☰ جدول المحتويات
- سبب نزول قوله ان الذين آمنوا والذين هادوا الآية
- الكلام على اخذ الله ميثاق النبيين على الايمان بمحمد
- الصابئة وصواب التحقيق عنهم
- كون ايمان الفلاسفة كايمان المنافقين
- بيان بعض ضلالات من معتقدات الفلاسفة
- ضلالهم في نفي علم الله وغيره من الصفات ورده
- ادلة القران والحديث على اثبات العلم لله تعالى
- بطلان قولهم الثلاثة المذكورة في (النحل) هي البرهان والخطابة والجدل
- الوجه الثاني عشر: كون نفيهم وجود الجن والمئلكة والوحي قولا بلا علم
- الوجه الثالث عشر: طريقهم لا يفرق بين الحق والباطل بخلاف طريقة الانبياء
- الوجه الرابع عشر: فساد جعلهم علوم الانبياء تحصل بواسطة القياس المنطقي
- جعلهم معرفة النبي بالغيب مستفادة من النفس الفلكية وبيان فساده من عشرة وجوه
- هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال
- إن نفس فلك القمر لا تعلم إلا جزءا من الحوادث
- ليست حركة الافلاك علة تامة للحوادث
- لا يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الامور
- بيان أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية
سبب نزول قوله ان الذين آمنوا والذين هادوا الآية
وكذلك لما ذكر الملل الاربعة الذين فيهم من هو محمود سعيد قال تعالى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يزنون (البقرة) وروى الناس كابن أبي حاتم وغيره بالاسانيد الثابتة عن سفيان عن ابن ابي نجيح عن مجاهد قال قال سلمان سألت النبي ﷺ عن اهل دين كنت معهم فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصرى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا وكذلك ذكر السدي عن اشياخه في تفسيره المعروف قال نزلت هذه الاية في اصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي ﷺ - اذ ذكر اصحابه فأخبره فقال كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ويشهدون انك ستبعث نبيا فأنزل الله هذه الاية ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصرى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر فقال كان ايمان اليهود انه من تمسك بالتوراة وبسنة موسى حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة واخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وايمان النصارى ان من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد ﷺ - فمن لم يتبع محمدا ﷺ - منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والانجيل كان هالكا قال ابن ابي حاتم وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا والذين آمنوا أولا المراد بهم امة محمد
واما ما يذكره طائفة من المفسرين في قوله ان الذين آمنوا ان فيهم اقوالا احدها انهم هم الذين آمنوا بعيسى قبل ان يبعث محمد قاله ابن عباس والثاني انهم الذين آمنوا بموسى وعملوا بشريعته الى ان جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته لما أن جاء محمد وقالوا هذا قول السدى عن اشياخه والثالث انهم طلاب الدين كحبيب النجار وقس بن ساعدة وسلمان الفارسي وابي ذر وبحيرا الراهب آمنو بالنبي قبل مبعثه فمنهم من ادركه وتابعه ومنهم من لم يدركه والخامس انهم المنافقون والسادس انهم الذين آمنوا بالانبياء الماضين والكتب المتقدمة فلا يؤمنوا بك ولا بكتابك
فهذه الاقوال ذكرها الثعلبي وامثاله ولم يسموا قائلها وذكرها ابو الفرج ابن لجوزي الا السادس وسمي قائل الاولين وذكر انهم المنافقون عن الثورى وهذه الاقوال كلها مبتدعة لم يقل الصحابة والتابعون لهم باحسان شيئا منها وما نقل عن السدي غلط عليه وقد ذكرنا لفظه الموجود في تفسيره المنقول بالاسناد الثابت في تفاسير الذين يذكرون الاسانيد كتفسير عبد الرحمن بن ابي حاتم وتفسير ابي بكر بن المنذر وتفسير محمد بن جرير الطبري وامثال هذه التفاسير وما نقل عن ابن عباس لا يثبت
وهي أقوال باطلة فان من كان متمسكا بشريعة عيسى قبل ان يبعث محمد ﷺ - من غير تبديل فهم النصارى الذين اثنى الله عليهم وكذلك من تمسك بشريعة موسى قبل النسخ و التبديل فهم اليهود الذين اثنى الله عليهم و طلاب الدين كحبيب النجار كان على دين المسيح و كذلك بحيرا الراهب و غيره و كل من تقدم من الانبياء و امتهم يؤمنون بمحمد فليس هذا من خصائص هذا النفر القليل
الكلام على اخذ الله ميثاق النبيين على الايمان بمحمد
قال تعالى و اذا اخذ الله ميثاق النبيين لما اتيتكم من كتب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال اقررتم و اخذتم على ذلكم اصرى قالوا اقررنا قال فاشهدوا و انا معكم من الشهدين و عن علي بن ابى طالب انه قال لم يبعث الله نبيا ادم و من بعده الا اخذ عليه العهد فى محمد و امره و اخذ العهد على قومه ليؤمنن به و لئن بعث و هم احياء لينصرنه و كذلك عن ابن عباس انه قال ما بعث الله نبيا الا اخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به و امره ان ياخذ الميثاق على أمته ان بعث محمد و هم احياء ليؤمنن به و لينصرنه
و قال بعض العلماء اخذ الميثاق على النبيين و امتهم فاجتزا بذكر الانبياء عن ذكر الامم لان فى اخذ الميثاق على المتبوع دلالة على اخذه على التابع و حقيقة الامر ان الميثاق اذا اخذ على الانبياء دخل فيه غيرهم لكونه تابعا لهم و لانه اذا وجب على الانبياء الايمان به و نصره فوجوب ذلك على من اتبعهم اولى و احرى و لهذا ذكر عن الانبياء فقط
و قد قيل ان المراد باخذ الميثاق على الأنبياء هو اخذه على قومهم فإنهم هم الذين يدركون النبي الآتي وقالوا هي في قراءة ابن مسعود و ابي بن كعب وإذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وزعم بعضهم ان هذه القراءة هي الصواب والأولى غلط من الكتاب وهذا قول باطل ولولا انه ذكر لما حكيته فإن ما بين لوحي المصحف متواتر والقرآن صريح في ان الله اخذ الميثاق على النبيين فلا يلتفت الى من قال إنما اخذ على اممهم
لكن الأنبياء امروا ان يلتزموا هذا الميثاق مع علم الله وعلم من اعلمه منهم انهم لا يدركونه كما نؤمن نحن بما تقدمنا من الأنبياء والكتب وإن لم ندركهم وأمر الجميع بتقدير إدراكه ان يؤمنوا به وينصروه كما ان النبي ﷺ - اخبرنا بنزول عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق واخبر انه يقتل المسيح الدجال فنحن مأمورون بالايمان بالمسيح ابن مريم وطاعته إن ادركناه وإن كان لا يأمرنا إلا بشريعة محمد و مامورون بتكذيب المسيح الدجال و اكثر المسلمين لا يدركون ذلك بل انما يدركه بعضهم
