تلخيص السفسطة الغرض من الكتاب المؤلف: ابن رشد |
أجناس المخاطبات |
قال: الغرض فى هذا الكتاب هو القول في التبكيتات السوفسطائية التي يظن بها أنها تبكيتات حقيقية، وإنما هي مضللات. ونحن مبتدئون بالنظر في ذلك من المقدمات المعروفة بالطبع في هذا الجنس، فنقول: إن من المعلوم أن من القياسات ما هو قياس في الحقيقة، ومنه ما يغلط، فيظن به أنه قياس، من غير أن يكون كذلك في الحقيقة.
وما عرض في القياس من ذلك هو شبيه بما عرض في سائر الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة، وذلك أنه كما أن من الناس من هو عابد بالحقيقة، ومن يظن به أنه عابد، وهو مرائى؛ ومنهم من هو جميل بالحقيقة، ومنهم من يظن به أنه جميل لمكان الزى واللباس، وليس هو في الحقيقة جميلا؛ ومن الفضة أيضاً والذهب ما هو في الحقيقة وذهب، ومنه ما يظن به أنه ذهب وفضة، كذلك الأمر في القياسات.
وإنما يخفى هذا الصنف من القياس، أعنى الذي يوهم أنه قياس، وليس بقياس، على من لم يجرب الأقاويل، ولا اختبرها؛ لأن من لم يجرب الأشياء يشبه الذي ينظر إلى الأشياء من بعد. فأما القياس بإطلاق، فقد قيل فيه إنه قول، إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد، لزم عنها بذاتها، لابالعرض، شيء آخر غيرها اضطراراً.
وأما القياس المبكت فهو القياس الذي يلزم عنه نتيجة هي نقيض النتيجة التي وضعها المخاطب. وذلك أنه إذا لزمت عن المقدمات التي اعترف بها المخاطب، فيلزمه عن ذلك أن يكون الشيء بعينه موجوداً كذا، وغير موجود كذا.
والتبكيت السوفسطائى هو القياس الذي يوهم أنه بهذه الصفة، من غير أن يكون كذلك. وقد يقع مثل هذا القياس لأسباب نذكرها بعد. وأشهر هذه الأسباب هو ما يعرض للمعانى من قبل الألفاظ. وذلك أنه لما لم تكن مخاطبة إلا بألفاظ، أقيمت الألفاظ مقام المعانى، فأوهم ما يعرض في الألفاظ أنه يعرض في المعانى مثل ما يعرض للحساب من الغلط في العدد، في حين إقامتهم العقد في الأصابع مقام العدد، فيظنون أن ما عرض في العقد في الأصابع هو شىء عرض في العدد. وإنما عرض ذلك للمعانى مع الألفاظ، لأن الألفاظ ليس يمكن أن تجعل مساوية للمعانى، ومتعددة بتعددها، إذ كانت المعانى تكاد أن تكون غير متناهية، والألفاظ متناهية. فلو جعلت الألفاظ معادة للمعانى، لعسر ذلك عند النطق بها، أو الحفظ لها، أو لم يمكن. ولذلك اضطر الواضع أن يضع الكلمة الواحدة دالة على معان كثيرة.
وكما أن من كان من الحساب ليست عنده الجملة التى تسمى طرح الحساب فليس يمكنه الوقوف على الصواب من الخطأ في المسائل العددية، كذلك مَنْ لم تكن عنده معرفة بطبائع الألفاظ فهو جدير أن يغلط إن هو تكلم بشىء، وإن هو أيضاً سمعه.
فلهذا السبب ولغيره من الأسباب عرض أن يكون القياس والتبكيت السوفسطائى شيئاً موجوداً بالطبع. ولأن كثيراً من الناس أيضاً يحبون أن يوصفوا بالحكمة ويعظموا بتعظيمها من غير كلفة ولا تعب، أو من غير أن يكونوا أهلا لذلك، إذا كانوا ممن لا يمكن فيهم تعلم الحكمة، كان ذلك سبباً لأن يعتمد هذا الجنس من القول كثير من الناس يراءون به، ويوهمون أنهم حكماء، من غير أن يكونوا في الحقيقة حكماء، ولذلك سموا باسم الحكمة المرائية وهو الذي يعنى باسم السفسطة والسوفسطائيين فى لسان اليونانيين. وبين أن هؤلاء حرصهم إنما هو أن يظن بهم أنهم يعملون عمل الحكماء، من غير أن يعملوا عملهم. وعمل الحكيم بالحقيقة هو أن يكون، إذا قال، قال صواباً، وإذا سمع كلام غيره ميز الكذب منه من الصواب. وهاتان الخصلتان الموجودتان فى الحكيم إحداهما هى فيما يقوله، والآخرى فيما يسمعه. ومن اللازم لمن أراد السوفسطائية طلب معرفة هذا الجنس من الكلام. فان بذلك يقوون على أن يراءون أنهم حكماء من غير أن يكونوا كذلك. إلا بحسب هواهم.
فأما أن هذا الجنس من الكلام شىء موجود، فمعروف بنفسه. وإنما الذى يفحص عنه هنا كم أنواع هذا الكلام السوفسطائى، وبكم من شىء تحصل هذه الملكة، وبالجملة: كم أجزاء هذه الصناعة، وما الأشياء التى تتم بها هذه الصناعة. وهذا هو قصد الذى قصد الفحص عنه هاهنا فنقول: