كان القرن السابع قبل الميلاد من أهم الفترات في التاريخ القديم ، ففي هذا القرن من الزمان كانت دول الشرق القديم تتصارع فيما بينها تصارعا مميتا افني قواها ، فقد رأينا دولة أشور وقد مدت سلطانها على جيرانها ولم تقنع بذلك بل رمت بعينها إلى الغرب فضمت دويلات سورية و فلسطين إليها بل إنها ضمت مصر أيضا ولكن اليقظة التي سرت في بلاد وادي النيل جعلت الشمال والجنوب يفتحان أعينهما على الحقيقة الرهيبة وهى إن دوام تفتك البلاد سيسبب خرابها التام ، فسعى "تاف –نخت" من غرب الدلتا و"بعنخى"من دنقلة ليعيدوا البلاد مجدها وما كانت هذه اليقظة لتجعل مصر تصير على الهوان الجديد فإذا كان بيت نبتا ترك راية الجهاد يائسا ، فان أمراء صان الحجر سلالة "تاف – نخت " حملوها وتقدموا الصفوف حتى تم لهم النصر والفوز
كانت بلاد اليونان قد اجتازت دور تكوين حضارتها وأخذت شعوبها جزرها ، ومحلاتها التي انشاتها في آسيا الصغرى، أو في شمال إفريقيا ، تنشد نصيبها من الحياة سواء في التجارة أو في ميدان الحروب ، وكانت في ذلك الوقت عاملا مهما في حوادث البحر الأبيض المتوسط وكان اتصال هذه الشعوب بمصر وشاطئ سورية ذا اثر كبير على الحوادث التي كانت على وشك الظهور أما الناحية الأخرى من آسيا فقد كانت فيها حركة من نوع مختلف 0 ففي جبال إيران كان يعيش بعض شعوب من أصل هنود – اوروبى قضت قرونا طويلة بين الجبال نحيا حياة البدو ولكنها بدأت في العصر بعينه تدخل في دور جديد ، وسرعان ما بدأت تؤثر على بلاد مابين النهرين ، ولم تلبث إن كان لها الفوز وإذا ذهبنا إلى ابعد من ذلك نحو الشرق لرأينا أيضا انه في كل من الصين و الهند بدأت الحياة الاجتماعية تدخل في دور جديد ، وفى الهند بالذات كانت الديانة الأصلية للبلاد قد بدأت تمتزج بديانة الشعوب الهنود – أوروبية التي كانت قد غزت الهند من قبل ، ونتج من صلة الهنود بحضارة كل من بلاد مابين النهرين ومصر أراء دينية جعلت تتطور مع الزمن حتى وصلت إلى هذا العصر ، ووجدت بين حكماء الهند القدماء من يدعو إلى فلسفة جديدة كان هذا العصر هو فجر مولد " الجينية " التي كانت الأثر المباشر لظهور " بوذا العظيم " مؤسس البوذية التي مازالت دينا من أهم أديان العالم حتى اليوم، والتي كانت منذ نشوئها وانتشارها معينا لكل ما ظهر من ديانات أو فلسفات في العالم القديم 0 فإذا عدنا إلى مصر مرة ثانية من هذه الجولة السريعة فإننا نراها برزخ تحت النير الاشورىوتئن من تخريب معابدها ونهب كنوزها ، ولكن هذه الضربة لم تقض على حيويتها فلم تلبث إلا قليلا حتى أفاقت وأخذت ترسم لنفسها طريق الخلاص
ولم تكن مصر وحدها هي التي كانت في مهب هذه التيارات المختلفة بل كان كل حوض البحر الأبيض في حالة عدم استقرار ، بخاصة في فلسطين والشاطئ الفينيقي ، وكان سبب ذلك ظهور الدويلات اليونانية وهى في عنفوانها ووجود جيوش أشور في غربي اسيا
ومنذ هذا العصر أصبح لدى دارسي التاريخ مصدر هام وهو ما كتبه المؤلفون اليونانيون عن بلاد الشرق 0 وعن بلادهم وصلتها بغيرها ، ولهذا أصبحت مؤلفاتهم إلى جانب المصادر المصرية من اثار البلاد هى المعين الذى نلتجئ اليه 0 وكثيرا ماتتفق كتابات اليونانيين مع ما خلفه المصريون من اثار ولكن هناك اختلافات كثيرة ايضا ، وعلى المؤرخ ان يوازن بين المصدرين ويتخذ طريقه بيهما ولكن هذا الاختلاف على وجه العموم لايغير شيئا من الضورة الاصلية لانه اختلاففى التفاصيل فقط