قال طاوس اخذ الله ميثاق النبيين بعضهم على بعض ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه فقال هذه الاية لاهل الكتاب اخذ الله ميثاقهم ان يؤمنوا بمحمد و يصدقوه يعني بذلك ان من ادرك نبوة محمد منهم يعنى هم الذين ادركهم العمل بالاية و الا فذكر ان الميثاق اخذ على النبيين بعضهم على بعض لكن ذلك عهد واقرار مع العلم بانهم لا يدركونه و كذلك عن السدى لم يبعث الله نبيا قط من لدن نوح الا اخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد و لينصرنه ان خرج و هو حى و الا اخذ على قومه ان يؤمنوا به و ينصروه ان خرج و هم احياء و قال محمد بن اسحق ثم ذكر ما اخذ عليهم و على انبيائهم الميثاق بتصديقه اذا هو جاءهم واقرارهم به على انفسهم فقال واذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم الاية
وقوله رسول مصدق لما معكم متناول لمحمد بالاتفاق فان رسالته كانت عامة وقد قال الله له وانزلنا اليك بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليه المائدة فكتابه مهيمن على ما بين يديه من كتب السماء وقد اوجب الله على اهل الكتابين وسائر اهل الارض الايمان به وهذا مذكور في غير موضع من القران والحديث وهو مع انه اجماع من المسلمين فهو معلوم بالاضطرار من دينه متواتر عنه كما تواتر عنه غزوه اليهود والنصارى
وهل يدخل في ذلك غيره من الرسل فيه قولان قيل ان الله اخذ ميثاق الاول من الانبياء ان يصدق الثاني وينصره وامره ان يأخذ الميثاق على قومه بذلك وقيل بل هذا الرسول هو محمد خاصة وهذا قول الجمهور وهو الصواب لان الانبياء قبله انما كانت دعوتهم خاصة لم يكونوا مبعوثين الى كل احد فاذا لم يدخل في دعوته جميع اهل زمنهم ومن بعدهم كيف يدخل فيها من ادركهم من الانبياء قبلهم والله تعالى قد بعث في كل قوم نبيا كما قال تعالى انا ارسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وان من امة الا خلافيها نذير فاطر وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبو الطاغوت (النحل) وكذلك قوله لتؤمنن به ولتنصرنه والنصرة مع الايمان به هو الجهاد ونوح وهود ونحوهم من الرسل لم يؤمروا بجهاد ولكن موسى وبنوا اسرائيل امروا بالجهاد
وقوله لما هذه اللام تسمى الموطئة للقسم فان الكلام اذا كان فيه شرط متقدم وقسم كان جواب القسم يسد مسد جواب الشرط والقسم جميعا وادخلت اللام الموطئة على اداة الشرط وما هنا شرطية واللام في قوله لتؤمنن به هي جواب القسم ونظير اللام المؤطئة في قوله ولئن اتيت الذين اوتوا الكتب بكل آية ما تبعوا قبلتك (البقرة) ونظير هذه الآية قوله ولئن جآء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم العنكبوت وقوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك الاسراء ولئن اخرنا عنهم العذاب الى امة معدودة ليقولن ما يحبسه هود
ولهذا قال النحاة كالمبرد والزجاج هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء أي الشرطية كما تدخل على ان ومعناه لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به واللام في لتؤمنن به جواب الجزاء وكذلك قال الفراء من فتح اللام جعلها لاما زائدة بمنزلة اليمين اذا وقعت على جزاء صرف بعد ذلك الجزاء على جهة فعل وحرف جوابه كجواب اليمين والمعنى أي كتاب اتيتكم ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وجواب الجزاء في قوله لتؤمن به ومعنى قولهم جواب الجزاء في هذا أي جواب القسم تضمن ايضا جواب الجزاء فهو جواب لهما في المعنى
والمقصود ان ما عليه جميع الامم من حكمة علمية وعملية اذا لم يكونوا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا فان الله لا يمدحهم ولا يثني عليهم وهؤلاء الفلاسفة ارسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الاوثان ويبنون الهياكل للكواكب فليست حكمتهم من الحكمة التي اثنى الله عليها وعلى اهلها ومن كان من الفلاسفة الصابئة المشركين فهو من جنسهم
الصابئة وصواب التحقيق عنهم
واما الصابئون الحنفاء فهم في الصابئين بمنزلة من كان متبعا لشريعة التوراة والانجيل قبل النسخ والتبديل من اليهود والنصارى وهؤلاء ممن حمدهم الله واثنى عليهم وبعض الناس يقول ان بقراط كان من هؤلاء
ووهب بن منبه من اعلم الناس بأخبار الامم المتقدمة وقد روى ابن ابي حاتم بالاسناد الثابت انه قيل لوهب بن منبه ما الصابئون قال الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا وكذلك روى عن الثورى عن ليث عن مجاهد قال هم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين قال وروى عن علماء نحو ذلك أي ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي ولم يرد بذلك انهم كفار فان الله قد اثنى على بعضهم فهم متمسكون بالاسلام المشترك وهو عبادة الله وحده وايجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على ايجابه وتحريمه فان هذا دخل في الاسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره وكذلك قال عبد الرحمن بن زيد هم قد يقولون لا اله الا الله فقط وليس لهم كتاب ولا نبي
وهذا كما كانت العرب عليه قبل ان يبتدع عمرو بن لحي الشرك وعبادة الاوثان فانهم كانوا حنفاء يعبدون الله وحده ويعظمون ابراهيم واسماعيل ولم يكن لهم كتاب يقرؤنه ويتبعون شريعته وكان موسى قد بعث الى بني اسرائيل بشريعة التوراة وحج البيت العتيق ولم يبعث الى العرب لا عدنان ولد اسماعيل ولا قحطان والناس
متفقون على ان عدنان ولد اسماعيل وربيعة ومضر واما قحطان فقال بعضهم هم ايضا من ولد اسماعيل والصحيح انهم كانوا موجودين قبل ابراهيم بأرض اليمن ومنهم جرهم الذين سكنوا مكة ومنهم تعلم اسماعيل العربية
واما من قال من السلف الصابئون فرقة من اهل الكتاب يقرؤن الزبور كما نقل ذلك عن ابي العالية والضحاك والسدي وجابر بن يزيد والربيع ابن انس فهؤلاء ارادوا من دخل في دين اهل الكتاب منهم وكذلك من قال هم صنف من النصارى كما يروى عن ابن عباس انه قال هم صنف من النصارى وهم السائحون المحلقة اوساط رؤسهم فهؤلاء عرفوا منهم من دخل في اهل الكتاب
ومن قال انهم يعبدون الملائكة كما يروي عن الحسن قال هم قوم يعبدون الملائكة وعن ابي جعفر الرازي قال بلغني ان الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرؤن الزبور ويصلون فهذا ايضا صحيح وهم صنف منهم وهؤلاء كثير من الصابئين يعبدون الروحانيات العلوية لكن هؤلاء من المشركين منهم ليسوا من الحنفاء
وكذلك اختلاف الفقهاء في الصابئين هل هم من اهل الكتاب ام لا ويذكر فيه عن احمد روايتان وكذلك قولان للشافعي والذي عليه محققوا الفقهاء انهم صنفان فمن دان بدين اهل الكتاب كان منهم والا فلا
وقال ابو الزناد الصابئون قوم مما يلى العراق وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون الى الشمس كل يوم خمس صلوات فهؤلاء الصابئة الذين ادركهم الاسلام وكانوا بأرض حران والذين خبروهم عرفوا انهم ليسوا من اهل الكتاب بل مشركون يعبدون الكواكب ولا يحل اكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وان اظهروا الايمان بالنبيين فهو من جنس ايمان الفلاسفة بالنبيين والفلاسفة الصابئون من هؤلاء
