→ شهر ذي الحجة | رحلة ابن جبير الرحلة إلى المدينة المؤلف: محمد بن جبير |
الرحلة إلى العراق ← |
الرحلة إلى المدينة
ثم اقلعنا ظهر يوم السبت الرابع والعشرين الذي الحجة المذكور ونزلنا بمقربة من عسفان، ثم اسرينا اليها نصف الليل وصبحناها بكررة يوم الأحد. وهي في بسيط من الأرض بين جبال، وبها آبارر معينة تنسب لعثمان، ررضي الله عنه، وشجر المقل فيها كثيرر، وبها حصن عتيق البنيان، ذو أبراج مشيدة غير معمور، قد أثر فيه القد، وأوهته قلة العمارة ولزوم الخراب. فاجتزناها بأميال ونزلنا مريحين قائلين.
فلما كان اثر صلاة الظهر أقلعنا خليص، فوصلناها عشي النهار. وهي أيضاً في بسيط من الأررض، كثيرة حدائق النخل، لها جبل فيه حصن مشيد في قنته. وفي البسيط حصن آخر قد أثر فيه الخراب. وبها عين فوارة قد أحدثت لها أخاديد في الأرض مسربة يستقى منها على أفواه كالآباررر، يجدد الناس بها الماء لقلته في الطريق بسبب القحط المتصل، والله يغيث بلاده وعباده. وأصبح الناس بها مقيمين يوم الأثنين لإرواء الإبل واستصحاب الماء.
يسقون أبناء السبيل في المواضع المعروف فيها الماء، وفي الطريق كله، وبعرفات، وبالمسجد الحرام، في كل يوم وليلة، فلهن في ذلك أجر عظيم، وما التوفيق الا بالله جل جلاله. فتسمع المنادي على النواضح يرفع صوته بالماء للسبيل، فيهطع اليه المرملون من الزاد والماء بقربهم وأباريقهم فيملأونها، ويقول المنادي في اشادته بصوته: أبقى الله الملكة خاتون، ابنة الملك الذي من أمره كذا، ومن شأنه كذا. ويحليه بحلاه، إعلااناً باسمها، واظهاراً لفعلها، وستجلاباً للدعاء لها من الناس، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وقد تقدم تفسير هذه اللفظة خاتون، وأنها عندهم بمنزلة السيدة أو مايليق بهذا اللفظ الملوكي النسائي.
ومن عجيب هذه المحلة أيضاً، على عظمها وكبرها، وكونها وجود دنيا بأسرها، أنها اذا حطت رحالها، ونزلت منزلها، ثم ضرب الأمير طبله للإنذار بالرحيل، ويسمونه الكوس، لم يكن بين استقلال الرواحل بأوقارها ورحالها وركابها الا كلا ولان فلا يكاد يفرغ الناقر من الضببة الثالثة الا والركائب قد أخذت سبيلها. كل ذلك من قوة الاستعداد، وشدة الاستظهار على الأسفار، والحول والقوة لله وحده، لا اله سواه.
واسراؤها بالليل بمشاعيل موقدة يمسكها الرجالة بأيديهم، فلا تبصر قشاوة من القشاوات الا وأمامها مشعل، فالناس يسيرون منها بين كواكب سيارة توضح غسق الظلماء، وتباهي بها الأرض أنجم السماء. والمرافق الصناعية وغيرها من المصالح الدينية والمنافع الحيوانية كلها موجودة بهذه المحلة غير معدومة، ووصفها يطول، والأخبار عنها لاتنحصر.
فلما كان ظهر يوم الاثنين اثر الصلاة أقلعنا من خليص مرتحلين، وتمادى سيرنا العشاء الآخرة، ثم نزلنا ونمنا نومة خفيفة، ثم ضرب الكوس فأقلعنا وأسرينا ضحى من النهار، ثم نزلنا مريحين أول الظهر من يوم الثلاثاء، ثم أقلعنا من منزلنا ذلك واد يعرف بوادي السمك، اسم يكاد يكون واقعاً على غير مسمى فنزلناه مع العشاء الآخرة، وأصبحنا به مقيمين يوم الأربعاء لتجديد حمل الماء، وهو بهذا الوادي في مستنقعات، وربما حفر عليه في الرمل، فأقلعنا منه أول ظهر يوم الأربعاء المذكور، ثم أجزنا مع الليل عقبة محجرة كؤوداً ذهب فيها من الجمال كثير. ونزلنا في بسيط من الأرض، ونمنا نصف الليل، ثم رحلنا في مهمة افيح بسيط ممتد مد البصر، ورمله منثالة، فمشت الجمال فيها دون مقطرة لانفساح طريقها.
