقار قيل له هو الخمر او غيرها من الاسماء فعرفها ومن لم يعرف عين الخمر بحال عرف بنظيرها فقيل له هو شراب فاذا تصور القدر المشترك بين النظيرين ذكر له ما يميزها فقيل مسكر
ولكن الكلام في تصوره لمعنى المسكر كالكلام في تصوره لمعنى الخمر فان لم يعرف عين المسكر وإلا لم يمكن تعريفه إلا بنظيره فيقال هو زوال العقل وهذا جنس يشترك فيه النوم والجنون والاغماء والسكر فلا بد ان يميز السكر فيقال زوال العقل بما يلتذ به ثم اللذة لا بد ان يكون قد تصور جنسها بالاكل والشرب وغيرهما
وهذا يبين أن فائدة الحدود قد تكون اضعف من فائدة الاسماء لأنها تفيد معرفة الشئ بنظيره والاسم يكتفى به من عرفه بنفسه
وحقيقة الامر ان الحد هو ان تصف المحدود بما تفصل به بينه وبين غيره والصفات تفيد معرفة الموصوف خبرا وليس المخبر كالمعاين ولا من عرف المشهود عليه بعينه كمن عرفه بصفته وحليته فمن عرف المسمى بعينه كان الاسم مغنيا له عن الحد كما تقدم ومن لم يعرفه بعينه لم يفده الحد ما يفيد الاسم لمن عرفه بعينه إذ الاسم هناك يدل على العين التي عرفها بنفسها والحد لمن لم يعرف العين إنما يفيده معرفة النوع لا معرفة العين كما يتصور اللذه بشرب الخمر من لم يشربها قياسا على اللذة بالخبز واللحم ومعلوم فرق ما بين اللذتين
وليس مقصودنا أن فائدة الحدود اضعف مطلقا وإنما المقصود انها من جنس
فائدة الاسماء وأنها مذكرة لا مصورة او معرفة بالتسمية مميزة للمسمى من غيره او معرفة بالقياس
اعتراف ابن سينا بأن من الامور ما هو متصور بذاته
وهكذا يقول حذاقهم في تحديد امور كثيرة قد حدها غيرهم يقولون لا يمكن تحديدها تحديد تعريف لماهياتها بل تحديد تنبيه وتمييز كما قال ابن سينا في الشفاء قال
فنقول إن الموجود والشئ والضروري معانيها ترتسم في النفس إرتساما أوليا ليس ذلك الارتسام مما يحتاج أن يجلب بأشياء هو أعرف منها
فانه كما أنه في باب التصديق مباديء أولية يقع التصديق بها لذاتها ويكون التصديق لغيرها بسببها وإذا لم يخطر بالبال أو يفهم اللفظ الدال عليها لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها وإذا لم يكن التعريف الذي يحاول إخطارها بالبال أو يفهم ما يدل عليها من الألفاظ محاولا لافادة علم ما ليس في الغريزة بل منبها على تفهيم ما يريده القائل أو يذهب إليه وربما كان ذلك بأشياء هي في أنفسها أخفى من المراد تعريفه لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف
كذلك في التصورات أشياء هي مباديء للتصور هي متصورات لذاتها وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك في الحقيقة تعريفا لمجهول بل تنبيها وإخطارا بالبال باسم العلامة وربما كانت في نفسها أخفى منه
لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة فاذا استعملت تلك العلامة نبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال من حيث أنه هو المراد لا غيره من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه
ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر إلى غير النهاية أو لدار وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها كالموجود والشيء والواحد وغيره ولهذا ليس يمكن أن يبين شيء منها ببيان لا دور فيه ألبتة أو ببيان وشيء أعرف منها