واما قبول الجزية منهم فهو على خلاف المشهور فمن قبلها من غير اهل الكتاب كما يقبل من المجوس قبلها من هؤلاء وهذا مذهب مالك وابي حنيفة واحمد في احدى الروايتين ومن لم يقبلها الا من اهل الكتاب لم يقبلها من هؤلاء كما اذا لم يدخلوا في دين اهل الكتاب كما هو قول الشافعي واحمد في الرواية الاخرى عنه وكان ابو سعيد الاصطخري افتى بأن لا تقبل منهم الجزية ونازعه في ذلك جماعة من الفقهاء
كون ايمان الفلاسفة كايمان المنافقين
وهذا كما ان كثيرا من الفلاسفة وغيرهم من الزنادقة يدخلون في دين المسلمين واليهود والنصارى من الشرائع الظاهرة وان لم يكونوا في الباطن مقرين بحقيقة ما جاءت به الانبياء كالمنافقين في المسلمين يجري عليهم احكام الاسلام في الظاهر وهم في الاخرة في الدرك الاسفل من النار
فان قيل هؤلاء الفلاسفة يؤمنون بالله واليوم الاخر فانهم يقرون بواجب الوجود وبمعاد الارواح قيل النصارى خير منهم ومن اسلافهم وهم مع هذا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق فلا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يعملون صالحا فكيف هؤلاء قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يد ينون دين الحق من الذين اوتوا الكتب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون التوبة مع ان النصارى يقرون بمعاد الابدان لكن لما انكروا ما اخبر به الرسول من الاكل والشرب ونحو ذلك صاروا ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر وهؤلاء الفلاسفة لا يقرون بمعاد الابدان
ولهم في معاد النفوس ثلاثة اقوال والثلاثة تذكر عن الفارابي نفسه انه كان يقول تارة هذا وتارة هذا وتارة هذا منهم من يقر بمعاد الانفس مطلقا ومنهم من يقول انما تعاد النفوس العالمة دون الجاهلة فان العالمة تبقى بالعلم فان النفس تبقى ببقاء معلومها والجاهلة التي ليس لها معلوم باق تفسد وهذا قول طائفة من اعيانهم ولهم فيه مصنفات ومنهم من ينكر معاد الانفس كما ينكر معاد الابدان وهو قول طوائف منهم وكثير منهم يقول بالتناسخ
اليوم الآخر كما هو مذكور في القران
وليس شيء من ذلك ايمانا باليوم الاخر فان اليوم الاخر هو الذي ذكره الله في قوله تعالى ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه (آل عمران) وقوله تعالى قل إن الأولينوالآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم الواقعة وقوله تعالى زعم الذين كفروا ان لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فامنوا بالله ورسوله والنور الذي انزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن التغابن وقوله تعالى واذا الرسل اقتت لاي يوم اجلت ليوم الفصل وما ادراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين الى قوله انطلقوا الى ما كنتم به تكذبون انطلقوا الى ظل ذي ثلث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب انها ترمي بشرر كالقصر كأنه جملت صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعنكم والاولين فان كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين المرسلت وقوله تعالى ان في ذلك لاية لمن خاف عذاب الاخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره الا لاجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس الا باذنه فمنهم شقي وسعيد هود وقوله ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون الا يظن اولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العلمين المطففين وفي الصحيح عن النبي ﷺ - انه قال يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم احدهم في العرق الى انصاف اذنيه
وقوله القارعة ما القارعة ومآ ادراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش القارعة وقوله فاذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على ارجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمنية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية الحاقة وقوله اذا متنا وكنا ترابا وعظاما انا لمبعثون او آبآؤنا الاولون قل نعم وانتم داخرون فانما هي زجرة واحدة فاذا هم ينظرون وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وازواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم وقفوهم انهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون الصافات وقوله تعالى سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره الى قوله يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسئل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه المعارج وقوله تعالى فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذين يوعودن يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم الى نصب يوفضون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون وقوله فتول عنهم يوم يدع الداع الى شيء نكر خشعا ابصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين الى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر وقوله تعالى فكيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا وقوله تعالى ان زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ولكن عذاب الله شديد ومثل هذا في القران كثير
فهولاء لا يؤمنون باليوم الاخر فلم يدخلوا في من مدح من الصابئين
بيان بعض ضلالات من معتقدات الفلاسفة
وايضا لأنبياء واتباعهم بل وجماهير الأمم متفقون على ان الله خلق السموات والأرض فهي محدثة بعد ان لم تكن وكذلك اساطين الفلاسفة والقول بقدمها هو عن ارسطو وشيعته ومن وافقهم فكيف يجوز ان يقال إن الحكمة التي امر الله نبيه ان يدعو الخلق بها هو هذا
وايضا فحكمتهم غايتها تعديل اخلاق النفس لتستعد للعلم الذي هو كمالها وهذا من اقل ما جاء به الرسل ومن توابعه والمقصود بالعبادات التي امرت بها الرسل تكميل النفس بمحبة الله تعالى وتألهه فإن النفس لها قوتان علمية وعملية وهؤلاء جعلوا كمالها في العلم فقط ثم ظنوا ذلك هو العلم بالوجود المطلق حتى يصير الانسان عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ومنهم من يقول النفس إنما تبقى ببقاء معلومها وهم يعتقدون بقاء الأفلاك والعقول والنفوس فجعلوا كمالها في العلم بالموجودات التي اعتقدوا بقاءها ومن تقرب الى الاسلام منهم يقول بل كمالها في العلم بواجب الوجود وهذا يشبه قول الجهم بن صفوان ومن وافقه في ان الايمان مجرد العلم بالله