فهرس
|
ليس لدينا مصدر عن طرد الأشوريين من مصر إلا ما سمعه هيرودوت ممن كانوا معاصرين له (زار هيرودوت مصر حوالى عام 445 ق . م) أو مما قراه في كتابات من سبقوه وكانت قصته عن الملك الأول صورة للخيال الاغريقى الخصب فالمرجح إن بسمتك – حاول عن طريق الكهنة ووحي الآلهة أن تكون له السلطة الكاملة في البلاد وأن يدين له الأمراء ولكنه فشل في ذلك وربما اضطر إلى الاختفاء وقتا من الاوقات في مستنقعات الدلتا وعاود بسمتك نشاطه ولكن في هذه المرة استعان بجنود مأجورين من الإغريق أمده بهم صديقه "جيجس" ملك ليديا فكان هذا الجيش عونا له في اخضاع الأمراء ثم طرد الأشوريين من مصر ، ففر هؤلاء إلى فلسطين وتحصنوا في اسدود وراى بسمتك – كما رأى أحمس الأول في حرب الهكسوس قبل أكثر من 990 عاما – أنه لااطمئنان له إطمئنان له إلا إذا اجتث الشر من جذوره ، ولهذا تبعهم إلى هناك وانتهز الفرسة قاخذ يعيد لمصر شيئا من مركزها الممتاز في غربى اسيا
ولكن رواية هيرودوت ليست بهذه البساطة فإنه يقول إن الأمراء كانوا يخشون أن يسعى واحد منهم لينصب نفسه ملكا عليهم وكان عددهم اثنى عشر فاخذوا المواثيق بينهم وبين بعضهم الا يتعدى واحد منهم على اخر وكانت هناك نبوءة بان سيصبح من بينهم ملكا هو الذى سيصب ماء قربانه في هيكل بتاح من اناء من البرونز ، ولهذا اتفق هؤلاء الأمراء على ألا يذهب أحد منهم إلى معبد بتاح لتقديم القرابين بمفرده ، بل كانوا يذهبون مجتمعين وحدث في يوم من الايام انهم كانوا في المبعد وارادوا ان يصبوا الماء على القرابين ووقفوا صفا، وجاء الكاهن الذهبية فاعطى كل واحد منهم كاسا فقط ، وكان بسمتك اخر الأمراء في الصف فأنفظ الموقف يسرعة بديهته فخلع خوذته البرونزية ومسكها في يده فصب له الكاهن الاكبر الماء دون ان يلتفت أحد إلى مغزى ذلك واتضح لهم فيما بعد ان النبوءة تحققت وصار من المحتم ان يصبح بسمتك ملكا ، ولكنهم لم يقتلوه لثقتهم من حسن نيته واكتفوا بنفيه إلى مستنقعات الدلتا في نفس المكان الذى اختبا فيه جده فرارا من بغنخى 0 وذهب بسمتك يوما من الأيام إلى معبد "بوتو" ليسأل الوحى عما يخبئه له القدر فجاء الوحى بأن الانتقام سيأتى من البحر عندما يصل رجال من البرونز ، ولم يمر إلا وقت قصير حتى نزل إلى شاطئ الدلتا على مقربة من المكان الذى كان يعيش فيه "بسمتك" قراصنة من اليونانيين والكاريين يلبسون دروعا وخوذات من البرونز فعرف فيهم الرجال الذين تحدثت عنهم النبوءة ، فأغراهم بالوعد والمال ، وحالفوه وكانوا عونه في التغلب على الأمراءالآخرين 0
هذه هى رواية هيرودوت ، ولكن الذى نعلمه من المصادر أن القائد المسمى "جيجس" كان صديقا لبسمتك وكان جيجس هذا قد اغتصب عرش مملكة ليديا فأرسل له جنودا مرتزقة من المدربين على القتال بكامل عدتهم لمعاونته 0 وبعد أن أصبح بسمتك سيدا لمصر كلها طرد الأشوريين ايضا بمعرفة هؤلاء الجند لأن جيجس وبسمتك كان كل منهم مهددا بالأشوريين ولهذا تحالفا على تحطيم جيوشهم في مصر وفى غرب اسيا0
وما أن تم الأمر لبسمتك ودانت له الدلتا كلها وتخلص من جنود أشور حتى بدأ يفكر في الصعيد وثروة امون في طيبة وبالرغم من ولاء منتومحات للبيت المالك في نبتا ووجود الأميرة "شب- إن – أوبت" الثانيةابنة بغنخى كزوجة إلهية لآمون وإلى جوارها الأميرة (أمون إردس) الثانية ابنة طهرقا كإبنتها بالتبنى فإن كهنة طيبة ومنتو محات لم يجدوا أمامهم مفرا من الإذعان لبسمتك وقبول سيادته ، وقبلت "شب –إن-أوبت " الثانية أن تعترف يتبنى ابنة بسمتك وكانت تسمى " نيت إقرت " ( نيتوكريس) لتكون بعدها زوجة إلهية لآمون ، وبذلك يضمن لنفسه هذه الثروة الضخمة ومن النص الذى يروى لنا احتفالات التبنى نعرف بيان الممتلكات التى الت إلى نبتو كريس ، وكانت كثيرة وفى أقاليم عدة في الجنوب والشمال 0 ولم يذهب بسمتك إلى طيبة ليحضر هذه الاحتفالات بل اناب عنه أحد امرائه المسمى (سماتاوى تاف نخب ) الذى كان حاكما لاقليم إهناسيا ، وفى هذا الاحتفال سميت نيتو كريس ( شب-إن –أوبت) وأصبحت ثالثة زوجة إلهية لآمون تحمل هذا الأسم0
ولم يطمئن بسمتك إلى ولاء كهنة طيبة وخاف من اتصالهم بنبتا ولهذا عين أحد الرجال المخلصين له وهو (نس ناو ياو ) في وظيفة حاكم الجنوب وكان مقره في إدفو ، وكان الغرض من هذا الإجراء بطبيعة الحال الذي من سلطة منتومحات لأنه كان من سلطات حاكم الجنوب الجديد أن يكون له الإشراف على الحامية التي كانت في ألفنتين لتعزيز حراسة الجنوب .
وقام بسمتك بإصلاحات عديدة وإنشاء جيشاً وأسطولاً كان قوامهما الجنود المرتزقة من الأجانب وعدد كبير من المصرين ، وقد قام بإصلاحات كثيرة في المعابد ، وقد طال حكم هذا الملك حتى زاد على الخمسين عاماً ولم يمت إلا بعد أن رأي الاستقرار قد شمل البلاد وبدأت تجارتها في الازدهار بفضل تشجيعه المستمر للتجار الإغريق الذين كثر توافدهم على مصر لاستيطانها .
وإذا كنا نحمد لبسمتك الأول جهاده لتحرير البلاد من الأشوريين ونحمد له همته وكفاءته في القبض على ناصية الأمور و فإننا لا نحمد له في استمراره في استقدام الجنود اليونانيين إلى مصر وتشجيعه بكل الوسائل للتجار اليونانيين ، إذ أن نتيجة ذلك كان أبعاد المصريين الوطنيين عن حياة الجندية الصحيحة واعتماد ملوكها على الأجانب لحفظ الأمن ، وفي ذلك دون شك إضعاف للروح القومية . كما أخذت الثروة تتكدس في أيدي التجار اليونانيين الذين انتشروا في طول البلاد وعرضها يحميهم نفوذ الحاميات من أبناء جلدتهم ، فلم يستطع التجار الوطنيون مجاراتهم في ذلك الوقت ، أما في الفنون فإننا نعرف أن التقاليد الفنية لم تندثر في أي وقت من الأوقات ويكفينا أن نزور مقبرة منتومحات في طيبة وأن نري تماثيله أو تماثيل غيره من ملوك أو كهن ة الأسرة الخامسة والعشرون لندرك أن المدرسة الفنية وبخاصة في طيبة لم يصبها الوهن ولم تعدم الابتكار والتجديد مع الوصول إلى المستوي الرفيع ، ولكننا نري في الوقت نفسه اتجاهاً جديداً في الفن والأدب وهو الرجوع لمحاكمته القديم وبخاصة ما كان من الدولة وأحياناً من الأسرة الثانية عشر . وما هذا التقليد أو المحاكاة إلا صدى للشعور الذي أخذ يحس به الكهنة والفنانون المصريون عندما رأوا اليونانيين يقيمون بين ظهرانيهم فخشوا على تراثهم القديم من الضياع إذا هم تركوا للداعين إلى التجديد ثغرة ينفذون منها . ولهذا جاءت هذه المبالغة والتي نحسها في العودة في ذاتها دليل على ان الحيوية الكامنة قد بدأت في الذبول ، إذ أنه ما من شعب في الأرض ينظر دائماً إلى الوراء ويحاول تقليد آبائه وأجداده ويعيش في جو كالذي عاشوا فيه رغم مرور الأجيال ، إلا وكان ذلك إيذانا بتدهوره لأنه مخالف لسنة الحياة .
