أجناس المخاطبات | تلخيص السفسطة القول من المغلطات من المعاني المؤلف: ابن رشد |
القياس المغالطي |
قال: والمواضع المغلطة من المعاني سبعة مواضع: أحدها: إجراء ما بالعرض مجرى ما بالذات؛ والثانى: أخذ المقيد مطلقاً، بأن يؤخذ ما سبيله أن يصدق مقيداً فقط، على أنه صادق بإطلاق. وأعنى ما كان مقيداً بصفة، أعنى بصفة ما، إما بزمان، أو بمكان، أو غير ذلك من أنواع التقييدات؛ والثالث: الغلط الذي يقع من قلة العلم بشروط التبكيت، وإنتاج مقابل ما اعترف الخصم بوجوده؛ والرابع: موضع اللاحق؛ والخامس: المصادرة على المطلوب؛ والسادس: أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب؛ والسابع: أخذ المسائل الكثيرة على أنها مسألة واحدة.
فالمغلطات التى تكون مما بالعرض تقع متى اتفق أن يحمل شىء على شىء بالذات، ويتفق لأحد الشيئين أمر بالعرض، فإنه يظن أن ما بالعرض يوجد لأحد ذينك الشيئين بالذات.
ومثال ذلك قول القائل: زيد المشار إليه غير الإنسان، وزيد إنسان، فالإنسان غير الإنسان.
وذلك أن حمل الإنسانية على زيد هو بالذات. وعرض لزيد من جهة ما هو شخص أن كان غير الإنسان الذي هو نوع كلى، فظن لذلك أنه يلز ومثال ذلك أيضاً قول القائل: زيد غير عمرو، وعمرو إنسان، فزيد غير إنسان.
وأما التغليط الذي يعرض من أخذ المقيد مطلقاً، فمثل أن يقول قائل: إن كان ما ليس بموجود فهو متوهم، والمتوهم موجود، فما ليس بموجود فهو موجود.
أو يقول: إن كان ما هو موجود متوهماً ليس بموجود، فما هو موجود، فليس بموجود.
وهذا إنما يصدق إذا قيد، لا إذا أطلق. وذلك أن ما ليس بموجود خارج الذهن، فهو موجود في الوهم لا بإطلاق. وكذلك ما هو موجود في الوهم، فهو غير موجود خارج الوهم لا بإطلاق.
وأعنى أن يكون الشىء يصدق لا بإطلاق، فيلزم منه أن يصدق، وإنما يعرض الغلط في هذا الموضع إذا عرض أن يكون الخلاف بين المطلق والمقيد في المعنى يسيراً وخفياً. وكلما كان الخلاف أخفى، كان الغلط فيه أكثر، والوقوف على وجه الغلط فيها أعسر. وكلما كان أظهر، كان الغلط فيه أقل، والوقوف عليه أسهل. وذلك يختلف بحسب المواد. وفى بعض المواضع يمكن أن يعرض فيه غلط ليس يسهل حله. وفى بعض المواضع يعرض فيه غلط بسهل حله.
ومثال ذلك أن يقول قائل: الزنجى أسود، والزنجى أبيض الأسنان، فالزنجى إذاً أسود أبيض معاً.
فإنه قد يمكن أن يعرض في مثل هذا هذا الغلط، إذ كان الخلاف الذي بين سواد الزنجى وبياض أسنانه خفي. ولذلك يمكن أن يسلم إنسان ما أن الزنجى أسود، ويسلم أنه أبيض من قبل بياض أسنانه، وذلك أنه ليس يخفى جداً. ولذلك قد يسهل على كثير من الناس حله.
وفى بعض المواضع لا يقع في ذلك غلط لظهور الخلاف بينهما، مثل أن يقول قائل:الزنجى إنسان أسود، والإنسان أبيض.فإنه ليس يعرض عن هذا القول أن يظن أن الإنسان الأسودأبيض، إذ كان الأبيض والأسود صنفين من الناس معلومين، واخلاف بينهما ظاهر جداً، ومكشوف للجميع. ولذلك ليس يمكن أحد أن يسلم أن الإنسان الزنجى أسود، والإنسان أبيض. ويمكن أن يسلم أن الزنجى أسود وأبيض من قبل أسنانه.
وأما الموضع الذي يعرض الغلط فيه من إغفال أحد شروط التبكيت، فلذلك يقع من عدم المعرفة بشروط القياس المنتج للتبكيت، وعدم معرفة شروط النقيض. وذلك أن النقيض ليس هو الذي يناقض في اللفظ فقط، بل وفى المعنى، أعنى أن يكون المعنى بعينه في القضية الموجبة هو بعينه المعنى في القضية السالبة التى تقابلها من جميع الجهات. وإنما يكون كذلك، إذا كان المعنى المحمول فيهما واحداً والموضوع واحداً، وتكون سائر الشرائط التى تشترط بعينها في إحدى القضيتين المتقابلتين هى بعينها مشترطة في الثانية: من زمان، ومكان، وجهة، وغير ذلك مما قيل في الكتاب المسمى )بارى أرميناس(. وإنما كان هذا الموضع مغلطاً، لأن بعض الناس يرى أنهم إذا نقضوا القضية التى يدعيها الخصم أنهم قد بكتوا، من غير أن ينقضوها على الشروط التى حددت فيما سلف، مثل أن يضع واضع أن هذا ضعف لهذا، فبين مبين أنه ليس بضعف. ويكون قولنا فيه إنه ليس بضعف، يصدق عليه بجهة غير الجهة التى تصدق بها أنه ضعف، فيظن الفاعل لهذا أنه قد بكت، مثل أن يصدق أن الخط ضعف للحظ من جهة الطول، وغير ضعف من جهة العرض، إذا الخط طول لا عرض له.
وأما التغليط الذي يعرض من قبل المصادرة على المطلوب الأول، فلذلك يقع على عدد الأنحاء التى يمكن أن يؤخذ فيها مقابل الشىء عند السؤال على أنه غير المقابل، أعنى مقابل الشىء الذى يقصد إبطاله، فيقع بذلك التبكيت، وذلك إذا قرن بالشىء نفسه، على ما تبين في المقاييس التى تركب من المتقابلات، وهى صنفان: مصادرة على المطلوب، وهى التى ذكرها أرسطو هاهنا، لأنها التى يعرض فيها التبكيت أكثر ذلك.
ومصادرة على المطلوب نفسه. وقد قيل في الأنحاء التى يمكن أن يعرض منها هذا العارض حقيقة في كتاب القياس، وفى الأنحاء التى يظن أنه قد عرض هذا، ولم يعرض، في كتاب الجدل.
وأما الموضع الذى يعرض فيه التغليط في التبكيت من قبل اللاحق فالسبب فيه توهم عكس الموجبة الكلية كلية.
