→ كتاب الأقضية (مسأله 1787) | ابن حزم - المحلى كتاب الأقضية (مسأله 1788) ابن حزم |
كتاب الشهادات ← |
كتاب الأقضية
1788 - مسألة: وليس على من وجبت عليه يمين أن يحلف إلا بالله تعالى , أو باسم من أسماء الله تعالى في مجلس الحاكم فقط , كيفما شاء من قعود أو قيام أو غير ذلك من الأحوال , ولا يبالي إلى أي جهة كان وجهه. وقد اختلف الناس في هذا : فروينا عن مالك أنه بلغه أنه كتب إلى عمر بن الخطاب رجل من العراق : أن رجلا قال لأمرأته : حبلك على غاربك , فكتب عمر إلى عامله أن يوافيه الرجل بمكة في الموسم , ففعل , فأتاه الرجل وعمر يطوف بالبيت فقال لعمر : أنا الرجل الذي أمرت أن أجلب عليك فقال له عمر : أنشدك برب هذه البنية ما أردت بقولك " حبلك على غاربك " الفراق فقال له الرجل : لو استحلفتني في غير هذا المكان ما صدقتك أردت بذلك الفراق قال عمر : هو ما أردت.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد أن رجلا قال لأمرأته في زمن عمر : حبلك على غاربك ثلاث مرات فاستحلفه عمر بين الركن والمقام فقال : أردت الطلاق ثلاثا , فأمضاه عليه.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح : أن رجلا قال لأمرأته : حبلك على غاربك , فسأل ابن مسعود فكتب إلى عمر , فكتب عمر بأن يوافيه بالموسم , فوافاه وذكر الحديث.
ومن طريق الكشوري عن الحذافي عن عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري قال : استحلف معاوية في دم بين الركن والمقام. وذكر الشافعي بغير إسناد : أن عبد الرحمن بن عوف أنكر التحليف عند الكعبة إلا في دم أو كثير من المال.
وأما فعل معاوية المذكور : فإننا رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن معاوية أحلف مصعب بن عبد الرحمن بن عوف , ومعاذ بن عبيد الله بن معمر , وعقبة بن جعونة بن شعوب الليثي في دم إسماعيل بن هبار بين الركن والمقام وهؤلاء مدنيون استجلبهم إلى مكة.
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن شريح قال : يستحلف أهل الكتاب " بالله " حيث يكرهون.
وبه إلى سفيان عن أيوب السختياني ، عن ابن سيرين أن كعب بن سوار أدخل يهوديا الكنيسة ووضع التوراة على رأسه واستحلفه بالله.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أيوب السختياني ، عن ابن سيرين أن كعب بن سوار كان يحلف أهل الكتاب يعني النصارى يضع الإنجيل على رأسه , ثم يأتي به إلى المذبح فيحلفه بالله.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا محمد بن عبيد عن إسحاق بن أبي مسيرة قال : اختصم إلى الشعبي مسلم ونصراني , فقال النصراني : أحلف بالله فقال له الشعبي : لا , يا خبيث قد فرطت في الله , ولكن اذهب إلى البيعة فاستحلفه بما يستحلف به مثله.
ومن طريق مالك عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري يقول : اختصم زيد بن ثابت , وابن مطيع إلى مروان في دار , فقضى مروان على زيد باليمين على المنبر فقال له زيد : أحلف له مكاني فقال له مروان : لا , والله إلا في مقاطع الحقوق , فجعل زيد يحلف أن حقه لحق , ويأبى أن يحلف على المنبر فجعل مروان يعجب من زيد. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أحلف عمال سليمان عند الصخرة في بيت المقدس.
