☰ جدول المحتويات
- الغزالي وعلم المنطق
- دعواهم إضمار إحدى المقدمتين في قياس الضمير
- وجود الركة والعى في كلام اهل المنطق
- التباس أمر المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه
- تلازم قياس الشمول وقياس التمثيل وبيانه بالامثلة
- الاستقراء ليس استدلالا بجزئي على كلي
- القياس استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى
- قياس التمثيل هو اشتراك الجزئيين في علة الحكم
- لا تعلم صحة القياس في قياس الشبه
- عود الاقترانى والاستثنائى الى معنى واحد
- مدار الاستدلال على مادة العلم لا على صورة القياس
- تزييف القول بأن هذه علوم قد صقلتها الاذهان الخ
- فصل: قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن عند المناطقة بخلاف الاستقراء
- إشكالات أوردها نظار المسلمين على قياس التمثيل
- رد المنصف اشكالاتهم على قياس التمثيل
- حقيقة توحيد الفلاسفة
- رد قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد
- ما أمكن إثباته بقياس الشمول كان إثباته بالتمثيل أظهر
- ليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده
الغزالي وعلم المنطق
وانما كثراستعمالها من زمن ابي حامد فانه ادخل مقدمة من المنطق في اول كتابه المستصفى وزعم انه لا يثق بعلمه الا من عرف هذا المنطق
وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر
وصنف كتابا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين الضروب الثلاثة الحمليات والشرطى المتصل والشرطى المنفصل وغير عبارتها الى امثلة اخذها من كلام المسلمين وزعم انه اخذ تلك الموازين من الانبياء وذكر انه خاطب بذلك بعض اهل التعليم
وصنف كتابا في مقاصدهم وصنف كتابا في تهافتهم وبين كفرهم بسبب مسأله قدم العالم وانكار العلم بالجزئيات وانكار المعاد
وبين في اخر كتبه ان طريقهم فاسدة لا توصل الى يقين وذمها اكثر مما ذم طريقة المتكلمين لكن بعد ان اودع كتبه المضنون بها على غير اهلها وغيرها من معاني كلامهم الباطل المخالف لدين المسلمين ما غير عبارته وعبر عنه بعبارة المسلمين التي لم يريدوا بها ما اراده كما يأخذ لفظ الملك و الملكوت والجبروت
وكان النبي ﷺ - يقول في ركوعه وسجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة والجبروت والملكوت فعلوت الجبر والملك كالرحموت والرغبوت والرهبوت فعلوت من الرحمة والرغبة والرهبة والعرب تقول رهبوت خير من رحموت أي ان ترهب خير من من ان ترحم
فالجبروت والملكوت يتضمن من معاني اسماء الله تعالى وصفاته ما دل عليه معنر الملك الجبار وابو حامد يجعل عالم الملك عالم الاجسام وعالم الملكوت والجبروت عالم النفس والعقل ومعلوم ان النبي ﷺ - والمسلمين لم يقصدوا بهذا اللفظ هذا
بل ما يثبته المتفلسفة من العقل باطل عند المسلمين بل هو من أعظم الكفر فان العقل الاول عندهم مبدع كل ما سوى الله والعقل العاشر مبدع ما تحت فلك القمر وهذا من اعظم الكفر عند المسلمين واليهود والنصارى
والعقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا وهو ايضا غريزة في الانسان فمسماه من باب الاعراض لا من باب الجواهر القائمة بأنفسها وعند المتفلسفة مسماه من النوع الثاني
والملئكة التي أخبرت بها الرسل وإن كان بعض من يريد بالجمع بين النبوة والفلسفة يقول إنها العقول فهذا من أبطل الباطل فبين ما وصف الله به الملئكة في كتابه وبين العقول التي يثبتها هؤلاء من الفروق ما لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته كما قد بسطنا ذلك في موضعه
والحديث الذي يروى أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتى ما خلقت خلقا أكرم على منك فبك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب هو حديث موضوع باتفاق اهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وبين من وضعه وكذلك ذكر ضعفه ابو حاتم بن حيان والعقيلي وابن الجوزي وغيرهم
ومع هذا فلفظه اول ما خلق الله العقل قال له فمدلوله انه خاطبه في اول اوقاته خلقه ليس مدلوله انه اول المخلوقات وفي تمامه انه قال ما خلقت خلقا اكرم على منك فدل انه خلق قبله غيره وفيه انه مخلوق
وابو حامد يفرق بين عالم الخلق وعالم الامر فيجعل الأجسام عالم الخلق والنفوس والعقول عالم الامر وهذا ايضا ليس من دين المسلمين بل كل ما سوى الله مخلوق عند المسلمين والله تعالى خالق كل شئ
وإذا ادعو ان العقول التي اثبتوها هي الملئكة في كلام الانبياء فقد ثبت بالنص والاجماع أن الله خلق الملئكة بل خلقهم من مادة كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي ﷺ - قال خلق الله الملئكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم فبين ان الملئكة مخلوقون من مادة موجودة قبلهم فأين هذا من قول من ينفى الخلق عنها ويقول إنها مبتدعة لا مخلوقة او يقول إنها قديمة أزلية لم تكن من مادة اصلا وهذه الامور مبسوطة في موضع آخر
والمقصود هنا أن كتب أبى حامد وإن كان يذكر فيها كثيرا من كلامهم الباطل إما بعبارتهم أو بعبارة أخرى فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم ويبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول ما حصل له مقصوده ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة بل كان متوقفا حائرا فيما هو من أعظم المطالب العالية الالهية والمقاصد الساميه الربانية ولم يغن عنه المنطق شيئا
ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن انه لا طريق إلا هذا وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو امر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم انه ما زال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة وجمهور المسلمين يعيبونه عيبا مجملا لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على ما في اهله مما يناقض العلم والايمان ويفضى بهم الحال إلى انواع من الجهل والكفر والضلال
والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب نظري على مقدمتين لا أكثر ليس كذلك
