الرئيسيةبحث

نهج السلامة إلى مباحث الإمامة/المقصد/الباب الأول في مباحث الإمامة



الباب الأول في مباحث الإمامة


اعلم أن الإمامة لغة التقدم، وتنقسم إلى إمامة وحي كالنبوة، وإمامة وراثة كالعلم، وإمامة عبادة كالصلاة، وإمامة مصلحة خاصة كتدبير المنزل، وإمامة مصلحة عامة وهي الخلافة العظمى كمصلحة جميع الأمة، وحيث أطلقت في لسان أهل الشرع انصرفت لهذا القسم الأخير، وهي باعتبار ذلك رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا نيابة عنه عليه الصلاة والسلام.

واختلف في أن مباحثها هل هي من الفقه، أو من الكلام؟ فذهبت الشيعة والخوارج إلى الثاني، حتى عرّف بعضهم الكلام: بأنه العلم الباحث عن الصانع عز وجل والنبوة والإمامة والمعاد وما يتصل بذلك على قانون الإسلام، لما أنهم يقولون ان نصب الإمام إنما يجب عليه تعالى.

وذهب أهل السنة والجماعة إلى الأول، لما انهم يقولون أن النصب إنما يجب على العباد، أي عند عدم النص من الله تعالى ورسوله ﷺ على التولية لمعين، وعند عدم العهد والوصية من السابق لغيره المعين، وإنما ذكروها في الكلام مع أنها ليست من مباحثه عندهم لما تعلق بالإمامة من التعصبات وفاسد الاعتقادات، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثاني بيان ما هو الحق من القولين.

فإن قلت لو وجب النصب على العباد لزم إطباق الأمة في أكثر الأعصار على ترك الواجب؛ لانتفاء المتصف بما يجب من الصفات، لكن اللازم منتفٍ، لأن ترك الواجب ضلالة، والأمة كما صح لا تجتمع عليها.

قلت أجاب السعد: « بأنه إنما يلزم ذلك لو تركوا ما كلفوا به عن قدرة واختيار، وهم عند الانتفاء المذكور إنما تركوه عن عجز واضطرار، وكأنه لهذه الشبهة ونحوها ذهب النجدات من الخوارج إلى عدم الوجوب أصلا »، فتدبر.


فصل [ في نصب الإمام ]

القائلون بوجوب نصب الإمام على العباد اختلفوا، فقال أهل السنة وجمهور المعتزلة ان وجوبه بالشرع لوجوه، أحدها: إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تسارعوا إلى نصب الإمام حتى قدّموه على تجهيزه ودفنه عليه الصلاة والسلام، وتبعهم عليه سائر الأمة في كل زمان، عقيب موت السلطان، ثانيها: أن الشارع أمر بإقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش، وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام، وحماية بيضة الإسلام مما لا يتم إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدورا للمكلف فهو واجب، كما قرر في محله.

ثالثها إن نصب الإمام دفع ضرر عام مظنون، وكل ضرر عام مظنون يجب على العباد دفعه إن قدروا عليه إجماعا، ولا يخفى ان بعض هذه الأوجه لا يثبت أكثر من الوجوب، فتأمل.

وقال الجاحظ والخياط والكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة ان وجوب نصب الإمام على العباد بحكم العقل، مجتمعين بأن أصل دفع المضرة الثابتة واجب بحكم العقل قطعا، فكذلك المضرة المظنونة، وأنت تعلم أن الوجوب الذي قضى به العقل في دفع المضرة إنما هو كونه من مقتضيات العقول والعادات وملائماتها، والنزاع في الوجوب العقلي بمعنى استحقاق التارك الذم في العاجل، والعقاب في الآجل وهو ههنا ممنوع، بل قد قضت كتب الأصول الوطر من إقامة الأدلة على نفيه.

فصل [ في وجوب الإمامة ]

اختلف القائلون بالوجوب أيضا في أن ذلك هل هو على الإطلاق أم لا؟ فقال أهل السنة وأكثر المعتزلة بأنه على الإطلاق أي في زمن الفتنة وغيره، وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة: إنه يجب في زمن الفتنة، ولا يجب عند ظهور العدل والإنصاف لعدم الاحتياج إلى الإمام حينئذ.

وقال هشام الفوطي منهم أيضا: أنه إنما يجب عند ظهور العدل لإظهار الشرائع ولا يجب عند ظهور الظلم، لأن الظلمة ربما يطيعون الإمام فيما لا يرضي الملك العلاّم، فيصير ذلك لزيادة الفتن ووفور المحن، وفي كل من القولين ما فيه، على أن حديث من: « مات ولم يعرف إمام زمانه، فقد مات ميتة جاهلية »، ظاهر في أن الإمام لا يختص بوقت دون وقت، فليفهم.

فصل [ عدد من تنعقد ببيعتهم الإمامة ]

اختلفوا أيضا في اشتراط العدد في المبايعين الناصبين الإمام، فذهب الإمام الأشعري إلى أنه لا يشترط عدد، بل تنعقد الإمامة بمبايعة واحد من أهل الحل والعقد كما يدل عليه ما وقع يوم السقيفة، فان بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه انعقدت ولزمت ببيعة عمر رضي الله تعالى عنه إياه، ويكفي بيعة الواحد في خروج الأمة عن عهدة وجوب النصب.

وحكى أبو المعالي الإجماع على ذلك، فقال: « من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت إمامته، [ إذ لا ] يجوز خلعه من غير حدث وتغيير أمر، وهذا مجمع عليه »، انتهى.

والحق مع ناقل الخلاف، فقد ذهب أكثر المعتزلة إلى اشتراط خمسة ممن يصلح للإمامة، أخذا مما صنع الفاروق رضي الله تعالى عنه في قصة الشورى، ويشبه أن يكون ذلك واقعة حال، واختلفوا أيضا في اشتراط العلانية، فقضية كلام بعضهم عدم اشتراطها، واستصوب اشتراطها إظهارا للإشهاد على بيعة الواحد لئلا يدعي أحد انه عقد له الإمامة سرا، فيثير ذلك شرا وعليه فيكفي في ذلك شاهدان، خلافا للجبائي حيث قال: لا بد من أربعة شهود وعاقد ومعقود له، وهذا في الإمامة العظمى، وإلا فمذهب كثير من الفقهاء إلى ثبوت الولايات والعزل بالسماع الفاشي.

وعلى عدم اشتراط العلانية لو أدعى كل واحد من جماعة ان البيعة عقدت له وجب الفحص عن الأسبق فيقدم، ويكون غيره باغيا يستفاء، فإذا لم يفئ قوتل حتى يفيء، فإن لم يعلم الأسبق قيل يجب إبطال الجميع واستئناف العقد لمن وقع عليه الاختيار، وقيل يقدم من فيه شرائط الإمامة أتم، فإن استووا وجب إبطال الجميع والاستئناف، وقال بعض الأجلّة القياس يقتضي الاقتراع والله تعالى أعلم.

ثم انه ينبغي على قول بكفاية الواحد في انعقاد الإمامة أن يكون ذلك الواحد موثقا بعقله ودينه وإلا فكيف ينعقد مثل هذا الأمر العظيم بيد منحّل عرى العقل والدين، وتسري بيعته على جميع الإسلام والمسلمين، وربما يقال ان بيعة الواحد كافية في صحة إمامة المبايع دون لزومها، وان لزومها يحتاج إلى بيعة معظم أهل الحل والعقد ورضاهم ينوب مناب بيعتهم، لكني لم أعلم أن أحدا ذهب إلى ذلك فتأمله والله تعالى الهادي.

فصل [ البيعة لإمامين ]

لا يجوز إقامة إمامين في عصر واحد إجماعا ممن يعتد به لما روى مسلم من حديث: « من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر »، وفي حديث عرفجة: « فاضربوه بالسيف كائنا من كان »، وجاء: « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا أحدهما »، وفسر القتل بالخذلان والخلع، ولعل هذا الحديث فيما إذا كانت المبايعة للاثنين بلفظ واحد فتدبر.

