→ المبحث الأول في بيان فرق الشيعة | نهج السلامة إلى مباحث الإمامة المبحث الثاني في حكم أهل القبلة صنفه أبو الثناء الألوسي وأتمه حفيده محمود الألوسي |
المقصد ← |
وأما البحث الثاني ففي بيان حكم أهل القبلة من حيث إكفار من خالف منهم أهل السنة والجماعة وعدمه
اعلم أنه لا ينبغي إطلاق القول بكفر كل فرقة خالفت أهل السنة من الفرق التي حدثت في أمة الدعوة على ما أخبر به الصادق المصدوق ﷺ، ويشهد لما ذكرنا كلام كثير من الأجلة قال الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتابه ( فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ): « الوصية أن تكف عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها »، قال: « المناقضة هي تجويزهم الكذب على رسول الله ﷺ بعذر أو بغير عذر »، انتهى.
وقال المحقق السيد السند قدس سره في ( شرح المواقف ) عند قول الماتن: جمهور المتكلمين والفقهاء انه لا يكفر أحدا من أهل القبلة انتهى ما لفظه: « فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب ( مقالات الإسلاميين ): واختلف المسلمون بعد نبيهم ﷺ في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم فهذا مذهبه »، ونُقل عن اكثر أصحابنا.
وقد نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: « لا أرد شهادة أحد من أهل البدع والأهواء إلا الخطابيّة، فإنهم يعتقدون حل الكذب ».
وحكى الحاكم صاحب ( المختصر من كتاب المنتقى ) عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أنه لم يكفّر من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي مثل ذلك عن الكرخي وغيره، انتهى.
وقال في موضع آخر منه: وأعلم ان عدم تكفير أهل القبلة موافق لكلام الشيخ الأشعري والفقهاء كما مر، وما نقله عن الإمام الشافعي حكاه غير واحد عن الحنفية، وحكى الإمام النووي في الروضة على ما قال الشهاب الخفاجي عن الإمام الشافعي انه قال: « لا أكفر أحدا من أهل القبلة إلا الخطابية »، وما نقل أولا أبلغ.
وكان سحنون من المالكية يذهب إلى عدم تكفير أهل البدع والأهواء من أهل القبلة، ويرى انه لا إعادة للصلاة على من صلى خلف أحدهم في وقت أو أكثر، وهو رأي المغيرة وابن كنانة واشهب منهم، بل قول جميع أصحاب مالك، كما في شفاء القاضي عياض.
واختلفت الرواية عن الإمام مالك، ففي رواية عبد الله بن مسهر الغساني، ومروان بن محمد الطاطري، إطلاق القول بكفر أهل الأهواء جميعا، وفي رواية ابن نافع خلاف ذلك، لكن إذا ظفر بأحدهم يجلد ويحبس حتى يتوب، وهذا كما قال الشهاب هو الصحيح، واتفقت الرواية عنه وعن جميع أصحابه أنهم يقاتلون إذا تخيروا، وانفردوا بمكان مختص بهم.
وقال العلامة العضد في آخر كتاب ( المواقف ): « ولا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بما فيه نفي الصانع القادر العليم أو شرك، أو إنكار للنبوة أو إنكار ما علم مجيئه ﷺ به ضرورة، أو إنكار مجمع عليه، كاستحلال المحرمات »، انتهى.
قال المحقق الشريف قدس سره، أي المحرمات التي أجمع على حرمتها، فإن كان المجمع عليه مما علم ضرورة من الدين فذاك ظاهر داخل في ما ذكره، وإلا فان كان إجماعا ظنيا فلا كفر بمخالفته، وان كان قطعيا ففيه خلاف، انتهى.
وقال العلامة الثاني المحقق التفتازاني في ( التلويح ): « الحكم الشرعي المجمع عليه ان كان إجماعه ظنيا فلا كفر بمخالفته، وان كان قطيعا ففيه خلاف »، انتهى.
وما ذكراه من أن الإجماع الظني لا كفر بمخالفته هو محل الاتفاق بين العلماء، وقد حكى إجماعهم على ذلك غير واحد من المحققين، فمن الشافعية السيف الآمدي والصفي الهندي، وصاحب المواقف في ( شرح المختصر ) وغيرهم، ومن الحنفية المحقق الكمال ابن الهمام، والسيد الشريف الجرجاني كما مر آنفا وغيرهما.
