ليس هناك تعريف متفق عليه للمدينة الإسلامية، فبعض المستشرقين يحددون عناصر معمارية معينة لوصف المدينة الإسلامية ويؤكدون على أن المدن الإسلامية أخذت عناصرها وسبل تخطيطها من المدن الرومانية والساسانية وغيرها. في أواسط القرن العشرين وعند ظهور عدد كبير من المعماريين والمخططين العرب والمسلمين رفضوا تلك التحليلات ورأوا عدم وجود شيء اسمه المدينة الإسلامية لإختلاف المدن الإسلامية وتنوعها، من هؤلاء رفعت الجادرجي. في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين ظهرت مجموعة أخرى من المفكرين ترفض كلا الرأيين وترى العودة إلى أصول العمارة والتخطيط الإسلامي لمعرفة الحقيقة.
يرى حكيم (1986) أن التخطيط في المدن الإسلامية يعتمد بالدرجة الأساس على واحد من أربعة: القرآن، السنة، الفقه والشريعة.
فهرس |
بدأ تخطيط المدن والعمارة الإسلامية منذ الهجرة إلى المدينة المنورة حين أصبح للمسلمين مدينتهم الأولى، وكانت تقع على طريق التجارة إلى الشام وذات تربة خصبة ومياه وفيرة مقارنة بمناطق أخرى في الحجاز وعلى هذا كان ليثرب بنية اقتصادية جيدة حيث توفرت فيها الزراعة والتجارة بالإضافة إلى بعض الصناعات الحرفية مثل التعدين. كانت يثرب أيضا تتميز بتنوع ديموغرافي يمثله وجود اليهود بكثرة كما كانت تفتقر إلى سلطة سياسية مركزية مما أدى إستمرار الخصومات وتحولها إلى حالة دائمة فيها.
حين سيطر عليها الإسلام كان أول تغيير يحدث هو ظهور السلطة المركزية المتمثلة بالرسول محمد وإنتهاء فجائي للخصومات بين الأوس والخزرج، سكان المدينة مما أدى إلى ضعف تأثير اليهود الذي كان غالبا فيما سبق.
نواة التغيير العمراني كانت بناء المسجد النبوي في أرض في وسط المدينة أبتيعت للمسجد. ثم شقت طرق رئيسية تصل المسجد بالضواحي، فقد أشارت الروايات التاريخية إلى طريق يمتد من المسجد ويتجه غربا حتى يصل إلى جبل سلع وطريق من المسجد يخترق منازل بني عدي بن النجار ويصل إلى قباء جنوبا ومن قباء وجد طريق يتجه شمالا إلى البقيع. كانت الشوارع قياسية فقد كان عرض الشارع الرئيسي سبعة أذرع، والذي يتفرع منه خمسة أذرع والشارع الأصغر ثلاثة أذرع. غطيت شوارع المدينة في حينها بالحصى.
حين وصل المهاجرون إلى المدينة وهب لهم الأنصار بعض الأراضي الفارغة ليسكنوا فيها، وقد قسمت الأرض بطريقة قبلية حيث أن كل قبيلة أعطيت أرضا يخططونها كما شاءوا. وأنشأت هذه نواة لتخطيط المحلات السكنية طوال الفترة الإسلامية حيث أن المحلة نفسها تقتطع لها أرض محددة ويقوم ساكنيها بتنظيمها كما يرون مناسبا. إلا أن بعض المباني العامة كانت تخطط مركزيا فقد روى جابر بن أسامة قال: لقيت رسول الله بالسوق في أصحابه فسألتهم أين يريد، فقالوا: اتخذ لقومك مسجدا، فرجعت فإذا قومي فقالوا خط لنا مسجدا وغرز في القبلة خشبة.
كانت تنظيم السوق بلا مباني حيث أن الأرض كانت تترك فضاءا ويأتي التجار ببضائعهم فيستخدمون موقعا يبقى لهم حتى آخر النهار ولكنه ليس محجوزا لهم دوما فقد تركت الأرض مشاعمشاعا حتى الدولة الأموية.