ثم نزلنا مريحين قائلين يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة، وبيننا وبين بدر مقدار مرحلتين، فلما كان أول الظهر رحلنا مقربة من بدر فنزلنا بائتين.ثم قمنا قبل نصف الليل فوصلنا بدراً وقد ارتفع النهار. وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة، وبها حصن في ربوة مرتفعة، ويدخل اليها على بطن واد بين جبال. وببدر عين فوارة، وموضع القليب الذي كان بإزائه الواقعة الاسلامية التي أعزت الدين وأذلت المشركين، هو اليوم نخيل، وموضع الشهداء خلفه، وجل الرحمة الذي نزلت فيه الملائكة عن يسار الداخل منها الصفراء، وبإزائه جبل الطبول، وهو شبيه كثيب يزعمون أن أصوات الطبول تسمع بها كل يوم جمعة، كأنها آثار أنذارات باقية بما سلف من النصر النبوي في ذلك الموضع، والله أعلم بغيبه.
وموضع عريش النبي، ﷺ الله عليه وسلم، يتصل بسفح جبل الطبول المذكور، وموضع الوقيعة أمامه. وعن خيل القليب مسجدن يقال: أنه مبرك ناقة النبي، ﷺ الله عليه وسلم.وصح عندنا، على زعم أحد الأعراب الساكنين ببدر، أنهم يسمعون أصوات الطبول بالجبل المذكور، لكن عين لذلك كل يوم اثنين ويوم خميس. فعجبنا من زعمه كل العجب ولايعلم حقيقة ذلك الا الله تعالى.
وبين بدر والصفراء بريد، والطريق اليها في واد بين جبال تتصل بها حدائق النخيل، والعيون فيها كثيرة: منها حصنان يعرفان بالتوأمين، وحصن يعرف بالحسنية، وآخر يعرف بالجديد، حصون كثيرة، وقرى متصلة.
☰ جدول المحتويات
شهر محرم سنة ثمانين وخمس مئة
استهل هلاله ليلة السبت بموافقة الرابع عشر لشهر أبريل ونحن مقلعون من بدر الصفراء، فبتنا باستهلاله بهذه البقعة الكريمة: بدر، حيث نصر الله المسلمين وقهر المشركين، والحمد لله على ذلك. وكان نزولنا بالصفراء اثر صلاة العشاء الآخرة. فأصبحنا يوم السبت، مستهل الهرل المذكور، مقيمين مريحين بها، ليتزود الناس منها الماء ويأخذوا نفس استراحة الظهر. ومنها المدينة المكرمة إن شاء الله ثلاثة أيام، فأقلعنا منها ظهر يوم السبت المذكور، وتمادى السير بنا اثر صلاة العشاء الآخرة، والطريق في واد متصل بين جبال، فنزلنا ليلة الأحد، ثم أقلعنا نصف الليل، وتمادى سيرنا ضحى من النهار، فنزلنا مريحين قائلين ببئر ذات العلم، ويقال: أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قاتل الجن بها، وتعرف أيضاً بالروجاء. والبئر المذكورة متناهية بعد الرشاء لا يكاد يلحق قعرها، وهي معينة.
ورحلنا منها اثر صلاة الظهر من يوم الأحد، وتمادى بنا السير اثر صلاة العشاء الآخرة، فنزلنا شعب علي، رضي الله عنه، وأقلعنا منه نصف الليل تربان، البيداء، ومنها تبصر المدينة المكرمة، فنزلنا ضحى يوم الإثنين الثالث لمحرم المذكور بوادي العقيق، وعلى شفيره مسجد ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله، ﷺ الله عليه وسلم، والمدينة من هذا الموضع على خمسة أميال، ومن ذي الحليفة حرم المدينة مشهد حمزة قباء، وأول مايظهر للعين منارة مسجدها بيضاء مرتفعة، ثم رحلنا منها اثر صلاة الظهر من يوم الاثنين المذكور، وهو السادس عشر لإبريل، فنزلنا بظاهر المدينة الزهراء، والتربة البيضاء، والبقعة المشرفة بمحمد سيد الأنبياء، ﷺ الله عليه وسلم صلاة تتصل مع الأحيان والآناء.
وفي عشي ذلك اليوم دخلنا الحرم المقدس لزيارة الروضة المكرمة المطهرة، فوقفنا بإزائها مسلمين، ولتر جنباتها المقدسة مستلمين وصلينا بالروضة التي بين القبر المقدس والمنبر، واستلمنا أعواد المنبر القديمة التي كانت موطئ الرسول، ﷺ الله عليه وسلم، والقطعة الباقية من الجذع الذي حن اليه، ﷺ الله عليه وسلم، وهي ملصقة في عمود قائم أمام الروضة الصغيرة التي بين القبر والنبر، وعن يمينك اذا استقبلت القبلة فيها، ثم صلينا صلالة المغرب مع الجماعية. وكان من الاتفاق السعيد لنا أن وجدنا بعض فسحة في تلك الحال لاشتغال الناس بإقامة مضاربهم، وترتيب رحالهم، فتمكنا من الغرض المقصود، وفزنا بالمشهد المحمود، وأدينا حق السلام على الصاحبين الضجيعين: صديق الاسلام وفاروقه، وانصرفنا رحالنا مسرورين، ولنعمة الله علينا شاكرين. ولم يبق لنا أمل من آمال وجهتنا المباركة ولا وطر الا وقد قضيناه، ولا غرض من أغراضنا المأمولة الا وبلغناه، وتفرغت الخواطر للإياب للوطن، نظم الله الشمل، وتمم علينا الفضل، والحمد لله على ماأولاه وأسداه، وأعاده من جميل صنعه وأبداه، فهو أهل الحمد والشكر ومستحقه لا اله سواه.
ذكر مسجد رسول الله وذكر روضته المقدسة
المسجد المبارك مستطيل، وتحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به، ووسطه كله صحن مفروش بالرمال والحصى، فالجهة القبلية منها لها خمس بلاطات مستطيلة من غرب شرق، والجهة الجوفية لها أيضاً خمس بلاطات على الصفة المذكورة، والجهة الشرقيةب لها ثلاث بلاطات، والجهة الغربية لها أربع بلاطات.
والروضة المقدسة مع آخر الجهة القبلية بما يلي الشرق؛ وانتظمت من بلاطاته ممايلي الصحن في السعة اثنين ونيفت البلاط الثالث بمقدار أربعة أشبار، ولها خمسة أركان بخمس صفحات، وشكلها شكل عجيب، لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله، والصفحات، وشكلها شكل عجيب، لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله، والصفحات الأربع محرفة من القبلة تحريفاً بديعاً، لايتأتى لأحد معه استقبالها في صلاته لأنه ينحرف عن القبلة.
وأخبرنا الشيخ الإمام العالم الورع، فقية العلماء، وعمدة الفقهاء، أبو ابراهيم اسحاق بن ابراهيم التونسي، رضي الله عنه، أن عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، اخترع ذلك في تدبير بنائها مخافة أن يتخذها الناس مﷺ.
وأخذت أيضاً من الجهة الشرقية سعة بلاطين فانتظم داخلها من أعمدة الأبلطة ستة.وسعة الصفحة القبلية منها أربعة وعشرون شبراً، وسعة الصفحة الشرقية ثلاثون شبراً، ومابين الركن الشرقي الركن الجوفي صفحة سعتها خمسة وثلاثون شبراً. ومن الركن الجوفي الغربي صفحة سعتها أربعة وعشرون شبراً.
وفي هذه الصفحة صندوق آبنوس، مختم بالصندل، مصفح بالفضة، مكوكب بها، هو قبالة رأس النبي، ﷺ الله عليه وسلم، وطوله خمسة أشبار، وعرضه ثلاثة أشبار، وأرتفاعه أربعة أشبار. وفي الصفحة التي بين الركن الجوفي والركن الغربي موضع عليه ستر مسبل، يقال: إنه كان مهبط جبريل، عليه السلام. فجميع سعة الروضة المكرمةمن جميع جهاتها مئتا شبر واثنان وسبعون شبراً.
