القياس المغالطي | تلخيص السفسطة القول في النقض المؤلف: ابن رشد |
قال: وينبغي للمجيب في جميع المسائل أن يتقدم فيرد القول الكاذب، ويعرف مع رده له من أي جهة عرض له الكذب. فإن هذا هو النقض المستقيم.
ولما كان الكذب يعرض في القيا س إما من جهة مقدماته، يعني أن تكون كلتاهما كاذبتين، أو تكون إحداهما هي الكاذبة، وإما من جهة تأليفه او شكله أو من كليهما معاً، فالنقيض المستقيم إنما يتأتي للمجيب إذا قسم القول السوفسطائي إلى كل واحد من هذين القسمين، ونظر في أيهما عرض الكذب. فإن كان الكذب في كليهما عرف به. وهذا النوع من القياس السوفسطائي الذي يمكن نقضه بوجهين، فهو أسهل، أعني الفاسد الصورة والمادة. وإن كان في أحدهما عرف به أيضاً. أما إن كان في الشكل، عرف أنه غير منتج. وأما في المقدمات، فبأن يرفع ما وضع السائل. وهذان النوعان من القياس إنما يمكن نقضهما بجهة واحدة. وإذا كان هذا هكذا، فينبغي لمن أراد نقض الأقاويل القياسية أن ينظر أولاً هل ذلك القول قياس حقيقي، أو يظن أنه قياس، وليس بقياس، وذلك بالنظر إلى شكله، وإلى مقدماته. فإن لم يبن ذلك فيهما، أعني هل هي صادقة، أو كاذبة. فإن كانت كاذبة، قسم القياس إلى مادته وصورته، ونظر في الكاذب منهما، إذ قد تبين أن النتيجة الكاذبة تكون ولا بد عن كذب في القياس إما من قبل صورته، وإما من قبل مادته. وفرق كبير بين سهولة تبيين الكذب في مقدمات القياس في وقت السؤال بها وبين تبيينه في النتيجة. وذلك أن تبيينه في النتيجة سهل، لأنه ليس هنالك سؤال يضطرنا إلى الجواب على البديهة. ةتبيين الشيء مع الفكرة أسهل من تبيينه على البديهة.
قال: واما التبكيتات التي تعرض من قبل اشتراك الاسم ومن قبل المشاغبة اللفظية، فإن منها ما يعرض الغلط فيه، أو المغالطة، من قبل الاسم المشترك المأخوذ في المقدمات، ومنها ما يعرض من قبل الاسم المشترك المأخوذ في النتيجة، أعني إذا لم يفهم أنه يدل على كثير. مثال ذلك أن من سلم أن الساكت يتكلم، والمتكلم غير ساكت، وظن أنه قد لزمه التبكيت، وهو أن أن الساكت غير ساكت، فليس سبب تبكيته في هذا هو جهله بالاشتراك الذي في المقدمة القائلة إن الساكت يتكلم، وذلك أنه إنما فهم منها المعنى الصادق فسلمه، وهو أن الساكت له قدرة على الكلام؛ ولا أيضاً سبب تبكيته جهله بالاشتراك الذي في المقدمة الثانية وهو أن المتكلم غير ساكت. فإنه إنما فهم منها المعنى الصادق فسلمه. ولكن سبب تبكيته هو جهله بالاشتراك الذي في النتيجة وهو أن الساكت غير ساكت. فإنه لو شعر بالاشتراك الذي في هذه النتيجة، لقسم، فقال: الساكت قد يصدق عليه أنه غير ساكت من جهة أن له قدرة على أن لا يسكت وأن يتكلم فيما بعد.