مثال ذلك: أنه إذا كان عند الإنسان أن كل حامل منتفخة الجوف، فقد يغلب على ظنه أن كل منتفخة الجوف حامل.
ومن هذا الموضع يعرض كثيراً الغلط للحس، حتى يظن بالمرار مثلا أنه عسل، لأنه أحس أن الأرض الممطورة مبلولة. وهذا ليس بصحيح. ولذلك قيل إنه لا ينتج قياس من موجبتين في الشكل الثانى.
وقياس العلامة الذي يكون في الخطابة قد يكون من موجبتين في الشكل الثانى، لأن أمثال هذه الأقيسة قد تستعمل في الخطابة من الأمور التى تلحق الطرفين، مثل إذا أراد الخطيب أن يبين أن هذا زان، أخذ الذى يلحق الزانى، وهو التزين مثلا، والمشى بالليل، فيقول: هذا متزين، والزانى متزين فهذا زان. وهذا ليس بصحيح. فإن الزينة قد توجد للزانى ولغير الزانى وكذلك المشى بالليل.
ومن هذا الموضع غلط مالسيس حين قال: إن الكل ليس له مبدأ. وذلك أنه لما وجد صادقاً أن كل متكون فله مبدأ، ظن أن كل ما له مبدأ فمتكون. ولما ظن هذا، صح له عكس نقيضه: وهو أن ما ليس بمتكون، فليس له مبدأ. والعالم ليس بمتكون. فأوجب ألا يكون له مبدأ، وأن يكون غير متناه. وليس إن كان كل مكون له مبدأ، فواجب أن يكون له مبدأ مكوناً. كما أنه كان كل محموم حار البدن، فليس واجباً أن يكون كل حار البدن محموماً.
وأما الموضع الذي يعرض فيه التبكيت المغالطى من أخذ ما ليس بعلة للنتيجة على أنه علة، فلذلك يكون إذا أخذ في القياس مقدمة ما مع مقدمات تلزم عنها نتيجة كاذبة، فأوهم الآخذ أن النتيجة إنما لزمت عن تلك المقدمة. وهذا يعرض في القياس السائق إلى المحال، وهو قياس الخلف. فإن هذا القياس لما كان يرفع بعض المقدمات الموضوعة فيه بما ينتج من الكذب والاستحالة، يعرض فيه كثيراً أن تدخل المقدمة التى يقصد المغالط إبطالها في جمل المقدمات الكاذبة التى يعرض عنها الكذب. فإذا عرض الكذب، أوهم أنه إنما عرض عن تلك المقدمة التى غلط في إبطالها. والكذب نفسه لازم لا عن تلك المقدمة بل عن ما عاداها من المقدمة أو المقدمات الكاذبة التى وضعها. مثال ذلك أن يقول قائل: إنه ليس النفس والحياة شيئاً واحداً، لأنه إن كانت النفس والحياة شيئاً واحداً، وكانت جميع أصناف الكون مضادة لجميع أصناف الفساد، فلصنف صنف من أصناف الفساد صنف صنف من أصناف الكون يخصه، هو له ضد. والموت فساد ما، فله صنف من أصناف الكون هو ضده. والذي يضاد الموت هو الحياة. والموت فساد ما، فالحياة كون ما. وإذا كانت الحياة كوناً، والحياة ما كان وفرغ، والكون ما يتكون، فما يتكون فقد كان. هذا خلف لا يمكن. فإذاً ليست النفس والحياة شيئاً واحداً.
فإن هذا المحال يلزم عن هذا القول و إن لم نضع أحد مقدماته أن النفس والحياة شىء واحد. ولذلك لا نقول إنه غير منتج على الإطلاق، لكن نقول إنه غير منتج بالقياس إلى ما قصد إنتاجه.
وفى نفس هذا المثال مغالطة ما، لكنها لم يعرض لها هنا. ومن أجل هذا صار هذا المثال مضللا كثيراً. والتضليل الذي يعرض فيه من موقع اللاحق، ومن أخذ ما ليس بعلة للإنتاج على أنه علة، هكذا يكون.
فأما التضليل الذي يعرض من أخذ مسئلتين كمسئلة واحدة فإنه يعرض من جهة أن ما يحتمل جوابين مختلفين يرد فيه جواب واحد. وإنما يعرض هذا الغلط إذا أخذ بدل المحمول الواحد في القضية أكثر من محمول واحد، أو بدل الموضوع الواحد أكثر من موضوع واحد.
فمثال أن يأخذ بدل المحمول الواحد محمولين قول القائل: هل الأرض بر أو ماء? فإن هذه قضيتان ومسئلتان، لا واحدة.
ومثال أخذ الموضوع اثنين قول القائل: هل هذا وهذا إنسان? فإن هذه أيضاً قضيتان، لا قضية واحدة.
فمن الناس من إذا سُئل في أمثال هذه المسائل الكثيرة على أنها مسئلة واحدة، ربما شعر بالكثرة التى في السؤال فتوقف وانقطع. وربما أجاب بجواب واحد، فيلحقه التبكيت والتشنيع، مثل أن يقول: إن كان هذا وهذا إنسان، فمن ضرب هذا وهذا، فإنما ضرب إنساناً واحداً، لا إنسانين.
وأكثر ما يعرض الغلط في هذا الموضع إذا اتفق أن كانت الأشياء التى يسئل عنها سؤالا واحداً محمولاتها متضادة، مثل أن تكون جماعة أشياء فيها خير، وفيها ما ليس بخير، فسأل عن جميعها سؤالا واحداً: هل هى خير، أو ليس بخير. فأى الجوابين أجيب فيها كان كاذباً إلا أن يفصل الأمر فيها ويأتى الجواب فيها على عدد المسائل التى فيها.
مثل أن يسأل سائل: هل لذة المحسوسات ولذة المعقولات خير أو بخير. فإنه إن قال: خير، أخطأ، لأن اللذات المحسوسة ليست بخير، وإن قال: شر، أخطأ، لأن اللذات المعقولة خير ومحمودة.
وإنما يكون هذا غير مضلل إذا كانت الأشياء الكثيرة حكمها حكم واحد. وذلك بأن يكون حكم الجميع منها حكم الواحد بعينه. فإن السؤال حينئذ عن جميعها هو كالسؤال عن واحد منها، مثل أن يقول: هل هذا وهذا أعمى? وهل هذا وهذا مبصر? إذا اتفق أن كان كلاهما أعمى أو كلاهما يبصر. فإن الأعمى لا يخالف الأعمى من جهة ما هو أعمى، إذ كان العمى فقد البصر؛ ولا البصير يخالف البصير من جهة ما هو بصير.