بالإضافة إلى ذلك فقد اهتم الرسول بتوفير المرافق العامة حيث أقام الرسول خيمة بالمسجد لأجل التداوي، كما أقيمت دور الضيافة لاستقبال الوفود كان أهمها دار عبد الرحمن بن عوف واتخذت مواضع لقضاء الحاجات تسمى المناصع واختيرت مواضع للذبح بعيدا عن السكان، وعين مكاناً لصلاة العيد.
في نفس الوقت وبالموازاة مع البناء قام الرسول بإعادة تنظيم المدينة إداريا واجتماعيا حيث أن أول عمل هو الموآخاة بين المهاجرين والأنصار والذي حقق الكثير من الأهداف أهمها المساعدة على دمج المهاجرين في المجتمع الجديد وتقوية الأواصر بينهم وبين الأنصار والتأكيد على أهمية التكافل الاجتماعي.
كانت تأثير الرسول على تخطيط المدينة كبيرا جدا واستمر هذا التأثير طيلة قرون طويلة حيث أن الكثير من المبادئ التي أعتمد عليها في تخطيط وإدارة المدن الإسلامية منذ ذلك الحين حتى نهاية القرن التاسع عشر كان يرجع في أساسه إلى هذا النموذج.
بعد توسع الدولة الإسلامية في صدر الإسلام أسست العديد من المدن أو القواعد العسكرية التي تحولت إلى مدن. أهمها هي البصرة في 633 والكوفة في 638 والفسطاط في 642 والقيروان في عام 665 ميلادي. يتشابه تخطيط هذه المدن إلى حد كبير كما يتشابه مع تخطيط المدينة المنورة مما يظهر تأثيرها على المدن الإسلامية الأولى.
كان أول ما يبنى فيها المسجد الجامع ويكون في وسطها ويبنى حوله مبنيان رئيسيان هما دار الإمارة وبيت المال. وبجوار المسجد كانت تخصص أرض للسوق تترك فضاءا كما في المدينة ولم يكن يسمح بالبناء فيها في حينه. بعد ذلك كانت تخط أراض بينها شوارع رئيسية للقبائل المختلفة ويترك تخطيط هذه الأراضي للقبائل كما هو الحال في المدينة. في وسط كل من تلك الخطط كان مسجد يسمى مسجد الصلوات الخمس، حيث يصلي فيه الناس ويجتمعون يوم الجمعة في المسجد الجامع.
كان بناء مساجد الخطط إلزاميا حيث أنه كان لها دور في إدارة المدينة فقد كان فيه المجلس الذي يجتمع فيه الناس ويحكم بينهم ويعلمون أولادهم فيه وكانت بعض المرافق العامة الخاصة بالخطة ملاصقة أو مجاورة لها مثل السوق والحمام والفرن وغيرها. وكانت أوامر وتعليمات الخليفة أو الأمير للقبيلة تصل إلى هذه المساجد أو المجالس.
بالإضافة إلى ذلك كان في ذلك المجلس سجل بالمقيدين في الجند الرسمي من أهلها، وكان في دار الإمارة ديوان يشبه يسجل فيه أسماء أهل القبائل وفي أي خطة هم.
أهم ما يميز تلك المدن هو عدم بناء أسوار لها بل كانت تحصن طبيعيا باختيار موقع جيد.
كان أهم تغيير يطرأ في العصر الأموي هو تحول نظام الحكم من الخلافة الإسلامية إلى النظام الملكي الوراثي.
أضاف الأمويين بعض المرافق العامة للمدينة مثل الشرطة والدواوين المختصة وغيرها، وكانوا يضعون هذه المرافق إما في المركز مع المرافق الرئيسية أو على طول الشوارع الرئيسية التي تربط الضواحي بمراكز المدن. كما بنوا القصور التي أصبحت أكثر أهمية من دار الخلافة ودور الإمارة أحيانا وتنافسها في أحيان أخرى. أضف إلى ذلك، سمح الأمويين للناس بالبناء في الأسواق فلم تعد أرضا فضاءا بل أنها أصبحت مبنية والدكاكين ثابتة فيها.
