الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الأربعون

ابن حزم - المحلى كتاب الأيمان (مسألة 1181 - 1190)
المؤلف: ابن حزم


كتاب الأيمان

1181 - مسألة: ومن حنث وهو قادر على الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، ثم افتقر فعجز عن كل ذلك: لم يجزه الصوم أصلا، لأنه قد تعين عليه حين وجوب الكفارة أحد هذه الوجوه بنص القرآن، فلا يجوز سقوط ما ألزمه الله تعالى يقينا بدعوى كاذبة، لكن يمهل حتى يجد أو لا يجد، فالله تعالى ولي حسابه; وأما ما لم يحنث فلم يتعين عليه وجوب كفارة بعد إلا أن يعجلها فتجزيه على ما قدمنا وبالله تعالى التوفيق.


1182 - مسألة: ومن حنث وهو عاجز عن كل ذلك: ففرضه الصوم قدر عليه حينئذ أو لم يقدر، متى قدر فلا يجزيه إلا الصوم، فإن أيسر بعد ذلك وقدر على العتق، والإطعام، والكسوة لم يجزه شيء من ذلك إلا الصوم، فإن مات ولم يصم صام عنه وليه، أو استؤجر عنه من رأس ماله من يصوم عنه، لأن الصوم قد تعين عليه وجوبه حين حنث، وصح لزومه إياه فلا يجوز سقوط ما أوجبه الله تعالى عليه يقينا، لا شك فيه بدعوى كاذبة. وقال بعض القائلين: إن أيسر قبل أن يصوم، أو قبل أن يتم الصوم: انتقل حكمه إلى العتق، أو الإطعام، أو الكسوة.

قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة، وليت شعري ما الفرق بين أن يعسر بعد أن يوسر فلا ينقلونه إلى جواز الصيام عنه، أو وجوبه عليه، وبين أن يوسر بعد ما يعسر فينقلونه إلى وجوب العتق، أو الإطعام، أو الكسوة فإن قالوا: إنما لزمه الصيام لضرورة عدمه.

قلنا: كذب من قال هذا، وأخبر عن الله تعالى بالباطل، وقد وجدنا الله تعالى عوض من العتق في كفارة الظهار، وقتل الخطإ: الصيام لا الإطعام، ثم عوض من الصيام من لا يقدر عليه في كفارة الظهار الإطعام ولم يعوض منه في كفارة القتل إطعاما، وخير في جزاء الصيد بين الإطعام والصيام، والهدي، والله تعالى يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل و يحكم لا معقب لحكمه، ولا يجوز تغيير ما أوجب الله تعالى عن ما أوجبه. واختلف المخالفون لنا في هذا: فقال أبو حنيفة، وأصحابه: إن قدر على الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، قبل أن يتم جميع صيام الثلاثة الأيام: بطل حكم الصوم، ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك. قال الحكم بن عتيبة، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري: إن كان قد أتم صيام يومين صام اليوم الثالث فقط، وإن كان لم يصم تمام اليومين انتقل عن حكم الصوم ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك. وقال آخرون: إن كان قد تم له صيام يوم واحد تمادى على صيام اليومين الباقيين وأجزأه، وإن كان لم يتم له صيام يوم واحد انتقل عن حكم الصوم ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك هو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي.

وقال مالك: إن دخل في الصوم ثم أيسر فليتماد في صومه، وإن لم يدخل فيه بطل حكم الصوم وانتقل إلى العتق، أو الكسوة، أو الإطعام وهو قول الحسن، وعطاء.

وقال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}. وهذه أقوال لا نص قرآن فيها، ولا سنة: فصح أنها آراء مجردة، ولا فرق بين يساره قبل أن يشرع في الصوم، وبين يساره بعد أن يشرع فيه، وإنما الحكم للحال التي أوجب الله تعالى فيها عليه ما أوجب. ونسألهم كلهم عمن حنث وهو معسر: هل عليه لله تعالى كفارة مفترضة أم ليس لله تعالى عليه كفارة مفترضة، ولا بد من أحدهما فمن قولهم: إن لله تعالى عليه كفارة مفترضة ولو قالوا: غير هذا لخالفوا نص القرآن بلا برهان ; فإذ الكفارة عليه، ولا بد، فنسألهم ما هي ؟

فإن قالوا: هي التي افترض الله تعالى عليه في القرآن

قلنا: صدقتم، فإذ قد أقررتم بذلك فمن أين سقطت عندكم بيساره بعد ذلك، وليس هذا في القرآن، ولا في السنة وما كان هكذا فهو باطل بلا شك.