ففى مثل هذا الموضع يكون الجواب عن القضية الواحدة بعينها جواباً عن القضايا الكثيرة.
وأما متى كان أحدهما أعمى، والآخر مبصراً، فليس يمكن أن يكون الجواب واحداً.
قال: وهذه المواضع التى عددناها، وإن كان عدد أنحائها هى هذه التى ذكرناها فهى كلها راجعة إلى قلة العلم بالتبكيت، أعنى إغفال شىء من شروط التبكيت الحقيقى. وذلك أنه لما كان التبكيت الحقيقى قياساً منتجاً لنقيض النتيجة المعترف بها، فإنه من البين أن جميع هذه المواضع يظهر تغليطها من حد القياس على الإطلاق، ومن أجزاء حده، ومن حد النقيض.
أما من حد القياس: فلأنه قد قيل في ذلك إنه قول إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد، لزم عن تلك الأشياء شىء آخر غيرها باضطرار.
وإذا كان ذلك كذلك، فبين أنه إذا كان اللازم ليس باضطرار، بل مما يظن أنه باضطرار، من غير أن يكون باضطرار، فليس هو تبكيتا حقيقياً.
وأما من أجزاء حده: فلأنه قد قيل إن الأشياء التى توضع فيه هى مقدمتان وثلثة حدود تشترك في حد واحد وهو الذي يسمى الأوسط.
فمتى لم يكن الحد الأوسط واحداً فيهما، أو كان أحد الطرفين في المقدمتين غير أحد الطرفين في النتيجة، فهو بين أن ذلك ليس قياساً في الحقيقة.
وكذلك إذا أخذ أحد الطرفين في المقدمات بشرط غير مأخوذفى النتيجة. وإذا كان هذا هكذا، فجميع المغلطات التى تكون من اشتراك اسم الالفاظ المفردة، واشتراك التركيب، وشكل اللفظ كلها راجعة إلى كون الحد الأوسط غير واحد في القياس، بل اثنين، أو إلى كون أحد الطرفين في المقدمات غيره في النتيجة.
والذي يكون من القسمة والتركيب هو راجع إلى أخذ المقدمات بجهة غير الجهة التى هى بها مأخوذة في النتيجة، فلا تكون واحدة في العدد أيضاً، لا في القياس، ولا في النتيجة.
وأما التغليط الذي يكون مما بالعرض، فهو راجع إلى إغفال شرط من شروط القياس البرهانى. وذلك أن من شرطه أن تكون مقدماته ضرورية وكلية. ومابالعرض فليس ضرورياً ولا كلياً، بل جزئياً. فإنه إذا وجد شىء ما أبيض بالعرض فليس يلزم أن يكون كل ما كان من ذلك الشىء أبيض، ولا حيث كان، ولا متى كان. وبالجملة: فمتى اقترن شىء بشىء عند شىء ما فيلزم أن يوجد ذلك الشىء مقترناً بذلك الشىء في كل موضع. مثال ذلك: أنه لما اقترن في وجود المثلث أنه شكل، وأنه ذو خطوط مستقيمة، وأنه ذو زوايا مساوية لقائمتين، فليس يلزم متى وجد شكل أن يكون ذا خطوط مستقيمة، وأن تكون زواياه مساوية لقائمتين. فمتى تحفظ أن تكون المقدمات ذاتية، وأن تكون المقدمتان المأخوذتان من في القياس اثنتين فقط في المعنى، تشتركان بحد أوسط في المعنى، لا في اللفظ، فهو بين أنه لا يعرض للمتحفظ بهذا، العالم به، هذا النحو من الغلط، أعنى الذى يكون من قبل اللفظ، أو من قبل ما بالعرض. ولذلك كان العالم بالقياس قد يمكن أن يغلط ما ليس عالماً بالقياس، كما أن العالم بالتبكيت، المفصل لهذه المواضع التى عددناها أحرى ألا يغلط من العالم بها، الغير المفصل لها، ولا قادر على قسمتها إلى هذه الأقسام.
وأما الغلط الذي يعرض من قبل أخذ الشىء المقيد مطلقاً، فهو راجع إلى قلة العلم بشروط
النقيض، لأن الشىء الذى هو أبيض بالجزء ليس نقيضه أنه ليس بأبيض مطلقاً، بل أنه ليس بأبيض ذلك الجزء الذي قد وضع أبيض. وكذلك ما وضع أنه أبيض بإطلاق ليس نقيضه أنه ليس بأبيض ما، بل أنه ليس بأبيض بإطلاق. ولكن يظن بمثل هذا أنه مناقض لقلة العلم بالتبكيت، ولقرب ما بينهما من االاختلاف. وأكثر ما يلحق من إغفال شروط النقيض الموضع الذى يخص باسم التبكيت: وهو أن يأخذ المبطل مقابل النتيجة ما ليس بمقابل. وكأن موضع المطلق والمقيد من هذه الجهة هو جزء من هذا الموضع. ومن جهة أنه يعرض منه أن تكون المقدمة فيه مأخوذة بجهة غير الجهة التى أخذت بها في النتيجة هو موضع مفرد برأسه، ويكون الخلل الداخل من قبله من هذه الجهة راجعاً إلى إغفال أن تكون الحدود المأخوذة في المقدمات هى بعينها المأخوذة في النتيجة.
وأما التغليط الذى يكون من قبل المصادرة ومن قبل أخذ ما ليس بعلة للنتيجة على أنه علة فهو بين أنه إتما يعرض من إغفال ما أخذ في القياس. أما المصادرة فإنها تعرض إذا أغفل أن يكون اللازم شيئاً آخر غير النتيجة، وذلك أن اللازم في المصادرة هو المقدمة نفسها. وكذلك أخذ ما ليس بعلة، إنما يعرض لمن أغفل أن يكون اللازم عن القياس باضطرار.
وأما موضع اللاحق فإنه راجع إلى ما بالعرض، وداخل بجهة ما تحته، إلا أن الفرق بينهما أن هاهنا ظن بالواحد أنه كثير. مثال ذلك: أنه لما عرض للأصفر المشار إليه أنه عسل، ظن أن كل أصفر عسل، وهناك ظن بالكثير أنه واحد، وذلك أنه لما عرض للكاتب أن يكون أبيض، ظن أن الكاتب هو الأبيض.
ومن هذ الموضع، أعنى من موضع اللاحق، ظن مالسيس أن كل ما له مبدأ فله كون، لأنه ظن أن ما عرض للمبدأ من أن وجد للمتكون، أنه عرض لكل ما له مبدأ، أعنى أن يكون متكوناً.