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع في جواب المسئلة الصفدية وغير ذلك وبينا انهم غلطوا من وجوه منها ظنهم ان كمال النفس في مجرد العلم ومنها ظنهم ان هذا الكمال يحصل بمعرفة امور كلية لا موجودات معينة ومنها ظنهم ان ما عندهم في الالهيات علم واكثر جهل ولهذا كان الغاية عندهم التشبه بالفلك
ولهذا يصنف من يصنف منهم في الصلوة فليس المقصود منها عبادة الله ولا دعاؤه فانه لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يميز بين المصلي وغير المصلي بل مقصود الصلوة هو العلم بالوجود المطلق الذي يزعمون انه كمال النفس والصلوة الظاهرة يطلب منها سياسة البدن ورياضته وانما قالوا ان يسأل القمر ويستعيذه فانه يدبر هذا العالم بواسطة العقل الفعال فهو عندهم الرب الذي يسأل ويستعاذ به ومنه فاضت العلوم على الانبياء وغيرهم
وربما قالوا المقصود بالصلوة تذكر الشرع الذي شرعه الشارع ليحفظ به القانون الذي شرعه لهم لمصلحة الدنيا كما يذكر ذلك ابن سينا وغيره وذلك انهم لا يثبتون ان الله يسمع كلام العباد ولا يرى افعالهم ولا يجيب دعاءهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم فيحصل لها بما تهتم به من تجردها عن البدن نوع تجريد حتى تتصرف في هيولي العالم واما الرب تعالى فليس هو عندهم لا بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير ولا يعلم لا السر ولا النجوى ولا غير ذلك من احوال العباد ولا له ملئكة كثير ينزلون ويصعدون اليه عندهم ولا يصعد اليه لا الكلم الطيب ولا العمل الصالح وغاية الانفس عندهم ان تكون متصلة بالعقل الفعال الذي هو ربها عندهم لا تصعد الى الله
واذا قالوا سعادة النفس ان تشهد الله وتراه فحقيقة ذلك عندهم هو العلم بما تصورته من الوجود المطلق او من وجود واجب الوجود وصاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها اذا تكلم في رؤية الحق ورؤية وجهه في كتابه الاحياء او غيره قال هذا يعود مراده وهو معرفة النفس الناطقة بربها هذه هي الرؤية عندهم كما قد بين ذلك في غير موضع لان الاصول التي اعتقدوها من اقوال النفاة المعلطلة الجأتهم الى هذه العقائد الفاسدة كما قد بسط في موضعه فكيف تكون الحكمة العلمية التي امر الله بها ورسوله موافقة لحكمة هؤلاء
ضلالهم في نفي علم الله وغيره من الصفات ورده
ونحن قد بسطنا الكلام على فساد قولهم في العلم وغيره من الصفات وبينا اصولهم التي اوجبت ان قالوا مثل هذه الاقوال التي هي من اعظم الفرية على الله، وبينا فسادها ولهذا لما تفطن ابو البركات لفساد قول ارسطو افرد مقالة في العلم وتكلم على بعض ما قاله في المعتبر وانتصف منه بعض الانتصاف مع ان الامر اعظم مما ذكره ابو البركات واعظم عمدهم في نفيه انه يستلزم التكثر والتغير
فالتكثر يريدون به اثبات الصفات ثم ابن سينا وغيره اثبتوا علمه بنفسه وبلوازم نفسه معينا كالافلاك كليا كغيرها فيلزمهم ما فروا منه من تعدد الصفات وهم يقولون انه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة وربما قالوا مبتهج وهي معان متعددة ثم يكابرون فيقولون العلم هو الحب وهو القدرة وهو اللذة فيجعلون كل صفة هي الصفة الاخرى ويزيدون مكابرة اخرى فيقولون العلم هو العالم والحب هو المحب والذة هو الملتذ فيجعلون الصفات عين الموصوف ولما راى الطوسي شارح الاشارات ما لزم صاحبها سلك طريقة اخرى جعل فيها العلم بالمعقولات هو نفس المعقولات مع انهم ليس لهم قط حجة على نفي الصفات الا ما تخيلوه من ان هذا تركيب وقد بينا فساده من وجوه كثيرة
اما التغير فقالوا العلم بالمتغيرات يستلزم ان يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأن قد كان فيلزم ان يكون محلا للحوادث وهم ليس عندهم على نفي هذه اللوازم حجة اصلا لا بينة ولا شبهة وانما نفوه لنفيهم الصفات لا لامر يختص بذلك بخلاف من نفي ذلك من الكلابية ونحوهم فانهم لما اعتقدوا ان القديم لا تقوم به الحوادث قالوا لانها لو قامت به لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وقد بين اتباعهم كالرازي والامدي وغيرهم فساد المقدمة الاولى التي يخالفهم فيها جمهور العقلاء ويقولون بل القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده اما المقدمة الثانية فهي حجة المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من اهل الكلام على اثبات حدوث الاجسام باستلزامها للحوادث وقالوا ما لا يخلو عن الحوادث او ما لا يسبقها فهو حادث لبطلان حوادث لا اول لها وهو التسلسل في الاثار
والفلاسفة لا يقولون بشيء من ذلك بل عندهم القديم تحله الحوادث ويجوزون الحوادث لا اول لها ولهذا كان كثير من اساطينهم ومتأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في اثبات الصفات وقيام الحوادث بالواجب وقالوا لا خوانهم الفلاسفة ليس معكم حجة على نفي ذلك بل هذه الحجة اثبتموها من جهة التنزيه والتعظيم بلا حجة والرب لا يكون مدبرا للعالم الا بهذه القضية فكان من تنزيه الرب واجلاله تنزيهه عن هذا التنزيه واجلاله عن هذا الاجلال
وللنظار في جوابهم عن هذا طريقان منهم من يمنع المقدمة الاولى ومنهم من يمنع الثانية فالاول جواب كثير من المعتزلة والاشعري واصحابه وغيرهم ممن ينفي حلول الحوادث فادعى هؤلاء ان العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان وان المتجدد انما هو نسبته بين المعلوم والعلم لا امر ثبوتي والثاني جواب هشام وابن كرام وابي الحسين البصري وابي عبد الله بن الخطيب وطوائف غير هؤلاء قالوا لا محذور في هذا وانما المحذور في ان لا يعلم الشيء حتى يكون فان هذا يستلزم انه لم يكن عالما وانه احدث بلا علم وهذا قول باطل
ادلة القران والحديث على اثبات العلم لله تعالى
وعامة من يستشكل الايات الواردة في هذا المعنى كقوله الا لنعلم حتى نعلم يتوهم ان هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون وهذا جهل فان القران قد اخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع بل ابلغ من ذلك انه قدر مقادير الخلائق كلها وكتب ذلك قبل ان يخلقها فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا وكتب ذلك واخبر بما اخبر به من ذلك قبل ان يكون وقد اخبر بعلمه المتقدم على وجوده ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم انه سيكون فهذا هو الكمال وبذلك جاء القران في غير موضع بل وباثبات رؤية الرب له بعد وجوده كما قال تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون التوبة فأخبر انه سيرى اعمالهم
وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الامة ودلائل العقل على انه سميع بصير والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم فاذا خلق الاشياء راها سبحانه واذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم كما قال تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاور كما المجادلة أي تشتكي اليه وهو يسمع التحاور والتحاور تراجع الكلام بينها وبين الرسول قالت عائشة سبحان الذي وسع سمعه الاصوات لقد كانت المجادلة تشتكي الى النبي ﷺ - في جانب البيت وانه ليخفي على بعض كلامها فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما وكما قال تعالى لموسى وهارون لا تخافا انني معكما اسمع وارى طه وقال ام يحسبون انا لا نسمع سرهم ونجويهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون الزخرف
وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد ان يكون في بضعة عشر موضعا في القران مع اخباره في مواضع اكثر من ذلك انه يعلم ما يكون قبل ان يكون وقد اخبر في القران من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله بل اخبر بذلك نبيه وغير نبيه ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء بل هو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لو كان كيف كان يكون كقوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه (الأنعام) بل وقد يعلم بعض عباده بما شاء ان يعلمه من هذا وهذا وهذا ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء
قال تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه (البقرة) وقال ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ويعلم الصبرين (آل عمران) وقوله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين امنوا ويتخذ منكم شهداء (آل عمران) وقوله ومآ اصابكم يوم التقي الجمعن فباذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا (آل عمران) وقوله ام حسبتم ان تتركوا ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة التوبة وقوله ثم بعثنهم لنعلم أي الحز بين احصى لما لبثوا امدا الكهف وقوله ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكذبين الى قوله وليعلمن الله الذين امنوا وليعلمن المنفقين العنكبوت وقوله ولنبلونكم حتى نعلم المجهدين منكم والصبرين ونبلو اخباركم محمد وغير ذلك من المواضع
روى عن ابن عباس في قوله الا لنعلم أي لنرى وروي لنميز وهكذا قال عامة المفسرين الا لنرى ونميز وكذلك قال جماعة من اهل العلم قالوا لنعلمه موجودا واقعا بعد ان كان قد علم انه سيكون ولفظ بعضهم قال العلم على منزلتين علم بالشيء قبل وجوده وعلم به بعد وجوده والحكم للعلم به بعد وجوده لانه يوجب الثواب والعقاب قال فمعنى قوله لنعلم أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب ولا ريب انه كان عالما سبحانه بأنه سيكون لكن لم يكن المعلوم قد وجد وهذا كقوله قل اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يونس أي بما لم يوجد فانه لو وجد لعلمه فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان يلزم من ثبوت احدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاوه والكلام على هذا مبسوط في موضع اخر
والمقصود ان يعرف الانسان انهم يقولون من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال فرارا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه ولو قدر شبهة تعارض ثبوت العلم فأين هذا من هذا واين الادلة الدالة على ثبوت علمه والمحذور في نفي علمه مما يظن انه يدل على نفي الصفات او نفي بعضها دليلا ومحذورا
بطلان قولهم الثلاثة المذكورة في (النحل) هي البرهان والخطابة والجدل
والمقصود هنا ان ما يجعلونه من القران مطابقا لاصولهم ليس كما يقولون فان قيل لا ريب ان ما جاء به الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة والجدل يخالف اقوال هؤلاء الفلاسفة اعظم من مخالفته لاقوال اليهود والنصارى لكن المقصود ان الثلاثة المذكورة في القران هي البرهان الصحيح والخطابة الصحيحة والجدل الصحيح وان لم تكن هي عين ما ذكره اليونان اذ المنطق لا يتعرض لشيء من المواد وانما الغرض ان هذه الثلاثة هي جنس هذه الثلاثة
قيل وهذا ايضا باطل فان الخطابة عندهم ما كان مقدماته مشهورة سواء كانت علما مجردا او علما يقينيا والوعظ في القران هو الامر والنهي والترغيب والترهيب كقوله تعالى ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم واشد تثبيتا واذا لآتينهم من لدنا اجرا عظيما ولهدينهم صراطا مستقيما النساء فقوله ما يوعظون به أي ما يؤمرون به وقال يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا ان كنتم مؤمنين النور أي ينهاكم عن ذلك
وايضا فالقرآن ليس فيه انه قال ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بل قال ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم وذلك لان الانسان له ثلاثة احوال اما ان يعرف الحق ويعمل به واما ان يعرفه ولا يعمل به واما ان يجحده فأفضلها ان يعرف الحق ويعمل به والثاني أن يعرفه لكن نفسه تخافه فلا توافقه على العمل به والثالث من لا يعرفه بل يعارضه فصاحب الحال الاول هو الذي يدعى بالحكمة فأن الحكمة هي اللم بالحق والعمل به فالنوع الاكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة والثاني من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعضة الحسنة فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون الى هذا وهذا فأن النفس لها اهواء تدعوها الى خلاف الحق وان عرفته فالناس يحتاجون الى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا
واما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فاذا عارض الحق معارض جودل بالتي هى أحسن ولهذا قال وجادلهم فجعله فعلا مأمورا به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره ان يجادل بالتي هى أحسن وقال في الجدال بالتي هى أحسن ولم يقل بالحسنة كما قال في الموعظة لان الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي احسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعا لم يحتج الى مجادلة فاذا مانع جودل بالتي هى أحسن
والمجادلة يعلم كما أن الحكمة بعلم وقد ذم الله من يجادل بغير علم فقال تعالى هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم (آل عمران) والله لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إن لم تكن علما فلو قدر انه قال باطلا لم يأمر الله ان يحتج عليهم بالباطل لكن هذا قدر يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه لا لبيان الدعوة الى القول الحق والقرآن مقصوده بيان الحق ودعوة العباد إليه وليس المقصود ذكر ما تناقضوا فيه من أقوالهم ليبين خطأ احدهما لا بعينه فالمقدمات الجدلية التي ليست علما هذا فائدتها وهذا يصلح لبيان خطأ الناس مجملا