دعواهم إضمار إحدى المقدمتين في قياس الضمير
وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير ويقولون إنها قد تحذف إما للعلم بها وإما غلطا وإما تغليطا
فيقال إذا كانت معلومة كانت كغيرها من المقدمات المعلومة وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاثة وأربعة فان جاز أن يدعى في الدليل الذي لا يحتاج إلا الى مقدمة ان الاخرى مضمرة محذوفة جاز أن يدعى فيما يحتاج الى ثنتين ان الثالثة محذوفة وكذلك فيما يحتاج الى ثلاث وليس لذلك حد ومن تدبر هذا وجد الامر كذلك
وجود الركة والعى في كلام اهل المنطق
ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم ما يوجد في كلام اهل المنطق بل من سلك طريقهم كان من المضيقين لطريق العلم عقولا وألسنة ومعانيهم من جنس ألفاظهم تجد فيها من الركة والعى ما لا يرضاه عاقل
وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الاسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الاسلام وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض اعيان القضاة الذين كانوا في زماننا ابن سينا من فلاسفة الاسلام فقال ليس للاسلام فلاسفة كان يعقوب يقول في أثناء كلامه لعدم فقد وجود كذا وأنواع هذه الاضافات
ومن وجد في بعض كلامه فصاحة او بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم
التباس أمر المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه
وهم أكثر ما ينفقون على من لا يفهم ما يقولونه ويعظمهم بالجهل والوهم
أو يفهم بعض ما يقولونه او اكثره او كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول ﷺ - وما يعرف بالعقول السليمة وما قاله سائر العقلاء مناقضا لما قالوه وهو انما وصل الى منتهى امرهم بعد كلفة ومشقه واقترن بها حسن الظن فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله
ثم إن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرا من الفضلاء الذين احسنوا بهم الظن ابتداء ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبر اهم منهم بل وردهم عليهم وإلا بقى في الضلال
وضلالهم في الالهيات ظاهر لاكثر الناس ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة وإنما المنطق التبس الامر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه، واتفق أن فيه امورا ظاهرة مثل الشكل الاول ولا يعرفون ان ما فيه من الحق لا يحتاج اليهم فيه بل طولوا فيه الطريق وسلكوا الوعر والضيق ولم يهتدوا فيه الى ما يفيد التحقيق
وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطأوا في إثباته بل ما أخطأوا في نفيه حيث زعموا ان العلم النظري لا يحصل إلا ببرهانهم وهو من القياس
تلازم قياس الشمول وقياس التمثيل وبيانه بالامثلة
وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة القياس والاستقراء والتمثيل وزعموا ان التمثيل لا يفيد اليقين وإنما يفيده القياس الذي تكون مادته من القضايا التي ذكروها
وقد بينا في غير هذا الموضع ان قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان وأن ما حصل بأحدهما من علم او ظن حصل بالاخر مثله إذا كانت المادة واحدة
والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية بل إذا كانت المادة يقينية سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل او صورة قياس الشمول فهى واحدة وسواء كانت صورة القياس اقترانيا اواستثنائيا بعبارتهم أو بأي عبارة شئت لا سيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل وأوجز في اللفظ والمعنى واحد
وحد هذا في أظهر الامثلة إذا قلت هذا إنسان وكل إنسان مخلوق او حيوان او حساس او متحرك بالارادة أو ناطق أو ما شئت من لوازم الانسان فان شئت صورت الدليل على هذه الصورة وإن شئت قلت هو انسان فهو مخلوق او حساس او حيوان او متحرك كغيره من الناس لاشتراكهما في الانسانية المستلزمة لهذه الصفات وإن شئت قلت هذا إنسان والانسانية مستلزمة لهذه الاحكام فهى لازمة له وإن شئت قلت إن كان أنسانا فهو متصف بهذا الصفات اللازمة للانسان وإن شئت قلت إما ان يتصف بهذه الصفات وإما ان لا يتصف والثاني باطل فتعين الاول لان هذه لازمة للانسان لا يتصور وجوده بدونها
الاستقراء ليس استدلالا بجزئي على كلي
وأما الاستقراء فانما يكون يقينيا إذا كان استقراء تاما وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الافراد وهذا ليس استدلالا يجزئى على كلى ولا بخاص على عام بل استدلال بأحد المتلازمين على الاخر فان وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلى العام يوجب ان يكون لازما لذلك الكلى العام
فقولهم إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق وكيف ذلك والدليل لا بد أن يكون ملزوما للمدلول فانه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه ولم يكن المدلول لازما له لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل نعلم ثبوت المدلول معه إذا علمنا أنه تارة يكون معه وتارة لا يكون معه فانا إذا علمنا ذلك ثم قلنا إنه معه دائما كنا قد جمعنا بين النقيضين
وهذا اللزوم الذي نذكره هنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر كانت الدلالة اقوى واتم وأظهر كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى فانه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته فكل مخلوق دال على ذلك كله
واذا كان المدلول لازما للدليل فمعلوم ان اللازم إما ان يكون مساويا للملزوم وإما أن يكون أعم منه فالدليل إما أن يكون مساويا للحكم المدلول في العموم والخصوص وإما أن يكون اخص منه لا يكون الدليل أعم منه
القياس استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى
وإذا قالوا في القياس يستدل بالكلى على الجزئي فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه إنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه محل الحكم فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له بخلاف الحكم الذي هو صفة هذا وحكمه الذي اخبر به عنه فانه لا يكون إلا اعم من الدليل او مساويا له فان ذلك هو المدلول اللازم للدليل والدليل هو لازم المخبر عنه الموصوف