وأما التغليط الذى يعرض من قبل أخذ المسائل الكثيرة مسئلة واحدة، فسببه إغفال ما قيل في حد المناقصة من أنه ينبغى أن يكون المحمول فيهما واحداً، والموضوع واحداً، وألا يكون للإيجاب الواحد إلا سلب واحد، ولا للسلب الواحد إلا إيجاب واحد. فإنه متى كان واحداً، كانت المناقصة صحيحة. ومتى ظن به أنه واحد، وليس بواحد، كانت مباكتة سوفسطائية. فجميع هذه الأنحاء إنما ترجع إلى قلة العلم بالتبكيت: وذلك هو قياس صحيح الشكل، منتج لنقيض الشىء المقصود إبطاله. فمتى أغفل شىء من شروط القياس الصحيح الشكل، أو من شروط النقيض، عرضت هذه المواضع المغلطة.
فقد تبين من هذا أن جميع هذه المواضع الثلاثة عشر: الستة اللفظية، والسبعة المعنوية، هى راجعة إلى إغفال حد التبكيت الصحيح، أو أجزاء حده، أعنى إغفال حد القياس، أو إغفال حد النقيض، وأن منها ما يرجع إلى إغفال حد النقيض، ومنها ما يرجع إلى إغفال حد القياس، وأن منها ما يرجع إلى الأمرين جميعاً.
والمواضع المغلطة من الألفاظ تشترك كلها في أنها تخيل في الشىء الذى ليس بنقيض أنه نقيض.
والمواضع المغلطة من المعانى تشترك كلها في أنها تخيل فيما ليس بقياس أنه قياس.
وسبب الضلالة العارضة من قبل اشتراك الألفاظ هو العجز عن تفصيل المعانى الكثيرة التى يقال اللفظ الواحد، وبخاصة في الألفاظ المفردة التى يكثر وجود المعانى الواقعة عليها، ويعسر تمييزها وتفصيلها، مثل تفصيل المعانى التى يقع عليها اسم الواحد والموجود.
وأما سبب الضلالة التى تعرض من قبل قسمة اللفظ وتركيبه: فهو قلة الشعور بالاختلاف الذى يقع في مفهوم اللفظ إذا قسم تارة، ثم ركب أخرى. وكذلك الغلط الذى يدخل من قبل اشتراك الشكل واختلاف الإعجام: السبب فيه العجز عن تفصيل المعانى التى تدل عليها تلك الأشكال واختلاف أحوال الإعراب والنقط في دلالته.
قال: ومن كانت عنده قوة على تمييز الأغاليط العارضة من قبل اللفظ، فقد قارب ألا يغالط في
الأشياء، ولا يغلط إلا غلطاً يسيراً. وذلك أنه يبادر فيميز المعنى الذى يصدق عليه ذلك الوصف، أو يكذب، لأنه يتخيل جميع تلك المعانى التى يدل عليها ذلك اللفظ، كأنها محسوسة عنده ومشار إليها، فيبادر ويقضى على المعانى اللائق بها ذلك الوصف قضاء صواب. مثال ذلك: أنه إذا سمع أن الشىء الموجود واحد، قضى على أن ذلك الشىء هو شخص الجوهر المشار إليه، لأن الشىء والموجود إنما يقالان أكثر ذلك على الجوهر المشار إليه، الواحد بالعدد. ولهذا ما يظهر لنا أولاً أن التغليط العارض لنا إنما هو من قبل الألفاظ.وإن كان يظهر أيضاً وقوع الغلط من قبل المعانى المغلطة التى عددت. وذلك أن الغلط الذى يكون من قبل مناظرة الغير والسماع منه السبب فيه تغليط تلك المواضع اللفظية. والغلط الذى يكون عندما يفكر الإنسان في نفسه السبب فيه تلك المواضع المعنوية. وإن كان قد يعرض عند الفكرة الغلط من قبل الألفاظ فيه. وذلك أن الإنسان إذا فكر، كثيراً ما يخاطب نفسه، كما يفعل مع من يناظره، ويتخيل الألفاظ مع المعانى. وبالجملة فسبب الغلط في هذه المواضع هو الاشتباه وقلة الاقتدار على التفصيل بين ما هو غير، وبين ما هو هو. فسبب تغليط الألفاظ هو العجز عن التفريق بينها وبين المعانى، وأخذ ما هو مغاير على أنه هو هو.
وهذا هو بعينه سبب التغليط فيما بالعرض، وذلك ألا يفصل المرء ما يلحق واحداً واحداً من المحمولات الذاتية من الأمور التى بالعرض.
ومن هذا السبب بعينه عرض تغليط موضع اللاحق، لأن هذا الموضع، كما قلنا، داخل فيما بالعرض بجهة ما، وجزء منه.
والغلط الذى يعرض من قبل المطلق والمقيد سببه أن يظن أن الغير هو هو، وذلك يعرض لقلة الاختلاف الذى بينهما.
وكذلك الغلط الذى سببه المصادرة، والذى سببه أخذ ما ليس بعلة علة، والذى سببه أخذ المسائل الكثيرة على أنها واحدة السبب فيه قلة الشعور بالاختلاف الذى بينها، وذلك لقلة الاختلاف الذى بينها في نفسه.
أما أخذ علة ما ليس بعلة، فلقلة الاختلاف الذى بينه وبين ما هو علة في الحقيقة.
وأما المصادرة فالسبب فيه قلة الاختلاف الذى يكون هنالك بين صورة القياس الذى وضع فيه المطلوب نفسه وبين القياس الحقيقى، إذ كانت صورته صورة القياس.
وإذ كان الأمر كذلك، فالسبب في تغليط هذه المواضع يرجع في الجملة إلى شيئين: أحدهما أن يظن ما ليس بقياس أنه قياس الاختلاف بينهما، وأن يظن بما ليس بنقيض أنه لقلة الاختلاف أيضاً بينهما، وذلك يعرض إذا لم تعرف حدود كل واحد منهما على التمام، ولم يتحفظ بهما، أعنى القياس والنقيض.
ولأنه إن تبين لنا من كم سبب تكون القياسات السوفسطائية المغلطة، فبين أنه يظهر لنا من ذلك كم أنحاء القياسات السوفسطائية، والمباكتات السوفسطائية المغلطة. وأعنى بالتبكيتات السوفسطائية ليس كل تبكيت يظن به أنه تبكيت، وليس هو بالحقيقة مناقضة ولا تبكيتا، بل التبكيتات العامة الغير المناسبة التى لا تخص صناعة صناعة من الصنائع البرهانية، وهى التبكيتات التى يظن بها أنها تبكيتات من لم يرتض بتلك الصناعة مثل أن يكون التبكيت في الصنائع البرهانية تبكيتات صادقة غير مناسبة. فإن غير المناسبة إنما تستعمله صناعة الجدل، وإنما يغلط في هذا المبرهنون الذين لا يعلمون أن هذا الجنس هو خاص بصناعة الجدل، أعنى إن استعمل غير المناسب. وذلك أن هذه الصناعة قد تستعمل الكاذب إذا كان مشهوراً، فضلاً عن غير المناسب، وكذلك تستعمل التبكيتات الكاذبة العامة التى تستعملها هذه الصناعة، كما تستعمل الصنائع البرهانية التبكيتات الخاصة.
والفرق أيضاً بين استعمال هذه الصناعة التبكيتات العامة وبين استعمال صناعة الامتحان الجدلية لها أن صناعة الامتحان تستعمل هذه لتبصر وتعلم، وهذه لتغلط. فإذن هذه الصناعة هى بجهة ما جزء من صناعة الجدل. وكما أن التبكيت الذى يكون في الصنائع البرهانية من مقدمات صادقة غير مناسبة هى سوفسطائية، كذلك التبكيتات التى تكون في صناعة الجدل من مقدمات يظن بها أنها مشهورة، وهى غير مشهورة، هى سوفسطائية، وإن كانت صادقة، فإذن المباكتة السوفسطائية اثنتان: منها مباكتة يظن بها أنها صادقة، وهى كاذبة.
ومنها ما يظن يها أنها من تلك الصناعة، وليست من تلك الصناعة، سواء كانت صادقة أو كاذبة.
وإذ قد تبين هذا، فنرجع فنقول: إن جميع القياسات المغلطة إما أن يكون جميعها يتولد عن هذه المواضع، إن كانت هذه المواضع هى جميع المعانى المغلطة، وإما أن يكون بعضها يتولد وينشأ من هذه - إن لم تكن هذه التي ذكرت هى جميع المعانى المغلطة.وقد يضهر أن هذه جميع المعانى المغلطة من أنه قد تبين أن جميع التبكيتات والمناقضات المغلطة إنما هى التبكيتات والمناقضات التى يظن بها أنها تبكيتات صحيحة، وليست تبكيتات صحيحة، لأنه ينقصها شىء يسير من حدود التبكيتات الصحيحة.وإذا كان الأمر هكذا، فواحب أن يكون عدد أصناف التبكيتات الغير الصحيحة عدد أصناف النقصان الداخل على التبكيتات الصحيحة. وواجب أن يكون عدد النقصان الداخل على أجزائها، أعنى على أجزاء التبكيتات الصحيحة، على عدد أجزائها.
ولما كان قد تبين أن التبكيت الصحيح هو قياس منتج لنقيض الأمر الذى يعترف بوجوده، وكان قد تبين أن هذا التبكيت إنما يكون صادقاً إذا كان فيه ثلثة شروط: أحدها أن يكون صحيح الشكل، والثانى أن يكون صادق المقدمات، والثالث أن يكون النقيض المنتج نقيضاً بالحقيقة للشىء المعترف به، أعني للنتيجة المقصود إبطالها، فبين أنه يجب أن تكون المواضع المغلطة المبكتة من المعانى ما عدا مواضع الألفاظ، راجعة إلى هذه الثلاثة.وهذا، كما ترى، برهان واضح، لا خفاء به.
فأما التوهم فيما ليس بنقيض أنه نقيض، فإن أرسطو يرى أنه ليس يعرض فيه من المواضع المغلطة إلا موضعان: أحدهما إغفال الشرائط التى ذكرت في باب النقيض، والثانى أخذ مسئلتين في مسألة واحدة.
وأما التوهم العارض من قبل الظن فيما ليس بقياس أنه قياس فإنه ذكر أيضاً أنه ليس يعرض فيه إلا موضعان فقط: أحدهما القياس الذى يسمى مصادرة، والثانى الذى يسمى أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب.
وأما التوهم العارض من قبل أجزاء القياس، وهى المقدمات، أعنى أن يظن فيما ليس بصادق منها أنه صادق، فإنه ذكر أيضاً فيه ثلاثة مواضع: أحدها موضع ما بالعرض، والثانى موضع الإطلاق والتقييد، والثالث موضع اللاحق، وهو العكس.
فإن لم يوجد في هذه الثلاثة الأجزاء التى تقدمت من القول التبكيتى مغلطات إلا هذه، فهذه المواضع سبعة ضرورة، كما ذكر أرسطو، لا يمكن أن يزاد فيها ولا أن ينقص منها، فنقول: أما كون المعانى المغلطة منحصرة إلى هذه الأجزاء التى ينتج منها التبكيت فأمر بين بنفسه.
وأما كون هذه الأجزاء لا يوجد منها إلا ما ذكره أرسطو فأمر يحتاج إلى تأمل. ويشبه أن يكون ترك القول فيه ووضعه وضعاً لنتمه نحن، أعنى من يأتى بعده، فإن في ذلك موضع فحص ونظر. ونحن نجد أبا نصر في كتابه قد زاد في هذه المواضع موضعاً ثامناً، وهو موضع الإبدال والنقلة، أعنى أن يؤخذ بدل الشىء شبيهه أو لاحقه أو المقارن له، فهل أغفل أرسطو هذا الموضع أم لم يغفله? وإن كان أغفله، فهل أغفل معه مواضع أخر غيرها? أو كيف الأمر في ذلك? والسبيل إلى الوقوف على ذلك يكون من هذه الجهة التى شرع أرسطو في بيان عدد المواضع المغلطة منها، فنقول نحن:
أما أن الأسباب التى توهم فيما ليس بنقيض أنه هى أكثر من هذه التى عددها هنا أرسطو، فذلك شىء قد تبين في كتاب بارى أرميناس، مثل أن يؤخذ الضد مكان النقيض في المادة الممكنة، أو تؤخذ الأضداد مكان الموجبة والسالبة، إلى غير ذلك مما قيل في ذلك الكتاب. وكذلك قد تبين أيضاً في كتاب القياس يكون فاسد الصورة من أسباب كثيرة غير السببين اللذين عددها هنا، مثل أن يكون عن مسألتين أو جزئيتين، إلى غير ذلك من أصناف المقدمتين الغير المنتجة.وكذلك تبين أنه يعرض لنا أن نصدق بالمقدمات الكاذبة من قبل أشياء أخر غير هذه، مثل الشهادات والأمور التى من خارج. وقد يعرض لنا ذلك أيضاً من قبل الاستقراء والتمثيل، إلا أن هذه عددت في صنائع أخر، ولم تعد في صناعة السفسطة، أعنى أنه جعل الاستقراء خاصاً بالجدل، ومفيداً للتصديق الجدلى، والتمثيل خاصاً بالخطابة، ومفيداً للتصديق البلاغى، وكذلك التصديق الذى يكون من الشهادات والأشياء التى من خارج جعل خاصاً بصناعة الجدل وصناعة الخطابة على الشرائط التى قيل فيها هنالك. وهذا كله مما يوجب النظر فيه، فنقول: إنه يظهر من أرسطو في هذا كله - إذ كان هو المفيد لنا جميع هذه المواضع - أنه ليس يرى أن المواضع المغلطة المنسوبة إلى هذه الصناعة هى جميع المواضع التى يعرض منها الغلط لنا كيف ما اتفق. بل وبشرطين: أحدهما: أن يكون تغليطها ذاتياً، أعنى أن يكون الغلط فيها عارضاً لنا بالطبع كثيراً، مثل الأوضاع التى توجب بطبعها من غلط الحواس فيها، لأنه إنما استنبط هذه المواضع من استقراء الغلط في نظر النظار في الأشياء الموجودة، كالحال في استنباطه سائر قوانين هذه الصنائع.
والشرط الثانى: أن يكون الموضع يفيد الكذب دائماً أو على الأكثر، ولا يكون جزءاً من صناعة غيرها من الصنائع المنطقية.
وإذا كان ذلك كذلك، فإنما لم يعدد في الأشياء التى توهم فيما ليس بنقيض أنه نقيض إلا ذينك الموضعين فقط، لأنهما سبب الغلط الواقع بالطبع للجميع أو للأ كثر في هذا الجزء من التبكيت. وسائر المواضع - فإنما تغلط في الأقل. وما كان فعله أقلياً، فليس يجب أن يعد جزءاً من هذه الصناعة، إذا قصد أن تكون هذه الصناعة صناعة فاعلة للتغليط. وذلك أنه كما أن الصناعة المعتنية بفعل السموم ليس تضع جزءاً من صناعتها ماهو سم في الأقل، بل ماهو سم على الأ كثر أو بالضرورة، كذلك الأمر في الأشياء التى تتنزل من هذه الصناعة منزلة الاسطقسات. فإذن المواضع التى ينبغى أن تعد جزءاً من هذه الصناعة هى التى تكون قلة شعورنا بها أكثرياً، وتكون مع ذلك إفادتها الكذب إما دائماً، وإما أكثرياً.
ولهذا المعنى قال قدماء المفسرين إن المقدمات الكاذبة إما دائماً وإما في الأ كثر هى خاصة بهذه الصناعة، كما أن الصادقة في الأ كثر خاصة بالجدل، والصادقة دائماً خاصة بالبرهان، والكاذبة والصادقة على التساوى خاصة بالخطابة.
وإذ كان ذلك كذلك، فيشبه إذا استقريت المواضع المغلطة التى تضمنتها هذه الصناعة، أعنى صناعة السوفسطائية، ألا يوجد بهذه الصفة إلا هذه السبعة فقط. وذلك أن سائر الأشياء التى يدخل منها الفساد على صورة القياس، ما عدا السببين اللذين ذكروا في هذا الكتاب، يشبه ألا تكون قلة شعورنا بها أكثرياً. فإنا لا نجد من النظار من قد غلط من قبل استعمال سالبتين في الأشكال الحملية، ولا من قبل جزئيتين، إلا قليلا. وكذلك يشبه أن تكون سائر لمواضع المغلطة في النقيض، ما عدا ما ذكرها هنا، منها فقط. وأما الأشياء التى تغلط في المقدمات فتوهم أنها صادقة، فإن الذى عدد أيضاً منه ها هنا هو ما كان قلة شعورنا به أ كثرياً. وأما الذى يفعل الغلط أقلياً فهو خاص بالجدل، والذى يفعله على السواء فيشبه أن يكون خاصاً بصناعة الخطابة. وهذه هى حال المثال. ولذلك ليس ينبغى أن يعد تغليطه جزءاً من هذه الصناعة، كما لا يعد تغليط الاستقراء.
لكن قد يتشكك في هذا القول، فيقال،: إنا نجد أرسطو قد استعمل موضع اللاحق في هذا الكتاب، واستعمل قياس العلامة في الخطابة، فكيف الأمر في ذلك? فنقول:
إنه إنما استعمل موضع اللاحق هنا من حيث هو مغلط في المقدمات أنفسها، وقلة الشعور به هو أكثرى، وفعله الغلط أيضاً أكثرى. وأما إذا أخذ من حيث يأتلف منه الشكل الثانى فقط، فهو معدود في المقنعات لأنه لا يستعمل فيه العكس من حيث هو في الشكل الثانى. ولذلك لم يعدد هاهنا من أصناف المواضع التى تغلط في صورة القياس استعمال موجبتين في الشكل الثانى. ولهذا السبب لم يعدد أرسطو موضع الإبدال هنا، لأنه موضع شعرى، والغلط العارض عنه هو ما يعرض لا بالذات، والمقصود هنا المغلطات بالذات. وموضع الإبدال إنما يفيد بالذات التمثيل.
وإذ قد تبين هذا، فلنرجع إلى ما كنا فيه من تلخيص كليات معانى هذا الكتاب.
قال: فإذ قد تبين هذا، فقد تبين من كم وجه تكون الأمور المغلطة العامة، وأنها تكون من هذه، لا من غيرها. فأما أن يكون لنا من هاهنا علم بكل تبكيت واقع في كل صناعة من الصنائع البرهانية، فذلك شىء ليس في قوة هذه القوانين المعطاة هاهنا. ولا ينبغى أن يتعاطى علم ذلك من هاهنا، بل إنما يقدر على معرفة ذلك في صناعة صناعة من أحاط علماً بالأشياء الموجودة في تلك الصناعة. ولذلك ما ترى التبكيتات العارضة في صناعة صناعة غير متناهية، كما أن المطلوبات فيها غير متناهية. فإن عدد التبكيتات فيها هو على عدد المطالب، وحلها هو لها. وذلك أن الذى يحل التبكيت الذى يوجب أن يكون ضلع المربع مشاركاً للقطر هو الذى يبرهن أنه غير مشارك. لأن هذه التبكيتات، كما قلنا، هى من الأمور الذاتية. والأمور الذاتية إنما تحصل في الصنائع أكثر من قبل التجربة، وحلها إنما يكون لمن أحاط علماً بذلك المطلوب. فمعرفة هذه التبكيتات الجزئية، أعنى الخاصة بصناعة صناعة، ليس لصناعة واحدة، بل لصنائع كثيرة. فتكون معرفة حل التبكيتات الهندسية المناسبة لصاحب صناعة الهندسة، والطبية للطبيب. ولذلك ما نرى أن هذه التبكيتات ليس لها غاية، وأما التبكيتات العامة فمعرفتها لصناعة عامة، إلا أن هذه الصناعة، إذ كان ليس من شأنها أن تبصر، أعنى صناعة السفسطة، فمعرفتها إذن وحلها يكون لصناعة معلمة عامة، وتلك هى صناعة الجدل.ولذلك ما نرى أن الذى قيل من ذلك في هذا الكتاب هو، من جهة، جزء من صناعة الجدل.
فقد تبين من هذا أنه ليس لهذه الصناعة حل المغلطات الجزئية، ولا العامة، إلا من جهة أنها جزء من صناعة الجدل. لكن أرسطو لما نظر في هذه الصناعة من جهة أنها جزء من صناعة الجدل، أعطى هاهنا القوانين التى بها تحل هذه المغلطات، وجعلها جزءاً من هذا الكتاب.
قال: وليس الكلام ينقسم قسمين: فيكون منه ما يدل بحسب ضمير المتكلم واعتقاده، وهى الدلالة إلى تخص المتكلم، ومنه ما يدل بنحو الاسم، وهى الدلالة التى تخص السامع، وأن الخطأ العارض من قبل دلالة المسموع، لا من قبل دلالة الضمير، بحسب ما اعتقد في ذلك قوم - يشير به إلى أفلاطون.
قال: فإنه خطأ أن يظن أن اللفظ ينقسم هذين القسمين، بما هو لفظ، حتى يكون منه ما يدل بحسب ضمير المتكلم، ومنه ما يدل بحسب الاسم المشترك عند السامع. فإن اللفظ الواحد بعينه نجده مرة تكون دلالته بحسب ضمير المتكلم هى بعينها دلالته عند السامع.
فأما متى تكون دلالته بحسب مسموع الاسم، لا بحسب ضمير المتكلم، فعندما يسئل السائل المجيب عن مقدمة ما باسم مشترك، فيفهم المجيب من ذلك الاسم معنى واحداً من المعانى التى يدل عليها، فيلقاه السائل على معنى غير ذلك المعنى ويغالطه به، فإن دلالته بحسب المسموع عند السائل تكون غير دلالته بحسب ضمير المجيب واعتقاده.
فأما إذا كان الاسم لا يفهم المجيب منه ولا السائل إلا معنى واحداً، فإن دلالته عند ضمير المتكلم هى دلالته عند السامع، وسواء كان الاسم مشتركاً يدل على كثيرين، أو كان واحداً، إذا لم يفهم منه السائل والمجيب إلا معنى واحداً، كانت دلالته بحسب المعنى الذى في النفس هى دلالته بحسب المسموع.
وقد يعرض للاسم أن يقال على معان كثيرة، وتكون الدلالتان فيه واحدة، أعنى دلالته من حيث هو مسموع، ودلالته من حيث يعبر به عن المعنى الذى في النفس، وذلك إذا فهم السائل والمجيب من ذلك اللفظ جميع المعانى التى يقال عليها ذلك الاسم، مثل إن سأل سائل زينن في اعتقاده أن الموجود واحد، مع أنه كثير عنده في الحس، والسائل يفهم من لفظ الموجود والكثرة الذى يفهم منها زينن، ومن معنى الواحد أيضاً المعنى الذى يفهمه منه زينن، فأجابه بأن الموجود واحد، فإن دلالة المسموع هى بعينها دلالة ما في ضمير المتكلم. وأيضاً فإن قسمنا الألفاظ، فقلنا: إن منها بحسب الاسم، ومنها بحسب الضمير الذى هو المفهوم على ما تقتضيه القسمة الذاتية للشىء، حتى لا تكون قسمة متداخلة، فقد نفينا الدلالة عن اللفظ المسموع. لأن الدلالة للفظ إنما هى على ما في النفس والضمير. وإذا انتفت الدلالة التى بحسب الضمير، فلا يوصف حينئذ اللفظ بأنه مغلط، ولا بأنه غير مغلط، لأن هذين الوصفين إنما لحقا اللفظ من قبل أنه دال على ما في النفس.
فقسمتنا الألفاظ إلى ما هو دال على ما في الضمير، وإلى ما هو دال بحسب المسموع هو شبيه بقسمة من قسمها إلى ما هو دال، وإلى ما هو مسموع فقط غير دال.
واللفظ من حيث هو مسموع فلا مدخل له في التغليط، ولا في عدم التغليط. فهذا ما يلزم من الشناعة من قسم الألفاظ هذه القسمة، فأوجب لها الغلط من جهة المسموع.
على أن هؤلاء مختلفون: هل الغلط كله في المعانى من جهة الاسم المشترك فقط، أو من جهة الألفاظ المسموعة فقط، سواء كان اللفظ اسماً مشتركاً أو غيره. فإن ضروب تغليط الألفاظ كثيرة. وذلك أن هؤلاء يرون أن التغليط في القياس يكون من قبل الاشتراك في التركيب. ويكون في الأمور المفردة التى هى أجزاء القياس من قبل اشتراك الاسم المفرد، وكلهم يرون أن تغليط الاشتراك إنما هو من قبل اللفظ المسموع. ولذلك من قصر التغليط وجعله من قبل اشتراك الاسم المسموع، كما فعل أفلاطون، فهو في غاية الخطأ. فإنه يظهر أن هاهنا مضللات كثيرة من الألفاظ، غير الاسم المشترك المفرد، ومن المعانى أنفسها، من غير أن يكون هنالك تغليط من قبل اللفظ.
قال: وقد أساء أفلاطون في التعليم حين رام أن يعلم التبكيتات السوفسطائية قبل أن يعلم القياس الصحيح ما هو، والنقيض الحقيقى ما هو. فان المباكتة السوفسطائية إنما هى: إما قياس يظن به أنه قياس، وليس بقياس، أو نقيض يظن به أنه نقيض وليس بنقيض. والمغلطات تكون من قبل الغلط في القياس، أو من قبل الغلط في النقيض، أو من قبل الأمرين جميعاً. فمن لم يعلم ما هو القياس الصحيح والنقيض الصحيح فليس يمكنه أن يقف على تغليط أمثال هذه المواضع، وإن كان التغليط الواقع فيها من قبل الألفاظ فقط، كما يقولون. فمثال الغلط الواقع من قبل اللفظ في النقيض قول القائل: )الساكت يتكلم، والمتكلم ليس بساكت، فالساكت ليس بساكت(، فإن هذين ليسا بمتناقضين. فإن الساكت بالفعل ليس ساكتاً فيما يستقبل.