الفرعون | تواريخ |
---|---|
تف ناخت الثاني | 380 - 362 ق.م. |
نكاو با | 678 - 672 ق.م. |
نخاو الأول | 672 - 664 ق.م. |
بسماتيك الأول | 664 - 610 ق.م. |
نخاو الثاني | 610 - 595 ق.م. |
بسماتيك الثاني | 595 - 589 ق.م. |
وح إب رع | 589 - 570 ق.م. |
أحمس الثاني | 570 - 526 ق.م. |
بسماتيك الثالث | 526 - 525 ق.م. |
احتفظت مصر أثناء حك م بسمتيك الأول الذي زاد على الخمسين عاماً باستقلالها واستتبت أمورها ، ولكن الأمور في غرب آسيا كانت قد وصلت إلى درجة الغليان فإن النزاع بين مملكتي بابل بعد جهاد طويل من تخليص نفسها من سيادة أشور . أما مملكة الميديين في إيران فإنها كانت بدورها قد أخذت تظهر على مسرح السياسية في العالم القديم . وأخذوا يكيدون بدورهم لمملكة أشور فتحالفوا مع بابل ودمر الحليفان عاصمة الأشوريين " نينوى " وقضوا على مملكتهم ، ثم اقتسم الحليفان الجديدان الميراث بينهما فكان للميديين جزء كبير من وادي دجلة في شرقه وغربه و أما بابل فقد ألت إليها سورية .
وأراد " نكاو " أن يستفيد من الظروف وأن يجعل لمصر صوتاً مسموعاً في سياسة هذا الجزء من العالم فقرر معاونة أشور التي أخذت تحاول الثأر لنفسها ، حيث جهز جيشاً وتقدم به نحو العراق ولكن " يوشيا " ملك يهوذا والذى كان حليفاً لبابل تصدى لجيش مصر و وجهز بمعونة بابل جيشاً وتقابل الجيشان المصري واليهودي عند مجدو فكان النصر حليف المصريين وقتل " يوشيا " وخلفه ابنه ، ولكن لم تمض ثلاثة أشهر أخرى حتي تمكن جنود " نكاو " من أسره وبعثوا به إلى مصر . وقد عين نكاو في مكتنه اخاً أخر له وكان اسمه " اليقيم " و وغير أسمه إلى " يهويقيم " والذي قبل الخضوع لمصر كما قبل دفع تعويض كبير لها . وتقديم الجزية . وأتم نكاو إخضاع باقي المدن السورية إلى أن وصل إلى الفرات ولكن " نبوخذنصر " ملك بابل كان قد جمع جيشاً واعترض المصريين فدارت بين الجيشين معركة كبيرة في قرقميش وكان ذلك حسب رواية التوراة في العام الرابع من حكم " يهويقيم " ( ملوك الثاني 23 ،24 و أرميا 46 ) فدارت الدائرة على جيش نكاو وعاد مهزوماً إلى الدلتا .
ولسنا نعرف على وجه التحقيق شعور نكاو بعد هذه الهزيمة فهل صرف نظره عن محاولاته في التدخل في شئون فلسطين وسورية والتفت لتشجيع التجارة فأنشأ أسطوله الكبير و أم أنه أراد أن ينشئ أسطولاً قوياً ليكون دعامة في هجومة على سورية كما فعل الفراعنة الأسرة الثامنة عشر والتاسعة عشر من قبل .
و أنشاء نكاو أسطولاً في البحر الأبيض المتوسط و كما نعرف أيضاً من راوية لهيرودوت أنه أنشأ أسطولاً صغيراً في البحر الأحمر و وأراد أن يكتشف ساحل أفريقا و فأرسل بعض السفن وفيها ملايين ملاحون فينيفيون حيث قضوا ثلاث سنوات في رحلتهم حول الشاطئ الإفريقي حتى عادوا من بوغاز جبل طارق إلى مصر محملين بجميع خيرات إفريقيا مما حصلوا عليه في المواني التي مروا بها . وكان مما ذكره هؤلاء الملاحون أنهم ساروا دائماً وكانت الشمس تشرق عن يسارهم ولكنهم وصلوا إلى نقطة فإذا بهم يرون أن الشمس تحولت وأخذت تشرق عن يمينهم . ورفض هيرودوت تصديق ذلك بينما أن هذه النقطة بالذات تدل على صدق أنباء الرحلة لأن ذلك من الطبيعي أن يحدث عندما تدور السفينة حول رأس الرجاء الصالح .