وإن قالوا: هي غير التي افترض الله تعالى عليه، أو قسموا كانوا قائلين بلا برهان، وكفونا مؤنتهم ولله تعالى الحمد. وقولنا هذا هو قول أبي سليمان وأصحابه.


1183 - مسألة: ويجزئ في العتق في كل ذلك: الكافر، والمؤمن، والصغير، والكبير، والمعيب، والسالم، والذكر، والأنثى، وولد الزنى، والمخدم، والمؤاجر، والمرهون، وأم الولد، والمدبرة، والمدبر، والمنذور عتقه، والمعتق إلى أجل، والمكاتب ما لم يؤد شيئا، فإن كان أدى من كتابته ما قل أو كثر لم يجز في ذلك، ولا يجزئ من يعتق على المرء بحكم واجب، ولا نصفا رقبتين.

وقد ذكرنا كل ذلك في " كتاب الصيام " فأغنى عن إعادته. وعمدة البرهان في ذلك: قول الله تعالى: {أو تحرير رقبة}. فلم يخص رقبة من رقبة وما كان ربك نسيا.

فإن قالوا: قسنا الرقبة في هذا على رقبة القتل لا تجزئ إلا مؤمنة. قلنا: فقيسوها عليها في تعويض الإطعام منها.

فإن قالوا: لا نفعل، لأننا نخالف القرآن ونزيد على ما فيه قلنا: وزيادتكم في كفارة اليمين أن تكون مؤمنة، ولا بد خلاف للقرآن وزيادة على ما فيه فإن كان القياس في أحد الحكمين جائزا فهو في الآخر جائز، وإن كان في أحدهما غير جائز فهو في الآخر غير جائز. فإن احتجوا بالخبر الذي فيه: إن القائل قال لرسول الله ﷺ إنه لطم وجه جارية له وعلي رقبة أفأعتقها فقال لها رسول الله ﷺ أين الله قالت: في السماء، قال: من أنا قالت: رسول الله، فقال عليه السلام: أعتقها فإنها مؤمنة فلا حجة لهم فيه، لأنها بنص الخبر لم تكن كفارة يمين، ولا وطء في رمضان، ولا عن ظهار. وهم يجيزون الكافرة في الرقبة المنذورة على الإنسان، فقد خالفوا ما في هذا الخبر، واحتجوا به فيما ليس فيه منه شيء.

وأيضا: فإنه ليس فيه أنه عليه السلام قال: لا تجزئ إلا مؤمنة، وإنما فيه: أعتقها فإنها مؤمنة، ونحن لا ننكر عتق المؤمنة، وليس فيه أن لا يجوز عتق الكافرة، فنحن لا نمنع من عتقها.

فإن قيل: قد رويتم هذا الخبر من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن الشريد قال: يا رسول الله إن أمي أمرتني أن أعتق عنها رقبة، وعندي أمة سوداء أفأعتقها فقال له النبي ﷺ ادع بها فقال لها النبي ﷺ من ربك قالت: الله، قال: فمن أنا قالت: رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة فهذا عليهم لا لهم لأنهم يجيزون في رقبة الوصية كافرة، وأما نحن فلو انسند لقلنا به في الموصى بعتقها كما ورد.

وقال بعضهم: كما لا يعطى من الزكاة كافر كذلك لا يعتق في الفرض كافر

قلنا: هذا قياس والقياس كله باطل، ثم هذا منه عين الباطل، لأنه دعوى لا تقابل إلا بالتكذيب والرد فقط، لأن الله تعالى لم يقل ذلك، ولا رسوله عليه السلام.

روينا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: يجزئ اليهودي، والنصراني، في كفارة اليمين.

ومن طريق جرير عن المغيرة عن إبراهيم مثله أيضا.

ومن طريق ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جابر عن الشعبي قال: يجزئ الأعمى في الكفارة. وعن الحسن، وطاووس: يجزئ المدبر في الكفارة. وعن الحسن، وطاووس، والنخعي: تجزئ أم الولد في الكفارة.

وأما ولد الزنى: فإننا روينا من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة أم المؤمنين قالت: لان أتصدق بثلاث تمرات، أو أمتع بسوط في سبيل الله تعالى أحب إلي من أن أعتق ولد زنى.