ومن طريق الكشوري عن الحذافي عن عبد الرزاق عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن الشعبي : أن أبا موسى الأشعري أحلف يهوديا بالله تعالى : فقال الشعبي : لو أدخله الكنيسة. فهذا يوضح أن أبا موسى لم يدخله الكنيسة.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا أزهر السمان عن عبد الله بن عون عن نافع أن ابن عمر كان وصي رجل فأتاه رجل بصك قد درست أسماء شهوده , فقال ابن عمر : يا نافع اذهب به إلى المنبر فاستحلفه فقال : يا ابن عمر أتريد أن تسمع في الذي يسمعني , ثم يسمعني هاهنا فقال ابن عمر : صدق فاستحلفه , وأعطاه إياه.
قال أبو محمد : ليس في هذا أن ابن عمر كان يرى رد اليمين على الطالب , وقد يكون ذلك الصك براءة من حق على ذلك الرجل فحقه اليمين , إلا أن يقيم بينة بالبراءة.
ومن طريق وكيع عن شريك عن جابر عن رجل من ولد أبي الهياج أن علي بن أبي طالب بعث أبا الهياج قاضيا إلى السواد , وأمر أن يحلفهم بالله.
ففي هذا : عن عمر بن الخطاب , وابن مسعود : جلب رجل من العراق إلى مكة للحكم وإحلافه عند الكعبة , واستحلاف معاوية في دم بين الركن والمقام , وإنكار عبد الرحمن بن عوف الأستحلاف عند الكعبة , إلا في دم أو كثير من المال. وعن شريح , والشعبي : استحلاف الكفار حيث يعظمون
وكذلك كعب بن سوار وزاد : وضع التوراة على رأس اليهودي , والإنجيل على رأس النصراني. وعن مروان : أن الأستحلاف بالمدينة عند منبر النبي ﷺ . وعن عمر بن عبد العزيز استحلاف العمال عند صخرة بيت المقدس. وعن ابن عمر , وعلي , وزيد , وأبي موسى الأشعري : الأستحلاف " بالله " فقط حيث كان من مجلس الحاكم. وهو ، عن ابن عمر , وزيد في غاية الصحة
وكذلك عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما بماذا يحلفون فقد ذكرنا قبل هذا في " باب الحكم بالنكول " تحليف عثمان لأبن عمر " بالله " فقط. وعن زيد بن ثابت الحلف بالله لقد باع العبد وما به داء يعلمه. وذكرنا آنفا عن علي , وأبي موسى استحلاف الكفار " بالله " فقط. وعن زيد بن ثابت الحلف " بالله " فقط وهو عنه , وعن عثمان في غاية الصحة.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا هشيم أنا المغيرة بن مقسم قال : كتب عمر بن عبد العزيز في أهل الكتاب أن يستحلفوا " بالله ".
ومن طريق سعيد بن منصور أنا إسماعيل بن سالم سمعت الشعبي يقول في كلام كثير : إن لم يقيموا البينة فيمينه " بالله ".
ومن طريق أبي عبيد عن مروان بن معاوية الفزاري عن يحيى بن ميسرة عن عمرو بن مرة قال : كنت مع أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وهو قاض فاختصم إليه : مسلم , ونصراني , فقضى باليمين على النصراني فقال له المسلم : استحلفه لي في البيعة فقال له أبو عبيدة : استحلفه " بالله " وخل سبيله ونحوه عن عطاء. وعن مسروق : استحلافهم بالله فقط.
ومن طريق إبراهيم النخعي : يستحلفون " بالله " ويغلظ عليهم بدينهم. وعن شريح : أنه كان يستحلفهم بدينهم
وقد ذكرناه قبل عن الشعبي.
وأما المتأخرون فإن أبا حنيفة قال : يستحلف المسلم والكافر في مجلس الحاكم.
فأما المسلم فيستحلف " بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ". ويستحلف اليهودي " بالله الذي أنزل التوراة على موسى ". ويستحلف النصراني " بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ". ويستحلف المجوسي " بالله الذي خلق النار ". وكل هذا هو قول الشافعي , إلا أنه لم يذكر في التحليف الطالب الغالب ورأى أن يحلف في عشرين دينارا أو في جراح العمد عند المقام بمكة , وعند منبر النبي ﷺ بالمدينة , وأن يحلف سائر أهل البلاد في جوامعهم.
