الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة السابعة والثلاثون


كتاب الأيمان

1136 - مسألة : واليمين محمولة على لغة الحالف وعلى نيته ، وهو مصدق فيما ادعى من ذلك إلا من لزمته يمين في حق لخصمه عليه - والحالف مبطل - فإن اليمين ههنا على نية المحلوف له . ومن قيل له : قل كذا أو كذا ؟ فقال - وكان ذلك الكلام يمينا بلغة لا يحسنها القائل - فلا شيء عليه ولم يحلف - ومن حلف بلغته باسم الله تعالى عندهم فهو حالف ، فإن حنث فعليه الكفارة . برهان ذلك - : أن اليمين إنما هي إخبار من الحالف عما يلتزم بيمينه تلك ، وكل واحد فإنما يخبر عن نفسه بلغته ، وعما في ضميره . - فصح ما قلناه ، وقول النبي ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } . وقال الله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } . وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } . ولله تعالى في كل لغة اسم ، فبالفارسية : أوزمز ، وبالعبرانية : أذوناي ، والوهيم ، والوهاء ، وإسرائيل ، وباللاتينية : داوش ، وقريطور ، وبالصقلبية : بغ ، وبالبربرية : يكش . فإن حلف هؤلاء بهذه الأسماء فهي يمين صحيحة ؛ وفي الحنث فيه الكفارة . وأما من لزمته يمين لخصمه - وهو مبطل - فلا ينتفع بتوريته ، وهو عاص لله تعالى في جحوده الحق ، عاص له في استدفاع مطلب خصمه بتلك اليمين ، فهو حالف يمين غموس ، ولا بد . روينا من طريق هشيم عن عباد بن أبي صالح وعبد الله بن أبي صالح عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك } . وقد قيل : عباد ، وعبد الله واحد ، ولا يكون صاحب المرء إلا من له معه أمر يجمعهما يصطحبان فيه ، وليس إلا ذو الحق الذي له عليك يمين تؤديها إليه ولا بد . وأما من لا يمين له عندك فليس صاحبك في تلك اليمين .

1137 - مسألة : ومن حلف ثم قال : نويت بعض ما يقع عليه اللفظ الذي نطق صدق ، وكذلك لو قال : جرى لساني ولم يكن لي نية فإنه يصدق ، فإن قال : لم أنو شيئا دون شيء حمل على عموم لفظه لما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

1138 - مسألة : ومن حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه : إن شاء الله تعالى ، أو إلا أن يشاء الله ، أو إلا أن لا يشاء الله ، أو نحو هذا ، أو إلا أن أشاء ، أو إلا أن لا أشاء ، أو إلا إن بدل الله ما في قلبي ، أو إلا أن يبدو إلي ، أو إلا أن يشاء فلان ، أو إن شاء فلان ، فهو استثناء صحيح وقد سقطت اليمين عنه بذلك ، ولا كفارة عليه إن خالف ما حلف عليه . فلو لم يصل الاستثناء بيمينه لكن قطع قطع ترك للكلام ثم ابتدأ الاستثناء لم ينتفع بذلك ، وقد لزمته اليمين ، فإن حنث فيها فعليه الكفارة . ولا يكون الاستثناء إلا باللفظ ، وأما بنية دون لفظ فلا ، لقول الله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } فهذا لم يعقد اليمين . ونحن على يقين من أن الله تعالى لو شاء تمام تلك اليمين لأنفذها ، وأتمها ، فإذ لم ينفذها عز وجل ولا أتمها ، فنحن على يقين من أنه تعالى لم يشأ كونها وهو إنما التزمها إن شاء الله تعالى ، والله تعالى لم يشأها ، فلم يلتزمها قط . وكذلك اشتراطه مشيئة نفسه ، أو مشيئة زيد ، لأن مشيئته لا تعلم إلا من قبله فهو مصدق فيها - ومشيئة زيد لا ندري أصدق في دعواه أنه شاء أو لم يصدق ؟ ولا ندري أيضا أصدق في دعواه أنه لم يشأ أو لم يصدق ؟ فلسنا على يقين من لزوم هذه اليمين التي حلف بها ، فلم يجز أن نلزمه كفارة بالشك . ومن طريق أحمد بن زهير بن حرب نا يحيى بن معين عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { من حلف فقال : إن شاء الله ، لم يحنث } ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر بن حماد نا مسدد عن عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري - عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث } فهذا عموم لكل استثناء كما ذكرنا . قال أبو محمد : وقوله عليه السلام فقال : " إن شاء الله " أو " فاستثنى " يقتضي القول ، والقول لا يكون إلا باللسان ، لا يكون بالنية أصلا . وقد قال قوم : إن استثنى في نفسه أجزأه . وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن محل بن محرز عن إبراهيم النخعي قال : لا ، حتى يجهر بالاستثناء كما جهر باليمين . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم : إن استثنى في نفسه فليس بشيء حتى يظهره بلسانه . وعن معمر عن حماد في الاستثناء : ليس بشيء حتى يسمع نفسه . وعن قتادة عن الحسن البصري إذا حرك لسانه أجزأ عنه في الاستثناء . قال أبو محمد : وبهذا نقول ، لأنه قول صحيح - يعني حركة اللسان . وأما وصل الاستثناء باليمين فإن أبا ثور قال : لا يكون مستثنيا إلا حتى ينوي الاستثناء في حين نطقه باليمين ، لا بعد تمامها ، لأنه إذا أتم اليمين ولم ينو فيها الاستثناء كان قد عقد يمينه فلزمته . قال أبو محمد : ولا يعترض بالنظر على بيان رسول الله ﷺ وقد قال عليه السلام : { من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث } فأثبت له اليمين أولا ، ثم أسقطها عليه السلام عنه بقوله : " فقال إن شاء الله " والفاء تعطي أن تكون الثاني بعد الأول بلا مهلة - فصح ما قلناه . وقالت طائفة : الاستثناء جائز أبدا متى أراد أن يستثني - : كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا عبد الله بن داود هو الخريبي - عن سليمان الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : له ثنياه بعد كذا وكذا . ومن طريق خصيف عن مجاهد قال : إن قال بعد سنين إن شاء الله تعالى فقد استثنى . وقالت طائفة بعد أربعة أشهر - : كما روينا من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : إن قال بعد أربعة أشهر - إن شاء الله - فقد استثنى . وقالت طائفة : بعد شهر - : كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سالم بن عجلان الأفطس عن سعيد بن جبير قال : إذا حلف الرجل فقال : بعد شهر - إن شاء الله - فله ثنياه . وقالت طائفة : من نسي فله أن يستثني متى ما ذكر - : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : يستثني في يمينه متى ما ذكر ، وقرأ : { واذكر ربك إذا نسيت } . وصح [ هذا ] أيضا عن سعيد بن جبير [ وعن ] أبي العالية . وقالت طائفة : في ذلك بمهلة غير محدودة - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : قال عبد الله بن مسعود : من حلف ثم قال : إن شاء الله - فهو بالخيار . وقالت طائفة : بمقدار حلب شاة غزيرة - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء ، قال : له الاستثناء في اليمين بمقدار حلب الناقة الغزيرة . وطائفة قالت : له الاستثناء ما لم يقم عن مجلسه ، أو يتكلم - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن قتادة قال : إذا حلف ثم استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه . وطائفة قالت : ما لم يقم فقط - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني ابن طاووس عن أبيه قال : من استثنى لم يحنث وله الثنيا ما لم يقم من مجلسه . ومن طريق ابن أبي شيبة عن حماد بن سلمة عن هشام بن حسان عن الحسن البصري : أنه كان يرى الاستثناء في اليمين ما لم يقم من مقعده ذلك لا يوجب عليه الكفارة إن استثنى قبل أن يقوم . وقالت طائفة : له الاستثناء في أول نهاره - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : قال عبد الله بن مسعود قال أبو ذر هو الغفاري ما من رجل يقول حين يصبح : اللهم ما قلت من قول ، أو حلفت من حلف ، أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله ، ما شئت منه كان ، وما لم تشأ لم يكن ، فاغفره لي ، وتجاوز لي عنه ، اللهم من صليت عليه فصلواتي عليه ، ومن لعنته فلعنتي عليه ، إلا كان في استثنائه بقية يومه ذلك وأما قولنا : فإننا روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يحلف يقول : والله لا أفعل كذا وكذا إن شاء الله - ثم يفعله ولا يكفر . وقد صح عن ابن عمر : أنه كان يكفر أيمانا أخر - : فقد ثبت عنه إسقاط الكفارة إذا وصل الاستثناء بكلامه ، ولم يصح عنه في المهلة شيء ، فظاهره أنه إذا لم يكن استثناؤه موصولا بيمينه كفر . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال لي عطاء : إذا حلف ثم استثنى على أثر ذلك ومع ذلك ، وعند ذلك ، قال ابن جريج كأنه يقول : ما لم يقطع اليمين ويتركه - وصح عن الأعمش عن إبراهيم في الاستثناء في اليمين قال : ما كان في كلامه بقول . ورويناه أيضا عن الشعبي ، والحسن ، وسفيان الثوري . وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبي سليمان . قال أبو محمد : إنما قلنا بهذا لقول الله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } الآية فأوجب الله تعالى الكفارة على من عقد اليمين ، ثم قال رسول الله ﷺ : { من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث } فلم يجعل الاستثناء مردودا على اليمين إلا بالفاء ، والفاء في لغة العرب توجب تعقيبا بلا مهلة فوقفنا عند ذلك . وقال بعضهم : لو كان ما قال ابن عباس ما لزمت أحدا كفارة أبدا . قال علي : وهذا لا شيء ، لأن ابن عباس لا يمنع من أراد الحنث وإيجاب الكفارة من أن يكفر ، لكن لو قالوا : هذا مما تكثر به البلوى فما كان مثل هذا ليخفى على ابن عباس لكان ألزم لهم . والعجب أن أبا حنيفة ومالكا يريان الاستثناء في اليمين بالله تعالى فقط ولا يريانه في سائر الأيمان ، وهذا عجب جدا أن يكون الأيمان بغير الله تعالى أوكد وأعظم من اليمين بالله ، لأن اليمين بالله تعالى يسقطها الاستثناء ويسقطها الكفارة ، واليمين بغير الله تعالى أجل من أن يسقطها الاستثناء ومن أن يسقطها الكفارة ، ومن أن يكون فيها غير الوفاء بها . ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول البشيع الشنيع ، والكفارة في نص القرآن جاءت على الأيمان جملة ، والاستثناء في بيان رسول الله ﷺ جاء في جملة ، فإن كان تلك أيمانا فالاستثناء والكفارة فيها وإن لم تكن أيمانا فمن أين ألزموها ؟ وعجب آخر عجيب جدا وهو أن مالكا قال : إن الاستثناء في الأيمان إن نوى به الحالف الاستثناء فهو استثناء صحيح ، فإن نوى به قول الله عز وجل : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } لم يكن استثناء . قال أبو محمد : هذا كلام لا يدرى ما هو ؟ ولا ماذا أراد قائله به ، ولقد رمنا أن نجد عند من أخذنا قوله عنه من المنتمين إليه معنى يصح فهمه لهذا الكلام ، فما وجدناه إلا أنهم يحملونه كما جاء وكما نقول نحن في { كهيعص } و { طه } { آمنا به كل من عند ربنا } ، وإن لم نفهم معناه . قال أبو محمد : فإن احتج محتج لقول ابن عباس وغيره بما روينا من طريق أبي داود نا محمد بن العلاء نا ابن بشر عن مسعر عن سماك بن حرب [ عن عكرمة ] يرفعه { أن رسول الله ﷺ قال : والله لأغزون قريشا ثم قال : إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشا ، ثم سكت ، ثم قال : إن شاء الله } قال أبو داود : وقال الوليد بن مسلم عن شريك ، " ثم لم يغزهم " . ورويناه أيضا من طريق شريك عن سماك عن عكرمة ، وأسنده جماعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس . قال أبو محمد : سماك ضعيف يقبل التلقين ويلزم من اعتد بروايته في أخذ الدنانير من الدراهم ، والدراهم من الدنانير أن يأخذ بها ههنا . ومن قال : إن المرسل كالمسند أن يقول بهذا أيضا . ويلزمهم إذ قاسوا ما يكون صداقا على ما تقطع فيه اليد في السرقة أن يقيسوا مدة مهلة الاستثناء على مدة الإيلاء فيقولوا بقول سعيد بن جبير في ذلك أو يجعلوه شهرا على قولهم في أجل المدين أنه يسجن شهرا ، ثم يسأل عنه بعد الشهر ؟ أو يقيسوه على قولهم الفاسد في المخيرة أن لها الخيار ما لم تقم عن مجلسها أو تتكلم ، فأي فرق بين هذه التحكمات في الدين بالباطل في تحريم الفروج وإباحتها ، وغير ذلك من الديانة وبين مهلة الاستثناء ؟ وهل هذا إلا شبه التلاعب بالدين ؟ والعجب من إجازتهم أكل ما ذبح أو نحر ونسي مذكيه أن يسمي الله تعالى عليه ، ثم لا يرون ههنا نسيان الاستثناء عذرا يوجبون للحالف به الاستثناء متى ذكر . فإن قالوا : فهلا قلتم أنتم بهذا كما أسقطتم الكفارة عمن فعل ما حلف عليه ناسيا ؟ قلنا : لم نفعل بذلك ، لأن الفاعل ناسيا ليس حانثا لأن الحانث هو القاصد إلى الحنث ، وناسي الاستثناء لم يستثن ، فانعقدت اليمين عليه فوجبت الكفارة بنص القرآن . والكفارة لا تسقط بعد وجوبها إلا بنص ، ولم يسقطها النص إلا إذا قال موصولا باليمين ما يستثني به . والعجب أنهم يقولون في مثل هذا إذا وافقهم : مثل هذا لا يقال بالرأي ، فهلا قالوا في قول أبي ذر . وابن عباس ههنا : مثل هذا لا يقال بالرأي ، كما قالوا في رواية شيخ من بني كنانة عن عمر البيع عن صفقة أو خيار : هذا لا يقال بالرأي ، فردوا به السنة الثابتة من أن كل بيعين فلا بيع بينهما ما لم يتفرقا وكانا معا .

1139 - مسألة : ويمين الأبكم واستثناؤه لازمان على حسب طاقته من صوت يصوته أو إشارة إن كان مصمتا لا يقدر على أكثر ، لما ذكرنا من أن الأيمان إخبار من الحالف عن نفسه ، والأبكم ، والمصمت ، مخاطبان بشرائع الإسلام كغيرهما . وقد قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال رسول الله ﷺ : { إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم } . فوجب عليهما من هذه الشريعة ما استطاعاه ، وأن يسقط عنهما ما ليس في وسعهما ، وأن يقبل منهما ما يخبران به عن أنفسهما حسب ما يطيقان ويلزمهما ما التزماه - وبالله تعالى التوفيق .