وهي مؤزرة بالرخام البديع النحت الراشع النعت. وينتهي الإزار منها نحو الثلث أو أقبل يسيراً، وعليه من الجدار المكرم ثلث آخر، وقد علاه تضميخ المسك والطيب بمقدار نصف شبر، مسوداً، مشققاً، متراكماً مع طول الأزمنة والأيام. ولاذي يعلوه من الجدار شبابيك عود متصلة بالسمك الأعلى، لأن أعلى الروضة المباركة متصل بسمك المسجد، و حيز إزار الرخام تنتهي الأستار، وهي لازوردية اللون، مختمة بخواتيم بيض مثمنة ومربعة. وفي داخل الخواتيم دوائر مستديرة ونقط بيض تحف بها، فمنظرها منظر بديع الشكل. وفي اعلاها رسم مائل البياض. وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي، ﷺ الله عليه وسلم، مسمار فضة، هو أمام الوجه الكريم فيقف الناس أمامه للسلام.و قدميه، ﷺ الله عليه وسلم، رأس أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ورأس عمر الفاروق مما يلي كتفي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما فيقف المسلم مستدبر القبلة ومستقبل الوجه الكريم، فيسلم ثم ينصرف يميناً وجه أبي بكر، ثم وجه عمر، رضي الله عنهما. وأمام هذه الصفحة المكرمة نحو العشرين قنديلاً معلقة من الفضة، وفيها اثنان من ذهب. وفي جوفي الروضة المقدسة حوض صغير مرخم،في قبلته شكل محراب، قيل: إنه كان بيت فاطمة، رضي الله عنها، ويقال: هو قبرها، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وعن يمين الروضة المكرمة المنبر الكريم، ومنه اليها اثنتان وأربعون خطوة، وهو في الحوض المبارك الذي طوله أربع عشر خطوة، وعرضه ست خطاً، وهو مرخم كله، وارتفاعه شبر ونصف، وبينه وبين الروضة الصغيرة، التي بين القبر الكريم والمنبر، وفيها جاء الأثر أنها روضة من رياض الجنة، ثماني خطوات.
وفي هذه الروضة بتزاحم الناس للصلاة، وحق لهم ذلك. وبإزائها لجهة القبلة عمود، يقال: إنه مطبق على بقية الجذع الذي حن للنبي، ﷺ الله عليه وسلم، وقطعة منه في وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها، وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق. وارتفاع النبر الكريم نحو القامة او أزيد، وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وأدراجه ثمانية، وله باب على هيئة الشباك مقفل يفتح يوم الجمعة، وطوله أربعة أشبار ونصف شبر.
والمنبر مغشى بعود الآبنوس، ومقعد الرسول ﷺ الله عليه وسلم، من أعلاه ظاهر قد طبق عليه بلوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من العقود عليه، فيدخل الناس أيديهم اليه ويتمسحون به تبركاً بلمس ذلك المقعد الكريم.وعلى رأس رجل المنبر اليمني، حيث يضع الخطيب يده اذا خطب، حلقة فضة مجوفة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في اصبعه صفة لاصغراً لأنها أكبر منها، لاعبة تستدير في موضعها، يزعم الناس أنها لعبة الحسن والحسين، رضي الله عنهما، في حال خطبة جدهما، صلوات الله وسلامه عليه.
وطول المسجد الكريم مئة خطوة وست وتسعون خطوة، وسعته مئة وست وعشرون خطوة، وعدد سواريه مئتان وتسعون، وهي أعمدة متصلة بالسمك دون قسي تنعطف عليها، فكأنها دعائم قوائم، وهي من حجر منحوت قطعاً قطعاً ململمة مثقبة توضع أنثى في ذكر ويفرغ بينهما الرصاص المذاب أن تتصل عموداً قائماً، وتكسى بغلالة جيار، ويبالغ في صقلها ودلكها فتظهر كأنها رخام أبيض.
والبلاط المتصل بالقبلة من الخمسة بلاطات المذكورة تحف به مقصورة تكتنفه طولاً من غرب شرق، والمحراب فيها. ويصلي الإمام في الروضعة الصغيرة المذكورة جانب الصندوق، وبينهما وبين الروضة والقبر المقدس محمل كبير مدهون عليه مصحف كبير في غشاء مقفل عليه هو أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها عثمان بن عفان، رضي الله عنه، البلاد. وبإزاء المقصورة جهة الشرق خزانتان كبيرتان محتويتان على كتب ومصاحف موقوفة على المسجد المبارك.
ويليهما في البلاط الثاني لجهة الشرق أيضاً دفة مطبقة على وجه الأرض مقفلة هي على سرداب يهبط اليه على ادراج تحت الأرض يفضي خارج المسجد دار أبي بكر الصيدق، رضي الله عنه، وهو كان طريق عائشة اليها. وبإزائها دار عمر بن الخطاب، ودار ابنه عبد الله، رضي الله عنهما: ولاشك أن ذلك الموضع هو موضع الخوخة المفضية لدار أبي بكر التي أمر النبي، ﷺ الله عليه وسلم، بإبقائها خاصة.