ومن المالكية أبو العباس القرطبي وغيره، وما ذكراه من أن إنكار المجمع عليه القطعي فيه خلاف فهو كذلك، والخلاف فيه مشهور.
وممن حكاه الآمدي وابن الحاجب في أصولهما، قال الأول: « اختلفوا في تكفير المجمع عليه فأثبته بعض الفقهاء، وأنكره الباقون مع اتفاقهم على ان إنكار حكم الإجماع الظني غير موجب »، وقال الثاني: « إنكار حكم الإجماع القطعي، ثالثها المختار أن نحو العبادات الخمس يكفر »، انتهى.
وما أشار إليه بالمختار من التفصيل تبع فيه الآمدي حيث قال: « والمختار إنما هو التفصيل بين أن يكون داخلا في مفهوم اسم الإيمان كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة، فيكون جاحده كافرا كحل البيع وصحة الإجازة، فلا يكون كافرا »، انتهى.
ولعل مراده بمفهوم الإيمان هو مفهوم الإسلام، أما مجازا أو بناء على اتحادهما، وإلا فالعبادات الخمس ليست داخلة في مفهوم الإيمان إذ الإيمان هو التصديق عند المحققين كما حقق في محله.
وقال العلامة الزين المرحل: لا يكفر منكر إجماع أي مجمع عليه بإجماع سكوتي أو أكثري أو ظني بالآحاد، قيل وكذا ما لم يبلغ المجمعون فيه عدد التواتر، ولا يكفر منكر إجماع قطعي إلا إذا كان الحكم ضروريا، لأن العلم بحجية الإجماع ليس داخلا في الإيمان لأنه نظري، انتهى.
وما ذكره من أن الأصح عدم التكفير بالقطعي إلا إذا كان ضروريا هو الذي عليه المحققون، فإنهم لا يكفرون بإنكار المجمع عليه من حيث انه مجمع عليه، ولا يعدونه من أسباب الردة، وإنما يكفرون بجحد نحو الصلاة من حيث كونه معلوما من الدين بالضرورة.
قال الإمام الرافعي ( عليه الرحمة ) في باب حد الشرب: لم يستحسن إمام الحرمين إطلاق القول بكفر المستحل أي للحرام المجمع عليه، قال: وكيف يكفر من خالف حكم الإجماع، ولا يكفر من رد أصل الإجماع، وإنما نبدعه ونضلله، ثم أوّل ما ذكره أصحابه الشافعية بحمله على ما إذا صدق المجمعين، على ان التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فانه يكون رادا للشرع.
وقال الزنجاني: « إنه لا يكفر من حيث أنه خالف الإجماع؛ بل لأنه خالف ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد ﷺ ».
وقال ابن دقيق العيد: « الحق ان المسائل الإجماعية ان صحبها التواتر كالصلاة كفر منكرها لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع، وإلا فلا يكفر »، انتهى. ونقله ابن شهبة في ( شرح المنهاج ) وأقره.
وقال المحقق ابن الهمام في كتابه ( المسايرة ): ما ينفي جحده الإستسلام، ويوجب التكذيب فجحده المكلف كفر وإلا فسق، قال وما يوجب التكذيب هو جحد ما ثبت ادعائه بالضرورة، فما كان ثبوته ضرورة عن نقل اشتهر وتواتر، فاستوى في معرفته الخاص والعام كفر بجحده ومالا، بل نقل آحادا يكفر مشاهده دون الغائب، انتهى حاصله.
ثم إذا زاد قيدا آخر وهو علم الجاحد بالإجماع فقال: أما ما ثبت فيه الإجماع قطعا ولم يبلغ حد الضرورة، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب بإجماع المسلمين، فظاهر كلام الحنفية الإكفار بجحده، فانهم لم يشترطوا سوى القطع بالثبوت، ويجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا؛ لأنّ مناط التكفير وهو التكذيب والاستحقاق، لا يكون إلا عند العلم بذلك فلا يكفر إلا ان يذكر له ذلك فيلج.
قال شارحه المحقق الكمال ابن أبي شريف: وهذا الحمل وقع لإمام الحرمين، وأول إطلاق من أطلق من الشافعية القول بتكفير جاحد المجمع عليه أي وقد حد آنفا، نقله عن الرافعي.
