الغرض من الكتاب | تلخيص السفسطة أجناس المخاطبات المؤلف: ابن رشد |
القول من المغلطات من المعاني |
إن أجناس المخاطبات الصناعية التى يمكن أن تتعلم بقول أربعة أجناس:
- المخاطبة البرهانية.
- والمخاطبة الجدلية.
- والمخاطبة الخطبية.
- والمخاطبة السوفسطائية.
وهذه المخاطبة إذا بها مستعملها بالحكماء خصت بهذا الاسم، وإذا تشبه بها بالجدليين، سميت مشاغبية. فالمخاطبة البرهانية هى التى تكون من المبادىء الأول الخاصة بكل تعليم، وهى التى تكون بين عالم ومتعلم بشأن أن يقبل ما يلقى إليه المعلم، لا أن يفكر فيما يبطل قول المعلم، مثل ما يفعله السوفسطائيون. والمخاطبة الجدلية هى التى تأتلف من المقدمات المشهورة المحمودة عند الجميع أو الأكثر. والمخاطبة الخطبية هى التىتكون من المقدمات المظنونة التى فى بادىء الرأى. والمخاطبة المشاغبية هى المخاطبة التى توهم أنها جدلية من مقدمات محمودة، من غير أن تكون كذلك فى الحقيقة. فأما المخاطبة البرهانية فقد قيل فى كتاب البرهان؛ وكذلك الجدلية قد قيل فيها فى كتاب الجدل؛ والخطبية فى كتاب الخطابة. والتى يقال فيها ها هنا هى المخاطبة المشاغبية، أى المغلطة.
فلنقل أولا فى أغراض هذه المخاطبة، فنقول: إن مقصد هذا الجنس من الكلام هو أحد خمسة مقاصد: إما أن يبكت المخاطب. وإما أن يلزمه شنعة وأمراً هو فى المشهور كاذب. وإما أن يشككه. وإما أن يصيره بحيث يأتى بكلام مستحيل المفهوم. وإما أن يصيره إلى أن يأتى بهذر من القول يلزم عنه مستحيل من المفهوم بحسب الظن. فهذه الأغراض الخمسة هى التى يؤمها السوفسطائيون.
وأشهر هذه الأغراض الخمسة إليهم، وأكثرها مقصوداً عندهم هو التبكيت، ثم يتلو ذلك التشنيع على المخاطب، ثم يتلو ذلك التشكيك، ثم يتلو ذلك استغلاق الكلام واستحالته، ثم يتلو ذلك سوقه إلى الهذر والتكلم بالهذيان. والتبكيت والتغليط منه ما يكون من قبل الألفاظ من خارج، ومنه ما يكون من قبل المعانى. والذي يكون من قبل الألفاظ ستة أصناف: أحدها اشتراك اللفظ المفرد، والثانى اشتراك التأليف، والثالث الذي من قبل الإفراد، والرابع الذي من قبل القسمة، والخامس اشتراك شكل الألفاظ، والسادس من قبل الإعجام. وهذه القسمة تعرف من القياس والاستقراء.
فمثال اشتراك الاسم المفرد قول القائل: المتعلم عالم، لأن المتعلم يعلم، والذي يعلم عالم، فالمتعلم عالم. ووجه المغالطة فى هذا أن لفظة (يعلم) تقال على الزمان المستقبل، وتقال على الحاضر، فهى تصدق على العالم فى الحاضر، وعلى المتعلم فى المستقبل. وكذلك قول القائل أيضاً: بعض الشر واجب، والواجب خير، فبعض الشر خير. والمغالطة فى هذا أن اسم) الواجب (دل فى قولنا:) بعض الشر واجب (على ما يدل عليه اسم) الضرورى (، ودل فى قولنا:) والواجب خير (على ما يدل عليه) المؤثر والشىء الذى ينبغى (.
وأما اشتراك التأليف فهو أصناف، وذلك أنه قد يكون من قبل التقديم والتأخير، كمن يقول: الشريف هو العالم، إذا أراد أن العالم هو الشريف، فيوهم بتقديم الشريف وتأخير العالم أن المحمول فى هذا القول هو العالم، والشريف هو الموضوع. وقد يكون اشتراك التركيب من قبل تردد الضمير بين معنى أكثر من واحد. مثل قول القائل: ما يعرف الإنسان فهو يعرف، والإنسان الحجر، فالحجر إذن يعرف. وإنما وقعت هذه المغالطة، لأن لفظ) يعرف (قد يقع على العارف والمعروف. ومثل قول القائل: ما قال الإنسان إنه كذلك، فهو كذلك، وقال الإنسان صخرة، فالإنسان صخرة. فيوهم بتقديم الشريف وتأخير العالم أن المحمول فى هذا القول هو العالم، والشريف هو الموضوع. وقد يكون اشتراك التركيب من قبل تردد الضمير بين معنى أكثر من واحد. مثل قول القائل: ما يعرف الإنسان فهو يعرف، والإنسان الحجر، فالحجر إذن يعرف. وإنما وقعت هذه المغالطة، لأن لفظ) يعرف (قد يقع على العارف والمعروف. ومثل قول القائل: ما قال الإنسان إنه كذلك، فهو كذلك، وقال الإنسان صخرة، فالإنسان صخرة. والسبب فى ذلك أن لفظة) هو (مرة تعود على الإنسان، ومرة تعود على القول. وقد يكون الاشتراك من قبل