1140 - مسألة : والرجال ، والنساء ، الأحرار ، والمملوكون ، وذوات الأزواج والأبكار ، وغيرهن ، في كل ما ذكرنا ونذكر سواء ، لأن الله تعالى قال : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } . وقال تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } . وقال عليه السلام : { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } وقال في الاستثناء ما ذكرنا ولم يأت نص بتخصيص عبد من حر ، ولا ذات زوج من أيم ، ولا بكر من ثيب { وما كان ربك نسيا } . والتحكم في الدين بالآراء الفاسدة لا يجوز - وبالله تعالى التوفيق . قد وافقونا : على أن كل من ذكرنا مخاطب بالصلاة ، وبالصيام ، وتحريم ما يحرم ، وتحليل ما يحل سواء ، فأنى لهم تخصيص بعض ذلك من بعض بالباطل ، والدعاوى الكاذبة ؟ فإن ذكروا ما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن حرام بن عثمان عن عبد الرحمن ، ومحمد ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما : أن رسول الله ﷺ قال : { لا يمين لولد مع يمين والد ، ولا يمين لزوجة مع يمين زوج ، ولا يمين للمملوك مع يمين مليكه ، ولا يمين في قطيعة ، ولا نذر في معصية ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتاقة قبل الملك ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا مواصلة في الصيام ، ولا يتم بعد الحلم ، ولا رضاعة بعد الفطام ، ولا تغرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح } فحرام بن عثمان ساقط مطرح لا تحل الرواية عنه ، ويلزم من قلد روايته في استظهار المستحاضة بثلاث بعد أيامها ، فأسقط بها الصلوات المفروضة والصيام المفروض ، وحرم الوطء المباح أن يأخذوا بروايته ههنا ، وإلا فهم متلاعبون بالدين . بالله تعالى التوفيق . وقد خالفوا أكثر ما في هذا الخبر - وأما نحن فوالله لو صح بروايته الثقات متصلا لبادرنا إلى القول به - وبالله تعالى التوفيق .

1141 - مسألة : ولا يمين لسكران ، ولا لمجنون في حال جنونه ، ولا لهاذ في مرضه ، ولا لنائم في نومه ، ولا لمن لم يبلغ . ووافقنا في كل هذا أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، إلا أنهم خالفونا في السكران وحده ، ووافق في السكران أيضا قولنا ههنا قول المزني ، وأبي سليمان ، وأبي ثور ، والطحاوي ، والكرخي من أصحاب أبي حنيفة ، وغيرهم . وحجتنا في السكران قول الله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فمن شهد الله تعالى له بأنه لا يدري ما يقول ، فلا يحل أخذه بما لا يدري ما هو من قوله ، وبيقين ندري أنه لم يعقد اليمين ، والله تعالى لا يؤاخذ إلا بما عقد منها بنص القرآن ، وما نعلم لهم حجة إلا أنهم قالوا : هو أدخل ذلك على نفسه ؟ فقلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ وما تقولون فيمن قطع الطريق فجرح جراحة أقعدته ، أو جرحها نفسه عابثا عاصيا ، أينتقل إلى حكم من أقعد في سبيل الله ، أو بمرض من عنده عز وجل في جواز الصلاة قاعدا ، وفي وجوب الفطر في رمضان في مرضه أم لا ؟ فمن قولهم : نعم ، فظهر تناقضهم . وكل من صار إلى حال يبطل اختياره فيها بأي وجه صار إليها ، فهو في حكم من صار إليها بغلبة ، لأن النصوص لم تستثن ههنا من أحوال المصير إلى تلك الحال شيئا . والعجب من المالكيين القائلين فيمن خرج قاطعا للطريق فاضطر إلى الميتة ، والخنزير : إن له أن يقوي نفسه بأكلها ، والقرآن جاء بخلاف ذلك - وهو قادر على التوبة ثم يأكل حلالا فلا يلزمه ذلك ، ثم لا يرى السكران في حكم من ذهب عقله من أجل أنه هو أدخله على نفسه . والعجب من أبي حنيفة الذي يرى أن النائم في نهار رمضان إن أكل في حال نومه ، أو شرب ما دس في فمه ، أنه مفطر ، ثم يراه ههنا غير حالف ثم يلزم السكران يمينه ، وهذا عجب جدا . فإن قالوا : لعله متساكر ، ومن يدري أنه سكران ؟ قلنا : ولعل المجنون متجنن ، متحامق ، ومن يدري أنه مجنون ، أو أحمق - وجوابنا ههنا أنه من حيث يدري أنه مجنون ، يدري أنه سكران ، ولا فرق . وفي الصبي يحلف : خلاف نذكره : روينا من طريق محمد بن المثنى عن حفص بن غياث عن ليث بن أبي سليم عن طاوس قال : إذا حلف الصبي ثم حنث بعد ما يكبر كفر . قال أبو محمد : وقد صح عن بعض الصحابة : عمر ، أو عثمان : إقامة الحد على من بلغ خمسة أشبار وإن لم يبلغ - ويلزم من يرى من المالكيين أن يكفر عن الصبي يصيب لصيد في إحرامه أن يكفر عنه إن حنث وإلا فقد تناقضوا . قال علي : والحجة في هذا - : هو ما رويناه من طريق أبي داود نا موسى بن إسماعيل نا وهيب هو ابن خالد - عن خالد الحذاء عن أبي الضحى عن علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ قال : { رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل } . ومن طريق أبي داود نا عثمان بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة أم المؤمنين : أن رسول الله ﷺ قال : { رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصبي حتى يكبر } . قال علي : السكران مبتلى بلا شك في عقله .