وكان من أهم الأعمال الإنشائية والتي فكر فيها " نكاو " هي أن يحي من جديد مشروع توصيل البحرين الأبيض و الأحمر ، وذلك بعمل قناة تبدأ من مكان على مقربة من الزقازيق حتي تصل إلى البحيرات في نقطة قريبة من مكان مدينة الإسماعيلية الحالية وهى قناة قديمة أنشئت في أيام الدولة الحديثة على الأرجح ولكنها كانت تهمل من آن إلأى أخر حتي عفت آثارها . فاراد نكاو أن يعيد هذا المشروع لتتمكن السفن التي في البحر الأبيض من الملاحة في النيل حتي منف حتي تأخذ طريقها في الفرع البوبسطي ومنها تخرج ومنها تخرج إلى هذه الترعة فتصل إلى مياة البحر الأحمر . ويقص هيرودوت أن " نكاو" تحمس لمشروعه ونفذ الجزء الأكبر منه حيث هلك فيه مائة وعشرون ألفاً من المصريين ، ولكن نكاو أمر فجأة بترك العمل لأن نبؤة " بوتو " جاءت بأن الآلهة تأمره بترك العمل لأن هذه القناة ليست في صالح مصر ، انه لن يستفيد منها إلا الأجانب . وهذا المشروع هو بعينه الذي أتمه الملك دارا الفارسي وذلك لمصلحة بلاده ، وهو أيضاً مشروع قناة السويس والذى سبب أكبر النكبات لمصر في تاريخها الحديث قبل أن تؤمم وتعود أمورها إلى أيدي أبناء البلاد .
وهكذا أصبح أحمس ( أماريس ) ملكاً على مصر وحده ، حيث يبدأ حكمه في عام 568 ق .م وينتهي في 525 ق.م ، وكان أول صعوبه صادفته هي تهدئة ثورة المصريين ضد اليونانيين ، فقد كان يدرك تمام الإدراك أنه لا يمكن أن يطمئن على سلامة البلاد إلا بوجود الجنود اليونانيين لأن الحالة في غربي آسيا كانت قد وصلت إلى أبعد حد من السوء ضد مصر ، كما أن قوة اليونانيين بوجه عام ازدادت في البحر الأبيض المتوسط ولم يكن من حسن السياسة إضعاف الجيش وجلب عداوة جميع الدويلات اليونانية وشل اقتصاديات مصر إذا تعرض للتجار الأجانب وطردهم من البلاد .
وأستطاع أحمس أن يخرج بلباقة من كل هذه المآزق فأرضى شعور الوطنيين من رجال الجيش باستدعاء اليونانيين من الحاميات التي على الحدود وأرسل المصريين ليحلوا محلهم ، ولكنه لم يسرح اليونانيين بل تركهم يعيشون في منف ، وأرضى شعور التجار المصريين الذين كانوا يغيرون من ثراء اليونانيين ومنافستهم بجمعه التجار اليونانيين في مكان واحد في مدينة " نوكراتيس " في غرب الدلتا ، وأرضى اليونانيين بأن سمح لهم أن يحولوها إلى مدينة يونانية بالمعنى الكامل ، وأن يقيموا فيها معابدهم وأسواقهم ، وسرعان ما أزدهرت هذه المدينة وأصبحت مركزاً رئيسياً للتجارة بين مصر وبلاد اليونان وغيرها .
وكان أحمس رجلاً لبقاً يحسن مقابلة الناس ، وكان ينصرف عمله أثناء النهار فإذا ما أنتهى من ذلك ترك لنفسه العنان بين أصدقائه المختارين في مجالس الشراب . وقد أطال هيرودوت في وصف هذه الناحية من أخلاقه و فهو سياسي داهية ولكنه عربيد لطيف جميل المعاشرة ، وبخاصة مع أصدقائه من كبار القواد أو التجار اليونانيين الذين كانوا يأتون إلى مصر .
