السيرة الشعبية ( Populor Biography )
☰ جدول المحتويات
السيرة الشعبية نوع أدبي قصصي طويل، من أنواع القصّ في الأدب الشعبي العربي. وفيه يتابع القاصّ مراحل حياة البطل القصصي الرئيسي، الذي تُنْسب إليه السيرة عادة، ويعرض القاصّ وقائع اشتباك حياة هذا البطل مع الأبطال الآخرين المناوئين وتلاقيها مع الموالين، كما يبين تداخلها مع المواقف المصيرية في حياة قومه وحروبهم مع الآخرين. ويتم سرد السيرة الشعبية نثرًا، يتخلله الشعر في المواقف المتوترة قصصيًا، وإن كانت هناك روايات شعرية كاملة لبعض السّير الشعبية.
حدود المصطلح
تُستخدم كلمة سيرة في الإطار التاريخي لتعني ترجمة حياة شخص. ويُقصد بها، كما استُخدمت عنوانًا لعديد من الكتابات في التراث العربي القديم، السرد المتابع لدورة حياة شخص، وذكر الوقائع التي جرت له أثناء مراحل هذه الحياة منذ ميلاده حتى وفاته. وقد افتتح تيار هذه الكتابات في السّير وثبته في التراث العربي بالكتابات المتوالية حتى اليوم عن سيرة الرسول ﷺ، والتي كانت أولاها سيرة ابن هشام.
وتستخدم السيرة الشعبية كلمة سيرة بمعنى قريب من هذه الدلالة فيما يخصّ بطلها الرئيسي، الذي تُنْسب إليه السيرة عادة. وكأن السيرة الشعبية تريد أن تستفيد من الدلالات المصاحبة التي يستدعيها إلى الذهن التراث العربي الوفير من الكتابات في السّير، ومايتصل بها من كتب المغازي والفتوح، ومادُوّن من أخبار العرب وأيامهم في الجاهلية والإسلام.
وبهذا تُحقّق السّيرة الشعبية غرضين: فهي من ناحية، تُؤسّس لمصداقيتها، ومن ناحية أخرى تُلمّح إلى بعض مصادرها الأولى التي استقت منها شيئًا من عناصرها المكوّنة، سواء على مستوى هيكلها البنائي أو على مستوى المادة القصصية.
أما بالنسبة لوسم السّيرة الشعبية بمسمى الشعبية، ونسبتها إلى الشعب، فهو لتحديد هُويتها وطبيعتها النوعية، ولتمييزها عن السّير المكتوبة الوفيرة في التراث العربي، سواء أكانت هذه السّير مكتوبة باللغة الفصحى أم باللهجات العامية. فكتابات السّيرة كما وردت في التراث العربي ألفها أفراد يعبرّون فيها عن ذواتهم، ويجسدون بها رؤيتهم الفردية. والواقع أن معيار شعبية السّيرة ليس المستوى اللغوي الذي تُؤدَّى به، فصيحًا كان أم عاميًا، وإنما المقوم الذي تتأسس عليه شعبية السيرة هو جمعيتها. والجمعية هنا تعني أن السّيرة من إنتاج الجماعة الشعبية، وأن أبناء هذه الجماعة يتواترون السّيرة، ويتداولون روايتها، ويتبنونها باعتبارها معبّرة عن مُثُلهم وقيَمهم ورؤاهم الجمعية. ومن ثَمّ، تكون السّيرة الشعبية مشاعًا مشتركا بينهم، يتملّكونها جميعًا. ولامثار هنا لقضية جهل المؤلف أو العلم به، فالسّيرة الشعبية عندما تتبناها الجماعة، وتتواتر روايتها، تكون قد أصبحت من إنشائها، ويتم إقرار صياغتها بوساطة الإبداع الجمعي.
عروبة المصطلح
ولخصوصية نوع السيرة الشعبية العربية، ولصلتها الحميمة بالتراث العربي، يفضّل الدارسون العرب، حتى عند الكتابة بلغات غير عربية، استخدام مصطلح السّيرة الشعبية كما هو، ولا يفضلون ترجمته إلى مصطلح ملحمة أو غيره من المصطلحات القريبة في اللغات الأخرى. فالسّير الشعبية العربية، وإن كانت تشترك مع الملاحم في جانب من ملامحها وخصائصها الفنية، إلا أنها تنفرد بخصائص تجعل منها نوعًا قائمًا بذاته.