1142 - مسألة  : ومن حلف بالله تعالى في كفره ثم حنث في كفره ، أو بعد إسلامه فعليه الكفارة ، لأنهم مخاطبون بطاعة رسول الله ﷺ ودين الله تعالى لازم لهم - قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } . وقال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولا يجزيه أن يكفر في حال كفره ، لأنه لم يأت بالكفارة التي افترض الله تعالى عليه في القرآن مصدقا أنها دين الله تعالى فعليه أن يأتي بها . قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } .

1143 - مسألة : ومن حلف : واللات ، والعزى ، فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير - يقولها مرة ؛ أو يقول : لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات ولا بد . وينفث عن شماله ثلاث مرات ، ويتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ثم لا يعد فإن عاد عاد لما ذكرنا أيضا . ومن قال لآخر : تعال أقامرك ؟ فليتصدق ولا بد بما طابت به نفسه قل أم كثر - : لما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا عبد الحميد بن محمد أنا مخلد نا يونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي - عن أبيه [ قال ] حدثني مصعب بن سعد عن أبيه { سعد بن أبي وقاص قال : حلفت باللات والعزى فأتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له ؟ فقال : قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن شمالك ثلاثا ، وتعوذ بالله من الشيطان ، ثم لا تعد } . ومن طريق أحمد بن شعيب نا أبو داود الحراني نا الحسن بن محمد هو ابن أعين ثقة - نا زهير هو ابن معاوية - نا أبو إسحاق هو السبيعي عن { مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى فقال لي أصحاب رسول الله ﷺ : بئس ما قلت ائت رسول الله ﷺ فأخبره فإنا لا نراك إلا قد كفرت فلقيته فأخبرته ؟ فقال لي : قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات وانفث عن شمالك ثلاث مرات ولا تعد له } . ومن طريق مسلم نا إسحاق هو ابن راهويه - أنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف : أن أبا هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { : من حلف منكم فقال في حلفه : باللات ، فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق } . قال علي : في هذا إبطال التعلق بقول أحد دون رسول الله فقد قال الصحابة رضي الله عنهم لسعد : ما نراك إلا قد كفرت ، ولم يكن كفر .

1144 - مسألة : ومن حلف أيمانا على أشياء كثيرة على كل شيء منها يمين ، مثل : والله لا أكلت اليوم ، ووالله لا كلمت زيدا ، ووالله لا دخلت داره أو نحو هذا ، فهي أيمان كثيرة إن حنث في شيء منها فعليه كفارة . فإن عمل آخر فكفارة أخرى ، فإن عمل ثالثا فكفارة ثالثة - وهكذا ما زاد ، لأنها أيمان متغايرة ، وأفعال متغايرة ، وأحناث متغايرة ، إن حنث في يمين لم يحنث بذلك في أخرى بلا شك ، فلكل يمين حكمها .