وأما ما دون عشرين دينارا ففي مجلس الحاكم. ورأى أن يحلف الكفار حيث يعظمون.
وقال مالك : يحلفون في ثلاثة دراهم فصاعدا في مكة عند المقام , وفي المدينة عند منبر النبي ﷺ
وأما سائر أهل البلاد فحيث يعظم من الجوامع وتخرج المرأة المستورة لذلك ليلا.
وأما ما دون ثلاثة دراهم ففي مجلس الحاكم. ويحلف المسلم والكافر " بالله الذي لا إله إلا هو ".
وقال أحمد بن حنبل : يحلف المسلم " بالله " في مجلس الحاكم في المصحف.
وأما الكافر فكما قال الشافعي فيهم سواء سواء. و
ما روينا مثل قول مالك إلا عن شريح من طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم , ، حدثنا داود عن الشعبي عن شريح : ، أنه قال في كلام كثير " ويمينك بالله الذي لا إله إلا هو " يعني على المطلوب.
قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة , والشافعي فيما يستحلف به المسلم فما ندري من أين أخذاه , ولا متعلق لهم فيه بقرآن , ولا بسنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا بقول أحد قبل أبي حنيفة.
وقال بعضهم :
قلنا على سبيل التأكيد في اليمين.
قلنا : ما هذا بتأكيد ; لأن الله تعالى إذا ذكر باسمه اقتضى القدرة والعلم وأنه لم يزل , وأنه خالق كل شيء , واقتضى كل ما يخبر به عن الله تعالى , فإن أردتم أن تسلكوا مسلك الدعاء والتعبد فكان أولى بكم أن تزيدوا ما زاده الله تعالى إذ يقول: {الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون} الآية , فزيدوا هكذا حتى تفنى أعماركم , وتنقطع أنفاسكم , وإنما نحن في مكان حكم لا في تفرغ لذكر وعبادة. ثم أغرب شيء زيادة أبي حنيفة في أسماء الله تعالى : " الطالب الغالب " فما ندري من أين وقع عليه , ومن كثر كلامه بما لم يؤمر به , ولا ندب إليه : كثر خطؤه ونعوذ بالله من الضلال.
فإن قالوا : قصدنا بذلك التغليظ
قلنا : فاجلبوهم من العراق وغيرها إلى مكة فهو أشد تغليظا كما روي عن عمر , أو حلفوهم في المصحف كما قال أحمد بن حنبل , فهو أشد تغليظا , وحلفوهم بما ترونه أيمانا من الطلاق , والعتاق , وصدقة المال , فهو عندكم أغلظ وأوكد من اليمين بالله , فأي شيء قالوا رد عليهم في هذه الزيادات التي زادوها ، ولا فرق. أو نقول : حلفوهم ب " عليه لعنة الله إن كان كاذبا " قياسا على الملاعن , أو ردوا عليه الأيمان كذلك.
وأما قوله وقول الشافعي : أن يحلف النصراني " بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى " فعجب , ولا ندري من أين أخذاه , فما في الأمر لهم بهذه اليمين قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا قول صاحب أصلا.
وأعجب شيء جهل من يحلفهم بهذا , وهم لا يعرفونه ، ولا يقرون به , ولا قال نصراني قط : إن الله أنزل الإنجيل على عيسى , وإنما الإنجيل عند جميع النصارى لا نحاشي منهم أحدا أربعة تواريخ : ألف أحدها : متى وألف الآخر : يوحنا وهما عندهم حواريان. وألف الثالث : مرقس وألف الرابع : لوقا , وهما تلميذان لبعض الحواريين عند كل نصراني على ظهر الأرض. ولا يختلفون : أن تأليفها كان على سنين من رفع عيسى عليه السلام.
فإن قالوا : حلفناهم بما هو الحق
قلنا : فحلفوهم " بالقرآن " فهو حق.
فإن قالوا : هم لا يقرون به.