وأما من سأل فقال: أليس ما يعلم الإنسان ليس بعلم، وما ليس يعلم فليس له علم بشيء، فالإنسان إذن ليس له علم بما يعلم، فتم على المجيب هذا التبكيت بأن سلم له هذه المقدمات. فإنما عرض له التبكيت من قبل الاشتراك الذي في تأليف المقدمة القائلة: إن ما يعلم الإنسان ليس يعلم. وذلك أن هذه المقدمة إنما يسلمها من لم يشعر بأن المضمر الذي في )يعلم(مرة يعود على المعلوم، ومرة على العالم. فإذن سبب التبكيت هاهنا إنما هو الاشتراك الذي في المقدمة، لا الاشتراك الذي في النتيجة، بخلاف الموضع الأول.
قال: وهذه المسائل التي يكون التبكيت فيها من قبل الكثرة التي يدل عليها الاسم المشترك أو اللفظ المشاغبي إنما ينعقد التبكيت فيه متى كان القول نفسه يلزم عنه نقيضه.
وليس يعرض هذا في قياس الخلف في كل المسائل. وذلك أن قياس الخلف منه ما يكون الكاذب اللازم عنه نقيض ما وضع فيه، مثل أن يلزم من وضعنا أن الأعمى يبصر أن يكون الأعمى ليس بأعمى. ومنه ما يكون الكاذب فيه نقيضاً لمقدمة معلومة، إلا أنها لم توضع جزء قياس، مثل أن يلزم عن قولنا: إن الأعمى يتخيل الألوان. وذلك كذب. إلا أنه لم يرفع منه الذي وضعنا.
قال: والنقض لهذه المباكتات التي تكون من قبل اشتراك الاسم إما في المقدمات كما قلنا، وإما في النتيجة، فيكون بأن يتقدم النجيب عند السؤال فيقسم الاسم المشترك إلى أنحائه، ويعرف الصادق منها من غير الصادق بأن يسمى ذلك، فليزد الشرط الذي به تكون المقدمة صادقة على جهة الاستثناء، مثل إن سأله سائل: أليس للساكت أن يتكلم، فقال: نعم، له أن يتكلم، فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك. فيقول: لكن لا في حين سكوته. وكذلك إن أجاب بأنه ليس يتكلم، تدارك ذلك. فقال: لكن يتكلم في المستقبل. وكذلك إذا سئل: أليس كل من علم شيئاً فليس يجهله. فقال: نعم. فإنه يجب عليه أن يزيد، فيقول: من الجهة التي علمه. فإذا فعل ذلك، لم تتم عليه المغالطة المشهورة التي كان القدماء يستعملونها. فإنهم كانوا يسئلون، أليس من علم شيئاً من الأشياء فهو لا يجهله أصلا? وأنت تعلم أن كل اثنين عدد زوج وكنت لا تعلم هذين الاثنين اللذين خبأت لك، قبل أن أظهرها لك. فأنت إذن تعلم الشيء وتجهله معاً. وإنما قلنا إنه إذا اشترط من جهة ما علمه أنه ليس تلزمه هذه المغالطة، لأنه يقول: علمتها بالعلم الكلي، ولم أعلمها بالعلم الجزئي. فإذن الذي علمت ليس الذي جهلت.
قال: ومن يعرف أن التغليط قد يعرض من المشاغبة التي تكون من قبل القسمة والتركيب، فقد يعرف أيضاً كيف النقض لهذه المغالطة، بأن يقول: إنه إذا قسمت، دلت على كذا؛ وإذا ركبت، دلت على كذا؛ وإن الدلالتين مختلفتان. وليس يلزم إذا قسمت وركبت أن تدل على شىء واحد. وقد لا يمتنع أن يجتمع في اللفظ المشاغبة والمراء من قبل الانتقال من القسمة إلى التركيب، ومن قبل ما يعرض في التركيب نفسه من الاشتراك، مثل قول القائل: أليس تعلم أن هذا يضرب? فإذا قال: نعم، قال: وبهذا كان يضرب? قال: نعم، قال فإذن أنت تعلم أن هذا كان يضرب، وبهذا كان يضرب، فإذن ما تعلم أن به يضرب فبذاك يضرب، والذى تعلم أن به يضرب هو علمك، فإذن بعلمك كان يضرب.