ومن طريق أبي هريرة، أنه قال: لعبد له: لولا أنك ولد زنى لاعتقتك. وقال النخعي، والشعبي: لا يجزئ ولد الزنى في رقبة واجبة. وعن ابن عمر أنه أعتق ولد زنى.

واحتج من منع منه بخبر رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا العباس بن محمد الدورقي، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا إسرائيل عن زيد بن جبير عن أبي يزيد الضبي عن ميمونة مولاة رسول الله ﷺ: عن النبي عليه السلام: أنه سئل عن ولد الزنى فقال: لا خير فيه، نعلان أجاهد أو قال أجهز بهما أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى.

قال أبو محمد: إسرائيل ضعيف، وأبو يزيد مجهول، ولو صح لقلنا به.

وروينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم، والشعبي قالا جميعا: لا يجزئ في شيء من الواجب ولد زنى.

قال أبو محمد: وأجازه طاووس،، ومحمد بن علي. ولا يسمى نصفا رقبتين رقبة ومن أعتق بحكم فلم يعتق عن الكفارة فلا يجزئ فيها. وبالله تعالى التوفيق.


1184- مسألة: ولا يجزئ إطعام مسكين واحد أو ما دون العشرة يردد عليهم، لأن الله تعالى افترض عشرة مساكين، وهنا خلاف أمر الله تعالى.

وقال أبو حنيفة: يجوز وروينا مثل قول أبي حنيفة عن الحسن، وخالفه الشعبي، ولا يجزئ إلا مثل ما يطعم الإنسان أهله، فإن كان يعطي أهله الدقيق، فليعط المساكين الدقيق، وإن كان يعطي أهله الحب فليعط المساكين الحب، وإن كان يعطي أهله الخبز، فليعط المساكين الخبز، ومن أي شيء أطعم أهله فمنه يطعم المساكين، ولا يجزئه غير ذلك أصلا، لأنه خلاف نص القرآن ويعطي من الصفة، والمكيل الوسط لا الأعلى، ولا الأدنى كما قال عز وجل. وقد اختلف الناس في هذا: فصح عن عمر بن الخطاب في كفارة اليمين: لكل مسكين نصف صاع حنطة، أو صاع تمر، أو شعير. وعن علي مثله.

وروينا، عن ابن عمر: لكل مسكين نصف صاع حنطة. وعن زيد بن ثابت مثله. وعن عائشة أم المؤمنين: لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر وهو قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، وقال: أو أكلة مأدومة. وقال الحسن: مكوك حنطة، ومكوك تمر لكل مسكين. والمكوك نصف صاع. قال الحسن: وإن شاء أطعمهم أكلة خبزا، ولحما، فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا، فإن لم يجد فخبزا وخلا وزيتا فإن لم يجد صام ثلاثة أيام. وقال قتادة أيضا: مكوك تمر، ومكوك حنطة. وعن إبراهيم النخعي مد بر، ومد تمر هذا كله في كفارة اليمين. وقال عطاء، ومجاهد: عشرة أمداد لعشرة مساكين، ومدان للحطب، والإدام. وعن الحسن، وابن سيرين: يجمعهم فيشبعهم مرة واحدة. وصح أيضا عن سعيد بن المسيب، والحسن، وقتادة: مد تمر ومد حنطة لكل مسكين. وصح، عن ابن عباس: لكل مسكين مد حنطة. وعن زيد بن ثابت، وعن ابن عمر صحيح مثله أيضا. وعن عطاء وهو قول مالك، والشافعي.

وروينا، عن ابن بريدة الأسلمي إن كان خبزا يابسا: فعشاء وغداء. وعن علي يغديهم، ويعشيهم: خبزا، وزيتا، وسمنا، ولا يصح عنهما. وعن القاسم، وسالم، والشعبي، والنخعي، وغيرهم: غداء، وعشاء.

واحتج من ذهب إلى هذا: بما روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن يعلى، حدثنا أبو المحياة عن ليث بن أبي سليم قال: قال ابن بريدة: قال رسول الله ﷺ: إن كان خبزا يابسا فغداء وعشاء وهذا مرسل وليث ضعيف.

وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر لكل مسكين، أو صاع تمر، أو شعير، ومن دقيق البر وسويقه نصف صاع، ومن دقيق الشعير وسويقه صاع، فإن أطعمهم: فغداء، وعشاء أو غداء، وغداء أو عشاء وعشاء أو سحور وغداء أو سحور وعشاء. ولا يجزئ عند مالك، والشافعي: دقيق، ولا سويق.