حصر السّير الشعبية
تتعدد السّير الشعبية في المأثور الشعبي العربي ؛ ويكشف لنا الحصر الميداني عن اختفاء عدد منها، ومع ذلك مابقي منها كثير إذا قُورن بالموجود لدى الشعوب الأخرى. وأبرز السّير التي لازالت راسخة في الذاكرة الشعبية العربية: 1- السّيرة الهلالية (أو سيرة بني هلال). 2- سيرة الزير سالم. 3- سيرة عنترة بن شداد. 4- سيرة الملك سيف بن ذي يزن. 5- سيرة الأميرة ذات الهمة. 6- سيرة السلطان الظاهر بيبرس. 7- سيرة الأمير حمزة البهلوان.
كما توجد أعمال أخرى أطْلق عليها مصطلح السيرة، غير أنها لاتتسم بالطول المعتاد في السّير السابقة، ولابنفس السعة في المعالجة القصصية ؛ إذ إنها تركز على معالجة موقف أو صراع محدد لبعض الشخصيات التاريخية ذات المكانة الدينية، مثل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وبالمثل تُنسب أعمال أخرى إلى السّير الشعبية، وإن كانت قد دخلت ضمن مجموعات قصصية أخرى، مثلما نجد في ألف ليلة وليلة، التي ضمَّت إلى قصصها سيرتي عمر النعمان وعلي الزيبق.
خطوطها القصصية:
يعتمد التخطيط القصصي للسّيرة الشعبية على خط محوري ممتد طولياً، تتشابك معه مجموعة من الخطوط، وتتفرع على نحو عنقودي. ويتابع الخط القصصي المحوري مراحل حياة البطل الرئيسي، الذي تُسمّى باسمه السّيرة الشعبية عادة (عنترة، سيف، أبو زيد ... إلخ)، ويسرد الوقائع المؤثّرة قصصيًا في أطوار حياته منذ ميلاده حتى وفاته. وتتشابك مع هذا الخط المحوري خطوط قصصية أخرى تنسجها علاقات الأبطال الآخرين العديدين الذين تعجّ بهم السّيرة الشعبية، وتتنوع أدوارهم مابين: الموالي أو المعادي، والندّ الحليف أو المناوئ، والمانح أو السّالب، والتابع النصير أو المعوّق.وفي الوقت نفسه، يتركّب مع هذه الخطوط القصصية المتداخلة خط آخر، يتمثَّل في متابعة حياة الجماعة، التي ينتمي إليهم، سواء في مسلكهم في الحياة، أو في مصالحهم وصراعاتهم مع الآخرين.
مادة موضوعها:
يطفو على سطح السّيرة الشعبية موضوع الحرب والمعارك المتوالية بوصفه جسدًا كليًا، بحيث يبدو وكأن الصراع الموصول بين الأبطال والأقوام المتناحرين هو موضوعها. غير أن تيار السّيرة الشعبية التحتي، يتكون من موضوعات أخرى متعددة. فمنها مايعرض لمختلف المشاعر الإنسانية كالحب والتوادّ ونقيضها، ومنها ما يصف المواقف السلوكية المتباينة كالنخوة والإيثار أو الغدر والخديعة ونحوها، ومنها مايتناول العلاقات البشرية، كالأبوة والبنوة والصداقة والتحالف في مواجهة العداوة والحقد والضغينة.كما تحرص السّيرة الشعبية على أن تضم في ثناياها مايخدم أغراضها من المعلومات والبيانات المُفسّرة، سواء أكانت تاريخية أم تتعلق بالعادات والتصورات الجمعية. ومن ثم نجد فيها سردًا لقوائم نسب الأبطال وقبائلهم وتاريخ أسلافهم، وأوصافها لأقاليم ومعالم جغرافية يمرّون بها، وشروحًا لعادات وتقاليد يمارسونها، وهلم جرًّا.
مرونتها:
إن تعدد الخطوط القصصية في السّيرة الشعبية، ووفرة مادتها الموضوعية، قد أكسبها امتدادًا في السرد وبعدًا موسوعيًا في العرض القصصي ؛ الأمر الذي منح السّيرة الشعبية نَفَسًا قصصيًا طويلاً له ميزاته وإشكالاته البنائية في الوقت نفسه ؛ حيث إنه يُهدّد السّيرة الشعبية من جهة تماسك هيكلها وتلاحم مكوّناته، وخاصة في رواياتها الشفوية. ومن المعروف أن السّيرة الشعبية لا تُؤدَّى كاملة في جلسة واحدة، ولافي عدة جلسات محدودة، ولايوجد راوٍ يُتْقن رواية كل أجزائها وفصولها بنفس الدرجة من الإجادة واستقصاء التفصيلات.بيد أن السّيرة الشعبية تواجه عوامل التفكك، باعتمادها على خطها القصصي المحوري، ومايتشابك معه من خطوط فرعية، لتقيم إطارًا كُلّيًا، يقوّي هيكلها، ويحافظ على صورته العامة. وفي الوقت نفسه، تستفيد من ميزة أن مجرى الأحداث في السّيرة الشعبية ينبني في الحقيقة على مجموعات من الأحداث والمواقف والحبكات، تكاد كل مجموعة منها تكوّن حلقة مستقلة. وهذا يُحقق مرونة لروايات السّيرة الشعبية شفويًا، ويتيح إمكانية لتقسيمها إلى أجزاء وفصول ومقاطع قصصية، يُمكن أن يُروى كلّ منها على حدة. وربما دعّم هذه الآلية وجود الرواة المحترفين، ووجود نسخ مطبوعة يسَّرت إمكانية الرجوع إليها مصدرًا للتوثق والمذاكرة.