ومثال الغلط الواقع من قبل اللفظ في شكل القياس قول من قال: إن الوزن دائرة، والدائرة شكل يحيط به خط واحد في داخله نقطة، كل الخطوط الخارجة منها إلى المحيط متساوية، فالوزن شكل بهذه الصفة. فإن المقدمتين المأخوذتين في هذا القياس صادقتان، لكنهما لا تشتركان في حد واحد، إلا في اللفظ فقط. فمن لا يعلم أن القياس إنما يكون بأن تشترك المقدمتان فيه بحد واحد في المعنى، لا في اللفظ، لم يقف على وجه الغلط من قبل اللفظ في هذا اللفظ في هذا القول.
ومثال ما وقع التغليط فيه من قبل اللفظ في الوجهين جميعاً، أعنى في النقيض وفى القياس، قول القائل: )الإنسان يعطى الشىء المعطى، والمعطى ليس له، فالإنسان يعطى ما ليس له(.
فإذا أخذ أن الإنسان يعطى ما ليس له، وأضاف إلى ذلك: أن ما ليس له يذم على إعطائه، أنتج من ذلك أن الإنسان يعطى ما يذم على إعطائه. فمن سلم هذا القياس، فقد غلط من قبل اللفظ في موضعين: أحدهما: أنه أخذ )ما ليس له(الصادق على المعطى هو المناقض لما هو الصادق على المعطى.
والثاني: أنه ظن أن )ما ليس له(المأخوذ محمولا في المقدمة الصغرى هو بعينه )ما ليس له(الموضوع في المقدمة الكبرى. وليس الأمر كذلك. فإن ما يعطى المرء هو له قبل أن يعطيه، وليس له بعد ما أعطاه.
فإذن من لا يعرف القياس ولا النقيض لا ينتفع بمعرفة اشتراك الاسم.
فإذن واجب على من رام أن يتعلم هذه الصناعة أو يعلمها أن يعلم ما هو القياس، وما هو النقيض. وسواء كان الغلط واقعاً من قبل اللفظ، كما يرى ذلك أفلاطون، أو من قبل الأمرين جميعاً، كما تبين قبل.
قال: ويلزم من قال إن الخطأ إنما يعرض من قبل الاسم المسموع، لا من قبل المفهوم، أن يكون المهندس، إذا غلط في التعليم، فظن أن المثلث المتساوى الساقين ليس بمثلث، أن يكون غلطه من قبل الاسم المشترك المسموع، لا من قبل المفهوم. وهو بين أن الغلط إنما وقع منه بحسب المعنى الذى في ضميره المفهوم. ولو سلمنا أن المثلث اسم مشترك لأن المعلم ليس في حقه لفظ مسموع. وأيضاً إن كان الاسم يدل على كثيرين، وكان المجيب لا يفهم دلالة ذلك الاسم وعلى كم من معنى يدل، فهو إذاً جاوب، لم يجاوب بحسب أنه فهم معنى ما، وإنما سلم لفظاً لا يدرى ما يدل عليه. ولا يمكن أيضاً هذا المجيب أن يقسم المعانى التى يدل عليها ذلك اللفظ، ويستفهم السائل أى معنى من تلك المعانى هو الذى قصده. مثال ذلك: أنه إذا سأل سائل: هل الساكت يتكلم? وكان هذا يصدق على الساكت فيما يستقبل، ويكذب عليه في حين سكوته، فإنه إن لم يفهم المجيب هذين المعنيين، فأجاب بأنه يتكلم مطلقاً، أخطأ؛ وإن أجاب بأنه لا يتكلم مطلقاً، أخطأ. فهذا الخطأ ليس هو من قبل أن ما في ضمير المتكلم من ذلك مخالف لمفهوم السامع، لأن السامع لم يفهم منه شيئاً محصلا. فإذن ليس الألفاظ جنسين: جنس يدل بحسب ما في ضمير السائل وهو الذى يكون الصواب من قبله، وجنس يدل بحسب مفهوم السامع، ومنه يكون الغلط دائماً.
ولا أيضاً جميع المغلطات تكون من قبل الألفاظ. فإنه قد تبين أنه هاهنا مغلطات من المعانى، مثل تغليط ما بالعرض، وغير ذلك من المواضع التى عددناها.
ولا استعمال القسمة التى تحفظ المجيب من الغلط مع السائل في جميع المواضع المغلطة على ما كان يذهب إليه أفلاطون في جميع هذه الأشياء. لأنه إن سلم إنسان أن للمجيب أن يقسم المعانى التى يدل عليها الاسم المشترك، ويستفهم السائل عن المعنى الذى أراد من بينها، حتى لا يغلط في الاسم المشترك، فماذا يقول في الموضع الذى لا يشعر المجيب فيه بأن اللفظ مشترك، ولا يفهم له دلالة? فانه إن استفهمه عما يدل عليه اللفظ، عاد متعلماً، لا مجيباً. وكذلك إن قسم له السائل تلك المعانى، عاد معلماً، لا سائلا. وأيضاً إن جاز له، أى للمجيب، أن يستفهم السائل في مثل هذا الموضع، أعنى في الموضع الذى لا يفهم فيه دلالة الاسم المشترك حتى يبصره السائل، فكيف لا يجوز له أن يسأله عن وجه الغلط الذى لزمه من قلة شعوره بشروط القياس، مثل أن يسأل سائل: هل الآحاد التى في الثنائية مخالفة للآحاد التى في الرباعية? فإن قال: هى مخالفة لها، قال له: فالرباعية تخالف نفسها، لأنها إنما تركبت من الآحاد التى في الثنائية. وإن قال: هى غير مخالفة، قال له: فالرباعية موافقة للثنائية ومساوية لها. فإن سبب التغليط في هذا إنما هو الجهل بأن المقدمتين اللتين يأتلف منهما القياس يجب أن تشترك بحد واحد في المعنى، لا في اللفظ. وهذا ليس يوقف عليه من المعرفة بطريق القسمة.
فإن جاز له أن يستفهم عن الاسم المشترك في الموضع الذى يجهل فيه أنه دال، فيجوز له أن يستفهم السائل في الموضع الذى غلط فيه وجاز عليه الغلط من أجل أنه لم يعلم شروط القياس. ولذلك كان السائل يظن به أنه يجب أن يكون غير معلم، والمجيب يظن به أنه قد يجب أن يكون غير متعلم، لأن السائل يفحص لأن يعلم، والمتعلم قد علم. وبالجملة: فإن عقد القول الكاذب العام ثم حله، ليس للمبرهن، وإنما هذا للممتحن. وصناعة الامتحان العامة جزء من صناعة الجدل. وهذه الصناعة هى من جهة من صناعة غير مبصرة ليس للمجيب فيها أن يسأل عما جهل، ولا للسائل أن يعلم. فإذن ليست القسمة نافعة في حل الأقاويل المغالطية إلا عند المعلمين والمتعلمين فقط. ولو كانت نافعة، لم تكن في كل موضوع، لأن مواضع الغلط كثيرة.