وكذلك من حاول أن يقول فيها شيئا وقع في اضطراب كمن يقول إن من حقيقة الموجود أن يكون فاعلا أو منفعلا وهذا وإن كان ولا بد فمن اقسام الموجود والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون ألبتة أنه يجب أن يكون فاعلا أو منفعلا وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلا بقياس لاغير فكيف يكون حال من يروم أن يعرف الشيء الظاهر بصفة له تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له
وكذلك قول من قال إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر فان يصح أخفى من ل الشيء والخبر أخفى من الشيء فكيف يكون هذا تعريفا ل الشيء وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه شيء أو أنه أمر أو أنه ما أو أنه الذي وجميع ذلك كالمرادفات لاسم الشيء فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفا حقيقيا بما لا يعرف إلا به نعم ربما كان في ذلك وأمثاله تنبيه ما وأما بالحقيقة فانك إذا قلت
إن الشيء هو ما يصح ان يخبر عنه تكون كأنك قلت إن الشيء هو الشيء الذي يصح عنه الخبر لأن معنى ما والذي والشيء معنى واحد فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء على أننا لا ننكر أن يقع بهذا وما أشبهه مع فساد مأخذه تنبيه بوجه ما على الشئ ونقول إن معنى الموجود ومعنى الشئ متصوران في الانفس وهما معنيان والموجود والمثبت والمحصل اسماء مترادفة على معنى واحد ولا شك ان معناها قد حصل في نفس من يقرأ هذا الكتاب
وكذلك قال في حد الواحد والكثير قال
فصل في تحقيق الواحد والكثير وإبانة ان العدد عرض والذي يصعب علينا تحقيقه ما هية الواحد وذلك انا إذا قلنا إن الواحد الذي لا ينقسم فقد قلنا إن الواحد الذي لا يتكثر ضرورة فأخذنا في بيان الواحد الكثرة وأما الكثرة فمن الضرورة أن تحد بالواحد لان الواحد مبدأ الكثرة ومنه وجودها وماهيتها
ثم أي حد حددنا به الكثرة استعملنا فيه الواحد بالضرورة فمن ذلك ما نقول إن الكثرة هو المجتمع من وحدات فقد اخذنا الوحدة في حد الكثرة ثم عملنا شيئا آخر وهو أنا أخذنا المجمتع في حدها والمجتمع يشبه ان يكون هو الكثرة نفسها وإذا قلنا من الوحدات أو الوحدان أو الآحاد فقد أوردنا بدل
لفظ الجمع هذا اللفظ ولا يفهم معناه ولا يعرف إلا بالكثرة وإذا قلنا إن الكثرة هي التي تعد بالواحد فنكون قد أخذنا في حد الكثرة الوحدة ونكون أيضا أخذنا في حدها العدد والتقدير وذلك إنما يفهم بالكثرة أيضا
فما أغنى علينا أن نقول في هذا الباب شيئا يعتد به لكنه يشبه أن تكون الكثرة أيضا أعرف عند تخيلنا ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التي يتصورها بديا فذكر الكثرة نتخيلها أولا والوحدة نعقلها من غير مبدأ لتصورها ثم إن كان ولابد فخيالي ثم تعريفنا الكثرة بالوحدة تعريفا عقليا وهنالك نأخذ الوحدة متصورة بذاتها ومن أوائل التصور يكون تعريفنا الوحدة بالكثرة تنبيها يستعمل فيه المذهب الخيالي النومي إلى معقول عندنا لا يتصور حاضرا في الذهن
فاذا قالوا إن الوحدة هي الشيء الذي ليست فيه كثرة دلوا على أن المراد بهذه اللفظة الشيء المعقول عندنا بديا الذي يقابل هذا الآخر وليس هو فينبه عليه بسلب هذا عنه