وكأن الحكمة في المنع من ذلك خوف فتح باب المخالفة والشقاق، فأن العادة قاضية في مثل ذلك بالتمانع وعدم الاتفاق، وقال الإمام أبو المعالي: « الذي عندي في هذه المسألة أن عند الإمامة لشخصين في صقيعٍ واحد غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، فأما إذا بَعُد المدى وتخلل بين الإمامين وشسوع النوى، فلاحتمال الجواز مجال لضعف احتمال النزاع والجدال ».

وكان الأستاذ أبو إسحاق: يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية البعد كالأندلس وخراسان، لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم ومذهب الكرامية التجويز من غير تفصيل، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد، وذهبوا إلى إن عليا كرم الله تعالى وجهه ومعاوية رضي الله تعالى عنه كانا إمامين غافلين عن قوله عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية، أو مؤولين له بأحد التأويلين والذي يضحك منهما ابن يومين.

قالوا وإذا كان اثنان في بلدين أو ناحيتين، كان كل منهما أقوم وأضبط فيما يراد من الإمامة، وانه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة، كانت الإمامة أولى ولا يؤدي ذلك إلى إبطالها، وما ذكروه على ما فيه، يرده الأحاديث المانعة عن ذلك مع الإجماع على مقتضاها المنعقد قبل ظهور المخالف.

ويا للعجب من زعمهم إمامة معاوية رضي الله تعالى عنه في عهد الأمير كرم الله تعالى وجهه، مع أنه نفسه لم يدعّها بلسانه، وإنما أدّعى ولاية الشام بتولية من قبل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، وإن من ولاه خليفة على بلد لا ينفذ عزل خليفة بعده له من غير جنحة، وأنه لا جنحة له إلى أشياء أخر لا يقوم له بها حجة على باب مدينة العلم الذي يدور معه الحق حيثما دار، ولا تنفي عنه البغي على ذلك الأمير كرم الله تعالى وجهه.

وأعجب من زعمهم هذا زعمهم معه إنه إذا كان اثنان في بلدين أو ناحيتين، كان كل منهما أقوم وأضبط فيما يراد من الإمامة، فإن دون صحة قولهم هذا حرب صفين، حيث أنه في تلك الأيام ترك الجهاد وتعطل أمر كثير من العباد، وشغل من زعموه خليفة الخليفة الحق عن فصد أخادع الكفرة بأسنته، وقصد رمي قلاع كفرهم بمناجيق سطوته، وذلك من أهم ما يراد بالإمامة، يطلب بالإمارة والزعامة، نعم ذكر بعض الحنابلة: إن قتال البغاة أفضل من الجهاد، احتجاجا بفعل الأمير كرم الله تعالى وجهه، وشفعه فينا يوم المعاد، فتأمل.

فصل [ شروط الإمامة ]

ذكر كثير من الفقهاء والمحدثين والمفسرين من أهل السنة للإمامة شروطا كثيرة، الأول أن يكون من تعقد له مسلما وهذا مما لم يختلف فيه اثنان ولم ينتطح فيه عنزان.

الثاني: أن يكون من قريش لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: « الأئمة من قريش »، وقد رد به الصديق رضي الله تعالى عنه على الأنصار القائلين للمهاجرين: « منا أمير ومنكم أمير »، فلم يبضوا ببنت شفة.

وقوله ﷺ: « قدموا قريشا ولا تقدموها »، وقوله عليه الصلاة والسلام: « الناس تبع لقريش »، إلى غير ذلك ومواليهم في الإمامة ليسوا منهم على الصحيح.