فإن هذا القول قد دخلته المغالطة من وجهين: أحدهما: أنه ما كان صادقاً فيه مفرداً لم يصدق مركباً. وذلك أن علمه بأن هذا يضرب كان صادقاً. وكونه أيضاً يضرب بهذا كان صادقاً، ولم يكن صادقاً أن يعلم أنه يضرب بهذا للذى كان يضرب. وأيضاً فان قوله: )وتعلم أن بهذا كان يضرب(قد يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى الآلة وإلى، العلم.
قال: والمغالطة التى تكون التغيير من من الإفراد إلى التركيب، أو بالعكس، ليس هو من نوع التى تكون من قبل اشتراك الاسم، على ما زعم بعض الناس من أن كل مغالطة لفظية فهى من قبل اشتراك الاسم. وذلك أن اختلاف المفهوم في اشتراك الاسم يعرض والاسم واحد بعينه. وأما ها هنا فإنما يتغير المفهوم بأخذ الاسم مرة مفرداً، ومرة مركباً، كما يختلف المفهوم من اللفظ الواحد بعينه عندما تقرن به علامة الرفع، أو علامة الخفض أو النصب. ويختلف الاسم الواحد المكتوب من حروف واحدة بعينها عند اختلاف النقط عليه.
قال:
وقد تبين أنه ليس كل ما ينقض من المغالطات اللفظية هو من قبل اشتراك الاسم من الأمثلة التى استعملها بعض الناس في المغالطة، وأتى في ذلك بأقوال مشهورة لأهل زمانه هى من باب المراء الذى من اشتراك التركيب، والذى من باب الجمع والإفراد. مثال ذلك قول القائل: أنا أرى بالعين الذى ترى. فإن مفهوم هذا اللفظ يختلف إذا جعلنا الضمير الذى في )ترى(مرة راجعاً إلى العين، ومرة راجعاً إلى المخاطب. وهو بين أنه ليس هاهنا اختلاف مفهوم من قبل اشتراك الاسم.
وكذلك قول القائل: ألست تعلم السفن صقلية الآن لفضليتها ثلاثة سكانات? فإن )الآن(مرة تعود إلى السفن، ومرة إلى العلم.
ومثل ذلك: أليس سقراط حكيما فاضلا وإسكافا رديئاً? فهو إذن فاضل ردىء، وهذه المغالطة من باب إجراء المركب مجرى المفرد في الدلالة.
ومن هذا أيضاً قول القائل: أليس للعلم الفاضل تعليم جيد، وهو جيد في نفسه، وللعلم الردىء تعليم جيد، فالعلم الردىء جيد. وهذه المغالطة من إجراء المركب مجرى المفرد. وذلك أن المركب في هذا المثال هو الصادق، والمفرد هو الكاذب.
ومن المثل المشهورة في هذا الباب عند القدماء قول القائل: ألست تعلم أن كل ما هو ممكن لى أن أفعله فإنا أفعله، وممكن لى إذا لم أضرب بالعود أن أضرب به، فإذا أنا لم أضرب بالعود، فأنا أضرب بالعود.
قال: وهذا التغليط هو من باب إجراء المفرد مجرى المركب. وذلك أنه يصدق على في الوقت الذى لا أضرب بالعود أنه يمكننى أن أضرب بالعود. ولا يصدق على مفرداً أنى أضرب بالعود، دون أن يقرن بأضرب لفظة )ممكن(. فإذن سبب هذا التغليط هو ألا يشعر باختلاف مفهوم لفظة )يضرب(إذا قرنت بالممكن، أو أطلقت إطلاقاً.