فاذا قيل النبيذ حرام لانه خمر كونه خمرا هو الدليل وهو لازم للنبيذ والتحريم لازم للخمر
والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت النبيذ المتنازع فيه مسكر او خمر وكل مسكر او كل خمر حرام فأنت لم تستدل بالمسكر او الخمر الذي هو كلى على نفس محل النزاع الذي هو اخص من الخمر وهو النبيذ فليس هو استدلالا بذلك الكلى عل هذا الجزئي بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ فلما كان تحريم هذا النبيذ مندرجا في تحريم كل مسكر قال من قال إنه استدلال بالكلى على الجزئي والتحقيق ان ما ثبت للكلى فقد ثبت لكل واحد من جزئياته والتحريم أعم من الخمر وهو ثابت لها فهو ثابت لكل فرد فرد من جزئياتها فهو استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة الى ذلك الكلى الذي هو الحكم وهو كلى بالنسبة الى تلك الجزئيات التي هي المحكوم عليها
وهذا مما لا يتنازعون فيه فان الدليل ه الحد الاوسط وهو اعم من الاصغر أو مساو له والاكبر اعم منه او مساو له والاكبر هو الحكم والصفة والخبر وهو محمول النتيجة والاصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ وهو موضوع النتيجة
قياس التمثيل هو اشتراك الجزئيين في علة الحكم
وأما قولهم في التمثيل إنه استدلال بجزئي على جزئي فان أطلق ذلك وقيل إنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي فهو غلط فان قياس التمثيل إنما يدل بحد اوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم أو دليل الحكم مع العلة فانه قياس علة او قياس دلالة
لا تعلم صحة القياس في قياس الشبه
وأما قياس الشبه فاذا قيل به لم يخرج عن أحدهما فان الجامع المشترك بين الاصل والفرع إما أن يكون هو العلة او ما يستلزم العلة وما استلزمها فهو دليلها وإذا كان الجامع لا علة ولا ما يستلزم العلة لم يكن الاشتراك فيه مقتضيا للاشتراك في الحكم بل كان المشترك قد يكون معه العلة وقد لا يكون فلا يعلم حينئذ أن علة الاصل موجودة في الفرع فلا يعلم صحة القياس بل لا يكن صحيحا إلا إذا اشتركا فيها ونحن لا نعلم الاشتراك فيها إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها او في ملزومها فان ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فاذا قدرنا انهما لم يشتركا في الملزوم ولا فيها كان القياس باطلا قطعا لانه حينئذ تكون العلة مختصة بالاصل وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس
وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الاصل والفرع وإن لم يعلم عين العلة ولا دليلها فانه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم
وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق وإما بابداء جامع وهو كلى يجمعهما يستلزم الحكم وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلى لجزئياته وهذا حقيقة قياس الشمول ليس ذلك استدلالا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر
فأما إذا قيل بما يعلم ان المشترك مستلزم الحكم قيل مما تعلم القضية الكبرى في القياس فبيان الحد الاوسط هو المشترك الجامع ولزوم الحد الاكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك كما قد تقدم التنبيه على هذا
وقد يستدل بجزئي على جزئي إذا كانا متلازمين أو كان احدهما ملزوم الاخر من غير عكس فان كان اللزوم عن الذات كانت الدلالة على الذات وإن كان في صفة او حكم كانت الدلالة على الصفة والحكم
فقد تبين ما في حصرهم من الخلل وأما تقسيمهم الى الانواع الثلاثة فكلها تعود الى ما ذكروه في استلزام الدليل للمدلول
عود الاقترانى والاستثنائى الى معنى واحد
وما ذكروه في الاقترانى يمكن تصويره بصورة الاستثنائي وكذلك الاستثنائي يمكن تصويره بصورة الاقتراني فيعود الامر الى معنى واحد
وهو مادة الدليل والمادة لا تعلم من صور القياس الذي ذكروه بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة سواء صورت بصورة القياس أو لم تصور وسواء عبر عنها بعباراتهم او بغيرها بل العبارات التي صقلها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير
والاقترانى كله يعود الى لزوم هذا لهذا وهذا لهذا كما ذكر وهذا بعينه هو الاستثنائي المؤلف من المتصل والمنفصل
فان الشرطى المتصل استدلال باللزوم بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم هو التالي وهو الجزاء او بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم هو المقدم وهو الشرط
وأما الشرطي المنفصل وهو الذي يسميه الاصوليون السبر والتقسيم وقد تسميه ايضا الجدليون التقسيم والترديد فمضمونه الاستدلال بثبوت احد النقضين على انتفاء الاخر وبانتفائه على ثبوته أو الإستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر واقسامه اربعة ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الاربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذلك الآخر وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذلك الاخر
ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت احد الضدين على انتفاء الاخر والامران متنافيان
ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم والنقيضان لا يرتفعان فمنعت الخلو منهما ولكن جزاءها وجود شئ وعدم آخر ليس هو وجود الشئ وعدمه ووجود شئ وعدم آخر قد يكون أحدهما لازما للاخر وإن كانا لا يرتفعان لان ارتفاعهما يقتضى ارتفاع وجود شئ وعدمه معا
مدار الاستدلال على مادة العلم لا على صورة القياس
وبالجملة ما من شئ إلا وله لازم لا يوجد بدونه وله مناف مضاد لوجوده فيستدل عليه بثبوت ملزومه وعلى انتفائه بانتفاء لازمه
ويستدل على انتفائه بوجود منافيه ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده إذا انحصر الامر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعا كما لم يمكن وجودهما جمعيا
وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشئ وملزومها ولوازمها وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع من صور الادلة لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس فضلا عما سموه البرهان فان البرهان شرطوا له مادة معينة وهي القضايا التي ذكروها واخرجوا من الاوليات ما سموه وهميات وما سموه مشهورات وحكم الفطرة بهما لا سيما بما سموه وهميات اعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان
وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم وأن ما اخرجوه يخرج به ما ينال به اشرف العلوم من العلوم النطرية والعلوم العملية ولا يبقى بأيديهم إلا امور مقدرة في الاذهان لا حقيقة لها في الاعيان ولولا ان هذا الموضع لا يتسع لحكاية الفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والالهية فانها هي المطوبة
والكلام في المنطق إنما وقع لما زعموا انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره فاحتجنا ان ننظر في هذه الالة هل هي كما قالوا او ليس الامر كذلك
تزييف القول بأن هذه علوم قد صقلتها الاذهان الخ
ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد اقولهم ما يتبين به ضلالهم وعجز عن دفع ذلك يقول هذه علوم قد صقلتها الاذهان اكثر من الف سنة وقبلها الفضلاء فيقال له عن هذا أجوبة
أحدها إنه ليس الامر كذلك فما زال العقلاء الذين هم افضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم
فأما القدماء فالنزاع بينهم كثير معروف وفي كتب اخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره
وأما ايام الاسلام فان كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما افسدوه من اصولهم المنطقية والالهية بل والطبيعية بل والرياضية كثير قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة
وأما شهادة سائر العلماء وطوائف أهل الايمان بضلالهم وكفرهم فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند والمؤمنون شهداء الله في الارض
فاذا كان اعيان الاذكياء الفضلاء من الطوائف وسائر اهل العلم والايمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم إما جملة وإما تفصيلا امتنع ان كون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول
الوجه الثاني إن هذا ليس بحجة فان الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبلة بالقبول طعن ارسطو في كثير منها وبين خطأهم وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من اقاويلهم المنطقية وغيرها وبينوا خطأهم ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله لأنهم يقولون إنما قصدنا الحق ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين
الثالث إن دين عباد الاصنام اقدم من فلسفتهم وقد دخل فيه من الطوائف اعظم ممن دخل في فلسفتهم وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو ودين النصارى المبدل قريب من زمن ارسطو فان ارسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة فانه كان في زمن الاسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى
الرابع أن يقال فهب ان الامر كذلك فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل وإنما تعلم بمجرد العقل فلا يجوز ان تصحح بالنقل بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد فاذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها لم يجز رده فان أهلها لم يدعوا انها مأخوذة عمن يجب تصديقه بل عن عقل محض فيجب التحاكم فيها الى موجب العقل الصريح
فصل: قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن عند المناطقة بخلاف الاستقراء
وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل دون الاستقراء فقالوا إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن وإن المحكوم عليه قد يكون جزئيا بخلاف الاستقرا ء فانه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليا
قالوا وذلك ان الاستقراء هو الحكم على كلى بما تحقق في جزئياته فان كان في جميع الجزئيات كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك بالجسمية لكونها محكوما بها على جميع جزئيات المتحرك من الحيوان والجماد والنبات
والناقص كالحكم على الحيوان بانه إذا أكل تحرك فكه الاسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته ولعله فيما لم يستقرا على خلافه كالتمساح والاول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني وإن كان منتفعا به في الجدليات
وأما قياس التمثيل فهو الحكم على شئ بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما كقولهم العالم موجود فكان قديما كالباري او هو جسم فكان محدثا كالانسان وهو مشتمل على فرع واصل وعلة وحكم فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال والاصل ما هو مثل الباري او الانسان والعلة الموجود او الجسم والحكم القديم او المحدث
قالوا ويفارق الاستقراء من جهة ان المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيا والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا
إشكالات أوردها نظار المسلمين على قياس التمثيل
قالوا وهو غير مفيد لليقين فانه ليس من ضرورة اشتراك امرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على احدهما إلا ان يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم وكل ما يدل عليه فظنى فان المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم
أما الطرد والعكس فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودا وعدما ولا بد في ذلك من الاستقراء ولا سبيل الى دعواه في الفرع إذ هو غير المطلوب فيكون الاسقراء ناقصا لا سيما ويجوز ان تكون علة الحكم في الاصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها ويكون وجودها في الاوصاف متحققا فيها فاذا وجد المشترك في الاصل ثبت الحكم لكمال علته وعند انتفائه فينتفى لنقضان العلة وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع ثبوت الحكم لجواز تخلف باقي الاوصاف أو بعضها