ولاتوفّر السيرة الشعبية جهدًا لكي تُعطي هذه المرونة دفعة باستخدام كل إمكانات التأثير الفني. ومن هنا نجدها لاتتحرّج من أن تجمع بين أجناس ووسائل أدبية وفنية متنوعة. وأوضح ماتقوم به من عمليات الجمع الفني هذه، جمعها بين السَّرد النثري والنظم الشعري، وجمعها بين القصّ المرسل، والأداء الإلقائي الدراميّ، والأداء الغنائي الموسيقي.
صلتها بالتاريخ:
تشير عناوين السّير الشعبية إلى شخصيات، أغلبها مذكور في التاريخ العربي والإسلامي. والواقع أن استعمال السّير الشعبية للمادة التاريخية أبعد من هذه الإشارة في العنوان. فأغلب هذه السّير يدور حول شخصيات ووقائع لها أصل تاريخي، وغير قليل من المعالم والمواقف والأحوال الموصوفة فيها تحوي أصولاً تاريخية.ولكن هذا لايعني أن السّير الشعبية مؤلفات تؤرخ لأشخاص أو فترات أو أحداث، ولا يعني أيضًا أنها تلتزم بضوابط الصحة التاريخية والتوثيق المنهجي. ويجب ألا ننسى أن السّير الشعبية أعمال فنّية أدبية قصصية تلتزم في المقام الأول، القواعد الفنية القصصية في رسمها للشخصيات، وتحريكها للأحداث ووصفها لمجال حركة هذه الشخصيات والأحداث. وعندما تتعامل السّير الشعبية مع وقائع التاريخ، فإنما تتعامل معها باعتبارها مادة تستعملها وخيوطًا تَجْدلُها مع خيوط أخرى في نولها الفني، حيث يجري على المادة التاريخية مايجري على المواد الأخرى من إعادة التشكيل والصياغة، إلى أن تتسق سائر العناصر الفنية وتتكامل، وفق منظور مُنتجيها ومعاييرهم الجمالية.
نشأتها ونموها:
لاتقدم المصادر التاريخية المتاحة حتى الآن إلاّ إشارات مقتضبة، تذكر وجود قصص فيها أسماء مما في بعض السّير الشعبية الحالية، ولكنها لم تورد تفاصيل شافية تُجلّي صورة أي سيرة شعبية في أطوارها الأولى. وربما كان من أقدم الإشارات إلى وجود مصطلح السّيرة مقرونًا بأسماء سير نعرفها إشارة ابن كثير (ت 774هـ) في تفسيره للقرآن الكريم، عندما انتقد رواة سير مثل الأميرة ذات الهمَّة وعنترة. أما أكثر الإشارات تفصيلا فهو ما أورده ابن خلدون (ت 816هـ) من شذرات من سيرة بني هلال مدوّنًا نصوصًا من أشعارها البدوية.ولكن افتقاد المعلومات والتفصيلات الواضحة لم يثن الباحثين عن الاجتهاد في محاولة التوصل إلى الكيفية التي نشأت بها السّير الشعبية ومراحل تطورها. وتتلخّص افتراضات الباحثين في هذا الصدد في نظرتين: أولاهما، تأثرت بدراسات تاريخ الأدب القديم وتحقيق نصوصه، فضلاً عن اقتصار اعترافها بالسّير الشعبية على النسخ المخطوطة والمطبوعة منها. ولذا تغلب على هذه النظرة المعايير النقدية السائدة بين مؤرخي الأدب، ولذا يمكن أن نطلق على الآخذين بهذه النظرة أصحاب النظرة التأريخية الأدبية. ومن هنا نراهم يتعاملون مع السّيرة الشعبية على أنها عمل أدبي، كتبه مؤلف واحد في الأغلب، وظهر إلى الوجود دفعة واحدة. ومن ثم شغل هؤلاء الدارسون بالبحث عن مؤلفيها الأفراد، وسعوا إلى تحديد الزمن الذي ألفت فيه، ولازالوا ينشدون العثور على أُمَّهَات مخطوطاتها. أما النظرة الثانية، فأصحابها مشغولون أكثر بالروايات الشفهية، ويرون أن كلا من النسخ المخطوطة أو المطبوعة منها الآن ليست إلاّ رواية من الروايات تمّ تثبيتها وتدوينها. وهم يفترضون أن السيرة الشعبية