قلنا : وهم لا يقرون بأن الإنجيل أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام ، ولا فرق.
وأما تحليفهم اليهود " بالله الذي أنزل التوراة على موسى " فإنهم موهوا في ذلك بالخبرين الصحيحين : أحدهما : من طريق البراء : أن رسول الله ﷺ مر عليه يهودي محمم مجلود , فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال : لا , ولولا أنك أنشدتني بهذا ما أخبرتك بحد الرجم. والآخر : من طريق أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال لليهودي أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن قالوا : يحمم ويجبه , وشاب منهم سكت وذكر الحديث.
قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن هذا التحليف لم يكن في خصومة , وإنما كان في مناشدة , ونحن لا نمنع المناشد أن ينشد بما شاء من تعظيم الله عز وجل. وليس فيهما : أن رسول الله ﷺ أمر أن يحلف هكذا فكان من ألزم ذلك في التحليف شارعا ما لم يأذن به الله تعالى.
وأما قول مالك يستحلف المسلم والكافر " بالله الذي لا إله إلا هو " فإنهم عولوا في ذلك على خبر : رويناه من طريق أبي داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو الأحوص ، حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى ، عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لرجل أحلفه احلف : بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء.
قال أبو محمد : هذا حديث ساقط لوجهين : أحدهما : أنه عن أبي يحيى وهو مصدع الأعرج وهو مجرح قطعت عرقوباه في التشيع.
والثاني أن أبا الأحوص لم يسمع من عطاء بن السائب إلا بعد اختلاط عطاء , وإنما سمع من عطاء قبل اختلاطه : سفيان , وشعبة , وحماد بن زيد , والأكابر المعروفون. وقد
روينا هذا الخبر من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى ، عن ابن عباس " قال : جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله ﷺ فقال للمدعي : أقم البينة , فلم يقم , وقال للآخر : احلف , فحلف بالله الذي لا إله إلا هو فقال له النبي ﷺ : ادفع حقه وستكفر عنك لا إله إلا هو ما صنعت. فسفيان الذي صح سماعه من عطاء يذكر أن الرجل حلف كذلك ; لأن رسول الله ﷺ أمره أن يحلف كذلك , وعلى كل حال فأبو يحيى لا شيء ثم العجب أنه لو صح لكان خلافا لمذهب مالك في حكم الحاكم بعلمه بلا بينة. ثم هو حديث منكر مكذوب فاسد ; لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله ﷺ يأمره باليمين الكاذبة , وهو عليه الصلاة والسلام يدري أنه كاذب فيأمره بالكذب , حاش لله من هذا. وعلى خبر آخر : من طريق شعبة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن عبيدة السلماني ، عن ابن الزبير عن النبي ﷺ : أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا فغفر له.
قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ; لأنه ليس فيه نص , ولا دليل على وجوب الحلف بذلك في الحقوق أصلا , بل هو ضد قولهم : إنهم زادوا ذلك تأكيدا وتعظيما فعلى هذا الخبر ما هي إلا زيادة تخفيف موجبة للمغفرة للكاذب في يمينه , مسهلة على الفساق أن يحلفوا بها كاذبين. ونحن لا ننكر أن يكون تعظيم الله تعالى والتوحيد له يوازن ما شاء الله أن يوازنه من المعاصي فيذهبها. قال تعالى : {إن الحسنات يذهبن السيئات}. وذكروا حديثا آخر : رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي ، حدثنا إبراهيم عن موسى بن عقبة عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ رأى عيسى ابن مريم رجلا يسرق فقال له أسرقت فقال : لا , والله الذي لا إله إلا هو فقال عيسى عليه السلام : آمنت بالله وكذبت بصري.