والمراد بقريش أولاد النضر بن كنانة أو أولاد فهر للخلاف في جماع قريش، والأولى أن يكون فاطميا إن وجد متوفر الشروط الأخر، وإلا فعلوي غير فاطمي كذلك، وإلا فعباسي كذلك وإلا فمن سائر قريش كذلك، وإلا فصالح من سائر المؤمنين، وفي ( شرح المقاصد ): « إن لم يوجد من قريش من يستجمع الصفات المعتبرة فكناني، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل u يعني العرب، وإلا فرجل من غيرهم ».

وشذ من قال من أهل السنة بعد اشتراط القرشية في الإمامة، الثالث أن يكون مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث الشرعية.

الرابع: أن يكون ذا خبرة ورأي خصيف بأمر الحروب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة والانتقام من الظالم والأخذ منه للمظلوم، الخامس أن يكون قوي القلب على إقامة الحدود لا تأخذه بحدود رأفة في دين الله تعالى.

السادس: أن يكون حرا خالصا وحديث: « اسمع وأطع وإن كان عبدا مجدع الأطراف »، محمول على من قهر الناس بشوكة، أو على نائب فوض له الإمام أمرا من الأمور، أو ندبه لاستيفاء بعض الحقوق.

السابع: أن يكون ذكرا لا امرأة ولا خنثى مشكلا لاحتمال أنه أنثى.

الثامن: أن يكون سليم الأعضاء ناطقا سميعا بصيرا، والبدانة تحسن في الإمام كما يشير إليه قوله تعالى: { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ }، التاسع أن يكون بالغا.

العاشر: أن يكون عاقلا، الحادي عشر أن يكون شجاعا، الثاني عشر: أن يكون عدلا اعتقادا وفعلا. انتهى.

ولا يخفى أن في بعض الشروط إغناء عن بعض، وبعض أهل السنة لم يشترط الاجتهاد ولا الشجاعة وقوة الرأي، فإن الغرض يحصل بالاستعانة من المعين بأن يفوض أمر الحروب، ومباشرة الخطوب إلى الشجعان، ويستفتى المجتهدين أو العلماء المتقنين في أمور الدين، ويستشير ذوي الآراء الصائبة في أمور الملك، نعم ان وجد ذلك فهو خير، وبهذا القول أقول.

ثم ان هذه الشروط والأوصاف إنما يحافظ عليها عند القدرة والإنصاف، وإلا تعطلت الأحكام الدينية المنوطة بالإمام، لعزّة وجود ذلك بل فقده في أكثر الأيام، فلا كلام عند العجز عن نصب من اتصف بما سمعت، أما لفقده أو لوجود المانع من نصبه في جواز تقليد القضاة وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام، من كل ذي شوكة قادر على ذلك والضرورات تبيح المحظورات:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبٌ ** فما حيطة المضطر إلا ركوبها

وقد سئل سهل بن عبد الله التستري: « ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا، وليس له أهلية الإمامة، فقال تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك به من حقه وتنكر أفعاله، ولا تنفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لا تفشه ».

ويفهم من كلام بعض الأجلّة انه إذا لم يوجد إمام على الوجه المشروع بحيث يستجمع الشرائط، وبايعت طائفة من أهل الحل والعقد قرشيا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشركة بها يتصرف في مصالح العباد، من غير عزل ونصب لمن أراد، يكون ذلك إتيانا بالواجب.

ويجب على ذي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والأنصاف، أن يفوضوا الأمر إليه بالكلية ويكونوا لديه بمنزلة الرعية، ويشدوا أزره، وينفذوا نهيه وأمره، ففي الحديث: « قدموا قريشا »، و: « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم »، انتهى.

والظاهر أنه إذا تعذر نصب قريش مطلقا مع وجوده فنصب غيره، لزم أيضا طاعته بالمعروف، فتأمل والله تعالى أعلم.

واعلم أن المستوفى للشرائط لا يكون إماما بمجرد الاستيفاء والصلاحية، بل لا بد من النصب من أهل الحل والعقد أو نص السابق عليه وتعيينه إياه، بناء على ما هو الحق من أن نص السابق، كنصب أهل الحل والعقد، وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بهذه الشروط من الخلاف وبيان ما هو الحق من الأقوال، وعلى الله تعالى الاعتماد في كل حال.