ثم إنهم تارة يجعلون النبوة إنما هى من باب الخطابة وتارة يجعلون الخطابة احد انواع كلامها فيتناقضون وسبب ذلك أن القرآن أمر عظيم باهر لم يعرفوا قدره ولا دروا ما فيه من العلم والحكمة وأرادوا أن يشبهوا به كلام قوم كفار اليهود والنصارى أقل ضلالا منهم في معرفة الله ومعرفة أنبيائه وكتبه وامره ونهيه ووعده ووعيده ولو شبه مشبه القرآن بالتوارة والانجيل لظهر خطأه غاية الظهور والجميع كلام الله تعالى فكيف بكلام هؤلاء الملاحدة
الوجه الثاني عشر: كون نفيهم وجود الجن والمئلكة والوحي قولا بلا علم
الوجه الثاني عشر أن يقال هم معترفون بالحسيات الظاهرة وبالحسيات الباطنة التي يحس بها الانسان ما في نفسه كاحساسه بجوعه وعطشه ولذته وألمه وشهوته وغضبه وفرحه وغمه وكذلك ما يتخيله في نفسه من أمثلة الحسيات التي أحسها فانه يتخيل ذلك من نفسه
وقد فرقوا بين قوة التخيل والوهم فالتخيل ان يتخيل الحسيات والوهم أن يتصور في الحسيات معنى غير محسوس كما يتصور الصداقة والعداوة فان الشاة تتصور في الذئب معنى هو العداوة وهو غير محسوس ولا تتخيل وتتصور في التيس معنى الصداقة فالموالات والمعادات يسمون الشعور بها توهما وهم لم يتكلموا في ذلك بلغة العرب فان الوهم في لغة العرب معنى آخر كما قد بين في موضعه
وليس معهم ما ينفى وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس بالباطن كالملائكة والجن بل ولا معهم ما ينفى تمثل هذه الارواح أجساما حتى ترى بالحس الظاهر ولا معهم ان النفس قد ترى غيرهما ما هو من أحوالها مثل ان ترى عند الموت امورا موجودة لم تكن تراها وهي متعلقة بالبدن وكذلك النائم وإن كان قد يتخيل فليس معهم علم بأن كل ما يراه يكون تخيلا مع إمكان أن يرى في منامه من جنس ما يراه الميت عند مفارقة روحه بدنه فان النفس الناطقة هى الرائية وإنما يمنعها من ذلك تعلقها بالبدن فاذا تم تجردها بالموت رأت ما لم تكن تراه كما قال تعالى فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ق وقال تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون الواقعة قال المفسرون يعنى الملائكة وكذلك بالنوم قد يحصل لها نوع تجريد ولهذا من الناس من يرى في منامه شيئا فيأتى كما يراه من غير تغيير أصلا بل يكون المرئى في المنام هو الموجود في اليقظة
وأما رؤية كثير من الناس للجن حال الصرع وغير الصرع فهذا أكثر وأشهر من أن يذكر وما يدعيه الاطباء من أن الصرع كله من الاخلاط فغلطه ظاهر فان دخول الجنى بدن الانسى وتكلمه على لسانه بأنواع من الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة وقد اتفق عليه أئمة الاسلام كما اتفقوا على وجود الجن وقد رآهم غير واحد من الناس وخاطبوهم فهذا باب واسع فما الظن بالملائكة الكرام التي يراهم الانبياء صلوات الله عليهم يرونهم بباطنهم وظاهرهم
وايضا فقد تواتر في الكتب الالهية والاحاديث النبوية ان الملائكة تتصور بصورة البشر وكذلك الجن ويرون في تلك الصورة كما أخبر الله عن ضيف إبراهيم في غير موضع من كتابه وكما اخبر عن مريم انه ارسل اليها الروح وهو جبريل فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا (مريم)
وجميع هذه الامور ليس معهم على نفيها إلا ما هو من أضعف الشبه فنفيهم مثل هذه الحسيات الباطنة والظاهرة قول بلا علم ولهذا صاروا يحملون ما جاءت به الانبياء على أنه من باب التخيل في النفس ويجعلون الملئكة وكلام الله الذي بلغوه هو ما يتخيل في نفس النبي من الصور والاصوات كما يتخيل للنائم وذلك من أعراضه القائمة به ليس هناك عندهم ملك منفصل ولا كلام نزل به الملك من الله عندهم
وكل ما ينفونه من هذا ليس معهم فيه إلا الجهل المحض فهم يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله مع ان عامه أساطين الفلاسفة كانوا يقرون بهذه الاشياء وكذلك ائمة الاطباء كأبقراط وغيره يقر بالجن ويجعل الصرع نوعين صرعا من الخلط وصرعا من الجن ويقول في بعض الادوية هذا ينفع من الصرع الذي يعالجه الاطباء لا الصرع الذي يعالجه أرباب الهياكل ونقل عنه أنه قال طبنا بالنسبة الى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة الى طبنا وهذه الامور لبسطها موضع آخر
وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفى ما لم يعلم نفيه اوجب لهم من الجهل والكفر ما صاروا به اسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى وادعى ابن سينا وموافقوه ان اسباب العجائب في العالم إما قوة فلكية وإما قوة نفسانية وإما قوة طبيعية وأهل السحر منهم والطلسمات يعلمون من وجود الجن ومعاونتهم لهم على الامور العجيبة ما هو متواتر مشهور عندهم فضلا عما يعلمه المسلمون وسائر أهل الملل من ذلك فضلا عن العلم بالملئكة وما وكلهم الله من الامور التي يدبرونها كما قال فيهم المدبرات امرا النازعات وقال ف المقسمات امرا الذاريات وهم الملئكة باتفاق السلف وغيرهم من علماء المسلمين لم يقل أحد من السلف إنها الكواكب
الوجه الثالث عشر: طريقهم لا يفرق بين الحق والباطل بخلاف طريقة الانبياء
الوجه الثالث عشر ان يقال كون القضية برهانية معناه عندهم انها معلومة للمستدل بها وكونها جدلية معناه كونها مسلمة وكونها خطابية معناه كونها مشهورة او مقبولة او مظنونة وجميع هذه الفروق هى نسب وإضافات عارضة للقضية ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها فضلا عن ان تكون ذاتية لها على أصلهم بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها ومعلوم أن القضية قد تكون حقا والانسان لا يشعر بها فضلا عن أن يظنها او يعلمها وكذلك قد تكون خطابية او جدلية وهى حق في نفسها بل قد تكون برهانية ايضا كما قد سلموا ذلك
وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هى حق في نفسها لا تكون كذبا باطلا قط وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق تلك القضايا ما هو مشترك ينتفع به جنس بني آدم وهذا هو العلم النافع للناس
وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك بل سلكوا في القضايا الامر النسبى فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل وغير ذلك لم يجعلوه برهانيات وإن علمه مستدل آخر والجدليات ما سلمه المنازع وإن لم يسلمه غيره وعلى هذا فتكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند إنسان وطائفة أخرى فلا يمكن ان تحد القضايا العلمية بحد جامع مانع بل تختلف باختلاف احوال من علمها ومن لم يعلمها حتى إن اهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم
وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الامر عليه في نفسه ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الادميين بخلاف طريقة الانبياء فانهم اخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب فكل ما ناقض الصدق فهو كذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل فلهذا جعل الله ما انزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وانزل ايضا الميزان وهو ما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون فانه لا يمكن ان يكون هاديا للحق ولا مفرقا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف بها الحق من الباطل واما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقا لما جاءت به الانبياء فهو منه وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعا وعقلا
فان قيل نحن نجعل البرهانيات اضافية فكل ما علمه الانسان بمقدماته فهو برهاني عنده وان لم يكن برهانيا عند غيره قيل لم يفعلوا ذلك فان من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في اشياء معينة مع امكان علم كثير من الناس لامور اخر بغيرتلك المواد المعينة التي عينوها واذا قالوا نحن لا نعين المواد فقد بطل احد اجزاء المنطق وهو المطلوب
الوجه الرابع عشر: فساد جعلهم علوم الانبياء تحصل بواسطة القياس المنطقي
الوجه الرابع عشر إنهم لما ظنوا ان طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع ان الامر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما بالعقل وإما بالاخبار الصادقة علوما كثيرة لا تعلم بطرقهم التي ذكروها ومن ذلك ما علمته الانبياء صلوات الله عليهم من المعلوم فأرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد فقالوا النبي له قوة أقوى من قوة غيره في العلم والعمل وربما سموها قوة قدسية وهو أن يكون بحيث ينال الحد الاوسط من غير تعليم معلم له فاذا تصور طرفي القضية أدراك بتلك القوة القدسية الحد الاوسط الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم لان قوى الانفس في الادراك غير محدودة فجعلوا ما تخبر به الانبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي وهذا في غاية الفساد
فان القياس المنطقي إنما يعرف به أمور كلية كما تقدم وهم يسلمون ذلك والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة كما في القرآن من قصة نوح والخطاب والاحوال التي جرت بينه وبين قومه وكذلك هود وصالح وشعيب وسائر الرسل وكذلك ما أخبر به النبي ﷺ - من المستقبلات فعلم بذلك أن ما علمه الرسول لم يكن بواسطة القياس المنطقي
بل قد جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته من هذا الباب فانه يعلم نفسه والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فجعل علمه يحصل بهذه الواسطة وهذا يصلح ان يكون دليلا على علمه بمخلوقاته لا ان يكون علمه بمخلوقاته يفتقر الى حد اوسط مع انه لم يعط هذا البرهان موجبه بل انكر علمه بالجزئيات التي في الموجودات الاخرى فان لم يعلم الجزئيات لم يعلم شيئا من المخلوقات مع ان العقول والنفوس والافلاك كلها جزئية ونفسه أيضا معينة ولهذا أراد بعضهم جبر هذا التناقض فقال إنما نفى علمه بالجزئيات في الامور الممتغيرة فيقال التغير من لوازم الفلك فلا يكون الفلك إلا متغيرا وصدور المعلول المتغير عن علة غير متغيرة ممتنع بالضرورة كما قد بسط في موضعه
جعلهم معرفة النبي بالغيب مستفادة من النفس الفلكية وبيان فساده من عشرة وجوه
فان قيل هم يذكرون لمعرفة النبي بالغيب سببا آخر وهو انهم يقولون إن الحوادث التي في الارض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة باللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبى حامد ونحوه وهذا فاسد فان اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ - واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفكلية تحت العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها
ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء إما عن معرفة بأن هذا قولهم وإما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخهم الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد في كلام أبن عربي وابن سبعين والشاذلى وغيرهم يقولون إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ أو انه يعلم كل ولى كان ويكون من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها انهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل
والمقصود هنا أنهم يقولون إن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن إما بالنوم وإما بالرياضة وإما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الارضية ثم ذلك العلم العقلى قد تخبر به النفس مجردا وقد تصوره القوة المخيلة في صور مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا احس اشياء بالظاهر ثم تخيلها فانها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك يرتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهرة وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن وما يراه الانسان في منامه والمحرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي عليه السلام لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم
قيل هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كارسطو واصحابه ولا جمهورهم إنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد انكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموه أن هذا كلام باطل لم يتبع فيه سلفه وثانيا إنه مبنى على أصول فاسدة كثيرة
الاول إنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من ابطل الاصول
الثاني إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل
هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال
الثالث إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فانهم لو سلم لهم ما يذكرونه من أصولهم فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل ما تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الانبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شئ من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه امر كلى لكنه بزعمهم دائم الفيض فاذا استعدت النفس لان يفيض عليها منه شئ فاض وذلك الفيض لا يكون بجزئي فانه لا جزئى فيه فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية
فان قيل هم يقولون إن الجزئيات معلومة للعقول على وجه كلى وللنفوس الفلكية على وجه جزئي قيل العلم بالكلى وهو القدر المشترك بين الجزئيات لا يفيد العلم بشئ من الجزئيات البتة فان علم الانسان بمسمى الوجود أو بمسمى الجسم او بمسمى الحيوان أو الانسان او البياض او السواد لا يفيده العلم قط بموجود معين ولا بجسم معين ولا حيوان معين ولا إنسان معين ولا بياض معين ولا سواد معين ولو كانت الجزئيات تعلم من الكليات لكان من علم مسمى شئ قد علم كل شئ فانها كلها جزئيات هذا المسمى
