الرئيسيةبحث

رحلة ابن جبير/الرحلة إلى العراق


الرحلة إلى العراق

وفي ضحوة يوم السبت الثامن لمحرم المذكور، والحادي والعشرين من شهر أبريل، كن رحيلنا من المدينة المكرمة العراق، قرب الله لنا المرام وسهل علينا السبيل. واستصحبنا منها الماء لثلاثة أيام، فنزلنا يوم الاثنين، ثالث يوم رحيلنا المذكور، بوادي العروس، فتزود الناس منها الماء، يحفرون عليه في الأرض بئراً فينبع منها ماء عذب معين يروي الأمة التي لا يحصى لها عدد من هذه المحلة مع جمالها التي تنيف على عددها، ولله القدرة سبحانه.

وصعدنا من وادي العروس أرض نجد، وخلفنا تهامة وراءنا، ومشينا في بسيطة من الأرض ينحسر الطرف دون أدناها ولا يبلغ مداها، وتنسمنا نسيم نجد وهواءها المضروب به المثل، فانتعشت النفوس والأجسا ببرد نسيمه وصحة هوائه. ونزلنا يوم الثلاثاء، رابع يوم رحيلنا، على ماء يعرف بماء العسيلة. ثم نزلنا يوم الأربعاء، خامس يوم رحيلنا، بموضع يعرف بالنقرة، وفيها آبار وصانع كالصهريج العظام، وجدنا أحدها مملوءاً بماء المطر، فعم جميع المحلة ولم ينضب على كثرة المحلة واستماحها.

وصفة مراحل هذا الأمير بالحاج أن يسري من نصف الليل ضحية، ثم ينزل أول الظهر، ثم يرحل وينزل مع العشاء الآخرة. ثم يقوم نصف الليل؛ هذا دأبه.

ونزلنا ليلة الخميس الثالث عشر لمحرم، وسادس يوم رحيلنا، على ماء يعرف بالقرورة، وهي مصانع مملوءة بماء المطر. وهذا الموضع هو وسط أرض نجد. وما أرى أن في المعمور أرضاً أفسح بسيطاً، ولا أوسع أنفاً، ولا أطيب نسيماً ولا أصح هواء، ولا أمد استواء، ولا أصفى جواً، ولا أنقى تربة، ولا أنعش للنفوس والأبدان، ولا أحسن اعتدالاً، في كل الأزمان، من أرض نجد. ووصف محاسنها يطول والقول فيها يتسع.

وفي يوم الخميس المذكور، مع ضحوة النهار، نزلنا بالحاجر، والماء فيه في مصانع، وربما حفروا عليه حفراً قريبة العمق يسمونها أحفاراً، واحدها حفر. وكنا نتخوف في هذا الطريق قلة الماء، لاسيما مع عظم هذا الجمع الأنامي والأنعامي، الذين لو وردو البحر لأنزفوه واستقوه، فأنزل الله من سحب رحمته ما أعاد الغيطان غدراناً، وأجرى المسول سيولاً، وصير الوهاد مملوءة عهاداً. فكنا نبصر مذانب الماء سائحة على وجه الأرض فضلاً من الله ونعمة، ولطفاً من الله بعباده ورحمة، والحمد لله على ذلك. وفي اليوم المذكور أجزنا بالحاجر واديين سيالين، وأما البرك والقرارات فلا تحصى.

وفي يوم الجمعة بعده نزلنا ضحوة النهار سميرة، وهي موضع معمور، وفي بسيطها شبه حصن يطيف به حلق كبير مسكون، والماء فيه في آبار كثيرة إلا أنها زعاق ومستنقعات وبرك، وتبايع العرب فيها مع الحاج فما أخرجوه من لحم وسمن ولبن، ووقع الناس على قرم وعيمة، فبادروا الابتياع لذلك بشقق الخام التي يستصحبونها لمشاراة الأعراب لأنهم لا يبايعونهم إلا بها.

وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بالجبل المخروق، وهو جبل في بيداء من الأرض، وفي صفحة الأعلى ثقب نافذ تخترقه الرياح. ثم رحنا من ذلك الموضع وبتنا بوادي الكروش على غير ماء، ثم أرينا منه وأصبحنا على فيد يوم الأحد وهي حصن كبير مبرج مشرف في بسيط من الأرض يمتد حوله ربض يطيف به سور عتيق البنيان، وهو معمور بسكان من الأعراب، ينتعشون مع الحاج في التجارات والمبايعات وغير ذلك من المرافق، وهناك يترك الحاج بعض زادهم إعداداً للإرمال من الزاد عند انصرافهم، ولهم بها معارف يتركون أزويتهم عندهم. وهذا نصف الطريق من بغداد مكة على المدينة، شرفها الله، أو أقل يسيراً، ومنها الكوفة اثنا عشر يوماً في طريق سهلة طيبة، واليماه فيها بحمد الله موجودة في مصانع كثيرة. ودخل أمير الحاج هذا الموضع المذكور على تعبئة وأهبة ارهاباً للمجتمعين به من الأعراب لئلا يداخلهم الطمع في الحاج، فهم يلحظونهم مستشرفين مكانهم لكنهم لايجدون اليهم سبيلاً، والحمد لله. والماء بهذا الموضع كثير في آبار تمدها عيون تحت الاض، ووحد الحاج فيها مصنعاً قد اجتمع فيه الماء من المطر، فانتزف للحين، وامتلأت أيدي الحاج القرمين من أغنام العرب بالمبايعة المذكورة، فلم يبق مضرب ولا خيمة ولا ظلالة الا و جانبها كبش أو كبشان، بحسب القدرة والوجد فعم جميع المحلة غنم العرب. وكان ذلك اليوم عيداً من الأعياد، وكذلك عمتهم أيضاً جمالهم لمن أرد الابتياع منهم من الجمالين وسواهم للاستظهار على الطريق. وأما السمن والعسل واللبن فلم يبق الا من تحمل أو استعمل منها بقدر حاجته.

وأقام الناس يومهم ذلك مريحين بها ظهر يوم الاثنين بعده، ثم أسروا نصف اليل ترتيب سيرهم المذكور قبل، ونزلوا ضحوة يوم الثلاثاء الثامن عشر لمحرم، وهو أول يوم من مايه، بموضع يعرف بالأجفر، وهو مشتهر عندهم بموضع جميل وبثينة العذريين، ثم أقلعنا ظهر يوم الثلاثاء المذكور على العادة ونزلنا بالبيداء مع العشاء الآخرة، ثم أسرينا منها ونزلنا ضحوة يوم الأربعاء بزرود، وهي وهدة في بسيط من الأرض فيها رمال منهالة، وبها حلق كبير داخلة دويرات صغار هو شبيه الحصن، يعرف بهذه الجهات بالقصر. والماء بهذا الموضع في آبار غير عذبة، فنزلنا ضحوة يوم الخميس الموفي عشرين لمحرم،والثالث لمايه، يموضع يعرف بالثعلبية ولها مبنى شبه الحصن خرب لم يبق منه الا الحلق، وبإزائه مصنع كبير الدور من أوسع مايكون من الصهاريج وأعلاها، والمهبط اليه على أدراج كثيرة من ثلاث جهات، وكان يه من ماء المطر ماعم جميع المحلة. ووصل هذا الموضع جمع كثير من العرب رجالاً ونساء واتخذوا به سوقاً عظيمة حفيلة للجمال والكباش والسمن واللبن علف الإبل، فكان يوم سوق نافقة.

وبقي من هذا الموضع الكوفة من المناهل التي تعم جميع المحلة ثلاثة: أحدها زبالة، والثاني واقصة، والثالث منهل من ماء الفرات على مقربة من الكوفة. وبين هذه المناهل مياه موجودة لكنها لاتعم، وهذه الثلاثة المذكورة هي التي تعم الناس والإبل وهي التي تردها رفهاً. وفي هذا المنهل الذي للثعلبية شاهدنا من غلبة الناس على الماء أمراً هائلاً لايكاد يشاهد مثله في تغلب المدن والحصون بالقتال. وحسبك أن مات في ذلك الموضع ضغطاً بشدة الزحام وغطاً تحت الماء بالأقدام سبعة رجال بادروا لمورد الماء فحصلوا على مورد الفناء، رحمهم الله، وغفرلهم.

وفي ضحوة يوم الجمعة بعده نزلنا بموضع يعرف ببركة المرجوم، وهي مصنع وقد بني له فيما يعلوه من الأرض مصب يؤدي الماء اليه على بعد واحكم ذلك احكاماً يدل على قدرة الإتساع وقوة الإستطاع. ولهذا المرجوم المذكور مشهد على قارعة الطريق وقد علا كأنه هضبة شماء، وكل مجتاز عليه لا بد أن يلقي عليه حجراً. ويقال: إن أحد الملوك رجمه لأمر استوجب به ذلك، والله أعلم. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب. وبادروا للحين بما لديهم من مرافق الأدم يبيعونها من الحاج. وكان هذا المصنع مملوءاً من ماء المطر، فغمر الناس وعمهم، والحمد لله. وهذه المصانع والرك والآبار والمنازل التي من بغداد مكة هي آثار زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه؛ انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تع كل سنة من لدن وفاتها الآن. ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها، والرضا عنها.

وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بموضع يعرف بالشقوق، وفيه مصنعان ألفيناهما مملوءين ماء عذباً صافياً. فأراق الناس مياههم، وجددوا مياهاً طيبة، واستبشروا بكثرة الماء، وجددوا شكر الله على ذلك. وأحد هذين المصنعين صهريج عظيم الدائرة كبيرها لايكاد يقطعه السابح الا عن جهد ومشقة. وكان الماء قد علا فيه أزيد من قامتين. فتنعم الناس من مائه سباحة، واغتسالاً، وتنظيف أثواب، وكان يومهم فيه من أيام راحة السفر.

ومن لطائف صنع الله تع بوفده وزوار حرمه أن كنت هذه المصانع كلها عند صعود الحاج من بغداد مكة دون ماء، فأرسل الله من سحب رحمته ما أترعها ماء معداً لصدر الحاج، فضلاً من الله، ولطفاً بوفده المنقطعين إليه.

ورحنا من ذلك الموضع المذكور وبتنا بموضع يعرف بالتنانير، وكان فيه أيضاً مصنع مملوء ماء. وأسرينا منه ليلة يوم الأحد الثالث والعشرين لمحرم، واجتزنا سحراً بزبالة، وهي قرية معمورة، وفيها قصر مشيد من قصور الأعراب ومصنعان للماء وآبار، وهي من مناهل الطريق الشهيرة. ونزلنا عندما ارتفع النهار من اليوم المذكور بالهيثمين، وفيها مصنعان للماء، ولا نكاد نمو بحول الله يوماً بموضع الا والماء يوجد فيه، والشكر لله على ذلك.

وبتنا ليلة الاثنين الرابع والعشرين لمحرم المذكور على مصنع مملوء ماء، فسقى الناس بالليل واستقوا. وهذا الموضع هو دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان. ومع الصباح من يوم الاثنين المذكور صعدنا العقبة، وليست بالطويلة الكؤود، ولكن ليس بالطريق وعر غيرها، فهي شهيرة بهذا السبب. ونزلنا عند ارتفاع النهار على مصنع دون ماء وأجزنا مصانع كثيرة، ومامنها مصنع الا و جانبه قصر مبني من قصور الأعراب، والطريق كلها مصانع. ورضي الله عن التي اعتنت بسبيل وفد الله هذا الاعتناء.

ثم نزلنا ضحوة يوم الثلاثاء بعده بواقصة، وهي وهدة من الأرض منفسحة فيها مصانع للماء مملوءة وقصر كبير وبإزائه أثر بناء، وهي معمورة بالأعراب، وهي آخر مناهل الطريق، وليس بعدها الكوفة منها مشهور الا مشارع ماء الفرات، ومنها الكوفة ثلاثة أيام، وبها يتلقى الحاج كثير من أهل الكوفة وهم مستجلبون إليهم الدقيق والخبز والتمر والأدم والفواكه الحاضرة في ذلك الوقت. وينهئ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة، والحمد لله عز وجل، على مامن به من التيسير والتسهيل حمداً يستوجب المزيد، وستصحب من كريم صنعه المعهود.

وبتنا ليلة الأربعاء السادس والعشرين بموضع يعرف بلورة، وفيها مصنع كبير وجده الناس مملوءاً فجددوا الاستسقاء ورفهوا الإبل. ثم أسرينا منها، وأجزنا سحر يوم الأربعاء المذكور بموضع يعرف بلورة، وفيها مصنع كبير وجده الناس مملوءاً فجددوا الاستسقاء ورفهوا الإبل. ثم أسرينا منها، وأجزنا سحر يوم الأربعاء المذكور بموضع فيه آثار بناء يعرف بالقرعاء، وفيه أيضاً مصنع ماء، وله ستة مخازن، وهي صهاريج صغار، تؤدي الماء المصانع، استقى الناس فيها وسقوا. وكثرت المصانع حتى لاتكاد الكتب تحصرها ولا تضبطها، والحمد لله على منته وسابغ نعمته.

وبتنا ليلة الخميس بعده على مصنع عظيم مملوء ماء، ثم نزلنا ضحوة اليوم المذكور بمنارة تعرف بمنارة القرون، وهي منارة في بيداء من الأرض، لابناء حولها قد قامت في الأرض كأنها عمود مخروط من الآجر، وقد تداخل فيها من الخواتيم الآجرية مثمنة ومربعة أشكال بديعة. ومن غريب أمرها أنها مجللة كلها قرون غزلان مثبتة فيها، فتلوح كظهر الشيهم. وللناس فيها خبر يمنع ضعف سنده من اثباته. وعلى مقربة من هذه المنارة قصر ذو بروج مشيدة، وبإزائه مصنع عظيم وجد مملوءاً ماءً، والحمد لله على مامن به.

واجتزنا عشي يوم الخميس المذكور على العذيب، وهو وادٍ خصيب، وعليه بناء، وحوله فلاة خصيبة، فيها مسرح للعيون وفرجه. وأعلمنا أن بمقربة منه بارقاً. ووصلنا منه الرحبة، وهي مبقربة منه، وفيها بناء وعمارة، ويجري الماء فيها من عين نابعة في أعلى القرية المذكورة. وبتنا أمامها بمقدار فرسخ، ثم أسرينا ليلة الجمعة الثامن والعشرين لمحرم المذكور نصف الليل واجتزنا على القادسية، وهي قرية كبيرة، فيها حدائق من النخيل، ومشارع من ماء الفرات وأصبحنا بالنجف، وهو يظهر الكوفة كأنه حدبينها وبين الصحراء، وهو صلب من الأرض منفسح متسع، للعين فيه مراد استحسان وانشراح. ووصلنا الكوفة مع طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور، والحمد لله على ما أنعم به من السلامة.



ذكر مدينة الكوفة

هي مدينة كبيرة عتيقة البناء، قد استولى الخراب على أكثرها، فالغامر منها أكثر من العامر. ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، فهي لا تزال تضربها، وكفاك بتعاقب الأيام والليالي محيياً ومنفنياً. وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها ممايلي شرقي البلد، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير، في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة، وفي سائر الجوانب بلاطان. وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة من صم الحجارة، المنحوتة قطعة على عطعة، مفرغة بالرصاص، ولا قسي عليها، على الصفة التي ذكرناها في مسجد رسول الله، ﷺ الله عليه وسلم، وهي نهاية الطول، متصلة بسق السمجد، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها. فما أرى في الأرض مسجداً أطول منه ولا أعلى سقفاً.

وبهذا الجامع المكرم آثار كريمة: فمنها بيت بإزاء المراب عن يمين المستقبل القبلة، يقال: انه كان مﷺ ابراهيم الخليل، ﷺ الله عليه وسلم، وعليه ستر أسود صوناً له، ومنه خرج الخطيب لابساً ثياب السواد الخطبة. فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه. وعلى مقربة منه، ممايلي الجانب الأيمن من القبلة، محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنه مسجد صغير، وهو محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي ذلك الموضع ضربه الشقي اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف، فالناس يصلون فيه باكين داعين. وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبلي، المتصل بأخر البلاط الغربي، شبيه مسجد صغير محلق عليه أيضاً بأعواد الساج، هو موضع مفار التنور الذي كان آية لنوح، عليه السلام، وفي ظهره، خارج المسجد، بيته الذي كان فيه، وفي ظهره بيت آخر يقال إنه كان متعبد إدريس، ﷺ الله عليه وسلم، ويتصل بهما فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد، يقال إنه منشأ السفينة. ومع آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، والبيت الذي غسل فيه. ويتصل به بيت يقال إنه كان بيت ابنة نوح، ﷺ الله عليه وسلم.

وهذه الآثار الكريمة تلقيناها من ألسنة أشياخ من أخل البلد فاثبتناها حسبما نقلوها إلينا، والله أعلم بصحة ذلك كله.

وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه. وفي جوفي الجامع على بعد منه يسير سقاية كبيرة من ماء الفرات فيها ثلاثة أحواض كبار.

وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعلي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجى ميتاً على مايذكر. ويقال: إن قبره فيه، والله أعلم بصحة ذلك. وفي هذا المشهد بناء حفيل على ماذكر لنا، لأنالم نشاهده بسبب أن وقت المقام بالكوفة ضاق عن ذلك، لأنالم نبت فيها سوى ليلة يوم السبت. وفي غدائه رحلنا ونزلنا قريب الظهر على نهر منسرب من الفرات. والفرات من الكوفة على مقدار نصف فرسخ مما يلي الجانب الشرقي. والجانب الشرقي كله حدائق نخيل ملتفة يتصل سوادها ويمتد امتداد البصر. ورحلنا من ذلك الموضع وبتنا ليلة الأحد منسلخ محرم بمقربة من الحلة ثم جئناها يوم الأحد المذكور.


ذكر مدينة الحلة

هي مدينة كبيرة، عتيقة الوضع، مستطيلة، لم يبق من سورها الا حلق من جدار ترابي مستدير بها. وهي المدينة اأسواق حفيلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية. وهيو قوية العمارة، كثيرة الخلق، متصلة حدائق النخيل داخلاً وخارجاً، فديارها بين حدائق النخيل، وألفينا بها جسراً عظيماً معقوداً على مراكب كبار متصلة من الشط تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظماً وضخامة ترتبط خشب مثبتة في كلا الشطين، تدل على عظم الاستطاع والقدرة؛ أمر الخليفة بعقدة على الفرات اهتماماً بالحاج واعتناء بسبيله وكانوا قبل ذلك يعبرون في المراكب، فوجدوا هذا الجسر قد عقده الخليفة في مغيبهم، ولم يكن عند شخوصهم مكة شرفها الله.

وعبرنا الجسر ظهر يوم الأحد المذكور ونزلنا بشط الفرات علىمقدار فرسخ من البلد، وهذا النهر كاسمه فرات، هو من أعذب المياه وأخفها، وهو نهر كبير زخار، تصعد فيه السفن وتنحدر.

والطريق من الحلة بغداد أحسن طريق وأجملها، في بسائط من الأرض وعمائر، تتصل بها القرى يميناً وشمالاً. ويشق هذه البسائط أغصان من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها، فمحرثها لاحد لاتساعه وانفساحه، فللعين في هذا الطريق مسرح انشراح، وللنفس مراح انبساط وانفساح، والأمن فيها متصل، بحمد الله سبحانه وتعالى.


شهر صفر سنة ثمانين

هلاله على الكمال من ليلة الاثنين، بموافقة الرابع عشر من مايه، استهل هلاله ونحن على شط الفرات بظاهر مدينة الحلة.

وفي ضحوة يوم الاثنين المذكور حلنا وأجزنا جسراً على نهر يسمى النيل، وهو فرع متشعب من الفرات، وكان عليه ازدحام، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين أن انفرج ذلك الزدحام، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين أن انفرج ذلك المزدحم وعبرنا على سلامة وعافية، والحمد لله.

ومن مدينة الحلة يتسلسل الحاج أرسالاً وأفواجاً: فمنهم المتقدم، والمتوسط، والمتأخر، لايعرج المستعجل على التغذر، ولا المتقدم على المتأخر، فحيثما شاؤوا من طريقهم نزلوا وأراحوا واستراحوا، وسكنت نفوسهم من روعة نقر الكوس الذي كانت الافئدة ترجف له بداراً للرحيل واستعجالاً للقيام، فربما كان النائم منهم يهذي بنقر الكوس فيقوم عجلاً وجلاثم يتحقق أنها من أضغاث أحلامه فيعود منامه.

ومن جملة الدواعي لافتراقهم كثرة القناطير المعترضة في طريقهم بغذاد، فلا تكاد تمشي ميلاً الا وتجد قنطرة علىنهر متفرع من الفرات، فتلك الطريق أكثر الطرق سواقي وقناطير، وعلى أكثرها خيام فيها رجال محترسون للطريق اعتناء من الخليفة بسبيل الحاج دون اعتراض منهم لاستنفاع بكدية أو سواها.

فلو زاحم ذلك البشر تلك القناطير دفعة لما فرغوا من عبورها ولتراكمةا وقوعاً بعض على بعض.

والأمير طشتكين المتقدم الذكر يقيم بالحلة ثلاثة أيام أن يتقدم جميع الحاج ثم يتوجه حضرة خليفته. وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة.

وسيرة هذا الأمير بالرفق بالحاج والاحتياط عليهم والاحتراس لمقدمتهم وساقتهم وضم نشر ميمنتهم وميسرتهم سيرة محمودة، وطريقته في الحزم وحسن النظر طريقة سديدة، وهو من التواضع ولين الجانب وقرب المكان على وتيرة سعيدة، نفعه الله ونفع المسلمين به.

وفي عصر يوم الاثنين المذكور نزلنا بقرية تعرف بالقنطرة كثيرة الخصب، كبيرة الساحة، متدفقة جداول الماء، وارفة الظلال بشجرات الفواكه، من أحسن القرى وأجملها، وبها قنطرة على فرع من فروع الفرات كبيرة محدودبة، يصعد اليها وينحدر عنها، فتعرف القرية بها، وتعرف أيضاً بحصن بشير. وألفينا حصاد الشعير بهذه الجهات في هذا الوقت الذي هو نصف مايه.

ورحلنا من القرية المذكورة سحر يوم الثلاثاء الثاني لصفر، فنزلنا قائلين ضحوته بقرية تعرف بالفراش، كثيرة العمارة، يشقها الماء، وحولها بسيط أخضر جميل المنظر. وقرى هذه القرية المذكورة خان كبير يحدق به جدار عال له شرفات صغار.

ثم رحلنا منها ونزلنا عشي النهار بقرية تعرف بزريران، وهذه القرية من أحسن قرى الأرض، وأجملها منظراً، وأفسحها ساحة، وأوسعها اختطاطاً، وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق نخيل. وكان بها سوق تقصر عنه أسواق المدن. وحسبك من شرف موضعها أن دجلة تسقي شرقيها، والفرات يسقي غربيها، وهي كالعروس بينهما، والبسائط والقرى والمزارع متصلة بين هذيه النهرين الشريفين المباركين.

ومن شرف هذه القرية أيضاً أن بإزائها، لجهة الشرق منها، إيوان كسرى وأمامها بيسير مدائنه. وهذا الإيوان بناء عال في الهواء، شديد البياض، لم يبق من قصوره إلا البعض، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة، وأما المدائن فخراب، اجتزنا عليها سحر يوم الأربعاء الثالث لصفر فعاينا من طولها واتساعها مرأى عجيباً. ومن فضائل هذه القرية أيضاً أن بالشرق منها بمقدار نصف فرسخ مشهد سلمان الفارسي، رضي الله عنه. فما اختصت تربتها بهذا الدفين المبارك، رضي الله عنه، إلا لفضل تربتها.

والقرية على شط دجلة، وهي تعترض بينها وبين المشهد الكريم المذكور، وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب، ويبعث النفس دائماً على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طرباً، وإن كان نازح الدار مغترباً، حتى حللنا بهذا الموضع المذكور، وهو على مرحلة منها، فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونفعنا الغلة ببرد مائها،أحسنا من نفوسنا، على حال وحشة الاغتراب، دواعي من الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب، في ريعان الشباب. هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيهاعلى أهلٍ وسكن!

سقى الله باب الطاق صوب غمامةٍ ،،،ورد الاوطـان كـل غــريب

وفي سحر يوم الأربعاء المذكور رحلنا من القرية المذكورة واجتزنا على مدائن كسرى حسبما ذكرناه وانتهينا صرصر وهي أخت زريران المذكورة حسناً أو قريب منها. ويمر بجانبها القبلي نهر كبير متفرع من الفرات عليه جسر معقود على مراكب تحف بها من الشط الشط سلاسل حديد عظام، على الصفة التي ذكرناها في جسر الحلة، فعبرناه وأجزنا القرية ونزلنا قائلين، وبيننا وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ.

وبهذه القرية سوق حفيلة ومسجد جامع كبير جديد. وهي من القرى التي ثملأ النفوس بهجة وحسناً. وهذان النهران الشريفان دجلة والفرات قد أغنت شره تهما عن وصفهما، وملتقاهما مابين واسط والبصرة، ومنها انصبابهما البحر، ومجراهما من الشمال الجنوب، وحسبهما ماخصهما الله به من الركة هما وأخاهما النيل، مما هو مذكور مشهور، ورحلنا من ذلك الموضع قبيل الظهر من يوم الأربعاء المذكور وجئنا بغداد قبيل العصر، والمدخل اليها على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها.


ذكر مدينة السلام بغداد

هذه المدينة العتيقة، وأن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منا الاشهير اسمها. وهي بالإضافة ماكانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب اليها كالظل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر الا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لاتصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ، هو من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة، ففتن الهوى، الا أن يعصم الله منها، مخوفة.

وأما أهلها فر تكاد تلقى منهم الا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجباً وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الاحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن ألو جود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لايستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لايعتقدون أن الله بلاداً أو عباداً سواهم، يسحبون أذيالهم أشراً وبطراً، ولا يغيرون في ذات الله منكراً، يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار، ولا يعلمون أن فضله، بمقتضى الحديث المأثور، في النار، يتبايعون بينهم بالذهب قرضاً، ومامنهم من يحسن الله فرضاً، فلا نفقة فيها الا من دينار تقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولاتقع من أهل موازينها ومكاييلها على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لايبالون في ذلك بعيبن كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب. فالغريب فيهم معدوم الإرفاق، متضاعف الإنفاق، لايجد من أهلها الا من يعامله بنفاق، أو يهش اليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وانبائها، أستغفر الله الا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لاجرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تع مايحط كثيراً من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ بتكلم فيه، فالموفق فيهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة.

فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضي الدين القزويني رئيس الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار اليه بالتقديم في العلوم الأصولية. حضرنا مجلس بالمدرسة المذكورة اثر. صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر، وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا، وأتوا بتلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة، ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين من العلوم، من تفسير كتاب الله عز وجل، وايراد حديث رسوله، ﷺ الله عليه وسلم، والتكلم على معاينة. ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب، وما قصر، وتقدم وماتأخر، ودفعت اليه عدة رقاع منها، فجمعها جملة في يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها أن فرغ منها.

وحان المساء فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ، وقوراً هيناً ليناً، ظهرت فيه البركة والسكينة؛ ولم تقصر عن ارسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سميا آخر مجلسه، فإنه سرت حمياً وعظه النفوس حتى أطارتها خشوعاً، وفجرتها دموعاً، وبادر التائبون اليه سقوطاً على يده ووقوعاً، فكم ناصية جز، وكم مفصل من مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحز فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة، وتتغمد الجناة، وتستدام العصمة والنجاة، والله تع يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه برحمته وكرمه، وانه المنعم الكريم، لا رب سواه، ولا معبود الا اياه.

وشهدنا له فيها مجلساً ثانياً اثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم مجلسه سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهز عظيم وتطريف آماق، تشوقت له النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسروراً بحضوره، ومتجملاً به، فأتى بأفانين من العلوم، على حسب مجلسه المتقدم الذكر. ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد، المشتهر المآثر والمكارم، المقدم بين الأكابر والأعاظم.

ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه، الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي، بازاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولازيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدار، فاما نظمه فرضي الطباع، مهياري الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان.

ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر ويبتدئ القراء بالقرآن، وعددهم نيف على العشرين قارئاً، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فاذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات أن يتكاملوا قراءة، وقد أتو بآيات مشتبهات، لايكاد المتقد الخاطر يحصلها عدداً، أو يسميها نسقاً. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في ايراد خطبته، عجلاً مبتدراً، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه درراً، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقراً، وأتى بها على نسق القراءة لها، لامقدماًولا مؤخراً. ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ماقرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء بها عجلاً! أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، وان هذا لهو الفضل المبين فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر! ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقاً، وذابت بها الأنفس احتراقاً، أن علا الضجيج، وتردد بشهقائه النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعياً له، ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع اليه، فشاهدنا هولأ يملأ النفوس انابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم تركب ثبج البحر، وتعتسف مغازات القفر الا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناحجة، والحمد لله على أن من بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله.

وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل، وتطير اليه الرقاع، فيجاوب أسرع من طرفة عين. وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لا اله سواه.


ثم شاهدنا مجلساً ثانياً له، بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر، بباب بدر في ساحة قصور الخليفة، ومناظره مشرفة عليه. وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة، رخص بالوصول اليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم. ويفتح الباب للعامة فيدخلون ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر.وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس. فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا أن وصل هذا الحبر المتكلم، فصعد المنبر، وأرخى طيلسانه عن رأسه توااضعاً لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاءوا، وأطربوا ما أرادوا. وبدرت العيون بارسال الدموع. فلما فرغوا من القراءة، وقد احصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب أن أكملها، وكانت الآية الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن الله لذو فضل على الناس فتمادى على هذا السين وحسن أي تحسين، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته، وكنى عنها بالستر الأشرف، والجناب الأرأف. ثم سلك سبيله في الوعظ، كل ذلك بديهة لاروية؛ ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى. فأرسلت وابلها العيون، وابدت النفوس سر شوقها المكنون وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين، وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لاتملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولاتجد للصبر سبيلاً.

ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق، بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجداً، ويعود موضعها النسيبي زهداً. وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام:

أين فؤادي أذابه الوجـد ،،،وأين قلبي فما صحا بعد

ياسعد زدني بذكـرهـم ،،،بالله قل لي فديت ياسعد

ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيهن والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه، أن خاف الإفحام، فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشاً عجلاًن وقد أطار القلوب وجلا، وترك الناس على أحر من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر.

فمن معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب. فياله من مشهد ماأهول مرآه، وما أسعد من رآه! نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته، بمنه وفضله.

وفي أول مجلسه أنشد قصيداً نير القبس، عراقي النفس، في الخليفةن أو له:

في شغلٍ من الغرامِ شاغـل ،،،من هاجه البرق بسفح عاقل

يقول فيه عند ذكر الخليفة:

ياكلمات الله كوني عوذة ،،، من العيون للإمام الكامل

ففرغ من انشاده وقد هز المجلس طرباً، ثم أخذ في شأنه وتمادى في ايراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلماً في الدنيا يعطي من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده لا اله غيره.

وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه، بالإضافة ماعهدناه من متكلمي الغرب. وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة، شرفها الله، مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد، فصغرت، بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ، في نفوسنا قدراً، ولم نستطب لها ذكراً. وأين تقعان مما أريد وشتان بين اليزيدين، وهيهات! الفتيان كثير، والمثل بمالك يسير! ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه، ويروق استطلاعه.

وحضرنا له مجلساً ثالثاً، يوم السبت الثالث عشر لصفر، بالموضع المذكور بازاء داره على الشط الشرقي، فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجباً، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحباً، وأسال من أدمعهم وايلا سكباً، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتاً من النسيب شوقاً زهدياً وطرباً، أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والهاً مكتئباً، وغادر الكل متندماً على نفسه منتحباً، لهفاف ينادي: ياحسرنا واحرابا، والمنادون يدورون بنننحيبهم دور الرحى، وكل منهم بعد من سكرته ماصحا، فسبحان من خلفه عبرة لأولي الألباب، وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب، لااله سواه.

هي كما ذكرناه جانبان: شرقي وغربي، ودجلة بينهما فأما الجانب الغربي فقد عمه الخراب والستولى عليه، وكان المعمور أولاً. وعمارة الجانب الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يﷺ فيا الجمعة، فأكبرها القرية، وهو التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر، فحملته دجلة بمدها السيلي، فعاد الناس بعبرون ابا ولزرق، والزوارق فيها لا تحصى كثرة، فالناس ليلا ونهاراً من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالاً ونساء. والعادة أن يكون لها جسران: أحدهما مما يقرب من دور الخليفة والآخر فوقه لكثرة الناس. والعبور في الزوارق لا ينقطع منها.

ثم الكرخ، وهي مدينة مسورة.

ثم محلة باب البصرة، وهي أيضاً مدينة، وبها جامع المنصور، رحمه الله، وهو جامع كبير عتيق البنيان حفيله.

ثم الشارع، وهي ايضاً مدينة، فهذه الأربع أكبر المحلات.

وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون احوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون اليه، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل اليه من دجلة.

وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها، كالوسيطة، وهي بين دجلة ونهر يتفرع من الفرات وينصب في دجلة، يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات. ويشق على باب البصرة الذي ذكرنا محلته نهر آخر منه وينصب أيضاً في دجلة.

ومن أسماء المحلات العتابية، وبها تصنع الثياب العتابية، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان.

ومنها الحربية، وهي أعلاها، وليس وراءها الا القرى الخارجة عن بغداد أسماء يطول ذكرها.

وباحدى هذه المحلات قبر معروف الكرخي، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء. وفي الطريق باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متسع السنام، عليه مكتوب: هذا قبر عون ومعين، من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي الجانب الغربي أيضاً قبر موسى بن جعفر، رضي الله عنهما، مشاهد كثيرة ممن لم تحضرنا تسميته من الأولياء والصالحين والسلف الكريم، رضي الله عن جميعهم.

وبأعلى الشرقية خارج البلد محلة كبيرة بازاء محلة الرصافة، وبالرصافة كان باب الطاق المشهور على الشط، وفي تلك المحلة مشهد حفيل البنيان، له قبة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، وبه تعرف المحلة. وبالقرب من تلك المحلة قبر الإمام احمد بن حنبل، رضي الله عنه، وفي تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي، رحمه الله، وقبر الحسين بن منصور الحلاج. وببغداد من قبور الصالحين كثير، رضي الله عنهم. وبالغربية هي البساتين والحدائق، ومنها تجلب الفواكه الشرقية.

واما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة، وكفاها بذلك شرفاً واحتفالاً ! ودور الخليفة مع آخرها، وهي تقع منها في نحو الربع أو أزيد، لأن جميع العباسيين في تلك الديار معتقلون اعتقالاً جميلاً لايخرجون ولايظهرون، ولهم المرتبات القائمة بهم. وللخليفة من تلك الديار جزء كبير،قد اتخذ فيها المناظر المشرفة والقصور الرائقة والبساتين الأنيقة. وليس له اليوم وزير انما له خديم يعرف بنائب الوزراة، يحضر الديوان المحتوي على أموال الخلافة وبين يديه الكتب فينفذ الأمور؛ وله قيم على جميع الديار العباسية، وأمين على سائر الحرم الباقيات من عهد جده وأبيه وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية، يعرف بالصاحب مجد الدين استاذ الدار، هذا لقبه، ويدعى له إثر الدعاء للخليفة، وهو قلماً يظهر للعامة اشتغالاً بما هو بسبيله من أمور تلك الديار وحراستها والتكفل بمغالقها وتفقدها ليلاً ونهاراً.

ورونق هذا الملك انما هو على الفتيان والأحابش المجابيب، منهم فتى اسمه خالص، وهو قائد العسكرية كلها، أبصرناه خارجاً أحد الأيام وبين يديه وخلفه أمراء الأجناد من الأتراك والديلم وسواهم، وحوله نحو خمسين سيفاً مسلولة في أيدي رجال قد احتفوا به فشاهدنا من أمره عجباً في الدهر، وله القصور والمناظر على دجلة.

وقد يظهر الخليفة في بعض الأحيان بدجلة راكباً في زرورق. وقد يصيد في بعض الأوقات في البرية، وظهوره على حالة اختصار تعمية لأمره على العامة، فلا يزدادأمره مع تلك التعمية الا اشتهاراً. وهو مع ذلك يحب الظهور للعامة ويؤثر التحبب لهم، وهو ميمون النقيبة عندهم قد استسعدوا بأيامه رخاء وعدلاً وطيب عيش فالكبير والصغير منهم داعٍ له.

أبصرنا هذا الخليفة المذكور، وهو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء بنور الله محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف، ويتصل نسبه أبي الفضل جعفر المقتدر بالله، السلف فوقه من أجداده الخلفاء، رضوان الله عليهم بالجانب الغربي أمام منظرته به وقد انحدر عنها صاعداً في الزورق قصره بأعلى الجانب الشرقي على الشط، وهو في فتاء من سنه، اشقر اللحية صغيرها كما اجتمع بها وجهه، حسن الشكل، جميل المنظر، أبيض اللون، معتدل القامة، رائق الرواء، سنه نحو الخمس وعشرين سنة، لابساً ثوباً أبيض شبه القباء برسوم ذهب فيه، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس مما هو كالفنك وأشرف، متعمداً بذلك ذي الأتراك تعمية لشأنه، لكن الشمس لاتخفى وأن سترت، وذلك عشية يوم السبت السادس لصفر سنة ثمانين، وأبصرناه أيضاً عشي يوم الاحد بعده متطلعاً من منظرته المذكورة بالشط الغربي، وكنا نسكن بمقربة منها.

والشرقية حفيلة الأسواق عظيمة الترتيب، تشتمل من الخلق على بشر لا يحصيهم الا الله تع الذي أحصى كل شيء عدداً. وبها من الجوامع ثلاثة، كل يجتمع فيها: جامع الخليفة متصل بداره، وهو جامع كبير، وفيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة كاملة، مرافق الوضوء والطهور؛ وجامع السلطان، وهو خارج البلد، ويتصل به قصور تنسب للسلطان أيضاً المعروف بشاه شاه، وكان مدبر أمر أجداد هذا الخليفة، وكان يسكن هنالك، فابتنى الجامع أمام مسكنه؛ وجامع الرصافة، وهو على الجانب الشرقي المذكور، وبينه وبين جامع هذا السلطان المذكور مسافة نحو الميل، والرصافة تربة الخلفاء العباسيين، رحمهم الله. فجميع جوامع البلد ببغداد المجع فيها أحد عشر.

وأما حماماتها فلا تحصى عدةً، ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخام اسود صقيل. وحمامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصفة لكثرة القار عندهم، لأن شأنه عجيب، يجلب من عين بين البصرة والكوفة، وقد أنبط الله ماء هذه العين ليتولد منه القار، فهو يصير في جوانبها كالصلصال، فيجرف ويجلب وقد انعقد، فسبحان خالق مايشاء لا اله سواه.

وأما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير فضلا عن الاحصاء.

والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة الا وهي يقصر القصر البديع عنها وأعظمها وأشهرها النظامية وهي التي ابتناها نظام الملك، وجددت سنة أربع وخمس مئة. ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير الفقهاء المدرسين بها، ويجرون بها على الطلبة مايقوم بهم، ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد، فرحم الله واضعها الأول ورحم من تبع ذلك السنن الصالح.

وللشرقية أربعة أبواب: فأولها، وهو في أعلى الشط، باب السلطان، ثم باب الظفرية، ثم يليه باب الحلبة، ثم باب البصلية. هذه الأبواب التي هي في السور المحيط بها من أعلى الشط أسفله، هو ينعطف عليها كنصف دائرة مستطيلة. وداخلها في الأسواق أبواب كثيرة. وبالجملة فشأن هذه البلدة أعظم من أن يوصف، وأين هي مما كانت عليه? هي اليوم داخلة تحت قول حبيب: لاانت انت ولا الديار ديار


مغادرة بغداد

واتفق رحيلنا من بغداد الموصل اثر صلاة العصر من يوم الاثنين الخامس عشر لصفر، وهو الثامن والعشرون لمايه، فكان مقامنا بها ثلاثة عشر يوماً، ونحن في صحبة الخاتونين: خاتون بنت مسعود المتقدمة الذكر في هذا التقييد، وخاتون ام عز الدين صاحب الموصل، وصحبتهما حاج الشام والموصل وأرض الأعاجم المتصلة بالدروب التي طاعة الأمير مسعود والد احدى الخاتونين المذكورتين، وتوجه جاج خراسان ومايليها صحبة الخاتون الثالثة ابنة الملك الدقوس، وطريقهم على الجانب الشرقي من بغداد، وطريقنا نحن الموصل على الجانب الغربي منها. وهاتان الخاتونان هما أميرتا هذا العسكر الذي توجهنا فيه وقائدناه، والله لايجعلنا تحت قول القائل:

ضاع الرعيل ومن يقوده

ولهما أجناد برسمهما، وزادهما الخليفة جنداً يشيعونهما مخافة العرب الخفاجيين المضرين بمدينة بغداد، وفي تلك العشية التي رحلنا فيها فجأتنا خاتون المسعودية المترفة شباباً وملكاً، وهي قد استقلت في هودج موضوع على خشبتين معترضتين بين مطيتين الواحدة أمام الآخرى وعليهما الجلال المذهبة، وهما تسيران بها سير النسيم سرعة وليناً، وقد فتح لها أمام الهودج وخلفه بابان، وهي ظاهرة في وسطه متنقبة، وعصابة ذهب على رأسها، وأمامها رعيل من فتيانها وجندها، وعن يمينها جنائب المطايا والهماليج العتاق، ووراءها ركب من جواريها قد ركبن المطايا والهماليج على السروج المذهبة وعصبن رؤوسهن بالعصائب الذهبيات والنسيم يتلاعب بعذباتهن، وهو يسرن خلف سيدتهن سير السحاب. ولها الرايات والطبول البوقات تضرب عند ركوبها وعند نزولها.

وأبصرنا من نخوة الملك النسائي واحتفاله رتبة تهز الأرض هزاً، وتسحب أذيال الدنيا عزاً. ويحق أن يخدمها العز، ويكون لها هذا الهز، فان مسافة مملكة أبيها نحو الأربعة أشهر، وصاحب القسطنطينية يؤدي اليه الجزية، وهو من العدل في رعيته على سيرة عجيبة، ومن موالاة الجهاد على سنة مرضية.

وأعلمنا أحد الحجاج من أهل بلدنا أن في هذا العام الذي هو عام تسعة وسبعين الخالي عنا استفتح من بلاد الروم نحو الخمسة وعشرين بلداً، ولقبه عز الدين، واسم أبيه مسعود، وهذا الإسم غلب عليه، وهو عريق في المملكة عن جد فجد. ومن شرف خاتون هذه واسمها سلجوقة، أن صلاح الدين استفتح آمد بلد زوجها نور الدين، وهي من أعظم بلاد الدنيا، فترك البلد لها كرامة لأبيها وأعطاها المفاتيح، فبقي ملك زوجها بسببها. وناهيك من هذا الشأن! والملك ملك الحي القيوم، يؤتي الملك من يشاء لا إله سواه.

فكان مبيتنا تلك الليلة بإحدى قرى بغداد، نزلناها مضى هدء من الليل، وبمقربة منها دجيل، وهو نهر يتفرع من دجلة يسقي تلك القرى كلها.

وغدونا من ذلك الموضع، ضحى يوم الثلاثاء السادس عشر لصفر المذكور، والقرى متصلة في طريقنا، فاتصل سيرنا إثر صلاة الظهر، ونزلنا وأقمنا باقي يومنا ليلحق من تأخر من الحجاج ومن تجار الشام الموصل. ثم رحلنا قبيل نصف الليل، وتمادى سيرنا أن ارتفع النهار، فنزلنا قائلين ومريحين على دجيل. وأسرينا الليل كله، فنزلنا مع الصباح بمقربة من قرية تعرف بالحربة، من أخصب القرى وأفسحها. ورحلنا من ذلك الموضع وأسرينا الليل كله، ونزلنا مع الصباح من يوم الخميس الثامن عشر لصفر على شط دجلة بمقربة من حصن يعرف بالمعشوق، ويقال: انه كان متفرجاً لزبيدة ابنة عم الرشيد وزوجه، وعلى قبالة هذا الموضع في الشط الشرقي مدينة سر من رأى، وهي اليوم عبرة من رأي: أين معتصمها، وواثقها، ومتوكلها?! مدينة كبيرة قد استولى الخراب عليها الا بعض جهات منها هي اليوم معمورة. وقد أطنب المسعودي، رحمة الله، في وصفها ووصف طيب هوائها ورائق حسنها.وهي كما وصف وإن لم يبق الا الأثر من محاسنها، والله وارث الأرض ومن عليها، لا اله غيره فأقمنا بهذا الموضع طول يومنا مستريحين، وبيننا وبين مدينة تكريت مرحلة، ثم رحلنا منه وأسرينا الليل كله، فضبحنا تكريت مع الفجر من يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر، وهو أول يوم من يونيه، فنزلنا ظاهرها مستريحين ذلك اليوم.


ذكر مدينة تكريت

هي مدينة كبيرة واسعة الأرجاء، فسيحة الساحة، حفيلة الأسواق، كثيرة المساجد، غاصة بالخلق، أهلها أحسن أخلاقاً وقسطاً في الموازين من أهل بغداد، ودجلة منها في جوفيها، ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة، ويطيف بالبلد سور قد أثر الوهن فيه. وهي من المدن العتيقة المذكورة.

ورحلنا مع عشي اليوم المذكور واسرينا طول الليل، وأصبحنا يوم السبت الموفي عشرين منه بشط دجلة، فنزلنا مريحين. ومن ذلك الموضع يستصحب الماء ليوم وليلة، فاستصحبناه. ورحلنا ذلك اليوم ضحوة، فأسرينا الليل، ونزلنا لأخذ نفس راحة واختلاس سنة نوم، فهو منا هنيهة، ورحلنا وأسأدنا الصباح. وتمادى سيرنا أن ارتفع النهار من يوم الأحد بعده، فنزلنا قائلين بقرية على شط دجلة تعرف بالجديدة، وبمقربة منها قرية كبيرة اجتزنا عليها تعرف بالعقر وعلى رأسها ربوة مرتفعة كانت حصناً لها، وأسفلها خان جديد بأبراج وشرف حفيل البنيان وثيقه. والقرى والعمائر من هذا الموضع الموصل متصلة. ومن هنا ينتثر انتظام الحاج في المشي فينبسط كل في طريقه متقدماً ومتأخراً، وبطيئاً ومستعجلاً، آمناً مطمئناً.

فرحلنا منها قريب العصر، وتمادى سيرنا المغرب، ونزلنا آخذين غفوة سنة خلال ما تتعشى الإبل. ورحلنا قبل نصف الليل وأدلجنا الصباح.

وفي ضحوة هذا اليوم، وهو يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر، والرابع ليونيه، ومررنا بموضع يعرف بالقيارة من دجلة، وبالجانب الشرقي منها، وعن يمين الطريق الموصل، فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها سحابة قد أنبط الله فيها عيوناً كباراً وصغاراً تنبع بالقار، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان، ويصنع له أحواض يجتمع فيها فتراه شبه الصلصال منبسطاً على الأرض أسود أملس، صقيلاً ورطباً، عطر الرائحة، شديد التعلك، فيلصق بالأصابع لأول مباشرة من اللمس، وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق أسود تقذفه جوانبها فيرسب قاراً، فشاهدنا عجباً كنا نسمع به فنستغرب سماعه.

ومبقربة من هذه العيون على شط دجلة عين أخرى منه كبيرة، أبصرنا على البعد منها دخاناً، فقيل لنا: أن النار تشعل فيه اذا أرادوا نقله فتنشف النار رطوبته المائية وتعقده، فيقطعونه قطرات ويحملونه، وهو يعم جميع البلاد الشام عكة جميع البلاد البحرية، والله يخلق مايشاء، سبحانه تع جده، وجلت قدرته، لارب غيره. ولا شك أن على هذه الصفة هي العين التي ذكر لنا أنها بين الكوفة والبصرة، وقد ذكرنا أمرها في هذا التقيي، ومن هذا الموضع الموصل مرحلتان.

وأجزنا تلك العيون القارية ونزلنا قائلين، ثم رحنا وسرنا العشي، ونزلنا بقرية تعرف بالعقيبة، ومنها تصبح الموصل إن شاء الله فأسرينا منها بعد نصف الليل ووصلنا الموصل عنذ ارتفاع النهار من يوم الثلاثاء الثالث والعشرين لصفر، والخامس من يونيه، ونزلنا بربضها في أحد الخانات بمقربة من الشط.


ذكر مدينة الموصل

هذه المدينة عتيقة ضخمة، حصينة فخمة، قد طالت صحبتها للزمن، فأخذت أهبة استعدادها لحوادث الفتن، قد كادت أبراجها تلتقي انتظاماً لقرب مسافة بعضها من بعض، وباطن الداخل منها بيوت، بعضها على بعض، مستديرة وللمقاتلة في هذه البيوت حرز وقاية، وهي من المرافق الحربية. وفي أعلى البلد قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصاً، ينتظمها سور عتيق البنية مشيد البروج، وتتصل بها دور السلطان. وقد فصل بينهما وبين البلد شارع متسع يمتد من أعلى البلد أسفله. ودجلة شرقي البلد، وهي متصلة بالسور، وأبراجه في مائها.

وللبلدة ربض كبير فيه المساجد والحمامات والخانات والأسواق، وأحدث فيه بعض أمراء البلدة، وكان يعرف بمجاهد الدين، جامعاً على شط دجلة، ما أرى وضع جامع أحفل منه، بناء يقصر الوصف عنه وعن تزيينه وترتيبه، وكل ذلك نقش في الآجر. وأما مقصورته فتذكر بمقاصير الجنة، ويطيف به شبابيك حديد، تتصل بها مصاطب تشرف على دجلة لامقعد أشرف منها ولا أحسن، ووصفه يطول، وانما وقع الإلماع بالبعض جرياً الاختصار، وأمامه مارستان حفيل من بناء مجاهد الدين المذكور.

وبنى أيضاً داخل البلد وفي سوقه قيسارية للتجار، كأنها الخان العظيم، تنغلق عليها أبواب حديد، وتطيف بها دكاكين وبيوت، بعضها على بعض، قد جلي ذلك كله في أعظم صورة من البناء المزخرف الذي لامثيل له. فما أرى في البلاد قيسارية تعدلها.

وللمدينة جامعان: أحدهما جديد، والآخر من عهد بني أمية. وفي صحن هذا الجامع قبة، داخلها سارية رخام قائمة، قد خلخل جيدها بخمسة خلاخل مفتولة فتل السوار من جرم رخامها، وفي أعلاها خصة رخام مثمنة يخرج عليها أنبوب من الماء خروج انزعاج وشدة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة كأنه قضيب من البلور معتدل ثم ينعكس أسفل القبة. ويجمع في هذين الجامعين القديم والحديث، ويجمع أيضاً في جامع الربض. وفي المدينة مدارس للعلم نحو الست أو أزيد على دجلة، فتلوح كأنها القصور المشرفة. ولها مارستان حاشا الذي ذكرناه في الربض.

وخص الله هذه البلدة بتربة مقدسة فيها مشهد جرجيس، ﷺ الله عليه وسلم، وقد بني فيه مسجد، وقبره في زاوية من أحد بيوت المسجد عن يمين الداخل اليه. وهذا المسجد هو بين الجامع الجديد وباب الجسر، يجده المار الجامع من باب الجسر عن يساره. فتبر كنا بزيارة هذا القبر المقدس والوقوف عنده، نفعنا الله بذلك.

ومما خص الله به هذه البلدة أن في الشرق منها اذا عبرت دجلة على نحو الميل تل التوبة، وهو التل الذي وقف به يونس، عليه السلام، بقومه ودعا ودعوا حتى كشف الله عنهم العذاب، وبمقربة منه على قدر الميل أيضاً العين المباركة المنسوبة اليه، ويقال: أنه أمر قومه بالتطهر فيها واضمار التوبة، ثم صعدوا على التل داعين.

وفي هذا التل بناء عظيم هو رباط يشتمل على بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات، يضم الجميع باب واحد، وفي وسط ذلك البناء بيت ينسدل عليه ستر وينغلق دونه باب كريم مرصع كله، يقال: أنه كان الموضع الذي وقف فيه يونس، ﷺ الله عليه وسلم، ومحراب هذا البيت يقال. انه كان بيته الذي كان يتعبد فيه، ويطيف بهذا البيت شمع كأنه جذوع النخل عظماً، فيخرج للنا هذا الرباط كل ليلة جمعة ويتعبدون فيه. وحول هذا الرباط قرى كثيرة، ويتصل بها خراب عظيم، يقال: انه كان مدينة نينوى، وهي مدينة يونس عليه السلام، وأثر السور المحيط بهذه المدينة ظاهر، وفرج الأبواب فيه بينة، وأكوام أبراجه مشرفة. بتنا بهذا الرباط المبالاك ليلة الجمعة السادس والعشرين لصفر، ثم صبحنا العين المباركة، وشربنا من مائها وتطهرنا فيها وصلينا في المسجد المتصل بها، والله ينفع بالنية في ذلك بمنه وكرمه.

وأهل هذه البلدة على طريقة حسنة، يستعملون أعمال البر، فلا تلقى منهم الاذا وجه طلق وكلمة لينة، ولهم كرامة للغرباء واقبال عليهم، وعندهم اعتدال في جميع معاملاتهم. فكان مقامنا في هذه البلدة أربعة أيام.


الاحتفال بوصول الخاتونين

ومن أحفل المشاهد الدنيوية المريبة بروز شاهدناه يوم الأربعاء ثاني يوم وصولنا الموصل للخاتونين: أم عز الدين صاحب الموصل، وبنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها، فخرج الناس على بكرة أبيهم ركباناً ومشاة، وخرج النساء كذلك، وأكثرهن راكبات، وقد اجتمع منهن عسكر جرار. وخرج امير البلد للقاء والدته مع زعماء دولته. فدخل الحاج المواصلة صحبة خاتونهم على احتفال وأبهة قد جللوا اعناق ابلهم بالحرير الملون، وقلدوها القلائد المزوقة.

ودخلت خاتون المسعودية تقود عسكر جواريها وأمامها عسكر رجالها يطوفون بها، وقد جللت قبتها كلها سبائك ذهب مصوغة أهلة ودنانير سعة الأكف وسلاسل وتماثيل بديعة الصفات، فلا تكاد تبين من القبة موضعاً، ومطيتاها تزحفان بها زحفاً، وصخب ذلك الحلي يسد المسامع، ومطاياها مجللة الأعناق بالذهب، ومراكب جواريها كذلك؛ مجموع ذلك الذهب لايحصى تقديره. وكان مشهداً أبهت الأبصار، وأحدث الاعتبار، وكل ملك يفنى الا ملك الواحد القهار، لاشريك له.

وأخبرنا غير واحد من الثقات، ممن يعرف حال خاتون هذه، وأنها موصوفة بالعبادة والخير، مؤثرة لأفعال البر. فمنها أنها أنفقت في طريقها هذا الحجاز، في صدقات ونفقات في السبيل، مالاً عظيماً، وهي تحب الصالحين والصالحات تزمورهم متنكرة رغبة في دعائهم. وشأنها عجيب كله على شبابها وانغماسها في نعيم الملك. والله يهدي من يشاء من عباده.

وفي عشي اليوم الرابع من المقام بهذه البلدة، وهو يوم الجمعة السادس والعشرين لصفر المذكور، ورحلنا منها على دواب أشتريناها بالموصل تفادياً من معاملة الجمالين، على أن القدر المحمود لم يسبب لنا الا صحبة الأشبه منهم، ومن شكرناه على طول الصحبة، وتماديها من مكة، شرفها الله، الموصلن فأسرينا ليلة السبت بعيد نصف الليل ثم نزلنا بقرية من قرى الموصل، ورحلنا منها ضحوة يوم السبت المذكور، وقلنا بقرية تعرف بعين الرصد، وكان مقيلنا تحت جسر معقود على واد يتحدر فيه الماء، وكان مقيلا مباركاً. وفي تلك القرية خان كبير جيد. وفي محلات الطريق كلها خانات. واتفق مبيتنا تلك الليلة بالقرية المذكورة، واسرينا منهاواصبحنا يوم الاحد بقرية تعرف بالمويلحة، وأسرينا منها وبتنا بقرية كبيرة تعرف بجدال لها حصن عتيق. وفي يومنا هذا رأينا، عن يمين الطريق، جبل الجودي المذكور في كتاب الله تع الذي استوت عليه سفينة نوح، عليه السلام، وهو جبل عال مستطيل. ثم رحلنا في السحر الأعلى من يوم الاثنين التاسع والعشرين لصفر، فكان مبيتنا في قرية من قرى نصيبين، ومنها اليها مرحلة، ويعرف الموضع المذكور بالكلاي.


شهر ربيع الأول من سنة ثمانين

استهل هلاله ليلة الثلاثاء، بموافقة الثاني عشر من يونيه، ونحن بالقرية المذكورة، فرحلنا منا سحر يوم الثلاثاء المذكور ووصلنا نصيبين قبل الظهر من اليوم المذكور.


مدينة نصيبين حرسها الله

شهيرة العتاقة والقدم، ظاهرها شباب، وباطنها هرم، جميلة المنظر، متوسطة بين الكبر والصغر، يمتد أمامها وخلفها بسيط أخضر مد البصر، قد أجرى الله فيه مذانب من الماء تسقيه، وتطرد في نواحيه، وتحف بها عن يمين وشمال لساتين ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، ينساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافتيه، وتفيء ظلالها الوارفة عليه، فرحم الله أبا نواس الحسن بن هانئ حيث يقول:

طابت نصيبين لي يوماً فطبت لها ,,, ياليت حظي من الدنيا نصيبين

فخارجها رياضي الشمائل، أندلسي الخمائل، يرف غضارة ونضارة، ويتألق عليه رونق الحضارة، وداخلها شعت البادية باد عليه، فلا مطمح للبصر اليه، لاتجد العين فيه فسحة مجال، ولا مسحة جمال. وهذا النهر ينسرب اليها من عين معينة منبعها بجبل قريب منها، تنقسم منها مذانب تخترق بسائطها وعمائرها ويتخلل البلد منها جزء، فيتفرق على شوارعها ويلج في بعض ديارها ويصل جامعها المكرم منه سرب يخترق صحنه، وينصب في صهريجين: أحدهما وسط الصحن، والآخر عند الباب الشرقي منه، ويفضي سقايتين حول الجامع.

وعلى النهر المذكور جسر معقود من ضم الحجارة يتصل بباب المدينة القبلي. وفيها مدرستان ومارستان واحد، وصاحبها معين الدين أخو عز الدين صاحب الموصل، ابنا أتابك. ولمعين الدين أيضاً مدينة سنجار، وهي عن يمين الطريق الموصل.

ويسكن في احدى الزوايا الجوفية من جامعها المكرم الشيخ أبو اليقظان الأسود الجسد الأبيض الكبد، أحد الأولياء الذين نور الله بصائرهم بالإيمان، وجعلهم من الباقيات الصالحات في الزمان، الشهير المقامات، الموصوف بالكرامات، نضو التبتل والزهادة، ومن أخلقت جدته العبادة، قد اكتفى بنسج يده، ولا يدخر من قوت يومه الثلاثاءأسعدنا الله بلقائه، وأصحبنا من بركة دعائه عشي يوم الثلاثاء مستهل ربيع الأول، فحمدنا الله عز وجل على أن من علينا برؤيته، وشرفنا بمصافحته، والله ينفعنا بدعائه، انه سميع مجيب، لا اله سواه.

فكان نزولنا بها في هان خارجها، وبتنا بها ليلة الأربعاء الثاني من ربيع الأول. ورحلنا صبيحته في قافلة كبيرة من البغال والحمير: حرانيين وحلبيين وسواهم من أهل البلاد، بلاد بكر وما يليها، وتركنا حاج هذه الجهات وراء ظهورنا على الجمال، فتمادى سيرنا أول الظهر، ونحن على اهبة وحذر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل نصيبين مدينة دنيصر يقطعون السبيل ويسعون فساداً في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة، ولم يعن الله سلاطينها على قمعهم وكف عاديتهم، فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان باب نصيبينن ولا دافع لهم ولا مانع الا الله، عز وجل . فقلنا يوم الأربعاء المذكور، ورأينا ذلك اليوم، عن يمين طريقنا، بقرب من صفح الجبل، مدينة دارى العتيقة، وهي بيضاء كبيرة، لها قلعة مشرفة. ويليها بمقدار نصف مرحلة مدينة ماردين، وهي في صفح جبل في قنته لها قلعة كبيرة هي من قلاع الدنيا الشهيرة، وكلتا المدينتين معمورة.


مدينة دنيصر

هي في بسيط من الأرض فسيح، وحولها بساتين الرياحين والخضر، تسقى بالسواقي، وهي مائلة الطبع البادية، ولا سور لها، وهي مشحونة بشراً، ولها الأسواق الحفيلة، والأرزاق الواسعة، وهي مخطر لأهل بلاد الشام وديار بكر وآمد وبلاد الروم التي تلي طاعة الأمير مسعود وما يليها، ولها المحرث الواسع، ولها مرافق كثيرة. فكان نزولنا مع القافلة ببراح ظاهرها، وأصبحنا يوم الخميس الثالث لربيع الأول بها مريحين، وخارجها مدرسة جديدة بقية البناء فيها، ويتصل بها حمام، والبساتين حولها، فهي مدرسة جيدة بقية البناء فيها، ويتصل بها حمام، والبساتين حولها، فهي مدرسة ومأنسة. وصاحب هذه البلدة قطب الدين، وهو أيضاً صاحب مدينة دارى ومدينة ماردينة ماردين ورأس العين، وهو قريب لابني أتابك.

وهذه البلدة لسلاطين شتى كملوك طوائف الأندلس، كلهم قد تحلى مجلية تنسب الدين، فلا تسمع الا القاباً هائلة، وصفات لذي التحصيل غير طائلة، قد تساوي فيها السوقة والملوك، واشتراك فيها الغني والصعلوك، ليس فيهم من اتسم بسمة به تليق، أو اتصف بصفة هو بها خليق، الا صلاح الدين صاحب الشام وديار مصر والحجاز واليمن، المشتهر الفضل والعدل، فهذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، وماسوى ذلك في سواه فزعازع ريح، وشهادات يردها التجريح، ودعوى نسبة للدين برحت به أي تبريح!

ألقاب مملكة في غير موضعهـا،،، كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

ونرجع حديث المراحل، قربها الله: فكان مقامنا بدنيصر أن صلينا الجمعة، وهو اليوم الرابع لربيع ( الأول)، تلوم أهل القافلة بها لشهود سوقها، لأن بها يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد بعدها سوق حفيلة، يجتمع لها أهل هذه الجهات المجاورة لها والقرى المتصلة بها، لأن الطريق كلها يميناً وشمالاً قرى متصلة وخانات مشيدة، ويسمون هذه السوق المجتمع اليها من الجهات البازار، وأيام كل سوق معلومة.

ورحلنا إثر صلاة الجمعة فاجتزنا على قرية كبيرة لها حصن تعرف بتل العقاب، هي للنصارى المعاهدين الذميين، ذكرتنا هذه القرية بقرى الأندلس حسناً ونضارة، تحفا البساتين والكروم وأنواع الأشجار، وينسرب بإزائها نهر ترف الظلال عليه، وخطها متسع، والبساتين قد انتظمته، وشاهدنا بها من الخنانيص أمثال الغنم كثرة وأنساً بأهلها. ثم وصلنا عشي النهار قرية أخرى تعرف بالجسر، هي الآن لناس من المعاهدين، وهم فرقة من فرق الروم، فكان مبيتنا بها ليلة السبت الخامس لربيع المذكور، ثم أسحرنا منها ووصلنا مدينة راس العين قبيل الظهر من يوم السبت المذكور.


ذكر مدينة رأس العين

هذا الاسم لهامن أصدق الصفات، وموضوعها به أشرف الموضوعات، وذلك أن الله تع فجر أرضها عيوناً وأجراها ماء معيناً، فتقسمت مذانب وانسابت جداول تنبسط في مروج خضر، فكأنهاسبائك اللجين ممدودة في بساط الزبر جسد، تحف بها أشجار وبساتين قد انتظمت حافتيها آخر أنتهائها من عمارة بطحائها. وأعظم هذه العيون عينان: احداهما فوق الأخرى، فالعليا منهما نابعة فوق الارض في صم الحجارة كأنها في جوف غار كبير متسع يبسط الماء فيه حتى يصير كالصهريج العظيم ثم يخرج ويسيل نهراً كبيراً كأكبر مايكون من الانهار وينتهي العين الأخرى ويلتقي بمائها. وهذه العين الثانية عجب من عجائب مخلوقات الله عز وجل، وذلك أنها نابعة تحت الأرض من الحجر الصلد بنحو أربع قامات أو أزيد، ويتسع منبعها حتى يصير صهريجاً في ذلك العمق، ويعلو بقوة نبعه حتى يسيل على وجه الأرض. فربما يروم السابح القوي السباحة الشديدة الغوص في أعماق المياه أن يصل بغوصه قعره فيمجه الماء بقوة انبعاثاً منبعه، فلا يتناهى في غوصه مقدار نصف مسافة العمق أو أقل شيئاً؛ شاهدنا ذلك عياناً. وماؤها أصفى من الزلال وأعذب من السلسبيل، يشف عما حواه، فلو طرح الدينار فيه في الليلة الظلماء لما أخفاه، ويصاد فيها سمك جليل من أطيب مايكون من السمك.

وينقسم ماء هذه العين نهرين: أحدهما آخذ يميناً، والآخر يساراً. فالأيمن يشق خانقة مبنية للصوفية والغرباء بإزاء العين، وهي تسمى الرباط أيضاً، والأيسر ينسرب على جانب الخانقة وتفضي منه جداول مطاهرها ومرافقها المعدة للحاجة البشرية، ثم يلتقيان أسفلها مع نهر العين الأخرى العليا، وقد بنيت على شط نهر هما المجتمع بيوت أرحى تتصل على شط موضوع وسط النهر كأنه سد. ومن مجتمع ماء هاتين العينين منشأ نهر الخابور.

وبمقربة من هذه الخانقة بحيث تناظرها مدرسة بإزائها حمام، وكلاهما قد وهى وأخلق وتعطل، وما أرى كان في موضوعات الدنيا مثل موضوع هذه المدرسة، لأنها في جزيرة خضراء والنهر يستدير بها من ثلاثة جوانب والمدخل اليها من جانب واحد، وامامها ووراءها بستان، وبإزائها دولاب يلقي الماء بساتين مرتفعة عن مصب النهر. وشأن هذا الموضع كله عجيب جداً: فغاية حسن القرى بشرقي الأندلس أن يكون لها مثل هذا الموضع جمالاً أو تتحلى بمثل هذه العيون، ولله القدرة في جميع مخلوقاته.

وأما المدينة فللبداوة بها اعتناء، وللحضارة عنها استغناء لاسور يحصنها، ولادور أنيقة النباء تحسنها، قد ضحيت في صحرائها كأنا عودة لبطحائها، وهي مع ذلك كاملة مرافق المدن، ولها جامعان حديث وقديم، فالقديم بموضع هذه العيون، وتتفجر أمامه عين معينة هي دون اللتين ذكرناهما. وهو من بنيان عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، لكنه قد أثر القدم فيه حتى آذن بتداعيه. والجامع الآخر داخل البلد، وفيه يجمع أهله. فكان مقامنا بها ذلك اليوم نزهة لم نختلس في سفرنا كله مثلها.

فلما كان عند المغيب من يوم السبت الخامس لربيع المذكور، وهو السادس عشر ليونيه، رحلنا منها رغبة في الإسآد وبرد الليل وتفادياً من حر هجيرة التأويب، لأن منها حران مسيرة يومين لاعمارة فيها. فتمادى سيرنا الصباح ثم نزلنا في الصحراء على ماء جب وأرحنا قليلاً، ثم رفعنا ضحوة النهار من يوم الأحد وسرنا ونزلنا قريب العصر على ماء بئر بموضع فيه برج مشيد وآثار قديمة يعرف ببرج حواء، فبتنا به، ثم رفعنا منه بعد تهويم ساعة وسرينا الصباح، فوصلنا مدينة حران مع طلوع الشمس من يوم الاثنين السابع لربيع المذكور، والثامن عشر ليونيه، والحمد لله على تيسيره.


ذكر مدينة حران

مدينة حران حفظها الله بلد لا حسن لديه، ولا ظل يتوسط برديه، قد اشتق من اسمه هواؤه، فلا يألف البرد ماؤه، ولاتزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه، ولا تجد فيه مقيلا، ولا تتنفس منه الا نفساً ثقيلاً، قد نبذ بالعراء، ووضع في وسط الصحراء، فعدم رونق الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة.

أستغفر الله! كفى بهذا البلد شرفاً وفضلاً أنه البلدة العتيقة المنسوبة لأبينا إبراهيم، ﷺ الله عليه وسلم، وله بقبليها بنحو ثلاثة فراسخ مشهد مبالاك فيه عين جارية كان مأوى له ولسارة، صلوات الله عليهما، ومتعبداً لهما. ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقراً للصالحين المتزهدين، ومثابة للسائحين المتبتلين. لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان بن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب اليه. وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته، وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم، وتعرفت منه شنشنة أعرفها من أخزم. فوصلنا الشيخ وهو قد نيف على الثمانين، فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور، فملنا اليه ولقيناه، ودعا لنا، ثم ودعناهم وانصرفنا مسرورين بلقاء رجلين من رجال الآخرة.

ولقينا أيضاً بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة، فلقينا رجلاً من الزهاد الأفراد فدعا لنا وسألنا، وودعناه وانصرفنا. وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الرأس، لايغطي رأسه تواضعاً لله عز وجل حتى عرف بذلك، وصلنا منزله فأعلمنا أنه خرج للبرية سائحاً.

وبهذه البلدة كثير من أهل الخير، وأهلها هينون معتدلون، محبون للغرباء مؤثرون للفقراء. وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة الشام على هذا السبيل من حب الغرباء واكرام الفقراء؛ وأهل قراها كذلك. فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زاداً، لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة. وشأن أهل هذه الجهات في هذا السبيل، عجيب، والله ينفعهم بما هم عليه.وأما عبادهم وزهادهم والسائحون في الجبال منهم فأكثر من أن يقيدهم الإحصاء، والله ينفع المسلمين ببركاتهم وصوالح دعواتهم، بمنه وكرمه.

لهذه البلدة المذكورة أسواق حفيلة الانتظام، عجيبة الترتيب، مسقفة كلها بالخشب.فلا يزال أهلها في ظل ممدود، فتخترقها كأنك تخترق داراً كبيرة الشوارع، قد بني عند كل ملتقى أربع سكك أسواق منها قبة عظيمة مرفوعة مصنوعة من الجص هي كالمفرق لتلك السكك. ويتصل بهذه الأسواق جامعها فالمكرم، وهو عتيق مجدد قد جاء على غابة الحسن، وله صحن كبير فيه ثلاث مرتفعة على سوار رخام، وتحت كل قبة بئر عذبة، وفي الصحن أيضاً قبة رابعة عظيمة قد قامت على سوار من الرخام دور كل سارية تسعة أشبار، وفي وسط القبة عمود من الرخام عظيم الجرم دوره خمسة عشر شبراً. وهذه القبة من بنيان الروم، وأعلاها مجوف كأنه البرج المشيد، يقال: انه كان مخزناً لعدتهم الحربية، والله أعلم. والجامع المكرم سقف بجوائز الخشب والحنايا، وخشبة عظام طوال لسعة البلاط، وسعته خمس عشرة خطوة، وهو خمسة أبلطة، ومارأينا جامعاً أوسع حنايا منه. وجداره المتصل بالصحن، الذي عليه المدخل اليه، مفتح كله أبواباً، عددها تسعة عشر باباً: تسعة يميناً، وتسعة شمالاً، والتاسع عشر منها باب عظيم وسط هذه الأبواب، يمسك قوسه من أعلى الجدار أسفله، بهي المنظر، جميل الوضع، كأنه باب من أبواب المدن الكبار. ولهذه الأبواب كلها أغلاق من الخشب البديع الصنعة والنقش، تنطبق عليها على شبه أبواب مجالس القصور. فشاهدنا من حسن بناء هذا الجامع وحسن ترتيب أسواقه المتصلة به مرأى عجيباً قلماً يوجد في المدن مثل انتظامه.

ولهذه البلدة مدرسة ومارستان، وهي بلدة كبيرة، وسورها متين حصين بنيان الجامع المكرم. ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها منقطعة عنها بفضاء واسع بينهما، ومنقطعة أيضاً عن سورها بحفير عظيم يستدير بها قد شيدت حافاته بالحجارة المركرمة، فجاء في نهاية الوثاقة والقوة. وسور العلقة وثيق الحصانة. ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضاً منها بين سورها وجبانتها، ومصبه من عين هي على بعد من البلد.

والبلد كثير الخلق، واسع الرزق، ظاهر البركة، كثير المساجد، جم المرافق، على أحفل مايكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين، وطاعته صلاح الدين وهذه البلاد كلها من الموصل نصيبين الفرات، المعروفة بديار ربيعة، وحدها من نصيبين الفرات مع مايلي الجنوب من الطريق وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين وغيرها مما يطول ذكره ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين، فهم طاعته وان كانوا مستبدين، وفضله يبقى عليهم، ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله.

فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقيه على نهيره المذكور، وأقمنا مريحين يوم الاثنين ويوم الثلاثاء بعده، وإثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الاثنين، فلقيناه بمسجده، فرأينا رجلاً عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر، وكرم لقاء أوليائه الصالحين وعباده المقربين.

وفي ليلة الأربعاء التاسع لربيع المذكور كان رحيلنا بعد تهويم ساعة، فأسرينا الصباح ونزلنا مريحين بتل عبدة، وهو موضع عمارة، وهذا التل مشرف متسع كأنه المائدة المنصوبة، وفيه أثر بناء قديم، وبهذا الموضع ماء جار. وكان رحيلنا منه عند المغرب، واسرينا الليل كله، واجتزنا على قرية تعرف بالبيضاء فيها خان كبير جديد، وهو نصف الطريق من حران الفرات، ويقابلها على اليمين من الطريق، في استقبالك الفرات الشام، مدينة سروج التي شهر ذكرها الحريري بنسبة أبي زيد اليها، وفيها البساتين والمياه المطردة حسبما وصفها به في مقاماته.