أقول: وقيد العلم أخذه من كلام الغزالي في ( الفيصل ) حيث قال: « إن الحكم بالتكفير بمخالفة الإجماع من أغمض الأشياء، إذ شرطه أن يجمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد، فيتفقون على أمر واحد اتفاقا صريحا، ثم يستمرون عليه مدة عند قوم أو إلى تمام انقراض العصر عند قوم، أو يكاتبهم الإمام في أقطار الأرض، فيأخذ فتاويهم في زمان واحد، بحيث تتفق أقوالهم اتفاقا صريحا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده، ثم النظر بعد ذلك في صاحب المقالة هل بلغه الإجماع إذ كل من يوجد لا تكون الأقوال عنده متواترة، ولا مواضع الإجماع عنده متمايزة عن مواضع الخلاف إنما يدرك ذلك شيئا فشيئا، وإنما يعرف من مطالعة الكتب المصنفة في الاختلاف وإجماع السلف، فإذا كلّ من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل، وليس بمكذب ولا يمكن تكفيره والاستقلال بمرتبة التحقيق في هذا ليس باليسير، فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته الفقه يخوض في التكفير والتضليل فأعرض عنه »، انتهى.
وقيدّ أيضا إطلاقهم بذلك الإمام النووي في ( الروضة ) فقال: « ليس تكفير جاحد المجمع عليه أي بالإجماع القطعي على إطلاقه، بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام، كالصلاة وتحريم الخمر ونحوهما فهو كافر، ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب ونحوه فليس بكافر، ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف يأتي في باب الردة »، انتهى.
وكلامه هناك: « هذا إن جحد مجمعا عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة [ كفر إن كان فيه نص، وكذا إن لم يكن فيه نص في الأصح، وإن لم يعلم من دين الإسلام ضرورة ] بحيث لا يعرفه كل المسلمين لا يكفر » انتهى.
حكم التكفير عند العلماء وحكم من سب الصحابة
وبالجملة فمعتمد المذاهب عند المحققين أن مدار التكفير على جحد ما علم ضرورة مجمعا عليه أم لا، ولا يكفر بجحد المجمع عليه من حيث أنه مجمع عليه، ولا بجحد الظني والإجماع السكوتي والأكثري والمسبوق بالخلاف من الظني كما حقق في موضعه، بل لم يعد كثير من المحققين الظني في الحجة، وأن قول من قال من الأجلّة أنّا لا نكفر أحدا من أهل القبلة ليس على إطلاقه، بل هو محمول على ما إذا لم يجحد ما علم ضرورة، أما إذا جحد ذلك فلا ينبغي التوقف في إكفاره إذا علمت ذلك، فاعلم أنه لا ينبغي أن تكفر فرقة من الفرق التي تخالف ما أنت عليه، إلا بعد الاطلاع على عقائدهم والوقوف على إنكارهم ما علم ضرورة، فالتكفير لمن شهد الشهادتين خطر جدا.
وفي الحديث من قال: « لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما »، فإن كان كما قال وإلا حارَتْ عليه، وروى البخاري وغيره انه عليه الصلاة والسلام قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها - يعني كلمة الشهادة - عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله »، فالعصمة مقطوع بها مع الإتيان بالشهادة، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع، ولا قاطع في حق المبتدعة الذين لا يجحدون ما علم ضرورة.
وألفاظ الأحاديث الظاهرة في تكفير بعض أهل البدع والأهواء من لم يكفرهم الجمهور كالقدرية والخوارج والرافضة عرضة للتأويل، فلا تعارض الأدلة [ القاطعة بخلافها ]، وقد ورد مثلها في غير الكفرة من عصاة المسلمين كالمرائين، مع القطع بعدم كفرهم إجماعا على طريق التغليظ، وكفر دون كفر وإشراك دون إشراك.
ولخطر أمر التكفير وتعارض الأدلة ظاهرا توقف جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني، وهو شافعي في المشهور، وقيل مالكي، عن تكفير أهل الأهواء والحكم بإسلامهم؛ ويحكى عن أبي المعالي عبد الملك بن يوسف الشهير بإمام الحرمين، أن عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي سأله عن أهل البدع والأهواء، فلم يجبه، واعتذر له عن ترك الجواب بأن الغلط في هذه المسألة يصعب على من خاف أن يقول في الشرع ما ليس منه، لأن إدخال الكافر في الملة، وهو ليس من أهلها وإخراج مسلم منها وهو من أهلها أمر مشكل عظيم في الدين.