وهذا أيضا مما يدل على فساد قول ابن سينا ومن وافقه على ان الباري يعلم الجزئيات على وجه كلى بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذره في السموات ولا في الارض فان هذا تناقض بين لمن تصور حقيقة الأمر فان من لم يتصور إلا كليا ويمتنع عنده ان يتصور جزئيا معينا إما مطلقا وإما إذا كان متغيرا كان قد عزب عن علمه كل شئ في الوجود إما مطلقا واما إذا كان متغيرا وعلمه الكلى لا يفيده شيئا من معرفة المعينات وهم دائما ما يشبعون انفسهم بالمحال بمثل هذه الكليات
ولهذا كان موضوع الفلسفة الاولى والحكمة العليا هو الوجود الكلى المشترك بين الموجودات المنقسم الى جوهر وعرض وعلة ومعلول وهذا الموضوع ليس له وجود في الخارج ولا يعلم بمعرفة الوجود المطلق شئ من الموجودات الثابته في نفس الامر اصلا فان كل موجود فانه موجود خاص متميز عما سواه وصفاته القائمة به إن كانت جوهرا فهى مختصة به وإن كان عرضا فهو عرض معين في محل معين فمن لم يعرف إلا الكلى المشترك لم يعرف شيئا من الموجودات التي هى في نفسها موجودات وانما علم امرا كليا لا يكون كليا إلا في الاذهان لا في الاعيان
إن نفس فلك القمر لا تعلم إلا جزءا من الحوادث
الرابع إن النفوس عندهم تسعة بعدد الافلاك وحركات الافلاك عندهم هى تسبب الحوادث ومعلوم ان كل نفس تعلم حركة فلكها فنفس فلك القمر لا تعلم ما في نفس الفلك الاطلس وفلك الثوابت وغيره والنفوس البشرية إنما تتصل إن اتصلت بنفس فلك القمر كما أنه إنما يفيض عليها ما يفيض من العقل الفعال وحينئذ فلا تعلم إلا جزءا يسيرا من أسباب الحوادث فمن اين تعلم الحوادث المنفصلة
ليست حركة الافلاك علة تامة للحوادث
الخامس إنه لو قدر انها تعلم حركات الافلاك كلها وانه لا سبب للحوادث إلا حركة الافلاك فحركة الافلاك ليست علة تامة للحوادث بل تختلف افعالها باختلاف القوابل فتؤثر في كل شئ بحسبه فمن لم يعلم احوال القوابل مع الفواعل لم يعلم الحوادث فلا يكون عالما بها والنفوس الفلكية غايتها ان تعلم حركات أفلاكها لا تعلم ما ليس داخلا فيها
وإذا قيل إن حركات العناصر والمتولدات إنما تختلف لاختلاف حركة الافلاك فالعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول قيل تختلف باختلاف القوابل كما تختلف باختلاف الفواعل والعناصر موجودة قبل حركات الافلاك فلا يلزم من العلم بها العلم بنفس العناصر ومقاديرها ليعلم بحركات الافلاك العلم بالحوادث الارضية وقول القائل العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول إنما يستقيم في العلة التامة المستلزمة للمعلول وحركات الافلاك غايتها أن تكون جزءا صغيرا من أسباب الحوادث
لا يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الامور
السادس إنه بتقدير ان تكون للفلك نفس فلكية متحركة كما تحرك نفس الانسان لبدنه فانها تتصور ما تريد فعله كما يتصور الانسان ما يريد فعله وأما الامور المتولدة الحاصلة بأسباب منفصلة مع فعله فلا يجب أن يكون شاعرا بها فمن أين يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الامور الحاصلة لحركاتها وبأمور اخر فانهم يقولون الفلك إذا تحرك حرك العناصر فامتزجت نوعا من الامتزاج وتحرك العناصر وامتزاجها ليس هو نفس حركة الفلك ولا حركة الفلك تامة له ثم إذا امتزجت فاض عليها من العقل الفعال ما يفيض فبتقدير أن تستعد نفس الانسان لان يفيض عليها من العقل الفعال ما يفيض لا يجب ان تعلم النفس الفلكية ذلك مع ان كلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فان العقل إن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما يدعون فيضه عن العقل
بيان أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية
السابع إن النفس الفلكية تحرك الفلك دائما فيلزم أن تعلم كل وقت الحركة التي تريدها وإذا سلم له انها تعلم ما تولد عنها وعن غيرها قيل لهم لا ريب أن ما مضى قبل تلك الحركة المعينة من الجزئيات لا يكون معلوما للنفس على سبيل
التفصيل فانه لو كان معلوما للنفس على سبيل التفصيل للزم وجود ما لا نهاية له في آن واحد فان الحوادث الماضية لا نهاية لها فلو كان العلم بكل منها موجودا على سبيل التفصيل في النفس الفلكية للزم وجود أمور لا نهاية لها في آن واحد وهذا ممتنع
فان قيل هم يجوزون هذا كما يجوزون وجود نفوس لا نهاية لها في آن واحد فان قاعدتهم في هذا ان ما هو مجتمع وله ترتيب طبيعي كالفلك أو وضعي كالاجسام يمتنع وجود ما لا نهاية فيه فاذا انتفى احد القيدين جوزوا وجود ما لا نهاية له إما بأن لا يكون مجتمعا كالحوادث المتعاقبة وإما ان يكون مجتمعا غير مترتب كالنفوس الفلكية قيل الجواب من وجوه أحدها إن هذا قول طائفة منهم كابن سينا وغيره وقد انكر عليه ذلك إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا ليس هو قول أئمتهم الفلاسفة وبينهم في ذلك مشاجرات ليس هذا موضعها الثاني إن الحركات الفلكية مترتبة كل واحد على ما قبلها فاذا قدر اجتماع العلم المفصل بها كان قد اجتمع حوادث مترتبة والعلوم ايضا مجتمعة في النفس الفلكية والجزئيات عندهم لا تنطبع عندهم إلا في قوى جسمانية فيلزم وجود ما لا يتناهى من الاعراض في صورة جسمانية وهذا هو أعظم ما ينكرونه فان القوة الجسمانية عندهم لا تقوى على أفعال لا تتناهى فضلا عن ان تقوى عى أعراض لا نهاية لها الثالث أن يقال إن قالوا إن جميع ما يحدث لم تزل نفس الفلك عالمة به على التفصيل كان علمها قديما أزليا والحركات حادثة شيئا بعد شئ والحوادث الجزئية لا بد لها من تصورات جزئية حادثة معها وهم يسلمون ذلك وإن قالوا إنها لم تعلمها مفصلة إلا شيئا بعد شئ حصل المقصود ايضا وعلى التقديرين لا بد عندهم للنفس الفلكية من علوم متعاقبه كما يحصل لنفس الانسان وحينئذ فان كانت علومها باقية لم تزل الامور المرتبة تحدث شيئا بعد شئ وهى مجتمعه في محل واحد بل في قوة جسمانية فيلزم وجود أعراض مجتمعة لا نهاية لها في محل واحد بل في قوة جسمانية وهذا من أعظم الامور إحالة عندهم في نفس الامر
وإذا كان كذلك تبين ان الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية
والانبياء بل وغير الانبياء يخبرون بالحوادث المتقدمة كالاخبار بما جرى في زمن نوح وقبل نوح وبعد نوح فيمتنع ان يكون الخبر بذلك استفادة من النفس الفلكية التي يسميها الملاحدة الذين ينزلون الكتاب والسنة على أصول هؤلاء المشركين المعطلين يسمونها اللوح المحفوظ وهكذا العلم بالحوادث المستقبلة قبل أن تكون بمئين من السنين او بألوف من السنين فان تلك لم تنتقش بعد عندهم في النفس الفلكية وقد يخبر بها الانبياء كما بشر متقدموهم بممحد وكما أخبر محمد بما سيأتي بل ويعلم ايضا بالرؤيا وغير ذلك