وأما السبر والتقسيم فحاصله يرجع الى دعوى حصر اوصاف الاصل في جملة معينة وابطال كل ما عدى المستبقى وهو ايضا غير يقيني لجواز ان يكون الحكم ثابتا في الاصل لذات الاصل لا لخارج والا لزم التسلسل وان ثبت لخارج فمن الجائز ان يكون لغيرها ابدا وان لم يطلع عليه البحث عنه وليس الامر كذلك في العاديات فانا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر من زئبق وجبل من ذهب بين ايدينا ونحن لا نشاهده وان كان منحصرا فمن الجائز ان يكون معللا بالمجموع او بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تحلف غيره من الاوصاف المقارنة له في الاصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز ان يكون في تلك معلالا بعلة اخرى ولا امتناع فيه وان كان لا علة له سواه فجائز ان يكون علة لخصوصه لا لعمومه وان بين ان ذلك الوصف يلزمه لعموم ذاته الحكم فمع بعده يستغنى عن التمثل
قالوا والفراسة البدنية هي عين التمثيل غير ان الجامع فيها بين الاصل والفرع دليل العلة لا نفسها وهو المسمى في عرف الفقهاء ب قياس الدلالة فانها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الاخر اذ مبناها على ان المزاج علة لخلق باطن وخلق ظاهر فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج ثم بالمزاج على الخلق الباطن كالاستدلال ب عرض الاعلى على الشجاعة بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الاسد
ثم اثبات العلة في الاصل لا بد فيها من الدوران او التقسيم كما تقدم وان قدر ان علة الحكمين في الاصل واحدة فلا مانع من ثبوت احدهما في الفرع بغير علة الاصل وعند ذلك فلا يلزم الحكم الاخر
هذا كلامهم على ما حرره لهم نظار المسلمين الذين اوردوا على قياس التمثيل هذه الاشكالات والا فكلام ائمتهم في قياس التمثيل ليس فيه هذا التحرير الذي حرره لهم نظار المسلمين
رد المنصف اشكالاتهم على قياس التمثيل
فيقال تفريقهم بين قياس المشمول وقياس التمثيل بأن الاول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد الا الظن فرق باطل بل حيث افاد احدهما اليقين افاد الاخر اليقين وحيث لا يفيد احدهما الا الظن لا يفيد الاخر الا الظن فان افادة الدليل لليقين او الظن ليس لكونه عل صورة احدهما دون الاخر بل باعتبار تضمن احدهما لما يفيد اليقين فان كان احدهما اشتمل على امر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين وان لم يشتمل الا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد الا الظن
والذي يسمى في احدهما حدا اوسط هو في الاخر الوصف المشترك والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الاكبر للاوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الاصل والفرع فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين ان الجامع المشترك مستلزم للحكم فلزوم الاكبر للاوسط هو لزوم الحكم للمشترك
فاذا قلت النبيذ حرام قياسا على الخمر لان الخمر انما حرمت لكونها مسكرة وهذا الوصف موجود في النبيذ كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالنتيجة قولك النبيذ حرام و النبيذ هو موضوعها وهو الحد الاصغر والحرام محمولها وهو الحد الاكبر والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الاوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى
فاذا قلت النبيذ حرام قياسا على خمر العنب لان العلة في الاصل هو الاسكار وهو موجود في الفرع فثبت التحريم لوجود علته فانما استدللت على تحريم النبيذ بالمسكر وهو الحد الاوسط لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الاصل الذي ضربته مثلا للفرع وهذا لان شعور النفس بنظير الفرع اقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي واذا قام الدليل على تأثير الوصف المشترك لم يكن ذكر الاصل محتاجا اليه
والقياس لا يخلو اما ان يكون ب ابداء الجامع او بالغاء الفارق والجامع اما العلة واما دليلها واما القياس بالغاء الفارق فهنا الغاء الفارق هو الحد الاوسط
فاذا قيل هذا مساو لهذا ومساوي المساوي مساو كانت المساواة هى الحد الاوسط وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة فاذا قيل لا فرق بين الفرع والاصل إلا كذا وهو مهدر فهو بمنزلة قولك هذا مساو لهذا وحكم المساوى حكم مساويه
وأما قولهم كل ما يدل على ان ما به الاشتراك علة للحكم فظنى فيقال لا نسلم فان هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلا ثم نقول الذي يدل به على عليه المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى وكل ما يدل به على صدق الكبرى في قياس الشمول يدل به على علية المشترك في قياس الثمثيل سواء كان علميا او ظنيا فان الجامع المشترك في التمثيل هو الحد الاوسط ولزوم الحكم له هو لزوم الاكبر للاوسط ولزوم الاوسط للاصغر هو لزوم الجامع المشترك للاصغر وهو ثبوت العلة في الفرع
فاذا كان الوصف المشترك وهو المسمى بالجامع والعلة أو دليل العلة او المناط او ما كان من الاسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتا في الفرع لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الصغرى وإذا كان الحكم ثابتا للوصف لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الكبرى وذكر الاصل يتوصل به الى إثبات إحدى المقدمتين
فان كان القياس بالغاء الفارق فلا بد من الاصل المعين فان المشترك هو المساواة بينهما وتماثلهما وهو إلغاء الفارق وهو الحد الاوسط وإن كان
القياس بإبداء العلة فقد يستغنى عن ذكر الاصل إذا كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر اليه وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف اليه فيذكر الاصل لانه من تمام ما يدل على علية المشترك وهو الحد الاكبر