قال أبو محمد: هذه أقوال مختلفة لا حجة بشيء منها من قرآن، ولا سنة، وموه بعضهم بأن رسول الله ﷺ أوجب في حلق الرأس للأذى للمحرم نصف صاع بين ستة مساكين وهذا حجة عليهم، لأن نص ذلك الخبر نصف صاع تمر لكل مسكين وهو خلاف قولهم. وموهوا أيضا بخبر رويناه من طريق أبي يحيى زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا محمد بن موسى الحرشي، حدثنا زياد بن عبد الله، حدثنا عمر بن عبد الله الثقفي، حدثنا المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كفر رسول الله ﷺ بصاع من تمر، وأمر الناس أن يعطوا، فمن لم يجد فنصف صاع. وهذا خبر ساقط، لأن زياد بن عبد الله ضعيف، وعمر بن عبد الله، هو ابن يعلى بن مرة وقد ينسب إلى جده وهو ضعيف. ولو صح لكان خلافا لقولهم، لأنهم لا يجيزون نصف صاع تمر ألبتة.

وروينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا معاوية الضرير عن عاصم، عن ابن سيرين عن ابن عمر قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: الخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والسمن ومن أعلى ما يطعمهم: الخبز واللحم.

ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين: أن أبا موسى الأشعري كفر عن يمين فعجن فأطعمهم.

ومن طريق سفيان بن عيينة قال: قال سليمان بن أبي المغيرة وكان ثقة عن سعيد بن جبير قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وبعضهم قوتا دونا، وبعضهم قوتا وسطا، فقيل من أوسط ما تطعمون أهليكم وعن ابن سيرين مثل قول ابن عمر.

وروينا نحو هذا عن شريح، والأسود بن يزيد، وسعيد بن جبير، والشعبي وهو قول أبي سليمان وهو قولنا، وهو نص القرآن.

وأما من حد كيلا ما، ومن منع من إطعام الخبز، والدقيق، ومن أوجب أكلتين، فأقوال لا حجة لها من قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا قول صاحب لا مخالف له منهم وبالله تعالى نتأيد.


1185 - مسألة: وأما الكسوة فما وقع عليه اسم كسوة: قميص، أو سراويل، أو مقنع، أو قلنسوة، أو رداء، أو عمامة، أو برنس، أو غير ذلك، لأن الله تعالى عم ولم يخص. ولو أراد الله تعالى كسوة دون كسوة لبين لنا ذلك وما كان ربك نسيا فتخصيص ذلك لا يجوز.

وروينا عن عمران بن الحصين: أن رجلا سأله عن الكسوة في الكفارة فقال له عمران: أرأيت لو أن وفدا دخلوا على أميرهم فكسا كل رجل منهم قلنسوة، قال الناس: إنه قد كساهم روينا من طريق مسدد عن عبد الوارث التنوري عن محمد بن الزبير عن أبيه:

ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أشعث عن الحسن البصري قال: تجزئ العمامة في كفارة اليمين.

وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبي سليمان.

وقال مالك: لا تجزي إلا ما تجوز فيه الصلاة وهذا لا وجه له، لأنه قول بلا برهان واختلف عن أبي حنيفة في السراويل وحدها، ولا يجزئ عنده عمامة فقط، وقالوا: لو أن إنسانا لم يلبس إلا عمامة فقط، لقال الناس: هذا عريان:

قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء لأن الله تعالى لم يقل لنا: اكسوهم ما لا يقع عليهم به اسم عريان وما كان ربك نسيا. ولو أن امرأ لبس قميصا، وسراويل في الشتاء لقال الناس: هذا عريان والعجب كله من أبي حنيفة إذ يمنع من أن تجزئ العمامة وهي كسوة ثم يقول: لو كساهم ثوبا واحدا يساوي عشرة أثواب، أو أعطاهم بغلة، أو حمارة تساوي عشرة أثواب أجزأه: ثم تدبرنا هذا: فرأينا ضرورة أن الكسوة على الإطلاق منافية للعري، إذ ممتنع محال أن يكون كاسيا عاريا من وجه واحد، لكن يكون كذلك من وجهين: مثل أن يكون بعضه كاسيا، وبعضه عاريا أو يكون عليه كسوة تعمه، ولا تستر بشرته كما صح عن رسول الله ﷺ، أنه قال: نساء كاسيات عاريات لا يدخلن الجنة فصح يقينا أن الكسوة لا يكون معها عري إذا كانت على الإطلاق، والله تعالى قد أطلقها، ولم يذكرها بإضافة. ولا شك في أن من عليه كسوة سابغة إلا أن رأسه عار أو ظهره أو عورته، أو غير ذلك منه، فإنه لا يسمى كاسيا، ولا مكتسيا إلا بإضافة، فوجب ضرورة أن لا تكون الكسوة إلا عامة لجميع الجسم، ساترة له عن العيون، مانعة من البرد، لأنه بالضرورة يعلم أن من كان في " كانون الأول " مغطى برداء قصب فقط: أنه لا يسميه أحد كاسيا، بل هو عريان. وبالله تعالى التوفيق.