نشأت بفعل التراكم القصصي خلال زمن طويل من التحوّل والنموّ على ألسنة رواتها. ولذا يمكن أن نطلق على الآخذين بهذه النظرة أصحاب نظرية التراكم. وشواهدهم البحثيّة توضح أن نواة هذا التراكم تتكون من بعض الشخصيات والوقائع التاريخية التي تثبت في الوجدان الشعبي. وأن هذه الشخصيات وتلك الوقائع المختزنة في الذاكرة الشعبية تستقطب حولها مجموعة من الوحدات القصصية الموجودة في المأثور الشعبي في حينها. ومثلما تتكون البلّورات في الطبيعة، وتتراكم طبقاتها، تتراكم الطبقات القصصية في السّيرة الشعبية حول نواتها. وبفعل مرور الزمن، وبتأثير عمليات التعديل والصقل المُسْتمر اللذين يتم خلالهما تداول رواية السّيرة الشعبية، تنمو وتلتحم أجزاؤها وتتكامل في شكل السيرة الشعبية التي نجدها بين أيدينا الآن.
ومهما يكن من أمر، وسواء أُخذ بإحدى النظرتين أو بغيرهما، يُجْمع غير قليل من الباحثين على أن نضج السّير الشعبية العربية تمّ فيما بين القرن الثامن والعاشر الهجريين (الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين). ثم جرى بعد ذلك تدوين بعض صور من رواياتها، خاصة في المدن. وعن المخطوطات المدونة هذه، نُقلت طبعات رخيصة، أخذت في الانتشار منذ القرن التاسع عشر الميلادي في الأسواق الإقليمية. أما في الأرياف والبوادي فقد واصلت السّيرة الشعبية حياتها الشفهية، تتجاوب مع متطلبات الأداء وتقاليده، وتخضع لآليات الصيرورة، ويسري عليها قانون التغير العام، الذي شمل كل وجوه المجتمعات العربية.
أداؤها المحترف:
ليست السّيرة الشعبية قصة تُقرأ على انفراد، وإنما هي عمل يؤدَّى في مجلس أو محفل. وهذا الأداء له تقاليده التي تتوافق مع التقاليد الفنية للجماعة الشعبية ؛ ولهذا تتنوع صور الأداء وفق تباين أحوال المجتمعات الشعبية العربية. ومن ثم، نجد صورًا من الأداء ترتكز على الإلقاء المسرحي، بينما تضيف أخرى العزف على الرباب والغناء المنفرد، وتتوسع ثالثة في العزف والغناء مكوّنة فرقة متعددة الآلات والأدوار .والواضح أن اتجاه التوسع هذا يرجع إلى وجود محترفين متفرغين لعملية الأداء ؛ حيث يتوافر هؤلاء المحترفون وأشباههم على تجويد جوانب الأداء وتنمية أساليبه وأدواته، في حين واصل الأداء بين عامة أبناء الجماعة الشعبية صورة النمطية البسيطة. وتُفيد المعلومات، التي وصلتنا من القرن التاسع عشر الميلادي، وجود تنويعات من المحترفين منذ ذلك الوقت. فقد ورد أن طائفة من المؤدّين كانوا يلقون السّير الشعبية على الناس في المدن وأطْلق عليهم اسم المحدّثين، ويبدو أنهم كانوا يقرأون من كتب، أو على الأقل يرجعون إليها، ويبدو أيضًا أن هذا كان مرتبطًا بسير شعبية مثل الظاهر بيبرس. بينما اختصت طائفة برواية سيرة عنترة أطلق عليهم العنترية، وانفرد راوي السّيرة الهلالية بكونه الشاعر .
كما تفيد المعلومات الواردة عن صور الأداء السائدة في المجتمعات العربية حتى العقود الأخيرة أن وجود المحترفين كان مقتصرًا على بعض المراكز وفي المدن عمومًا، بينما كانت الأرياف والبوادي تتداول أداء السّير الشعبية بين أبنائها الحفظة والموهوبين دون اعتماد على المحترفين، إلا في الحالات التي يقوم فيها مؤدون جوَّالون بالوصول إلى تلك البيئات بين الحين والآخر.