قال: وليس نقض هذا، كما ظن بعض الناس - أحسبه يشير به إلى أفلاطون - من أنه ليس كل ما يمكن لى فعله يكون وقت الإمكان فيه هو وقت الفعل، لأنه لو كان ذلك. لكان ممكناً أن أضرب إذا ضربت. فإن هذا النقض هو خاص بهذا الموضع من جهة مادته، أعنى من جهة لفظ الممكن المستعمل فيه. والنقض الذاتى للأشياء التى هى نوع واحد من نوع واحد. وذلك إنما هو نقض عند تلك المسئلة بعينها. لا نقض لذلك النوع من المغالطة.
قال: وأما الغلط العارض من الإعجام، فالتبكيت لا يكون منه إلا أقل ذلك، كان ذلك في المكتوب، أو في اللفظ.
مثال ذلك في اللفظ قول القائل: أليس البيت هو أين تحل، وأن ليس تحل سالبة أن تحل، فالبيت إذن سالبة.
وأما ما كان يعرض منها من قبل تفخيم الصوت وترقيقه فنقضه سهل. وذلك بأن يعرف بأنه ليس دلالة ذلك اللفظ، إذا فخم، هو دلالته، إذا رقق.
وأما التى شكل ألفاظها واحد، وهى في مقولات مختلفة، فنقض التبكيتات الواقعة فيها يكون بأن يعرف من أى مقولة هو كل واحد منها، إذا كان عندنا معلوماً أجناس المقولات. والتبكيت يعرض فيها مثل قول القائل: يا هذا، أرأيت هل يمكن الشىء الواحد بعينه أن يكون يفعل وينفعل معاً? فإذا قال: لا. قال: وقد يمكن أن يبصر ويبصر إذا رأى نفسه. وأن يبصر هو مثل أن يضرب وأن يخرج، وبالجملة: ينفعل؛ وأن يبصر هو بمنزلة أن يضرب، وأن يخرج، وبالجملة يفعل. فإذا رأى المرء نفسه، فقد أمكن أن يوجد شىء واحد بعينه يفعل وينفعل معاً. وقد كان ذلك لا يوجد. هذا قبيح مستحيل. ونقض هذا هو قريب من النقض الذى للتبكيت الذى سببه اشتراك الاسم، وذلك بأن يعرف أن كل شكل يبصر، وإن كان كشكل يضرب، فهو يدل على الانفعال لا على الفعل. وذلك أنه يشبه المشترك من جهة الاتفاق في صيغة اللفظ، كما أنه يشبه النغليط الذى يكون من أخذ مسئلتين في مسئلة واحدة من جهة مخالفة يبصر ليضرب في اللفظ، أعنى في الحروف التى تركب منها. لكن الذى يسئل عن مسائل كثيرة سؤالا واحداً هو موافق بجهة ما للذى يسئل بالاسم المشترك، لأن هذا يسئل أيضاً عن مسائل كثيرة سؤالا واحداً. ولما كان هذا الاشتباه الذى بين الأقاويل المغلطة قد يوجد بأنحاء كثيرة من المغالطات اللفظية شبه المغالطات التى تقع من قبل اشتراك الاسم وليست منها؛ ولذلك ظن من ظن أن كل تغليط فهو من قبل الاسم المشترك.
ومثال ذلك من سأل، فقال: أليس من كان له شىء وألقاه فليس له. فإذا قال له: نعم، قال: أليس من كان عنده عشرة أكعب، فألقى كعباً منها أنه ليس له كعب، فإذا قيل: نعم، قال: أو ليس من له تسعة أكعب له أكعب، فإن من له أكعب ليس له أكعب.
وهذه المغالطة ليست من قبل اشتراك الاسم، وإنما هى من قبل أنه أخذ مطلقاً ما يصدق مقيداً. وذلك أن من ألقى كعبا من عشرة أكعب، صدق عليه أنه ليس له كعب واحد، لا أن ليس له كعب بإطلاق. ومن له تسعة أكعب، صدق عليه أن له تسعة أكعب، لا كعب بإطلاق. فإذن سبب هذا الغلط أن ما يصدق مع غيره، ظن أنه صادق إذا أخذ مفرداً. فهو من باب المباكتة التى تكون من قبل القسمة والتركيب، أو المطلق والمقيد.