قال أبو محمد : وحتى لو صح هذا , فليس فيه أن عيسى عليه السلام أمره بأن يحلف كذلك في خصومة ثم لو كان ذلك فيه فشريعة عيسى عليه السلام لا تلزمنا , إنما يلزمنا ما أتانا به محمد ﷺ . وذكروا الخبر الذي رويناه أيضا : من طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن هشام الحراني ، حدثنا محمد بن مسلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي ، عن ابن مسعود فذكر أنه قتل أبا جهل يوم بدر , قال : ثم أتيت رسول الله ﷺ فأخبرته فقال : آلله الذي لا إله إلا هو , قلت : آلله الذي لا إله إلا هو , قال : آلله الذي لا إله إلا هو قلت : آلله الذي لا إله إلا هو قال : انطلق فاستثبت فانطلقت , فقال رسول الله ﷺ إن جاءكم يسعى مثل الطير يضحك فقد صدق , فانطلقت فاستثبت ثم جئت وأنا أسعى مثل الطير أضحك فأخبرته فقال : انطلق فأرني مكانه فانطلقت معه فأريته مكانه فحمد الله وقال : هذا فرعون هذه الأمة.
قال علي : وهذا خبر لا متعلق لهم به أصلا , لوجوه : منها أنه إسناد متكلم فيه , والصحيح : أنه إنما قتل أبا جهل ابنا عفراء. ثم إنها لم تكن خصومة , إنما كانت مناشدة. ثم إن كانت مناشدة النبي ﷺ لأبن مسعود توجب أن لا يكون التحليف في الحقوق إلا كذلك , فإن تكراره عليه الصلاة والسلام مناشدته يوجب أن تتكرر اليمين على الحالف في الحقوق , وهذا باطل فبطل ما تعلقتم به.
قال أبو محمد : فلم يبق لهم حجة أصلا في إيجابهم هذه الزيادة في التحليف.
فإن قالوا : هي زيادة خير.
قلنا : نعم فألزموه الصدقة , وأن يصلي أربع ركعات , فكل ذلك زيادة خير ، ولا يحل لأحد أن يلزم آخر فعل شيء معين من الذكر والبر إلا بقرآن أو سنة يوجب نصهما ذلك , وإلا فالموجب ما لا نص في إيجابه عاص لله عز وجل متعد لحدوده.
قال أبو محمد : ووجب أن ننظر فيما يشهد بصحة قولنا من النصوص : فوجدنا الله عز وجل يقول : {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم}.
وقال تعالى : {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما}.
وقال تعالى : {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله}.
وقال تعالى : {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله}.
وقال تعالى : {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}.
وقال تعالى : {قل إي وربي}. فلم يأمر الله تعالى قط أحدا بأن يزيد في الحلف على " بالله " شيئا , فلا يحل لأحد أن يزيد على ذلك شيئا موجبا لتلك الزيادة. حدثنا يونس بن عبد الله ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ، حدثنا أبي علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو عبيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر هو المقري ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال " قال رسول الله ﷺ : (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله). وهذا نص جلي على إبطال زيادتهم وإيجابهم من ذلك خلاف ما أمر الله تعالى به في القرآن والسنة. وصح : أنه عليه الصلاة والسلام كان يحلف : لا ومقلب القلوب. فصح : أن أسماء الله تعالى كلها يحلف الحالف بأيها شاء.
قال أبو محمد : وهذا مما خالفوا فيه عثمان بن عفان , وزيد بن ثابت مما صح عنهما , وما روي عن أبي موسى , وعلي , ولا يعرف لهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مخالف في ذلك أصلا وبالله تعالى التوفيق. وما وجدنا قول أبي حنيفة في ذلك عن أحد قبله.
وأما قول مالك : فعن شريح وحده كما ذكرنا.
وأما قول مالك , والشافعي : من حيث يحلف الناس , فقول لم يوجبه قرآن , ولا سنة , ولا رواية سقيمة , وقلدوا فيها مروان. وخالفوا : زيد بن ثابت , وابن عمر , وهذا عجب جدا. وخالفوا : عمر بن الخطاب في جلبه رجلا من العراق ليحلف بمكة بحضرة الصحابة بالعراق , والحجاز , ومعاوية في جلبه من المدينة إلى مكة بحضرة الصحابة وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق أهواءهم وما نعلم لقولهم سلفا من الصحابة تعلقوا به , إلا أنهم شغبوا بأخبار نذكرها إن شاء الله تعالى.