وهؤلاء الذين فرقوا بين قياس التمثيل و قيلس الشمول اخذوا يظهرون كون احدهما ظنيا في مواد معينة وتلك المواد التي لا تفيد الا الظن في قياس التمثيل لا تفيد الا الظن في قياس الشمول والا فاذا اخذوه فيما يستفاد به اليقين من قياس الشمول افاد اليقين في قياس التمثيل ايضا وكان ظهور اليقين به هناك اتم
فاذا قيل في قياس الشمول كل انسان حيوان وكل حيوان جسم فكل انسان جسم كان الحيوان هو الحد الاوسط وهو المشترك في قياس التمثيل بأن يقال الانسان جسم قياسا على الفرس وغيره من الحيوانات فان كون تلك الحيوانات حيوانا هو مستلزم لكونها اجساما سواء كان علة او دليل العلة والحيوانية موجودة في الانسان فيكون جسما
واذا نوزع في علية الحكم في الاصل فقيل له لا نسلم ان الحيوانية تستلزم الجسمية كان هذا نزاعا في قوله كل حيوان جسم وذلك ان المشترك بين الاصل والفرع اذا سمى علة فانما يراد به ما يستلزم الحكم سواء كان هو العلة الموجبة لوجوده في الخارج او كان مستلزما لذلك يسمى الاول قياس علة والثاني قياس دلالة
ومن الناس من يسمى الجميع علة لا سيما من يقول ان العلة انما يراد بها المعرف وهو الامارة والعلامة والدليل لا يراد بها الباعث والداعي
ومن قال انه قد يراد بها الداعي وهو الباعث وهذا قول ائمة الفقهاء وجمهور المسلمين فانه يقول ذلك في علل الافعال واما غير الافعال فقد تفسر العلة فيها بالوصف المستلزم كاستلزام الانسانية للحيوانية والحيوانية للجسمية وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الاخر
عل أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما به يعلم كون الحيوان جسما به يعلم ان الانسان جسم حيث بينا ان قياس الشمول الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات به يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى بل وبذلك يعلم صدق النتيجة كما في قول القائل الكل أعظم من الجزء والاشياء المساوية لشئ واحد متساوية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان
حقيقة توحيد الفلاسفة
وهذا كقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه إن ثبت لهم ان الرب تعالى بمعنى الواحد الذي يدعونه وهو انه ليس له صفة ثبوتية أصلا بل هو مسلوب لكل امر ثبوتي لا يوصف إلا بالسلب المحض او بما لا يتضمن إلا السلب كالاضافة التي هي معنى السلب وجعلوا إبداعه للعالم امرا عدميا لكونه إضافة عندهم وجعلوا العلم والعالم والمعلوم والعشق والعاشق والمعشوق واللذة كل ذلك امورا عدمية ليس فيها امر ثبوتي وادعوا ان نفس العلم والعناية والقدرة هو نفس العالم القادر المريد ونفس العلم هو نفس القدرة ونفس القدرة هو نفس العناية وهذا كله هو العشق وهو اللذة والعشق واللذة هو العاشق الملتذ والعشق واللذة هو نفس العلم ونفس القدرة وعلمه بنفسه هو علمه بالمعلومات إلى أمثال ذلك مما يتضمنه قولهم الذي يسمونه توحيد واجب الوجود
رد قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد
فان قدر ثبوت هذا المعنى الذي يسمونه توحيدا مع ان جماهير العقلاء من جميع الامم إذا تصوروا ذلك علموا بضرورة العقل ان هذا قول باطل متناقض فان قدر ثبوته قيل حينئذ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يقررونه بقولهم لانه لو صدر عنه اثنان لكان مصدر الالف غير مصدر الجيم وكان المصدر مع هذا الصادر مخالفا لهذا المصدر مع هذا الصادر فيكون في المصدر جهتان وذلك ينافى الوحدة وبهذا اثبتوا ان الواحد لا يكون فاعلا وقابلا لئلا يكون فيه جهتان جهة فعل وجهة قبول فيكون مركبا
فيقال لهم إذا كان صدور الصادرات عنه هو فعله لها والفعل إضافة محضة اليه وهو عندكم لا يوصف بصفة ثبوتية بل لا يوصف إلا بما هو سلب وقلتم إن الاضافة هنا سلب لم يكن ولو صدر عنه الف صادر إلا بمنزلة سلب الاشياء عنه وإذا قلتم ليس هو بعرض ولا ممكن ولا محدث ونحو ذلك لم تكن كثرة السلوب توجب أمرا ثبوتيا والابداع عندكم لا يوجب له وصفا ثبوتيا فكثرة الابداعات منه لا توجب له وصفا ثبوتيا
هذا مع أنهم متناقضون في جعلهم الابداع أمرا عدميا بل في قولهم هو إضافة والاضافة امرأ عدميا قد قرروا في العلم الاعلى عندهم القاسم ل الوجود ولواحقه ان الوجود ينقسم الى جوهر وعرض ومن الاعراض أن يفعل ومنها الاضافة والابداع هو من مقولة أن يفعل وهو أمر وجودى وإبداع الباري أكمل من كل إبداع فكيف يكون اكمل انواع ان يفعل عدميا
ثم هم جعلوا الاضافة جنسا غير أن يفعل فان ثبت هذا بطل جعل إبداعه للعالم مجرد إضافة وإن سلم أنه إضافة ف الاضافة عندهم من جملة الاجناس الوجودية وهذا وأمثاله مما يبين فساد ما قالوه في الالهيات من التعطيل مما يطول وصفه
ثم إذا سلم هذا وسلم ان الاضافة عدمية وكثرة العدميات له لا توجب تكثر امور ثبوتية فيه مثل تكثر سائر السلوب وإذا قدر انه أبدع كل شئ بلا واسطة لم يكن في هذا إلا كثرة امور عدمية يتصف بها وتلك لا توجب كثرة في ذاته مثل سلب جميع المبدعات عنه فاذا قيل ليس بفلك ولا كوكب ولا شمس ولا جنة ولا نار ولا هواء ولا تراب ولا حيوان ولا انسان ولا نبات كان سلبها عنه بمنزلة إضافتها اليه عندهم وإذا لم يكن هذا إثبات كثرة في ذاته فكذلك الاخر
وقولهم مصدر الف غير مصدر باء وهو مع هذا غير كونه مع هذا كما يقال سلب الف عنه غير سلب باء عنه والشئ مع سلب الف عنه ليس هو ذاك مع سلب باء عنه واذا قيل كثرة السلوب لا توجب تعدد امر ثبوتى له قيل وكثرة الاضافات كذلك عندكم
ثم يقال الاضافات اليه مثل كونه علة ومبدعا وخالقا وفاعلا ونحو ذلك إما أن يوجب كون الفعل أمرا ثبوتيا يقوم به وإما أن لا يوجب ذلك فان كان الفعل أمرا ثبوتيا قام به بطل نفيكم للصفات ولزم انه موصوف بالامور الثبوتية التي منها تهربون وإن لم يكن ثبوتيا كان عدميا فلم يكن في كثرة المفعولات إلا كثرة الافعال التي هي عدمية وكثرة العدميات لا توجب اتصافه بأمر ثبوتى وإذا كان كونه فاعلا عندكم ليس وصفا ثبوتيا فكونه قابلا كذلك بطريق الاولى وحينئذ فلا يمتنع كون الشئ فاعلا وقابلا