وأمام الروضة المقدسة أيضاً صندوق كبير هو للشمع والأنوار التي توقد أمام الروضة كل ليلة. وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود هو موضع مبيت بعض السدنة الحارسين للمسجد المبارك، وسدنته فتيان أحابيش وصقالب ظراف الهيئات نظاف الملابس والشارات، والمؤذن الراتب فيه أحد أولاد بلال، رضي الله عنه. وفي جهة جوف الصحن قبة كبيرة محدثة جديدة تعرف بقبة الزيت هي مخزن لجميع آلات المسجد المبارك ومايحتاج اليه فيه. وبإزائها في الصحن خمسة عشر نحلة. وعلى رأس المحراب، الذي في جدار القبة داخل المقصورة، حجر مربع أصفر قدر شبر في شبر، ظاهر البريق والبصيص، يقال: إنه كان مرآة كسرى، والله أعلم بذلك. وفي أعلاه داخل المحراب مسمار مثبت في جداره فيه شبه حق صغير لايعرف من أي شيء هو، ويزعم أيضاً أنه كان كأس كسرى، والله أعلم بحقيقة ذلك كله.
ونصف جدار القبلة الأسفل رخام، موضوع إزاراً على إزار، مختلف الصنعة واللون، مجزع أبدع تجزيع. والنصف الأعلى من الجدار منزل كله بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء، قد انتج الصناع فيه نتائج من الصنعة غريبة تضمنت تصاوير أشجار مختلفات الصفات مائلة الأغصان بثمرها. والمسجد كله على تلك الصفة، لكن الصنعة في جدار القبلة احفل. والجدار الناظر الصحن من جهة القبلة كذلك، ومن جهة الجوف أيضاً. والغربي والشرقي الناظران الصحن مجردان أبيضان ومقرنصان قد زبنا برسم بتضمن أنواعاً من الأصبغة، مايطول وصفه وذكره من الاحتفال في هذا المسجد المبالاك المحتوي على التربة الطاهرة المقدسة، وموضعها أشرف، ومحلها أرفع من كل ماتزين به.
وللمسجد المبارك تسعة عشر باباً، لم يبق منها مفتحاً سوى أربعة في الغرب: منها اثنان، يعرف أحدهما بباب الرحمة، والثاني بباب الخشية، وفي الشرق اثنان: يعرف أحدهما بباب جبريل، عليه السلام، والثاني بباب الرجاء ويقابل باب جبريل، عليه السلام، دار عثمان، رضي الله عنه، وهي التي استشهد بها. ويقابل الروضة المكرمة، من هذه الجهة الشرقية، روضة جمال الدين الموصلي، رحمه الله، المشهور خبره وأثره، وقد تقدم ذكر مآثره.
وأمام الروضة المكرمة شباك حديد مفتوح روضة، تنسم منها روحاً وريحاناً. وفي القبلة باب صغير واحد مغلق، وفي الجوف أربعة مغلقة، وفي الغرب خمسة مغلقة أيضاً، وفي الشرق خمسة أيضاً مغلقة؛ فكملت بالأربعة المفتوحة تسعة عشر باباً. وللمسجد المبارك ثلاث صوامع: :إحداها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة، والأثنتان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين، والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع.
ذكر المشاهد المكرمة التي ببقيع الغرقد
فأول مانذكر من ذلك مسجد حمزة، رضي الله عنه، وهو بقبلي الجبل المذكور، والجبل جوفي المدينة، وهو على مقدار ثلاثة أميال. وعلى قبره، رضي الله عنه، مسجد مبني. والقبر برحبة جوفي المسجد، والشهداء، رضي الله عنهم،بإزائه، والغار الذي أوى اليه النبي، ﷺ الله عليه وسلم،بإزاء الشهداء أسفل الجبل. وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب حمزة ويتبرك الناس بها.
وبقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج اليه على باب يعرف بباب البقيع، وأول ماتلقى عن يسارك عند خروجك، من الباب المذكور، مشهد صفية عمة النبي، ﷺ الله عليه وسلم، أم الزبير بن العوام، رضي الله عنه، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني، رضي الله عنه، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء. وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي، ﷺ الله عليه وسلم، وعليه قبة بيضاء. وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، اسمه عبد الرحمن الأوسط، وهو المعروف بأبي شحمة، وهو الذي جلده أبوه الحد، فمرض ومات، رضي الله عنهما.
وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن جعفر الطيار، رضي الله عنه. وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي، ﷺ الله عليه وسلم، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي، ﷺ الله عليه وسلم، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي، رضي الله عنهما، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة، وأجمل منظر. على هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي، ﷺ الله عليه وسلم. ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول، ﷺ الله عليه وسلم، ويعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوت لايه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى، ﷺ الله عليه وسلم، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين، رضي الله عنه، وعليه قبة الصغيرة مختصرة. وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أم علي، رضي اله عنها وعن بنيها.