فصل [ طاعة الإمام ]

نقل المازري عن ابن عرفة ما حاصله من ثبتت إمامته، وجبت طاعته فيما ليس بمعصية، لقوله عليه الصلاة والسلام: « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »، فإن تغيرت حالته بكفر واضح خلع، وببدعة كالاعتزال فان دعا إليها كالمأمون الداعي إلى القول بخلق القران، لم يطع فإن قاتل قوتل، وإن لم يدع إليها، فإن كانت مكفرّة يخلع، وإن كانت مفسقة ففي خلعه إن أمكن بلا إراقة دم أو هتك حرم مذهبان أرجحهما الخلع، وإن تغيرت بفسق كالزنا وشرب الخمر، فإن قدر على خلعه بدون ما سمعت، ففي وجوب الخلع قولان، وكثير من أهل السنة على عدم الوجوب، وهو مقتضى قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بعدم الخروج من ولاية يزيد الطريد في جيش الحرّة حسبما ذكره مسلم في صحيحه.

ومنهم من ذهب إلى الوجوب، وهو مقتضى قول عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما في قصة الحرة المشار إليها على ما ذكره المؤرخون، انتهى.

والتمثيل مبني على القول بانعقاد بيعة يزيد، وهو القول المشهور، وفي ( شرح المقاصد ): « ينحل عقد الإمامة بما يزول به مقصود الإمامة كالردة، والعياذ بالله تعالى، والجنون المطبق، وصيرورة الإمام أسيرا لا يرجى خلاصه، وكذا بالمرض الذي ينسيه المعلوم، وبالعمى والصمم والخرس، وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن مصالح المسلمين، وإن لم يكن ظاهرا بل استشعره من نفسه، وعليه يحمل خلع الحسن رضي الله تعالى عنه نفسه، وأما خلعه نفسه بلا سبب ففيه كلام، وكذا في انعزاله بالفسق، والأكثرون على انه لا ينعزل، وهو المختار من مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما، وعن محمد روايتان وإسحاق العزل بالاتفاق »، انتهى.

وفي ( الإكمال ): « جمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه والكلام إنه لا يخلع السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه »، وزاد أبو حامد في ( إحيائه ): وتضييق صدره. انتهى.

ويعارض قوله: جمهور... الخ قول القرطبي إذا نصّب الإمام غدرا ثم فسق بعد انبرام العقد، فقال: « الجمهور انه تنفسخ إمامته وينخلع بالفسق الظاهر المعلوم لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بتلك الأمور والنهوض فيها، فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدّى إلى إبطال ما أقيم له، وقال آخرون لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو ترك الدعاء إليها، أو ترك شيء من أركان الشريعة لعدة أحاديث تدل على ذلك وما نقل عن شرح المقاصد في أمر خلع الإمام نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة.

فأما إذا لم يجد ذلك فهل له أن يعزل نفسه ويقلدها غيره؟ اختلف فيه الناس فمنهم من قال ليس له ان يفعل ذلك وان فعل لم ينخلع عن إمامته، ومنهم من قال له أن يفعل ذلك، واستدل بقول الصديق رضي الله تعالى عنه: « اقيلوني اقيلوني، وقول الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا نقيلك [ أبدا ] دون ليس لك ذلك »، وبأنه ناظر للغير فحكمه حكم الوكيل بل هو معنىً وكيل الأمة » انتهى باختصار، وظاهره اختيار القول الأخير.