وعرف أحمس أن الخطر كان كامناً عن يمينه وعن يساره فأما عن خطر الغرب فقد حصن أحمس حدوده وأنشأ حاميات كثيرة على الشاطئ وفي الواحات ، وشجع إقامة الناس فيها ، وبني المعابد في سيوة وفي البحيرة وفي الخارجة ليجعل من الواحات الحصون الأمامية إذا جد خطر وحدثت مهاجمة لمصر من يونانيي لييبا . أما في الشرق فكان الأمر مختلفاً إذ كانت الدولة البابلية تمد ببصرها نحو مصر نفسها ، وأضطر أحمس لأن يخوض معركة في أوائل سنين حكمه في فلسطين وهزم العدو جنوده الأغريق ، ولكن جيوش بابل لم تستمر في هجومها على مصر . ومع ذلك فقد ظل الخطر كامناً واستعد أحمس له باحتلال أسطوله لجزيرة قبرص ، كما عقد محالفة مع " كرويسوس " ملك ليديا ، وأنهى نزاعه مع قورينة فصالحهم وتوزج أميرة منها .
ونجحت سياسة أحمس كل النجاح ، وقضت مصر عهداً مزدهراً في كل ناحية و وأثرت البلاد إثراءاً كبيراً من التجارة و وأستقرت فيها الأمور ، ولكم في العام الأخير من حياته أخذت السحب تتجمع ، وكانت العاصفة على وشك الأنقضاض على مصر ، ولكنه مات قبل أن تتعرض مصر لهذا الخطر فكان نصيب خليفته " بسمتك الثالث " التعرض لهذه الكارثة .
قضي الملك أحمس الثاني ثالثة وأربعون سنة على عرش مصر وكان الخطر في أوائل أيام حكمه أتياً من ناحية مملكة بابل ، ولكن قبل أن يموت أحمس بثلاثين عاماً كانت الأمور في غرب أسياً قد بدأت تأخذ طريق أخر وذلك راجع إلى ظهور ملك جديد هناك للميديين في إيران أسمه " قورش " وقد أستطاع في عام 555 ق.م أن يصبح الحاكم المطلق للميديين في بلاد الفرس ثم أنقض كالصاعقة ليزيل كل من أعترض طريقه فأستولي على ليديا أسر ( كرويسوس ) كما أستولي على مدينة بابل في عام 539 ق.م ، وأصبح سيد غرب أسيا دون منازع وكنه ظل حيث كان ولم يعر أي اهتمام نحو مصر إلى أن مات حوالي عام 530 ق.م ( أي قبل موت أحمس بحوالي خمس سنوات ) .
وقد أخذ خليفته وابنه ( قمبيز ) يعد العدة لإتمام ما بدأه أبوه فأخضع باقي ديلات أسيا الصغرى والجزر اليونانية ، وقد كون جيشاً كبيراً في أسيا لمهاجمة مصر ، حيث كان أحد القواد اليونانيين من جيش احمس والذي يدعى "فانيس" الذي فر إلى قمبيز حيث أخذ يغريه بمهاجمة مصر ورسم له الخطط ويدله على مواطن الضعف في أستحكامات البلاد ، ولم تطل حياة أحمس ليري هذا الهوان إذ مات في العام الذي قرر فيه قمبيز مهاجمة مصر حيث تولي بعده الحكم خليفته وأبنه الملك ( بسمتك الثالث ) .
فسار الجيش تحت قيادة الخائن اليوناني فكانت أول معركة تقابل فيها الجيشان عند بلوزيوم ( تل الفرما ) وبالرغم من أستبسال المصريين ومأجوري اليونانيين وحسن دفاعهم تغلبت عليهم جيوش الفرس فأرتدوا إلى منف وتحصنوا فيها فتبعتهم جيوش الفرس إلى هناك فأضطر المصريون إلى التسليم .
و كان قمبيز مع جيشه في مصر فأكرم بسمتك الثالث وأحسن معاملته وأطلق صراحه ، ولكن بسمتك حاول مرة أخري أن يثير الشعور ضد قمبيز فقبض عليه قمبيز وعذبه أشد أنواع العذاب فأنتحر ، وبعد ذلك سار قمبيز وأستولي على طيبة وبعد أن أستتب له الأمر فأعد جيشين الأول حيث أرسله إلى الوحات لكي يحطم معبد أمون في وحات سيوة ، أما الأخر فقد قاده بنفسه ليستولي على بلاد كوش ( أثيوبيا ) .
وهكذا انتهت أيام الأسرتين الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون وصارت مصر في عام 525 ق.م بجيش أجنبي وهو جيش الفرس ، كما رأت أن هذا العدو الجديد أخذ يمد ببصره نحو الجنوب ليقضى على مملكة نبتا ويضم السودان إلى إمبراطوريته الواسعة .