وقال غير واحد: الخطأ في ترك قتل ألف كافر، أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد بحسب الظاهر لم يتحقق كفره، ولخطر التكفير، قيل ينبغي للمفتي الاحتياط في ذلك ما أمكنه حتى انه ينبغي له أن يؤل كلام من تلفظ بما ظاهره الكفر، وان بَعُدَ قصد المتلفظ نفسه ذلك المؤول به، ولا ينبغي أن يكتفي بالظاهر فيفتي بالكفر فإن معنا أصلا محققا وهو الإيمان فلا نرفعه إلا بيقين.
ولا يغتر بما ذكره أهل الفتاوى من الحنفية عن مشايخهم من التكفير بألفاظ حفتها تأويلات تخرجها عن أن يكفر بها، ولعل منها ما لا يكاد يقصد به المتلفظ المعنى المكفر، فإن ذلك تساهل لا يرضى به المتورعون منهم. وقد قال غير واحد من الأجلّة إذا كان في المسألة تسعة وتسعون قولا بالتكفير، وقول واحد بعدم التكفير، يفتى بعدم التكفير.
وبالجملة الذي أختاره في أهل الأهواء ان من جحد منهم ما علم ضرورة انه من الدين، فهو كافر كغلاة الشيعة والمجسمة القائلين ان الله تعالى جسم كالأجسام، فإنهم كفار على ما صرح به الإمام الرافعي وهو الأصح. وكذا القائلون انه سبحانه جسم لا كالأجسام في قول، وكالقرامطة الجاحدين فرضية الصلوات الخمس إلى شنائع أخرى من هذا القبيل.
وأختلف العلماء في إكفار الاثني عشرية، فكفرّهم معظم علماء ما وراء النهر، وحكم بإباحة دمائهم وأموالهم وفروج نسائهم، حيث أنهم يسبون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لاسيما الشيخين رضي الله تعالى عنهما، وهما السمع والبصر منه عليه الصلاة والسلام، وينكرون صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه، ويقذفون عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بما برأها الله تعالى منه، ويفضلون بأسرهم عليا كرم الله تعالى وجهه على الملائكة عليهم السلام، وعلى غير أولي العزم من المرسلين، ومنهم من يفضله عليهم ما عدا نبينا ﷺ، ويحتجون على التفضيل بحجج أوهن من بيت العنكبوت، سنذكرها مع ردها إن شاء الله تعالى، ويجحدون سلامة القرآن من الزيادة والنقص.
ومن العلماء من لم يكفرّهم زاعما أن سب الصحابي ليس بكفر بل فسق عظيم، واستدل على ذلك بحديث: « من سب أصحابي فاضربوه، وفي رواية فاجلدوه ».
وفي ( شرح الشفاء ) للخفاجي نقلا عن فتاوى السبكي: « إن سب صحابيا لا من حيث كونه صحابيا، وكان ممن تحققت فضيلته، ففيه وجهان: فإنه قد يكون لأمر آخر دنيوي غير الصحبة، وليس بكفر لأنه لتقديم علي كرم الله تعالى وجهه واعتقادهم لجهلهم أنهما وحاشاهما ظلماه »، انتهى.
وعلى هذا النحو سبهم والعياذ بالله تعالى غيرهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كمعاوية وعمرو ابن العاص وأم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وزاعما أيضا ان إنكار خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه ليس بكفر أيضا، بل ابتدع وفسق، ونقل هذا الخفاجي عن ( الأنوار )، وكأن مداره ان خلافته رضي الله تعالى عنه ليست معلومة من الدين بالضرورة، بل لا نصا صريحا عليها من رسول الله ﷺ، وعلى تسليم وجوده وهو غير متواتر والإجماع في زعمهم غير تام، على انهم يزعمون انه في مقابلة النص على الأمير كرم الله تعالى وجهه.
وأما قذف عائشة رضي الله تعالى عنها، بما برأها الله تعالى منه فلا شك في انه كفر لما فيه من تكذيب الآيات الدالة على براءتها، لكن الاثني عشرية بريئون من ذلك وان شاع عنهم، نعم انهم يزعمون أنها أرادت أن تتزوج بعد وفاة رسول الله ﷺ، يوم توجهت من مكة إلى البصرة لحرب الأمير كرم الله تعالى وجهه، بأحد الحواريين طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما فلم تمكن من ذلك.