وذكر اللقاني المالكي: أن المذهب إنه ليس له خلع نفسه لغير عذر وبه أقول، ثم إنه ينبغي أن يعلم أنه على القول بعدم جواز الخلع بالفسق لو خلع لم تنعقد إمامة غيره كما نص على ذلك في ( شرح المقاصد )، وإنه إذا خرج على الإمام الفاسق خارج مظهر العدل لا ينبغي للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارج حتى يتبين أمره فيما يظهره من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول، وذلك لأن كل من طلب هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح، حتى تمكن رجع إلى عادته التي كان عليها من قبل، ولله تعالى در القائل:

فلا تحكم بأول ما تراه ** فأول طالع فجر كذوب

وإذا أمر الإمام بأمر من الأمور فإن جائزا وجبت طاعته فيه، وإن [ كان ] قد زجر الشارع عنه زجر تحريم حرمت طاعته فيه، وإن زجر عنه زجر تنزيه فإن متفقا عليه، فاستظهر القرطبي جواز المخالفة تمسكا بحديث: « إنما الطاعة في المعروف »، وهذا ليس بمعروف إلا أن يخاف على نفسه منه، فله أن يمتثل وإن مختلفا فيه، فالعبرة بمذهب الإمام قياسا على الحكم، قاله اللقاني.

وقال أيضا لو أجبر الإمام أحدا على ما لا يحل مما أجمع على حرمته أو كراهة، ففعله لا يوصف بشيء من الأحكام الخمسة، ومتى كانت مفسدة ما أكره عليه دون مفسدة القيام والخروج امتنع الخروج.

ومذهب طائفة من المعتزلة جواز منازعة الجائر، والكثير على أن الصبر على الطاعة أولى من المنازعة والخلاف، فشجرة الخلاف لا تثمر، وربما تفضي المنازعة إلى ما هو أدهى وأمر، نعم يجب نهي الجائر ونصحه وإرشاده إلى الحسن بلطف على من تمكن من ذلك عند ظن أو توهم افادته لكن أين الناصحون، وقد ملأ العالم المنافقون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم اعلم إنه لا يجوز الدعاء على الأمراء، وكذا العمال جهرا لما يجلب من الفتن ويجوز سرا لكن الأولى الدعاء لهم بالصلاح، والتوفيق للفلاح، وعن الإمام الشافعي: « لو أعْلِمتُ أن لي دعوة مستجابة لجعلتها في ولي الأمر »، لما أن في صلاحه نفع العامة، نسأل الله تعالى أن يوفق الأمراء للعمل بأحكام الشريعة الغراء، فقد كادت تطوى على عزها، ولا يسأل أحد عن نهيها وأمرها، ولا أرى الأمر إلا يتدرج بالنقصان، حتى يأتي صاحب الزمان، وأظن ذلك قريبا يكون على رغم أنف ابن خلدون، والله تعالى أعلم.

فصل [ الخلافة والإمامة ]

قد تسمى الإمامة بالخلافة لأنها خلافة عن رسول الله ﷺ، فيما كان عليه من السعي فيما فيه صلاح الأمة، وحماية البيضة، فيقال للإمام خليفة من غير إضافة، وخليفة رسول الله ﷺ، حتى إذا توفى وقام مقامه الفاروق رضي الله تعالى عنه، قيل إنه خليفة خليفة رسول الله بتكرار لفظة خليفة، فرأى رضي الله تعالى عنه طول ذلك، فقال: « أيها الناس أنتم المؤمنون وأنا أميركم » فكان يدعى بعد ذلك أمير المؤمنين.

ولا شبهة عندنا في صحة إطلاق خليفة رسول الله ﷺ، كما أطلق على الصديق رضي الله تعالى عنه، ولا يضر في ذلك وقوع الواسطة، ومثله في ذلك سائر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وكذا غيرهم من ملوك بني أمية وبني العباس، وإن كانت خلافتهم غير كاملة، بل خلافة بعضهم بنت أخت خالة الباطلة.

ففي الحديث: « الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا »، وقد تمت الثلاثون بخلافة الحسن رضي الله تعالى عنه ستة أشهر، فعلى هذا معاوية رضي الله تعالى عنه أول الملوك، وقد يقول ذلك عن [ نفسه ] كما في الإصابة، وفي بعض الروايات: « ثم تكون ملكا عضوضا » ولما كان، ثم الظاهر في التراخي الزماني عن مضي الثلاثين يكون مظهر الملك العضوض يزيد الطريد، ومن حذا حذوه من الأمويين عليهم ما يستحقون.