روينا من طريق مالك عن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن عبد الله بن نسطاس عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله ﷺ قال : (من حلف عند منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار).
ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن يعقوب ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا عبد الله بن منيب بن عبد الله بن أبي أمامة بن ثعلبة أخبرني أبي عن عبد الله بن عطية عن عبد الله بن أنيس ، حدثنا أبو أمامة بن ثعلبة , أن رسول الله ﷺ قال : من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله تعالى منه عدلا ، ولا صرفا.
ومن طريق ابن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه , أن رجلين اختصما إلى رسول الله ﷺ في أرض , وأن رسول الله ﷺ قال للمدعي : ألك بينة قال : لا , قال : فلك يمينه. فقال : يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حلف ليس يتورع من شيء فقال رسول الله ﷺ ليس لك منه إلا ذلك قال : فانطلق ليحلف له فقال رسول الله ﷺ أما والله لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض.
ومن طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا حبان ، هو ابن هلال ، حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك ، هو ابن عمير عن علقمة ، هو ابن وائل عن وائل بن حجر (أنه سمع النبي ﷺ يقول للمدعي في أرض : بينتك قال : ليس لي , قال : يمينه , قال : إذا يذهب بمالي قال : ليس لك إلا ذلك , فلما قام ليحلف قال رسول الله ﷺ من اقتطع أرضا ظالما لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان).
قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به :
فأما خبر علقمة بن وائل : فإن راوي لفظة " انطلق " : سماك بن حرب وهو ضعيف يقبل التلقين ثم ليس فيه : أنه انطلق إلى المنبر , وقد يريد انطلق في كلامه ليحلف , ولا فيه أن رسول الله ﷺ أمره بالأنطلاق , ولا بالقيام , ولا حجة في فعل أحد دون أن يأمره رسول الله ﷺ .
وأما الخبران الأولان : فليس فيهما إلا تعظيم اليمين عند منبره عليه الصلاة والسلام فقط , وليس فيهما : أنه أمر عليه الصلاة والسلام بأن لا يحلف المطلوب إلا عنده , ونحن لم نخالفهم في هذا. ولو كان هذان الخبران يوجبان أن لا يحلف المطلوب إلا عند منبره عليه الصلاة والسلام لكان مالك , والشافعي , قد خالفها في موضعين : أحدهما : أنهما لا يحلفان عنده إلا في مقدار ما من المال لا في أقل منه , فليت شعري أين وجدا هذا وليس في هذين الخبرين تخصيص الحلف عنده في عدد دون عدد , بل فيه نص التسوية بين القليل والكثير في ذلك : كما حدثنا حمام ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا هاشم بن هاشم بن عتبة أخبرني عبد الله بن نسطاس : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله ﷺ : لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار. فظهر خلافهم لهذا الخبر نفسه. والموضع الآخر : أنهما يحلفان من بعد في غيره من الجوامع , فقد خالفا هذا الخبر أيضا , ولئن جاز أن لا يحلف من بعد عنه عليه إنه لجائز فيما قرب أيضا ، ولا فرق , وليس للبعد والقرب حد في الشريعة , إلا أن يحد حاد برأيه فيزيد في البلاء والشرع بما لم يأذن به الله تعالى , وقد نجد من يشق عليه المشي لضعفه مائة ذراع ومن لا يشق عليه مشي خمسين ميلا , فظهر فساد قولهم جملة.
وأيضا : فقد صح عن رسول الله ﷺ بأصح طريق من هذين الخبرين : ما رويناه من طريق مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن معبد بن كعب بن مالك عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبي أمامة " أن رسول الله ﷺ قال : (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب النار , قالوا : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال : وإن كان قضيبا من أراك قالها ثلاثا).
وروينا من طريق البزار ، حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن يونس ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة فذكر فيهم ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم.