والعجب ممن يحدد العدد ويقول إن العدد كثرة مؤلفة من وحدة أو آحاد والكثرة نفس العدد ليس كالجنس ل العدد وحقيقة الكثرة أنها مؤلفة من وحدات فقولهم إن الكثرة مؤلفة من وحدات كقولهم إن الكثرة كثرة فان الكثرة ليس إلا اسما ل المؤلف من الوحدات
فان قال قائل إن الكثرة قد تؤلف من أشياء غير الوحدات مثل الناس والدواب فنقول إنه هذه كما أن الأشياء ليست كثرات بل أشياء موضوعة ل الكثرة وكما أن تلك الأشياء وحدان لا وحدات فكذلك هي كثيرة لا كثرة والذين يحسبون أنهم اذا قالوا إن العدد كمية منفصلة ذات ترتيب فقد تخلصوا من هذا فما تخلصوا فان الكمية تحوج تصورها للنفس إلى أن تعرف بالجزء أ أو القسمة أو المساوة أما الجزء والقسمة فانما يمكن تصورهما بالكثرة وأما المساوة فان الكمية أعرف منها عند العقل الصريح لأن المساواة من الأعراض الخاصة بالكمية التي يجب أن توخذ في حدها الكمية فيقال إن المساوة هي اتحاد في الكمية والترتيب الذي أخذ في حد العدد أيضا هو ما لا يفهم إلا بعد فهم العدد
فيجب أن يعلم أن هذه كلها تنبيهات مثل الشبيه بالأمثلة والأسماء المترادفة فان هذه المعاني متصورة كلها أو بعضها لذواتها وإنما يدل عليها بهذه الأشياء لينبه عليها وتميز فقط
قلت فهذا الكلام الذي ذكره ابن سينا هنا قد تلقوه عنه بالقبول كما يذكر مثل ذلك أبو حامد والرازي والسهروردي وغيرهم
فيقال هذا الذي ذكروه في حدود هذه الأمور هو موجود في سائر ما يرومون بيانه بحدودهم عند التدبر والتأمل لكن منها ما هو بين لكل أحد كالأمور العامة ومنها ما هو بين لبعض الناس كما يعرف أهل الصناعات والمقالات أمورا لا يعرفها غيرهم فحدودها بالنسبة إلى هؤلاء كحدود تلك الأمور التي يعم علمها بالنسبة إلى العموم
وأما الأمور التي تخفى فمجرد الحدود لا تفيد تعريف حقيقتها بعينها وإنما تفيد تمييزها ونوعا من التعريف الشبهي
وهذا يتبين بتقرير قاعدة في ذلك فنقول
التحقيق السديد في مسألة التحديد
المقول في جواب ما هو المطلوب تعريفه بالحد هو جواب لقول سائل قال ما كذا كما يقول ما الخمر أو ما الانسان أو ما الثلج
فهذا الاسم المستفهم عنه المذكور في السؤال إما أن يكون السائل غير عالم بمسماه وإما أن يكون عالما بمسماه
مطلوب السائل المتصور للمعنى الجاهل بدلالة اللفظ عليه
فالأول كالسائل عن اسم تحديد في غير لغته أو عن اسم غريب في لغته أو عن اسم معروف في لغته لكن مقصوده تحديد مسماه مثل العربي إذا سأل عن معاني الأسماء الأعجمية إذا سأل عن معاني الأسماء العربية وبعض الأعاجم إذا سأل بعضا عن معاني الأسماء التي تكون في لغة المسئول دون السائل وهذا هو الترجمة
الترجمة وأحكامها
فالمترجم لا بد أن يعرف اللغتين التي يترجمها والتي يترجم بها وإذا عرف أن المعنى الذي يقصد بهذا الاسم في هذه اللغة هو المعنى الذي يقصد به في اللغة الأخرى ترجمه كما يترجم اسم الخبز والماء والأكل والشرب والسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر ونحو ذلك من أسماء الأعيان والأجناس وما تضمنته من الأشخاص سواء كانت مسمياتها أعيانا أو معاني
والترجمة تكون ل المفردات ول الكلام المؤلف التام
وإن كان كثير من الترجمة لا يأتي بحقيقة المعنى التي في تلك اللغة بل بما يقاربه لأن تلك المعاني قد لا تكون لها في اللغة الأخرى ألفاظ تطابقها على الحقيقة لا سيما لغة العرب فان ترجمتها في الغالب تقريب
ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما بل وتفسير القرآن وغيره من سائر أنواع الكلام وهو في أول درجاته من هذا الباب فان المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء أو بذلك الكلام
وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة بل في قراءة جميع الكتب بل في جميع أنواع المخاطبات بتلك فان من قرأ كتب النحو والطب أو غيرهما لا بد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف وكذلك من قرأكتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك
معرفة الحدود الشرعية من الدين
وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ - ثم قد تكون معرفتها فرض عين وقد تكون فرض كفاية ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله تعالى الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر الا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله
والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريبا بالنسبة إلى المستمع كلفظ ضيزى وقسورة وعسعس وأمثال ذلك
وقد يكون مشهورا لكن لا يعلم حده بل يعلم معناه على سبيل الاجمال كاسم الصلوة والزكوة والصيام والحج فان هذه وإن كان جمهور المخاطبين يعلمون معناها على سبيل الاجمال فلا يعلمون مسماها على سبيل التحديد الجامع المانع إلا من جهة الرسول ﷺ - وهي التي يقال لها الأسماء الشرعية
كما إذا قيل صلوة الجنازة وسجدة السهو وسجود الشكر والطواف هل تدخل في مسمى الصلوة في قوله ﷺ - مفتاح الصلوة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم فقيل هل كل ذلك صلوة تجب فيها الطهارة وهل لا تجب الطهارة لمثل ذلك فهل تجب لما تحريمه التكبير وتحليله التسليم وهي كصلوة الجنازة وسجد السهو دون الطواف سجود التلاوة
وكذلك اسم الخمر والربوا والميسر ونحو ذلك يعلم أشياء من مسمياتها ومنها ما لا يعلم إلا ببيان آخر فانه قد يكون الشيء داخلا في اسم الربوا والميسر والانسان لا يعلم ذلك إلا بدليل يدل على ذلك شرعي أو غيره
ومن هذا قول النبي ﷺ - لما سئل عن حد الغيبة فقال ذكرك أخاك بما يكره فقال له أرأيت إن كان في أخي ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته
وكذلك قوله لما قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذلك فقال لا الكبر بطر الحق وغمط الناس
وكذلك لما قيل له ما الإسلام وما الإيمان وما الإحسان ولما سئل عن أشياء أهي من الخمر وغير ذلك
بالجملة فالحاجة إلى معرفة هذه الحدود ماسة لكل أمة وفي كل لغة فان معرفتها من ضرورة التخاطب الذي هو النطق الذي لا بد منه لبني آدم
أقسام الحدود اللفظية
وهذا الذي يقال له حد بحسب الاسم والمقول في جواب ما هو من هذا النوع وقد يكون اسما مرادفا وقد يكون مكافيا غير مرادف بحيث يدل على الذات مع صفة أخرى كما إذا قال ما الصراط المستقيم فقال هو الاسلام واتباع القرآن أو طاعة الله ورسوله والعلم النافع والعمل الصالح وما الصارم فقيل هو المهند وما أشبه ذلك
وقد يكون الجواب بالمثال كما إذا سئل عن لفظ الخبز ورأى رغيفا فقال هذا فان معرفة الشخص يعرف منه النوع