ومعلوم ان هذا التناقض لزمهم لكونهم جعلوا الامور الوجودية عدما كما جعلوا نفس الفعل والتأثير ليس إلا إضافة عدمية ثم ادعوا ذلك في اكمل الفاعلين فعلا وأحقهم بالوجود التام من سائر الموجودات وإلا فهم قد قرروا في العلم الكلى أن الفعل والانفعال أمران وجوديان وهما من الاعراض الموجودة وهما مقولة ان يفعل وأن ينفعل وأن يفعل هو الفعل وأن ينفعل هو القبول وأثبتوا في بعض الافعال الطبيعية انها امور وجودية وأن الفعل هناك وجودى ولكن نقضوا ما ذكروا هناك في العلم الالهي
وكان ما نفوه احق بالاثبات مما اثبتوه إذ كانوا معرضين عن الله ومعرفته وعبادته جاهلين بما يجب له ويستحقه يعبدون المخلوقات ويعظمونها ويعرفون من كمالها ما يتخذونها به آلهة إشراكا منهم بالله ويدعون رب العالمين لا يعرفونه ولا يعبدونه ولا يعرفون ما يستحقه من الكمال الذي به يجب ان يعبد بل الذي يعلم به انه لا يستحق العبادة إلا هو وهذا كله مبسوط في مواضعه
وأرسطو وأصحابه القدماء لم يثبتوا له فعلا ولا جعلوه مبدعا لبعدهم عن معرفته ولهذا كان في قولهم من الفساد ما يطول وصفه ولكن ابن سينا وأتباعه لما جعلوه مبدعا ظهر في كلامهم مثل هذا التناقض
والمقصود هنا الكلام على المنطق ومثلنا بهذا إلا ان هذا من اشرف المطالب الالهية التي يختصون هم بأثباتها والمقصود ان نبين انه لا فرق بين القياس الشمولي والتمثيلي إذا اعطى كل منهما حقه
ما أمكن إثباته بقياس الشمول كان إثباته بالتمثيل أظهر
ثم إذا قدر ان ما ذكروه يدلهم على ان الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بهذا الطريق أثبت ذلك ب قياس التمثيل وكان أحسن مثل أن يقال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فالاول لا يصدر عنه إلا واحد لان الواحد بسيط والبسيط لا يصدر عنه إلا بسيط كما ان الحار لا يصدر عنه إلا الحرارة والبارد لا يصدر عنه إلا البرودة وأمثال ذلك مما يذكر في الطبيعيات
ومن هنا قالوا في الالهيات الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لكن إذا أرادوا ان يثبتوا ذلك في الالهيات ب قياس شمولي وقدر صحته امكن جعله قياسا تمثيلا وإن قدر انهم عجزوا إما مطلقا وإما في رب العالمين لكون الوحدة التي وصفوه بها تعطيلا له في الحقيقة ونفيا لوجوده وعجزوا عنه ولم يكن معهم إلا هذا القياس التمثيلي وإذا اثبتوه بالقياس التمثيلي واثبتوا فيه ان الحكم تعلق بالقدر المشترك فقد افاد هذا ما أفاده قياس الشمول وزيادة
مثل ان يقولوا ان الواحد في مورد الاجماع إنما لم يصدر عنه إلا واحد لانه بسيط فلو صدر عنه اثنان لكان مركبا فالنار البسيطة لا تصدر عنها إلا الحرارة ومتى قدر صدور الحر والبرد جميعا لزم ان تكون مركبة فهذا إن مشى لهم في قياس التمثيل مشى لهم في قياس الشمول وإن بطل هناك كان هناك أبطل
وأما إثباته ب قياس الشمول دون التمثيل فممتنع فلا يمكن احدا ان يثبت قضية كلية ب قياس شمول إلا وإثباتها بالتمثيل أيسر وأظهر وإن عجزعن إثباتها بالتمثيل فعجزه عن إثباتها بالشمول اقوى وأشد
فانهم إذا قالوا الحار لا يصدر عنه إلا الحار لانه واحد والواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه قد يقال لهم ما تعنون بالصدور أتعنون به استقلاله بصدور الاثر عنه أو ان يكون سببا في صدور الاثر بحيث إذ انضم الى غيره حصل المؤثر التام
ليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده
فان أردتم الاول لم نسلم لكم أن في الوجود ما هو مؤثر تام ولا شئ مستقل بالفعل غير الله تعالى والحار الذي اثر حرارة والبارد الذي أثر برودة إنما اثر في محل قابل للتسخين والتبريد فكانت الحرارة الحاصلة في القابل بسببه وبسبب الحار معا وأيضا فذلك مشروط بانتفاء العائق المانع وإلا فلو حصل ما يمنع وصول الاثر اليه لم يحصل وكذلك الشعاع إذا قيل الشمس مستقله به لم يسلم ذلك فانه مشروط بالجسم الذي ينعكس الشعاع عليه ومشروط بعدم المانع كالسحاب والسقف
وعلى هذا فليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده قال تعالى ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون الذاريات قال مجاهد وغيره تذكرون فتعلمون ان خالق الارواح واحد
قال تعالى أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم (الأنعام) فنفى التولد عنه لامتناع التولد من شئ واحد وأن التولد إنما يكون بين اثنين وهو سبحانه لا صاحبة له وأيضا فانه خلق كل شئ وخلقه لكل شئ يناقض ان يتولد عنه شئ وهو بكل شئ عليم وعلمه بكل شئ يستلزم ان يكون فاعلا بارادته فان الشعور فارق بين الفاعل بالارادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه عالما ان يكون كالامور الطبيعية التي يتولد عنها الاشياء بلا شعور كالحار والبارد فلا يجوز إضافة الولد اليه بوجه سبحانه قال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحنه وتعلى عما يصفون بديع السموات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم (الأنعام)
والذين قالوا إن العقول والنفوس صدرت عنه خرقوا له بنين وبنات بغير علم فان اولئك لم يكونوا يجعلون شيئا من البنين والبنات مبدعة لكل ما سواه وهؤلاء يجعلون احد البنين وهو العقل أبدع كل ما سواه ويجعلون العقل كالذكر والنفس كالانثى وهذا مما صرحوا به وكانت العرب تقر بأنه خلق السموات والارض وأحدثهما بعد أن لم تكونا ولم يكونوا يقولون إنها قديمة أزلية معه لم تزل معه وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنهم لم يعلموا في الوجود شيئا واحدا صدر عنه وحده شئ عل سبيل الاستقلال فصار قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد باطلا في قياس الشمول وباطلا في قياس التمثيل لكن الغرض انه لو أثبت هذا وأمثاله ب قياس الشمول لكان إثباته ب قياس التمثيل أولى
وأيضا فهذا الحار الذي يفعل الحرارة والبارد الذي يفعل برودة إنما يفعل ذلك مع عدم العلم والارادة بخلاف ما يفعل بعلم واختيار كالانسان فان هذا يفعل افعالا متنوعة وتصدر عنه أمور مختلفة وهم يسلمون ذلك ويقولون إن الفاعل بالطبع يتحد فعله والفاعل الاختيار يتنوع فعله وإذا كان كذلك فمعلوم أن ما يفعل بالعلم والارادة أكمل مما يفعل بلا علم ولا إرادة فالانسان أكمل من الجماد وحينئذ فان كان باب القياس صحيحا فقياس الرب بما يفعل بعلم واختيار اولى من قياسه بما يفعل بلا علم ولا اختيار فما بالهم شبهوا رب العالمين بالجمادات ونزهوه ان يشبهوه بالاحياء الناطقين