ومشاهد هذا البقيع أكثر من ان تحصى لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين. وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ماضم قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها وعن بنيها.
وقباء قبلي المدينة، ومنها اليها نحو الميلين. وكانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرمة. والطريق اليها بين حدائق النخل المتصلة. والمخيل محدق بالمدينة من جهاتها، وأعظمها جهة الغرب. والمسجد المؤس على التقوى بقباء مجدد، وهو مربع مستوى الطول والعرض، وفيه مئذنة طويلة بيضاء تظهر على بعد، وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي، ﷺ الله عليه وسلم، وعليه حلق قصير شبه روضة صغيرة يتبرك الناس بالصلاة فيه. وفي صحنه، ممايلي القبلة، شبه محراب على مصطبة، هو أول موضع ركع فيه النبي، ﷺ الله عليه وسلم. وفي قبلته محاريب وله باب واحد من جهة الغرب، وهو سبعة بلاطات في الطول، ومثلها في العرض.
وفي قبلة المسجد دار لبني النجار، وهي دار أبي أيوب الأنصاري. وفي الغرب من المسجد رحبة فيها بئر، وبإزائها على الشفير حجر متسع شبيه البيلة يتوضأ الناس فيه. ويلي دار بني النجار دار عائشةن رضي الله عنها، وبإزائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبي بكر، رضي الله عنهم، وبإزائها بئر أريس حيث تفل النبي، ﷺ الله عليه وسلم، فعاد ماؤها عذباً بعدما كان أجاجاً وفيه وقع خاتمه من يد عثمان، رضي الله عنه، والحديق مشهور.
وفي آخر القرية تل مشرف يعرف بعرفات، يدخل اليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة. وسمي ذلك التل عرفات لأنه كان موقف النبي، ﷺ الله عليه وسلم، يوم عرفة، ومنه زويت له الأرض فأبصر الناس في عرفات. وآثار هذه القرية المكرمة ومشاهدها كثيرة لاتحصى.
وللمدينة المكرمة أربعة أبواب، وهي تحت سورين، في كل سور باب يقابله آخر، الواحد منها كله حديد، ويعرف باسمه باب الحديد؛ ويليه باب الشريعة ثم باب القبلة، وهو مغلق؛ ثم باب البقيع، وقد تقدم ذكره. وقبل وصولك سور المدينة من جهة الغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق الشهير ذكره الذي صنع النبي، ﷺ الله عليه وسلم، عند تحزب الأحزاب.
وبينه وبين المدينة، عن يمين الطريق، العين المنسوبة للنبي، ﷺ الله عليه وسلم، وعليها حلق عظيم مستطيل؛ ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل. وتحته سقابتان مستطيلتان باستطالة الحلق. وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض المذكور بجدار، فحصل الحوض محدقاً بجدارين. وهو يمد السقايتين المذكورتين، ويهبط إليهما على أدراج عددها نحو الخمسة والعشرين درجاً. وماء هذه العين المباركة يعم أهل الأرض فضلاً عن أهل المدينة، فهي لتطهر الناس واستقائهم وغسل أثوابهم. والحوض المذكور لا يتناول فيه غير الاستقاء خاصة صوناً له ومحافظة عليه. ومبقربة منه، مما يلي المدينة، قبة حجر الزيت، يقال: إن الزيت رشح للنبي، ﷺ الله عليه وسلم، من ذلك الحجر. ولجهة الجوف منه بئر بضاعة، وبإزائها لجهة اليسار جبل الشيطان حيث صرخ، لعنة الله، يوم أحد، حين قال: قتل نبيكم.
وعلى شفير الخندق المذكور حصن يعرف بحصن العزاب، وهو خرب، قيل: إن عمر، رضي الله عنه، بناه لعزاب المدينة. وأمامه، لجهة الغرب على البعد، بئر رومة التي اشترى نصفها عثمان، رضي الله عنه، بعشرين ألفاً. وفي طريق أحد مسجد علي، رضي الله عنه، ومسجد سلمان، رضي الله عنه، ومسجد الفتح الذي أنزلت فيه على النبي، ﷺ الله عليه وسلم، سورة الفتح.