وكذا لهم هذيانات أخر في حقها رضي الله تعالى عنها، ولكنها لا تصل إلى جحد ما علم من الدين بالضرورة على ما لا يخفى على المنصف، وذلك مثل زعمهم ان النبي ﷺ فوض طلاقها بعد وفاته إلى علي كرم الله تعالى وجهه، وانه رضي الله تعالى عنه طلقها يوم الجمل، فخرجت من أمهات المؤمنين، وهو حديث خرافة، تضحك منه الثكلى.
وأما تفضيل علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء عليهم السلام غير نبينا وإخوانه من أولي العزم من المرسلين صلى الله تعالى وسلم عليه وعليهم أجمعين، فهو مما اتفقوا عليه فيما أعلم، كما اتفقوا على انه كرم الله وجهه ليس بأفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام، نعم توقف بعضهم كابن المطهر الحلي وغيره في تفضيله على من عداه ﷺ من أولي العزم، وذهب بعض آخر إلى مساواته لهم عليهم السلام، وكذا تفضيله كرم الله تعالى وجهه على الملائكة عليهم السلام متفق عليه فيما بينهم فيما أعلم، ولهم في ذلك أيضا هذيانات كثيرة.
لكن قصارى [ ذلك ] كل ما قالوه جحد تفضيل الأنبياء عليهم السلام على من سواهم، وانه لا يبلغ ولي درجة نبي، وجحد تفضيل الملائكة عليهم السلام على من عدا الأنبياء من البشر، وانه لا يبلغ مؤمن تقي غير نبي درجتهم في الفضل، وليس ما جحدوه مما علم من الدين بالضرورة بل لم يقم عليه قاطع.
وقد قال العلامة الثاني السعد التفتازاني: « حكى عن بعض الكرامية إن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى »، انتهى.
وحيث لم يجمع على تكفير الكرامية علم أن المسألة خلافية، وأن لا قاطع فيها، وقال الّلقاني في شرحه الأوسط ( لجوهرة التوحيد )، قال أبو المظفر السمعاني: اتفقوا على إن العصاة والسوقة من المؤمنين دون الأنبياء والملائكة عليهم السلام، وأمّا المطيعون الصالحون، فاختلفوا في المفاضلة بينهم وبين الملائكة عليهم السلام على قولين، انتهى.
وقد حكى ابن يونس المالكي هذين القولين اللذين أشار إليهما السمعاني، ثم قال: والأكثر منا على أن المؤمن الطائع أفضل من الملائكة عليهم السلام.
وفي ( منهج الأصلين ) أيضا متصلا بما مر: وأما الصالحون من البشر من غير الأنبياء عليهم السلام، فأكثر العلماء على تفضيل الملائكة عليهم، وعندنا ان من كان منهم تقيا نقيا موقنا إلى الموت على ذلك، قد يفضل على الملائكة باعتبار المشاق في عبادته مع ما فيه من الدواعي إلى الشهوة وغيرها، لاسيما من كان خليفة لسيد الأولين والآخرين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، انتهى، انتهى كلام اللقاني.
نعم قال أبو حيان في تفسيره المسمى ( بالبحر ) عند الكلام في قوله تعالى: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }، « ومن ذهب إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله » انتهى.
لكن يمكن حمله ولو على بعد على ان المراد من ذهب إلى أن كل ولي صغيرا كان أو كبيرا أفضل من كل نبي من أولي العزم كان أو لا فهو زنديق؛ وبالجملة كلتا المسألتين خلافية، ولا قاطع في نفي أو إيجاب فيهما على ما لا يخفى على المنصف.
وقال بعض الأفاضل: إن تكفير الاثني عشرية فيما ذهبوا إليه من التفضيل هو مذاق الفقهاء المكتفين في المطالب بالظواهر، وعدم تكفيرهم فيه هو مذاق المتكلمين الملتزمين للقواطع في ذلك، وأنا أقول ما ذهبوا إليه مما هو مفصّل في محله، إن لم يكن كفرا فهو من الكفر أقرب، ونحن قد ذكرنا لك أصلا في التكفير وعدمه فلا تغفل عنه والله تعالى العاصم.
وفي الشفاء للقاضي عياض وشروحه كشرح الخفاجي وغيره في هذا المقام كلام نفيس ينبغي الاعتناء به والاهتمام فارجع إليه متأملا، والله تعالى الموفق للصواب آخرا وأولا.