وإذا سئل عن المقتصد والسابق والظالم فقال المقتصد الذي يصلي الفريضة في وقتها ولا يزيد والظالم الذي يؤخرها عن الوقت والسابق الذي يصليها في أول الوقت ويزيد عليها النوافل الراتبة ونحو ذلك من التفسير الذي هو تمثيل يفيد تعريف المسمى بالمثال لا خطاره بالبال لا لأن السائل لم يكن يعرف المصلي في أول الوقت وفي أثنائه والمؤخر عن الوقت لكن لم يكن يعرف أن هذه الثلاثة أمثلة الظالم والمقتصد والسابق فاذا عرف ذلك قاس به ما يماثله من المقتصر على الواجب والزائد عليه والناقص عنه
ثم إن معرفة حدود هذه الأسماء في الغالب تحصل بغير سؤال لمن يباشر المتخاطبين بتلك اللغة أو يقرأ كتبهم فان معرفة معاني اللغات تقع كذلك
وهذه الحدود قد يظن بعض الناس أنها حدود لغوية يكفي في معرفتها العلم باللغة والكتب المصنفة في اللغة وكتب الترجمة وليس كذلك على الاطلاق
بل الأسماء المذكورة في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف ألف منها ما يعرف حده باللغة كالشمس والقمر والكوكب ونحو ذلك ب ومنها مالا يعرف إلا بالشرع كأسماء الواجبات الشرعية والمحرمات الشرعية كالصلوة والحج والربوا والميسر ج ومنها ما يعرف بالعرف العادي وهو عرف الخطاب باللفظ كاسم النكاح والبيع والقبض وغير ذلك
هذا في معرفة حدود ها التي هي مسمياتها على العموم
الاجتهاد و التأويل
وأما معرفة دخول الأعيان الموجودة في هذه الأسماء والألفاظ فهذا قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا يحتاج إلى اجتهاد وهذا هو التأويل في لفظ الشارع الذي يتفاضل الفقهاء وغيرهم فيه فانهم قد اشتركوا في حفظ الألفاظ الشرعية بما فيها من الأسماء أو حفظ كلام الفقهاء أو النحاة أو الأطباء وغيرهم ثم يتفاضلون بأن يسبق أحدهم إلى أن يعرف أن هذا المعنى الموجود هو المراد أو مراد هذا الاسم كما يسبق الفقيه الفاضل إلى حادثة فينزل عليها كلام الشارع أو كلام الفقهاء وكذلك الطبيب يسبق إلى مرض لشخص معين فينزل عليه كلام الأطباء إذ الكتب والكلام المنقول عن الأنبياء والعلماء إنما هو مطلق بذكر الأشياء لصفاتها وعلاماتها فلا بد يعرف أن هذا المعين هو ذاك
وإذا كان خفيا فقد يسميه بعض الناس تحقيق المناط فان الشارع قد ناط الحكم بوصف كما ناط قبول الشهادة بكونه ذا عدل وكما ناط العشرة المأمور بها بكونها بالمعروف وكما ناط النفقة الواجبة بالمعروف وكما ناط الاستقبال في الصلوة بالتوجه شطر المسجد الحرام يبقي النظر في هذا المعين هل هو شطر المسجد الحرام وهل هذا الشخص ذو عدل وهل هذه النفقة نفقة بالمعروف وأمثال ذلك لابد فيه من نظر خاص لا يعلم ذلك بمجرد الاسم
وقد يكون الاجتهاد في دخول بعض الأنواع في مسمى ذلك الاسم كدخول الأشربة المسكرة من غير العنب والنخل في مسمى الخمر ودخول الشطرنج والنرد ونحوهما في مسمى الميسر ودخول السبق بغير محلل في سباق الخيل ورمى النشاب في ذلك ودخول الرمل ونحوه في الصعيد الذي في قوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا ودخول من خرج منه منى فاسد في قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا ودخول الساعد في قوله فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه ودخول البياض الذي بين العذار والأذن في قوله فاغسلوا وجوهكم ودخول الماء المتغير بالطهارات أو ما أوقعت به نحاسة ولم تغيره في قوله فلم تجدوا ماء ودخول المائع الذي لم يغيره ما مات فيه من الطيبات أو الخبائث ودخول سارق الأموال الرطبة في قوله السارق والسارقة ودخول النباش في ذلك ودخول الحلفة بما يلزم لله في مسمى الأيمان ودخول بنات البنات والجدات في قوله حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم
ومثل هذا الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين ممن يثبت القياس ومن ينفيه فان بعض الجهال يظن أن من نفى القياس يكفيه في معرفة مراد الشارع مجرد العلم باللغة وهذا غلط عظيم جدا
ولهذا قال ابن عباس التفسير على أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله والتفسير الذي يعلمه العلماء فيتضمن الأنواع التي لا تعلم بمجرد اللغة كالأسماء الشرعية ويتضمن أعيان المسميات وأنواعها التي يفتقر دخولها في المسمى إلى اجتهاد العلماء
فصل
ثم إن هذا الاسم المسئول عنه الذي لا يعلم السائل معناه إذا أجيب عنه بما يقال
في جواب ما هو ينقسم حال السائل فيه إلى نوعين
أحدهما أن يكون قد تصور المعنى بغير ذلك اللفظ ولكن لم يعرف أنه يعنى بذلك اللفظ فهذا لا يفتقر إلا إلى ترجمة اللفظ كالمعاني المشهورة عند الناس من الاعيان والصفات والافعال كالخبز والماء والاكل والشرب والبياض والسواد والطول والقصر والحركة والسكون ونحو ذلك
مطلوب السائل الغير المتصور للمعنى الجاهل باسمه
والثاني أن يكون غير متصور المعنى كما أنه غير عالم بدلالة اللفظ عليه وهذا يحتاج إلى شيئين إلى ترجمة اللفظ وإلى تصور المعنى الى حد الاسم والمسمى
وهذا مثل من يسأل عن لفظ الثلج وهو لم يره قط أو يسأل عن اسم نوع من الفاكهة او الحيوان الذي لم يره أو لم يكن في بلاده أو يسأل عن اسم المسجد والصلوة والحج وكان حديث عهد بالاسلام لم يتصور هذه المعاني او يسأل عن اسم نوع من الاطعمة والاشربة التي لا يعرفها أو اسم نوع من أنواع الثياب والمساكن التي لا يعرفها
وبالجملة فكل ما لا يعرفه الشخص من الاعيان والافعال والصور إذا سمع اسمه إما في كلام الشارع أو كلام العلماء أو كلام بعض الناس فانه إذا كان ذلك المعنى هو لم يتصوره ولا له في لغته لفظ فهنا لا يمكن تعريفه إياه بمجرد ترجمة اللفظ بل الطريق في تعريفه إياه إما التعيين وإما الصفة
وأما التعيين فانه بحضور الشئ المسمى ليراه إن كان مما يرى أو يذوقه او يلمسه ونحو ذلك بحيث يعرف المسمى كما عرفه المتكلمون بذلك الاسم
فاذا رأى الثلج وذاقه ورأى الفاكهة أو الطبيخ أو الحلوى وذاقه أو رأى الحيوان الذي لم يألفه أو رأى العبادات أو الاعمال التي لم يكن يعرفها فحيئذ يتصورها ويتصور اسمها كما تصورها أهل اللغة وهم على قسمين منهم من علم ذلك بالمشاهدة ولم يذق حقيقته ومنهم من يكون قد ذاقه
وأما الطريق الثاني وهو أن يوصف له ذلك والوصف قد يقوم مقام العيان كما قال النبي ﷺ - لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها
ولهذا جاز عند جمهور العلماء بيع الاعيان الغائبة بالصفة
هذا مع ان الموصوف شخص واما وصف الانواع فاسهل
ولهذا التعريف بالوصف هو التعريف بالحد فانه لا بد ان يذكر من الصفات ما يميز الموصوف والمحدود من غيره بحيث يجمع أفراده وأجزاءه ويمنع أن يدخل فيه ما ليس منه وهي في الحقيقة تعريف بالقياس والتمثيل إذ الشيء لا يتصوره إلا بنفسه أو بنظيرة