وهذا الخذلان أصابهم في باب صفاته وأفعاله فهم في باب الصفات يقولون إذا قلنا إنه حي عالم قادر مريد فقد شبهناه بالنفس الفلكية او الانسانية فيقال لهم إذا نفيم عنه العلم والحيوة والقدرة والارادة فقد شبهتموه بالجمادات كالتراب والماء فان كنتم إنما هربتم من التشبيه فالذي اليه شر مما هربتم منه
ثم إنكم تزعمون ان الفلسفة هي التشبة بالاله على قدر الطاقة وان الفلك يتشبه به بحسب الامكان فتجعلون مخلوقاته قادرة على التشبه به من بعض الوجوه فان كان التشبه به منفيا عنه من كل وجه امتنع ان يكون مقدورا للمخلوقات وإن جاز أو وجب إثباته من بعض الوجوه كان هو أقدر عليه من مخلوقاته فكان إذا كان التشبه من بعض الوجوه ممكنا أن يخلق ما فيه من صفات الكمال ما يشبهه من بعض الوجوه اولى من أن يقدر ذلك لمخلوق على ان يحدث لنفسه ما يصير به مشابها له من بعض الوجوه سواء قيل إنه خالق افعال المخلوقات او لم يقل بذلك فانه على الاول يكون هو الخالق لما فيه شبه له وحينئذ فيبطل قولهم وعلى الثاني فيكون المخلوق بدون إعانة الخالق له يقدر على ان يحدث ما يشبه الرب والرب لا يقدر على ذلك
فتبين ان قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لا يصح استدلالهم به في حق الله تعالى بأي قياس استدلوا
وإن قالوا إن الواحد من الوجه الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وان صدر منه اثنان فمن وجهين أو قالوا هذا معلوم بالضرورة فلا يحتاج الى دليل فانه لا بد بين المصدر والصادر من مناسبة والوجه الواحد لا يناسب اثنين قيل لهم هذا يبطل قولكم في نفي الصفات فان الرب قد صدر عنه مخلوقات كثيرة واذا كان الواحد لا يصدر عنه من الوجه الواحد إلا واحد امتنع ان تصدر هذه المخلوقات عن خالقها من وجه واحد فدل ذلك على انه متصف بامور متنوعه من صفات متنوعه وأفعال متنوعه صدر عنه باعتبارها ما وجد من المخلوقات فكان اصل ضلالهم توهمهم إمكان صدور المخلوقات عما قدروه من الواحد الذي لا يوجد إلا في الاذهان لا في الاعيان ولقد احسن بعض الفضلاء إذ قال الصفع احسن من توحيد الفلاسفة بل قصر فيما قال
وإذا قالوا هو واحد ليس له صفات وأفعال تقوم به فلو صدر عنه اكثر من واحد لكان قد صدر عن الواحد من الوجه الواحد اكثر من واحد قيل لهم فذلك الاول ان كان واحدا من كل وجه لزم ان لا يصدر عنه الا واحد من كل وجه وهذا خلاف المشاهدة وان كان فيه كثرة بوجه ما فقد صدر عن الواحد من الوجه الواحد اكثر من واحد وان قالوا تلك الوجوه التي في الصادر الاول امور عدمية قيل فقد صدر عنه باعتبارها كثرة واذا جاز هذا جاز ان تجعل الامور الاضافية الكثيرة في الاول مبدا الكثرة فكيفما ادير قولهم تبين انه افسد من قول النصارى في التثليث
وحقيقة قولهم الذي قرره ابن سينا وامثاله انه أي موجود فرض في الوجود كان اكمل من رب العالمين وذلك انه قرر انه وجود مشروط بسلب جميع الامور الثبوتية عنه وهو معنى قولهم هو الوجود المقيد بسلب جميع الماهيات وقولهم الوجود الذي لا يعرض له شيء من الماهيات فان هذا بناه على قوله ان وجود الماهيات عارض لها بناء على ان في الخارج لكل ممكن وجودا وماهية غير الوجود وان ذلك الوجود عرض لتلك الماهية وان كان لازما لها ولهذا قالوا ان واجب الوجود وجوده لا يعرض لشيء من الماهيات لئلا يلزم التركيب والتعليل فيكون وجودا مقيدا بأن لا يعرض لشيء من الماهيات فلا يجوز ان يكون له حقيقة في نفسه غير الوجود المحض الذي لا يتقيد بأمر ثبوتي
فيقال له فعلى هذا التقدير قد شارك جميع الموجودات في مسمى الوجود وامتاز عنها بقيد عدمي وهو سلب كل ثبوت وامتاز به كل منها عنه بما يخصه من الحقيقة الموجودة ومعلوم ان الوجود اكمل من العدم وهم يسلمون ذلك فاذا اشترك اثنان في الوجود وامتاز احدهما عن الاخر بأمر وجودي والاخر لم يميز الا بأمر عدمي كان الممتاز بأمر وجودي اكمل من الممتاز بأمر عدمي لانه شارك هذا في الوجود المشترك وامتاز عنه بالوجود المختص وذلك لم يمتز عنه الا بعدم كل وجود خاص وسواء جعل الوجود المشترك جنسا او عرضا عاما وجعل المميز بينهما فصلا او خاصة فعلى كل تقدير يلزم ان يكون ما لم يتميز الا بعدم دون ما تميز بوجود
وهم يقولون انما فررنا الى هذا من التركيب فيقال ان كان التركيب نقصا لكان ما فررتم اليه شرا مما فررتم منه فان الذي فررتم اليه يوجب ان لا يكون له وجود في الخارج لان الموجود الذي لا يختص بأمر ثبوتي لا يوجد الا في الاذهان لا في الاعيان واذا قدر ثبوته في الخارج فكل موجود ممكن اكمل منه فيلزم ان يكون كل مخلوق ولو انه ذرة او بعوضة اكمل من رب العالمين رب الارض والسموات والقول المستلزم هذا في غاية الفساد
فالحمد لله الذي هدانا لمعرفة الحق وبيان ما التبس على هؤلاء الذين يدعون انهم اكمل الناس وهم اجهل الناس برب العالمين
والله تعالى اخبر عن المشركين ما ذكره في سورة الشعراء من قوله وازلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم اين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم او ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود ابليس اجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله ان كنا لفي ضلال مبين اذ نسويكم برب العالمين فهذا حال من سوى المخلوقات برب العالمين فكيف حال من فضل كل مخلوق على رب العالمين
واذا قيل هم لم يفهموا ولم يقصدوه قيل ونحن لم نقل انهم تعمدوا مثل هذا الباطل لكن هذا لازم قولهم وهو دليل على غاية فساده وغاية جهلهم بالله تعالى وانهم اضل من اليهود والنصارى ومشركي العرب وامثالهم من المشركين الذين يعظمون الخالق أكثر من تعظيم هؤلاء المعطلين
فان كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وان كنت تدري فالمصيبة اعظم