الإضافة مثل قولك: أعجبنى ضرب زيد. فإنه يحتمل أن يكون زيد مضروباً وضارباً. وقد يكون من قبل الحذف والنقصان، مثال ذلك أن يقول القائل: إن الذى لا يمشى، يستطيع أن يمشى. والذى لا يكتب، يستطيع أن يكتب. فيكون ذلك صادقاً. فإذا حذفت لفظة) يستطيع (فقال: الذى لا يمشى، يمشى؛ والذى لا يكتب، يكتب، أوهم أن الذي ليس بماش ماش، والجاهل بالكتابة كاتب. ويشبه أن يعد هذا فى باب الإفراد والتركيب. وذلك أن النقصان هو تصير المركب مفرداً. وأما الموضع الذي يكون من قبل إفراد اللفظ المركب، فمثل قولك: سقراط عالم بالطب، فسقراط إذن عالم. وذلك أنه قد يصدق على سقراط أن عالم بالطب، وليس يصدق عليه أنه عالم بإطلاق. وإنما كان ذلك كذلك، أنه ليس يلزم إذا صدق القول المركب على شىء أن تصدق أجزاؤه مفردة على ذلك الشىء. وأما الموضع الذي من القسمة: فهو أن تكون أشياء إذا حملت مفردة على أجزاء الشىء صدقت، أو على الشىء بأسره صدقت. فإذا ركب بعضها إلى بعض، كذبت. فيوهم المغالط أنها إذا صدقت مفردة أنه يلزم أن تصدق مركبة. وهو عكس الموضع الأول. فمثال التى تصدق على أجزاء الشىء مفردة، ولا تصدق على كلمه مجموعة، قول القائل: الخمسة منها زوج، والخمسة منها فرد، فالخمسة إذن زوج وفرد. وذلك كذب. فإن الزوجية والفردية إنما صدق كل واحد منهما على جزء من الخمسة غير الجزء الذي صدق عليه الآخر. فإذا حمل على الكل، كان كذباً. ومثال المحمولات التى تصدق مفردة على كل الشىء، ولا تصدق عليه مركبة، قول القائل: أنت عبد، وأنت لى، فأنت عبد لى. وذلك مما قد يكذب.
وأما الموضع الذى من الإعجام فمثل أن يتغير إعراب اللفظ، فيتغير مفهومه، أو يغير من المد إلى القصر، أو من التشديد إلى التخفيف، أو من الوصل إلى الوقف، أو يهمل إعرابه، أو يبدل لفظه وإعجامه. والذي يكون من قبل النقط إنما يكون من قبل المكتوب فقط، مثل ما يعتذر به جالينوس عن أبقراط فى مواضع انتقدت عليه. وأمثلة تغير المفهوم بتغير الإعراب، أو لإهماله كثيرة موجودة، مثل قول القائل: ضرب زيد عمراً. إذا كان زيد هو المضروب، وعمرو هو الضارب. وذلك كثير. وكذلك ما يعرض عند تغير النقط أو إهماله، وهو الذي يسمى التصحيف.
وأما الموضع الذى من شكل الألفاظ فمثل أن تكون صيغة لفظ المذكر صيغة لفظ المؤنث، أو صيغة لفظ المفعول صيغة لفظ الفاعل، فيوهم أن المذكر مؤنث، مثل قول القائل: عاصم بمعنى معصوم. قال: فهذه هي المضللات التي تكون من قبل الألفاظ، وقد يظهر أنها ستة بطريق القسمة. وذلك أن اللفظ إنما يغلط إذا لم يطابق المعنى. وإذا لم يطابق المعنى: فظاهر أنه دل على معنى أكثر من واحد. لأنه لا يخلو أن يدل على ذلك المعنى وعلى معنى زائد عليه، أو على ذلك المعنى وعلى معنى ناقص عنه. وإذا كان ذلك كذلك، فقد دل على معنى أكثر من واحد إما بزيادة منه على المعنى، أو نقصان منه. وإذا كان ذلك كذلك، فلا تخلو دلالته على معنى أكثر من واحد إما من قبل ما يؤخذ مفرداً، وإما من قبل ما يؤخذ مضموماً إلى غيره. ثم إذا كان من جهة ما هو مفرد، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام: إما أن يكون ذلك لا من قبل صيغته الأولى الموضوعة، وهذا هو الاسم المشترك. وإما أن يكون ذلك له من قبل زيادة أو نقصان فى حروفه، أو تبدل ترتيبها. وهو التغليط الذي قيل فيه إنه من قبل الشكل. وإما أن يكون فى أحواله الخارجة وهو التغليط الذى يعرض من قبل الإعراب، والتثقيل، والتشديد، وغير ذلك من الأشياء التى جرت بها العادة فى الألسنة. وإذا عرض له ذلك من قبل ما هو مضموم إلى غيره. فلا يخلو أن يعرض له ذلك فى نفس التركيب؛ وإما أن يعرض له عند تغيره من إفراد إلى تركيب، وهو موضع القسمة، وإما من تركيب إلى إفراد وهو موضع التركيب. وإذا كان من المعروف بنفسه أن ليس هاهنا قسمة سابعة للفظ يدل بها على أكثر من معنى واحد من جهة ما هو مغلط بذاته، لا من جهة ما هو مغلط بالعرض، مثل التغليط الذي يعرض عنه عند الإبدال، أعنى إبدال لفظ مكان لفظ. فظاهر أن المواضع المغلطة من الألفاظ هى هذه الستة.