وللمدينة المكرمة سقاية ثالثة داخل باب الحديد يهبط اليها على ادراج وماؤها معين. وهي بمقربة من الحرم الكريم. وبقبلي هذا الحرم المكرم دار امام دار الهجرة مالك بن أنس، رضي الله عنه. يطيف بالحرم كله شارع مبلط بالحجر المنحوت المفروش. فهذاذكر ماتمكن على الاستعجال من آثار المدينة المكرمة ومشاهدها على جهة الاقتضاب والاختصار، والله ولي التوفيق.
الخاتون بنت الأمير مسعود
ومن عجيب ماشاهدناه من الأمور البديعة الداخلة مدخل السمعة والشهرة، أن احدى الخواتين المذكورات، وهي بنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها وذكر أبيها، وصلت عشي يوم الخميس السادس لمحرم، ورابع يوم وصولنا المدينة، مسجد رسول الله، ﷺ الله عليه وسلم، راكبة في قبتها، وحولها قباب كرائمها وخدمها، والقراء أمامها، والفتيان والصقالب بأيديهم مقامع الحديد يطوفون حولها، ويدفعون الناس أمامها، أن وصلت باب المسجد المكرم، فنزلت تحت ملحفة مبسوطة عليها، ومشت أن سلمت على النبي، ﷺ الله عليه وسلم، والخول أمامها، والخدام يرفعون أصواتهم بالدعاء لها، إشادة بذكرها، ثم وصلت الروضة الصغيرة التي بين القبر الكريم والمنبر فصلت فيها تحت الملحفة، والناس يتزاحمون عليها، والقامع تدفعهم عنها. ثم صلت في الحوض بازاء المنبر، ثم مشت الصفحة الغربية من الروضة المكرمة فقعدت في الموضع الذي يقال: انه كان مهبط جبريل، عليه السلام، وأرخي الستر عليها، واقام فتيانها وصقالبها وحجابها على رأسها خلف الستر تأمرهم بأمرها، واستجلبت معها المسجد حملين من المتاع للصدقة. فما زالت في موضعها الليل.
وقد وقع الإيذان بوصول صدر الدين رئيس الشافعية الأصبهاني الذي ورث النباهة والوجاهة في العلم كابراً عن كابر لعقد مجلس وعظ تلك الليلة، وكانت ليلة الجمعة السابع من المحرم. فتأخر وصوله هدء من الليل والحرم قد غص بالمنتظرين، والخاتون جالسة موضعها. وكان سبب تأخره تأخر أمير الحاج لأنه كان على عدة من وصوله، أن وصل ووصل الأمير، وقد أعد لرئيس العلماء المذكور وهو يعرف بهذا الاسم، توارثه عن أب فأب، كرسي بأزاء الروضة المقدسة، فصعده، وحضر قراؤه أمامه، فابتدروا القراءة بنغمات عجيبة وتلاحين مطربة مشجية، وهو يلحظ الروضة المقدسة فيعلن بالبكاء ثم أخذ في خطبة من انشائه سحرية البيان، ثم سلك في أساليب من الوعظ باللسانين، وأنشد أبياتاً يديعة من قوله، منها هذا البيت، وكان يردده في كل فصل من ذكره، ﷺ الله عليه وسلم، يشير الروضة:
هاتيك روضته تفوح نسيماً ،،،صلوا عليه وسلموا تسليماً
واعتذر من التقصير لهول ذلك المقام، وقال: عجباً للأكن الأعجم كيف ينطق عند أفصح العرب! وتمادى في وعظه أن أطار النفوس خشية ورقة، وتهافتت عليه الأعاجم معلنين التوبة، وقد طاشت البابهم، وذهلت عقولهم، فيلقون نواصيهم بين يديه، فيستدعي جلمين ويجزها ناصية ناصية، ويكسو عمامته المجزوز الناصية، فيوضع عليه للحين عمامة أخرى من أحد قرائه أو جلسائه ممن قد عرف منزعه الكريم في ذلك، فبادر بعمامته لاستجلاب الغرض النفيس لمكارمه الشهيرة عندهم، فلا زال يخلع واحدة بعد أخرى، أن خلع منها عدة وجزا نواصي كثيرة، ثم ختم مجلسه بأن قال: معشر الحاضرين، قد تكلمت لكم ليلة بحرم الله عز وجل، وهذه الليلة بحرم رسوله، ﷺ الله عليه وسلم، ولابد للواعظ من كدية، وأنا أسألكم حاجة أن ضمنتموها لي أوقت لكم ماء وجهي في ذكرها. فأعلن الناس كلهم بالإسعاف، وشهيقهم قد، فقال: حاجتي أن تكشفوا رؤوسكم، وتبسطوا أيديكم، ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عني، ويسترضي الله عز وجل لي. ثم أخذ في تعداد ذنوبه والاعتراف بها، فأطار الناس سمائهم، وبسطوا أيديهم للنبي، ﷺ الله عليه وسلم، داعين له، باكين متضرعين، فما رأيت ليلة أكثر دموعاً، ولا أعظم خشوعاً، من تلك الليلة، ثم انفض المجلس وانفض الأمير وانفضت الخاتون من موضعها. وعند وصول صدر الدين المذكور، أزبل الستر علنها وبقيت بين خدمها وكرائمها متلفعة في ردائها فعاينا من أمرها في الشهرة الملوكية عجباً.