1186 - مسألة: ويجزئ كسوة أهل الذمة وإطعامهم إذا كانوا مساكين، بخلاف الزكاة، لأنه لم يأت ههنا نص بتخصيص المؤمنين. وقد جاء النص في الزكاة: أن تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم.

1187 - مسألة: ويجزئ الصوم للثلاثة الأيام متفرقة إن شاء وهو قول مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تجزي إلا متتابعة واحتجوا بقياسها على كفارة الظهار، والقتل، وقالوا في قراءة ابن مسعود: " متتابعات ".

قال أبو محمد: من العجائب أن يقيس المالكيون: الرقبة في أن تكون مؤمنة في كفارة اليمين على كفارة القتل، ولا يقيسها الحنفيون عليها، ويقيس الحنفيون الصوم في كفارة اليمين في وجوب كونه متتابعا على صوم كفارة قتل الخطإ، والظهار، ولا يقيسه المالكيون عليه، فاعجبوا لهذه المقاييس المتخاذلة المحكوم بها في الدين مجازفة وأما قراءة ابن مسعود فهي من شرق الأرض إلى غربها أشهر من الشمس من طريق عاصم، وحمزة، والكسائي ليس فيها ما ذكروا ثم لا يستحيون من أن يزيدوا في القرآن الكذب المفترى نصرا لأقوالهم الفاسدة، وهم يأبون من قبول التغريب في الزنى، لأنه عندهم زيادة على ما في القرآن، وقد صح عن النبي ﷺ. ثم لا يستحيون من الله تعالى، ولا من الناس في أن يزيدوا في القرآن ما يكون من زاده فيه كافرا وما إن قرأ به في المحراب استتيب وإن كتبه في مصحف قطعت الورقة أو بشر نصرا لتقليدهم، فإذ لم يخص الله تعالى تتابعا من تفريق، فكيفما صامهن أجزأه وبالله تعالى التوفيق.

1188 - مسألة: ومن عنده فضل عن قوت يومه وقوت أهله ما يطعم منه عشرة مساكين لم يجزه الصوم أصلا، لأنه واجد، ولا يجزئ الواجد بنص القرآن إلا ما وجد، ولا يجزئ الصوم إلا من لم يجد. والعبد، والحر، في كل ذلك سواء وما كان ربك نسيا ومن حد بأكثر من هذا من قوت جمعة، أو أشهر، أو سنة ; كلف الدليل، ولا سبيل له إليه.

1189 - مسألة: ولا يجزئ إطعام بعض العشرة وكسوة بعضهم وهو قول مالك، والشافعي وقال أبو حنيفة، وسفيان: يجزئ وهذا خلاف القرآن وما نعلم أحدا قاله قبل أبي حنيفة.


1190 - مسألة: ومن حلف على إثم ففرض عليه أن لا يفعله ويكفر، فإن حلف على ما ليس إثما فلا يلزمه ذلك وقال بعض أصحابنا: يلزمه ذلك إذا رأى غيرها خيرا منها واحتجوا بقول رسول الله ﷺ: فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.

قال أبو محمد: كان هذا احتجاجا صحيحا لولا ما رويناه في " كتاب الصلاة في باب الوتر من قول القائل للنبي ﷺ إذ ذكر له الصلوات الخمس فقال: هل علي غيرهن قال: لا إلا أن تطوع وقال في صوم رمضان والزكاة كذلك، والله لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن فقال عليه السلام: أفلح إن صدق، دخل الجنة إن صدق. ولا شك في أن التطوع بعد الفرض أفضل من ترك التطوع وخير من تركه، فلم ينكر النبي عليه السلام يمينه تلك، ولا أمره بأن يأتي الذي هو خير، بل حسن له ذلك.

فصح أن أمر النبي ﷺ بذلك إنما هو ندب وبالله تعالى التوفيق.