ومما يشبه هذا أن يسئل السائل. فيقول: أليس ما أعطى المرء فهو ليس له? فإذا قيل له: نعم، سأل بسرعة: أليس ما للمرء فهو الذى يعطيه. فإذا أجاب المجيب بنعم، أنتج عليه: فإذن ما له ليس له.
وهذا التغليط أيضاً من باب الإفراد والقسمة. وذلك أن الشىء قبل أن يعطيه فهو له. فإذا أعطاه فليس له. فإذا أخذ )أن له(أو )ليس له(مطلقاً، عرض هذا التبكيت.
ونظير هذا قول من قال: أليس غير ممكن أن يبطش أحد بغير يد، ويبصر بغير عين، فإذا قيل نعم، قال: والأشل بغير يد وهو يبطش، والأعور بغير عين وهو يبصر، فإذن يبصر بغير عين، وليس يمكن أن يبصر بغير عين. وهذا إنما يصدق مقيداً، لا مطلقاً. وذلك أن الأعور يبصر بغير عين واحدة، لا بغير عينين، وكذلك الأشل يبطش بيد واحدة، لا بيدين.
قال: ومن الناس من نقض هذه المغالطات بأن ظنها من قبل اشتراك الاسم، فقال في المثال الأول. إن الأعور لا يبصر، لكن يقال فيه إنه لا يبصر ليس مثل ما يقال في الأعمى إنه لا يبصر، بل بمعنى أقل.
ومنهم من قال في المثال الثانى: إن الذى أعطى كان كأنه ليس له، وما أخذ كان كأنه له. فإذن ما ليس له يقال على أوجه كثيرة، وكذلك ما له.
ومنهم من قال في نقض ذلك: إنه قد يعطى المرء ما ليس له، وذلك أن من أعطى خمراً طيبة، فعندما أعطاها استحالت خلا فقد أعطى ما ليس له.
فكأنه ذهب إلى أن أمثال هذه المغالطات هى من باب اشتراك الاسم، وليس الأمر كذلك. لأن هذه وإن سلمتا أنها مناقضة، فإنما هى مناقضة جزئية بحسب عادة هذا التبكيت، لا بحسب الموضع الذى هذا التبكيت جزء منه. ولذلك من عرف طبيعة هذا الموضع ونقضه بحسب طبيعته، لم يمكن أن ينعقد عليه تبكيت.
ومن هذا الجنس من التبكيت قول القائل: يا هذا، أرأيت هذا المكتوب أليس صادقاً قولك إنه كتبه إنسان، وقولك إنك لم تكتبه أنت، وأنت إنسان، فإذن كتبه إنسان ولم يكتبه إنسان.
والنقض في هذا أن يقال: كتبه إنسان هو غيرك، لا إنسان بإطلاق.
ومن هذا الجنس، أعنى الذى من الألفاظ، قول القائل: أرأيت ما يتعلم الإنسان فهو ما يتعلمه، وهو يتعلم الثقيل والخفيف، فالإنسان ثقيل وخفيف.
ووجه النقض لهذا أن يقال: إن لفظة )هو(إنما تصدق على العلم، لا على الإنسان.
ومن هذا القبيل قول القائل: ما يمشى الإنسان فهو يطأه، والإنسان يمشى في النهار، فهو يطأ النهار.
ووجه النقض فيه أن يقال: أما المسافة التى يمشى فيها فهو يطأها، وأما الزمان الذى يمشى فيه فليس يطأه. والتقابل هاهنا من قبل اشتراك لفظة )في(، فإن دلالتها على المكان غير دلالتها على الزمان.
ومثال آخر وهو قول القائل: هذا الإنسان هو الإنسان الخاص أو العام. فإن كان الخاص كان هذا الإنسان المشار إليه هو أنت لأن كليكما خاص، وليس هو أنت. وإن كان عاماً، كان جنساً، وليس المشار إليه بجنس، فهو جنس ليس بجنس.