وأمر هذا الرجل صدر الذين عجيب في قعدده وأبهته، وملوكيته، وفخامة آلته، وبهاء حالته، وظاهر مكنته ووفور عدته، وكثرة عبيده وخدمته، واحتفال حاشيته وغاشيته، فهو من ذلك على حال يقصر عنها الملوك. وله مضرب كالتاج العظيم في الهواء، مفتح على أبواب على هيئة غريبة الوضع، بديعة الصنعة والشكل، تطل على المحلة من بعد، فتبصره سامياً في الهواء. وشأن هذا الرجل العظيم لا يستوعبه الوصف؛ شاهدنا مجلسه فرأينا رجلاً يذوب طلاقة وبشراً، ويخف للزائر كرامة وبراً، على عظيم حرمته وفخامة بنيته، وهو أعطي البسطتين علماً وجسماً، استجزناه فأجازنا نثراً ونظماً. وهو أعظم من شاهدنا يهذه الجهات.
وفي يوم الجمعة المذكور، وهو السابع من محرم، شاهدنا من أمور البدعة أمراً ينادى له الإسلام: يالله يا للمسلمين. وذلك أن الخطيب وصل للخطبة، فصعد منبر النبي، ﷺ الله عليه وسلم، وهو، على ما يذكر، على مذهب غير مرضي، ضد الشيخ الإمام العجمي الملازم صلاة الفريضة في المسجد المكرم. فذلك على طريقة من الخير والورع، لائقة بأمام مثل ذلك الموضع الكريم. فلما أذن المؤذنون قام هذا الخطيب المذكور للخطبة، وقد تقدمته الرايتان السوداوان وقد ركزنا بجانبي المنبر الكريم، فقام بينهما، فلما فرغ من الخطبة الأولى، جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في السرعة، وابتدر الجمع مردة من الجذمة يخترقون الصفوف، ويتخطون الرقاب، كدية على الأعاجم والحاضرين لهذا الخطيب القليل التوفيق، فمنهم من يطرح الثوب النفيس، ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها، وقد أعدها لذلك، ومنهم من يخلغ عمامته فينبذها، ومنهم من يتجرد عن برده فيلقي به، ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضلة من الخام، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب، ومنهم من يمد يده بالدينار ولا دينارين غير ذلك، ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه، ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيبن في أثناء هذه الحال كلها، جالس على النبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على النار بلحظات يكرها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة، أن كاد الوقت ينقضي، والصلاة تفوت، وقد ضج من له دين وصحة من الناس، وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء، فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم أمامه، فلما أرضاه قام وأكمل الخطبة وﷺ بالناس. وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين، يائسين من فلاح الدنيا متحققين أشراط الآخرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد!
وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة، فيا له وداعاً عجباً ذهلت له النفوس ارتياعاً حتى طارت شعاعاً، واستشرت به النفوس التياعاً حتى ذابت انصداعاً! وما ظنك بموقف يناجي بالتوديع فيه سيد الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين? إنه لموقف تنفطر له الأفئدة، وتطيش به الألباب الثابتة المتئدة، فوا أسفاه واأسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه، ولا يجد بداً من فراقه، فما يستطيع الصبر سبيلاً، ولا تسمع في هول ذلك المقام إلا رنة وعويلاً، وكل بلسان الحال ينشد:
محبتي تقتضي مقامـي ،،،وحالتي تقتضي الرحيلا
بوأنا الله بزيارة هذا النبي الكريم منزل الكرامة، وجعله شفيعاً لنا يوم القيامة واحلنا من فضله في جواره دار المقامة، برحمته انه غفور رحيم، جوا كريم. وكان مقامنا بالمدينة المكرمة خمسة أيام، أو لها يوم الاثنين وآخرها يوم الجمعة.