وبيان ذلك أنه يذكر من الصفات المشتركة بينه وبين غيره ما يكون مميزا لنوعه فكل صفة من تلك الصفات إنما تدل على القدر المشترك بينه وبين غيره من النوع مثلا والقدر المشترك إنما يفيد المعرفة للعين بالمثال لا يفيد معرفة العين المختصة إذ الدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز لكن يكون مجموع الصفات مميزا له تمييز تمثيل لا تمييز تعيين فان غير نوعه لا تجمع له تلك الصفات وهو نفسه لا يميز إلا بما يخصه
فالحد يفيد الدلالة عليه لا تعريف عينه بمنزلة من يقال له فلان في هذه الدار يدل عليه قبل أن يراه وهو قد يصور المشترك بينه وبين غيره بدون هذه الدلالة
ومن تدبر هذا تبين له أن الحدود المصورة للمحدود لمن لا يعرفه إنما هي مؤلفة من الصفات المشتركة لا يدخل فيها وصف مختص به إذ المختص وإن كان لا بد منه في الحد المميز فهو لم يتصوره وأنها لا تفيد تعريف عينه فضلا عن تصوير ما يتنبه له وإنما يفيد تعريفه بطريق التمثيل المقارب إذ لو عرف المثل المطابق لعرف حقيقة
ثم قد يكون المخصص صفة واحدة وقد يكون الاختصاص بمجموع الصفتين
ولو عرف المستمع الوصف الذي يخصه كان قد تصورة ب عينه فيكون هو من القسم الاول الذي يترجم له اللفظ فقط
مثال ذلك أنه إذا سمع لفظ الخمر وهو لا يعرف اللفظ ولا مسماه فيقال له هو الشراب المسكر ولفظ الشراب جنس ل الخمر يدخل فيه الخمر وغيرها من الاشربة وهذا واضح وكذلك لفظ المسكر الذي يظن أنه فصل مختص بالخمر وهو في الحقيقة جنس فيه يشترك الشراب وغيره فان لفظ المسكر ومعناه لا يختص بالشراب بل قد يكون ب طعام وقد يحصل السكر بغير طعام وشراب فحينئذ فلا فرق بين ان يقول هو المسكر من الاشربة أو ما اجتمع فيه الشرب والسكر أو يقول الشراب المسكر إنما هو كما يقول ثوب خز وباب حديد ورجل طويل أو قصير فان الرجل أعم من الطويل والطويل اعم من الرجل ولكن باجتماع هذين يتميز
وكذلك قولهم في حد الانسان هو الحيوان الناطق فلما نقضوا عليهم بالملك زاد المتأخرون المائت وهي زيادة فاسدة فان كونه مائتا ليس بوصف ذاتى له إذ يمكن تصور الانسان مع عدم خطور موته بالبال بل ولا هو صفة لازمة فضلا عن ان تكون ذاتية فان الانسان في الاخرة هو إنسان كامل وهو حي أبدا
وهب ان من الناس من يشك في ذلك او يكذب به أليس هو مما يمكن تصوره في العقل فاذا قدر الانسان على الحال الذي اخبرت به الرسل عليهم السلام اليس هو إنسانا كاملا وهو غير مائت
ثم يقال ايضا والملك يموت عند كثير من المسلمين واليهود والنصارى أو أكثرهم وهب انه لا يموت كما قالته طائفة من اهل الملل وغيرهم كما يقوله من يقوله ولكن ليس ذلك معلوما للمخاطب بالحد لا سيما والنفس الناطقة من جنس ما يسمونه الملائكة وهي العقول والنفوس الفلكية عندهم فظهر ضعف ما يذكره الفارابي وابو حامد وغيرهما من هذا الاحتراز
ولكن يقال اسم الحيوان عندهم مختص بالنامى المغتذى وهذا يخرج الملك ف الحيوان يخرج الملك وحينئذ ف الناطق اعم من الانسان إذ قد يكون إنسانا وغير إنسان كما أن الحيوان أعم منه
وهب أنا نقبل فصلهم بالمائت فنقول المائت ايضا ليس مختصا بالانسان بل هو من الصفات التي يشترك فيها الحيوان
فقد تبين ان كل صفة من هذه الصفات الحيوان والناطق والمائت ليس منها واحد مختص بنوع الانسان فبطل قولهم إن الفصل لا يكون إلا بالصفات المختصة بالنوع فضلا عن كونها ذاتية وإنما يحصل التمييز بذكر المجموع إما الوصفين وإما الثلاثة