قال أبو محمد : فإن كان تعظيم الحلف عند منبره عليه الصلاة والسلام موجبا لان لا يحلف المطلوبون إلا عنده ; فإن تعظيمه عليه الصلاة والسلام الحلف بعد صلاة العصر موجب أيضا : أن لا يحلف المطلوبون إلا في ذلك الوقت , وهذا خلاف قولهم. ثم العجب كله قياسهم سائر الجوامع على مسجده ﷺ
ولا خلاف في أنه لا فضل لجامع في سائر البلاد على سائر المساجد , وأنه لو جعل مسجد آخر جامعا وترك التجميع في الجامع لما كان في ذلك حرج أصلا ، ولا كراهة , فمن أين خرجت هذه القياسات الفاسدة.
فإن قالوا : فعلنا ذلك ليزدجر المبطل
قلنا : فافعلوا ذلك في القليل والكثير , فإن الوعيد جاء في ذلك كله في القرآن والسنة سواء , حتى في قضيب من أراك , إلا إن كان القليل عندكم خفيفا فهذا مذهب النظام , وأبي الهذيل العلاف , وبشر بن المعتمر , وهم القوم لا يتكثر بهم.
وأيضا : فإن المحق قد يخشى السمعة والشهرة في حمله إلى الجامع فيترك حقه , فقد حصلتم بنظركم على إبطال الحقوق , وأف لهذا نظرا.
قال أبو محمد : فصح أنه لو وجبت اليمين في مكان دون مكان , وفي حال دون حال : لبينها عليه الصلاة والسلام فإذ لم يبين ذلك فلا يخص باليمين مكان دون مكان , ولا حال دون حال.
وأما مقدار ما يرى فيه مالك , والشافعي : التحليف في الجوامع , فقد ذكرنا أن الشافعي ذكر : أن عبد الرحمن بن عوف أنكر التحليف عند الكعبة إلا في دم أو كثير من المال وهذا ليس بشيء لوجوه :
أولها : أنها رواية ساقطة لا يدرى لها أصل ، ولا منبعث ، ولا مخرج , ثم لو صحت فلا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ; ثم إن عبد الرحمن مات زمن عثمان رضي الله عنهما فوالي مكة يومئذ كان بلا شك من الصحابة لقرب العهد , فليس قول عبد الرحمن أولى من قول غيره من الصحابة. ثم لم يحد عبد الرحمن في كثير المال ما حده مالك , والشافعي , وما نعلم أحدا سبق مالكا إلى تحديد ذلك بثلاثة دراهم , ولا من سبق الشافعي إلى تحديده بعشرين دينارا.
فإن قيل : إن في ثلاثة دراهم تقطع اليد فيها.
قلنا : ومن حد ذلك , إنما حد قوم بربع دينار ,
وأما بثلاثة دراهم فلا ويعارض هذا تحديد الشافعي بأن عشرين دينارا تجب فيها الزكاة , فمن أين وقع لهم تخصيص ذلك دون مائتي درهم التي صح فيها النص. أو يعارضهم آخرون بمقدار الدية , وهذا كله تخليط لا معنى له. ويقال لهم : أترون ما دون ما تقطع فيه اليد أيتساهل في ظلم المسلمين فيه حاش لله من هذا , وقد وجدنا ألف ألف دينار تؤخذ غصبا فلا يجب فيها قطع , والغصب والسرقة سواء في أنهما ظلم , وأخذ مال بالباطل ولعل الغاصب أعظم إثما , لأهتضامه المسلم علانية , بل لا نشك في أن غاصب دينار أعظم إثما من سارق ربع دينار , وفي المسلمين من الدرهم عنده عظيم لفقره , وفيهم من ألف دينار عنده قليل ليساره , فظهر فساد هذه الأقوال بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين.
محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب الأقضية |
كتاب الأقضية (مسأله 1778 - 1786) | كتاب الأقضية (مسأله 1787) | كتاب الأقضية (مسأله 1788) |