نتيجة لتطور الدول الإسلامية وتمصير الأمصار المختلفة وتوسع المدن، ظهر ما يمكن تسميته بفقه البنيان. يهدف هذا المجال إلى تحديد وتنظيم العلاقات بين الناس والسيطرة على البناء وحل المشاكل التي قد تنجم بين الناس.
وفقه البنيان هو مجموعة القواعد الفقهية التي تراكمت بمرور الزمن نتيجة لاحتكاك حركة العمران والمجتمع كلاهما ببعض ونشوء تساؤلات اجاب عنها الفقهاء، هذه القواعد كان كل من المجتمع والسلطة والمهندسين يحتكمون اليها عند اللزوم. من كتب الفقه التي اهتمت بأحكام البناء كتاب "الإعلان بأحكام البنيان" لابن الرامي المتوفى سنة 734هـ· أول من سجل قواعد فقه العمارة من الفقهاء ابن عبد الحكمٍٍ الفقيه المصري المتوفى سنة 214 هـ/829م في كتابه «البنيان».
وقد قسم الفقهاء احكام البنايات إلى أربعة اقسام رئيسية هي:
1. البناء الواجب: مثل بناء المساجد لتقام فيها الصلوات، وبناء الحصون والاربطة للدفاع عن ديار المسلمين.
2. البناء المندوب: كبناء المنائر والتي تندب للأذان وبناء الاسواق، حيث يحتاج الناس للسلع. ولكي لا يتكلفوا عناء البحث عنها، فندب الشرع لذلك بناء الاسواق لكي يستقر بها اصحاب السلع، ويسهل للناس شراؤها منهم.
3. البناء المباح: مثل بناء المساكن التي تبنى بهدف الاستغلال، فمن المعروف ان الشريعة جاءت لحفظ المقاصد الخمس: الدين، النفس، المال، العرض والنسل، والله جعل اسباباً مادية يقوم بها البشر، كي يحققوا تلك المقاصد، ومن هذه الاسباب بناء المساكن والدور ليحفظ فيها الناس انفسهم واموالهم واعراضهم، وتقوم فيها الأسر.
4. البناء المحظور: كبناء دور السكر ودور البغاء والبناء على المقابر وفي أرض الغير.
لم تكن العلاقة بين المباني علاقة جامدة، بل دخلت أيضا في تحديد سلوك الساكنين للعقارات، وضرورة احترامهم الآداب العامة، وكان من حق الجيران إجبارهم على ذلك، عن طريق القضاء، وتزخر سجلات المحاكم الشرعية بالعديد من الوقائع التي تؤكد تضامن أهل الخطة أو الحارة ضد المخالفين من سكانها.
اتعمد الفقهاء في تناولهم لأحكام البنيان على بعض الآيات في القرآن الكريم وعلى الحديث الشريف وعلى بعض الاعمال العمرانية التي قام بها الرسول والخلفاء الراشدين وعلى العرف أخذا عن حديث عبد الله بن مسعود : (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) كما أخذوا عن الحديث: (لا ضرر ولا ضرار).
وترتب على مبدأ "لا ضرر ولا ضرار"، و"الأخذ بالعرف"، في تقرير أحكام البناء، نشوء مبدأ : "حيازة الضرر"، الذي صاغ المدينة الإسلامية صياغة شاملة. و"حيازة الضرر" تعني أن من سبق في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب على جاره الذي يأتي بعده أن يحترمها، وأن يأخذها في اعتباره عند بنائه مسكنه، وبذلك يصيغ المنزل الأسبق المنزل اللاحق.
أثر فقه البنيان والمبادئ المتعبة في إيجاده على تخطيط المدينة فأثر على تخطيط الشوارع وحدد درجات الخصوصية في الأماكن العامة وحدد أماكن وضع المباني المعينة فالمباني التي قد تضر الناس كالمصانع والأفران والتي تؤدي إلى إصدار الضجة كانت تبنى في أماكن بعيدة عن الأحياء والخطط السكنية مثلا.