وأنا أتحرج من إطلاق خليفة رسول الله ﷺ على نحو مروان بن الحكم، الذي هو على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: « فضضٌ من لعنة الله تعالى »، وعلى نحو يزيد من باب أولى، بل أتحرج أيضا من إطلاق ذلك على كل ملك فاسق جائر.

وفي جواز إطلاق خليفة الله تعالى على الإمام مطلقا كلام، فمن الناس من قال به ومنهم من منعه، وحيث أن الإضافة لتعظيم المضاف كما في بيت الله وناقة الله، لا يحسن من غير خوف فتنة إطلاقه على فاسق إذ هو غير حري بالتعظيم، والأسلم أن يطلق على الخلفاء الراشدين ملوك وسلاطين بل لا بأس في تسمية الرئاسة العامة ممن كانت غير نبينا عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين ملكا.

وقال اللقاني الذي اختاره الأئمة كراهة إطلاق الملك على استحقاقه ﷺ التصرف العام في الأمة، وكذلك على استحقاق ذلك الخلفاء بعده، ولا يكره إطلاق الملك على استحقاق غيره عليه الصلاة والسلام التصرف العام من الأنبياء عليهم السلام، لقوله تعالى في داود عليه السلام: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ [، وقال سليمان عليه السلام: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي }، انتهى.

وتمام البحث في شرحه الكبير لجوهرة التوحيد، وفي النفس من سلامة إطلاق الملك على استحقاق نبي من الأنبياء عليهم السلام التصرف العام اليوم من كدر شيء، فتأمل.

ثم اعلم أن السلطنة في ملوك بني العباس كانت تطلق على ما دون الخلافة، فكان السلطان ينصبه الملك الذي يسمونه خليفة على قطر، ويفوض أمره إليه فينصب هو الولاة والقضاة في أطرافه، وكان في مبدأ ما ظهرت السلطنة متى أراد الملك عزله عزله، ثم ضعف أمر الملوك، وقوى أمر السلاطين حتى صار الملك المسمى بالخليفة كالأسير للسلطان، ولم يبقَ له مما يتغذى به ويميّزه على غيره إلا انه يخطب باسمه، بل عاد ككلمة يراد لفظها.

وأمّا اليوم فالسلطنة هي التي كانت تسمى من قبل بالخلافة وبالإمامة الكبرى وبالإمارة العظمى وبنحو ذلك، والخليفة والسلطان متحدان صدقا، فاستعمل أيهما تراه أحرى، وأبْعِد عن عتابك في الأخرى، وإياك أن تستعمل وتطلق ملك الملوك وشهنشاه، وكذا ما في معناه على أحد من الملوك، ولو استوى على من في البسيطة من غني وصعلوك، ولعمري لقد كثر في توصيف الملوك اليوم ألفاظ ينبغي أن يجتنبها من يعرف ربه عز وجل إنه سبحانه الضار النافع، والمعطي المانع، وأنا استغفر الله تعالى من ذلك إن كان قد نطق به فمي، أو جرى به قلمي.

ومن العجيب أني سمعت بعض الجهلة يفرق بين السلطان والخليفة، بأن الخليفة من له التحليل والتحريم لما شاء، فمتى أمر بمحرم حل أو نهي عن محلل حرم، وله العدول عن حدود الله تعالى من قطع يد السارق ورجم الزاني المحصن ونحوهما إلى حدود يستحسنها، والسلطان من ليس له ذلك، وهذا والعياذ بالله تعالى كفر صريح، وهذيان قبيح، وإنما نبهت عليه مع ظهور فساده، ووضوح كساده، ليتعجب منه المتعجبون، ويقول المؤمنون، إنا لله وإنا إليه راجعون.