1145 - مسألة : فلو حلف كذلك ثم قال في آخرها : إن شاء الله أو استثنى بشيء ما ، فإن قوما قالوا : إن كان ذلك موصولا فهو مصدق فيما نوى ، فإن قال أردت بالاستثناء جميع الأيمان ، فلا حنث عليه في شيء منها . وإن قال : نويت آخرها ، فهو كما قال - وبالله تعالى التوفيق . وقال أبو ثور : الاستثناء راجع إلى جميع الأيمان . وقال أبو حنيفة : لا يكون الاستثناء إلا لليمين التي تلي الاستثناء . قال أبو محمد : وبهذا نأخذ ، لأنه قد عقد الأيمان السالفة ولم يستثن فيها وقطع الكلام فيها ، وأخذ في كلام آخر ، فبطل أن يتصل الاستثناء بها ، فوجب الحنث فيها إن حنث والكفارة ، وكان الاستثناء في اليمين التي اتصل بها كما قدمنا - وبالله تعالى التوفيق .

1146 - مسألة : فإن حلف يمينا واحدة على أشياء كثيرة ، كمن قال : والله لا كلمت زيدا ولا خالدا ، ولا دخلت دار عبد الله ، ولا أعطيتك شيئا ، فهي يمين واحدة ، ولا يحنث بفعله شيئا مما حلف عليه ، ولا تجب عليه كفارة حتى يفعل كل ما حلف عليه . وهذا قول عطاء ، والشافعي ، وبعض أصحابنا . روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال عطاء فيمن قال : والله لا أفعل كذا ، والله لا أفعل كذا ، لأمور شتى - قال : هو قول واحد ، ولكنه خص كل واحد بيمين ، قال : كفارتان . وقال عطاء فيمن قال والله لا أفعل كذا ، وكذا لأمرين شتى فعمهما باليمين ؟ قال : كفارة واحدة - ولا نعلم لمتقدم فيها قولا آخر . وقال المالكيون : هو حانث بكل ما فعل من ذلك ، ثم يخرج على هذا القول أنه يجب عليه لكل فعل كفارة - وقول آخر : إنه يلزمه كفارة بأول ما يحنث ، ثم لا كفارة عليه في سائر ذلك . قال أبو محمد : اليمين لا تكون بالنية دون القول وهو لم يلفظ إلا بيمين واحدة ، فلا يلزمه أكثر من يمين أصلا ، إذ لم يوجب لزومها إياه قرآن ؛ ولا سنة ، فإذ هي يمين واحدة فلا يجوز أن يكون في بعضها على حنث ، وفي بعضها على بر ؛ إنما هو حانث ، أو غير حانث : ولم يأت بغير هذا قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا قول متقدم . فصح أنه لا يكون حانثا إلا بأن يفعل كل ما عقد بتلك اليمين أن لا يفعله - وأيضا : فالأموال محظورة والشرائع لا تجب بدعوى لا نص معها - وبالله تعالى التوفيق .

1147 - مسألة  : فإن حلف أيمانا كثيرة على شيء واحد ، مثل : أن يقول : بالله لا كلمت زيدا ، والرحمن لا كلمته ، والرحيم لا كلمته ، بالله ثانية لا كلمته ، بالله ثالثة لا كلمته - وهكذا أبدا في مجلس واحد ، أو في مجالس متفرقة ، وفي أيام متفرقة : فهي كلها يمين واحدة - ولو كررها ألف ألف مرة - وحنث واحد ؛ وكفارة واحدة - ولا مزيد . وقد اختلف السلف في هذا - : روينا من طريق حماد بن سلمة عن أبان عن مجاهد قال : زوج ابن عمر مملوكه من جارية له ، فأراد المملوك سفرا فقال له ابن عمر : طلقها ؟ فقال المملوك : والله لا طلقتها فقال له ابن عمر والله لتطلقنها كرر ذلك ثلاث مرات ؟ قال مجاهد لابن عمر : كيف تصنع ؟ قال : أكفر عن يميني ، فقلت له : قد حلفت مرارا ؟ قال : كفارة واحدة . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن مجاهد عن ابن عمر قال : إذا أقسمت مرارا فكفارة واحدة . ومن طريق إبراهيم النخعي إذا ردد الأيمان فهي يمين واحدة . وعن هشام بن عروة أن أباه سئل من تعرضت له جارية له مرارا كل مرة يحلف بالله أن لا يطأها ؟ ثم وطئها ؟ فقال له عروة : كفارة واحدة . ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء قال : كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد ، في مجالس شتى . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : إذا حلف في مجالس شتى قال : كفارة واحدة . قال : وأخبرني من سمع عكرمة يقول مثل هذا ؟ ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد ، وقتادة عن الحسن قال : كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد في مجالس شتى - وهو قول الأوزاعي ، ومالك ، وأحمد . وإسحاق ، وأبي سليمان ، وأبي عبيد ، وأحد قولي سفيان الثوري . وروينا عن ابن عمر ، وابن عباس : إذا أكد اليمين فعتق رقبة . وقالت طائفة : إن كان ذلك في مجلس واحد فكفارة واحدة ، وإن كان في مجالس شتى فكفارات شتى . صح ذلك عن قتادة ، وقال عمرو بن دينار : يقولون ذلك . وقال سفيان الثوري في قول له : إن نوى باليمين الأخرى يمينا ثانية فكفارتان ، وقال عثمان البتي ، وأبو ثور : إن أراد التكرار فيمين واحدة وإن أراد التغليظ فلكل مرة كفارة . وهو قول الشافعي إلا أنه عبر عنه بأن قال : إن أراد التكرار فكفارة واحدة ، وإلا فلكل مرة كفارة - فلم يخرجه عن أن يكون لكل مرة كفارة ، إلا بأن ينوي التكرار فقط - ثم لم يشترط إرادة التغليظ . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أراد التكرار فيمين واحدة ، وإن لم تكن له نية ، وأراد التغليظ ، أو كان ذلك في مجلسين فصاعدا ، فلكل يمين كفارة . قال أبو محمد : لا نعلم لمن رأى في تأكيد اليمين عتق رقبة - فقط - حجة ، لأن الله تعالى حين بين الرقبة ، والإطعام ، والكسوة ، وقد علم أن هنالك أيمانا مؤكدة ، قال تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } . ولا نعلم لمن فرق بين أن يكون ذلك في مجلس وبين أن يكون في مجلسين فصاعدا حجة إلا الدعوى أنها يمين واحدة ، في مجلس ، ويمين ثانية في المجلس الثاني . وهذه دعوى لا يصححها برهان ، وكل لفظ فهو بلا شك غير اللفظ الآخر ، كما أن كل مجلس غير المجلس الآخر ولا فرق . وكذلك لا ندري لمن فرق بين التغليظ وغير التغليظ حجة أصلا إلا الدعوى بلا برهان . وأما من قال : إن نوى التكرار فهي يمين واحدة ، وإلا فهي أيمان شتى ، فما نعلم لهم حجة إلا أنهم قالوا : هي ألفاظ شتى ، فلكل لفظ حكم ، أو أن يقيسوا ذلك على تكرار الطلاق . قال أبو محمد : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن النص جاء في القرآن بأن حكم الطلقة الثالثة غير حكم الثانية ، وغير حكم الأولى ، ولم يأت ذلك في الأيمان . وأما قولهم : إنها ألفاظ شتى ، فنعم ، إلا أن الحنث به تجب الكفارة لا بنفس اليمين فإن الأيمان لا توجب الكفارة أصلا ، ولا خلاف في ذلك ولا يوجب الكفارة إلا الحنث ، فالحنث فيها كلها حنث واحد بلا شك ولا يجوز أن يكون بحنث واحد كفارات شتى ، والأموال محرمة ، والشرائع ساقطة ، إلا أن يبيح المال نص ، أو يأتي بالشرع نص وبالله تعالى التوفيق . وهذا مما خالف فيه الحنفيون ، والشافعيون ، ابن عمر وابن عباس ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف وبالله تعالى التوفيق .