ووجه النقض في هذا أن يقال: إن الإنسان المشار إليه هو شىء ثالث غير الإنسان العام والخاص. وإن الإنسان إنما هو عام بالإضافة إلى أشخاص الناس، وهو خاص بالإضافة إلى إنسان إنسان من المشار إليهم. وأما المشار إليه فهو غير العام والخاص.
قال: وبالجملة: فينبغى للناقض في هذه المضللات التى من الألفاظ أن يكون نقضه بالمقابل للموضوع الذى ألزم منه السائل التبكيت. فإن كان التغليط من قبل تقسيم المركب قابله بالتركيب. وإن كان من قبل تركيب المفرد ناقضه بالتقسيم. وإن كان من قبل الاسم المشترك ناقضه بوضع اسم متواطىء. وإن كان من التفخيم ناقضه بالترقيق. وإن كان من الترقيق ناقضه بالتفخيم.
فهذه هى جميع المناقضات التى تنقض بها المغالطات اللفظية.
وأما النقائض للمعانى المغلطة، فإن النقيضة التى لجميع ما بالعرض هى نقيضة واحدة بعينها وهى من نفس ما بالعرض، أعنى أن يعرف أن ذلك ليس فيها دائماً، ولا كلها. فإن ما بالعرض إنما يوجد لشىء إما في أقل الزمان، وإما في أقل الموضوع، وإما في الأقل من كليهما.
فأما النقض الخاص بهذا الموضع فأن يقال: إن هذا أمر عرض وإنه ليس باضطرار. وذلك بين إذا تؤملت التبكيتات التى بالعرض، مثل قولهم: يا هذا، أنت تجهل ما أريد أن أسئلك عنه، وإذ سألتك عنه عرفته، فأنت إذن تعرفه وتجهله معاً. ومثل قولهم: يا هذا، أنت تعرف زيداً، ولا تعرف أنه دخل الدار، وزيد هو الداخل، فأنت تعرف الداخل ولا تعرفه. ومثل قولهم: أنت لا تعرف هذا الشىء الذى أخفيه، وإذا رأيته عرفته، فأنت تعرفه ولا تعرفه. ومثل قولهم: هذا أب، وهو لك، فهو إذن أب لك، لكن ليس لك. ومثال آخر من المشهورات وهو أن كل عدد فهو كثير، لأن العدد كثرة ما. وكل عدد فهو أقل من غيره، وما هو أقل من غيره فهو قليل. فكل عدد كثير قليل معاً.
وهذه التبكيتات كلها تنحل بأن يقال: إن هذا أمر عرض وأنه ليس بالضرورة. وذلك أن زيداً هذا عرض له أن سألت عنه فجهلته من حيث سألت عنه، ولم أجهله من حيث هو زيد. وليس كونه مسئولا عنه دائماً له، ولا ضرورياً. وكذلك عرض لزيد أن دخل الدار، فأنا أعرفه لأنه زيد وأجهل منه الأمر الذى عرض له وهو دخوله الدار. وكذلك الجواب في المخفى الذى أعلمه ولا أعلمه.
قال: ومن الناس - وأحسبه يشير بذلك إلى أفلاطون - من نقض هذه التبكيتات بأن قال: إنه ليس يمتنع أن يعلم الشىء الواحد من جهة، ويجهل من جهة. لكن هذه المناقضة يلحقها التقصير من وجوه.
أحدها: أنه ليس يمكن أن يستعمل في نقض جميع ما بالعرض مثل قول القائل المتقدم: هذا لك، وهو أب، فهو أب لك وليس لك، فإن النقض في هذا أن يقال: إن هذا الذى هو لك عرض له أن كان أباً، وليس هو أباً من جهة ما هو لك. والنقض يجب أن يكون عاماً ومحيطاً بجميع الكذب الموجود في المقدمة الكاذبة، وذلك أنه قد يوجد في المادة الواحدة بعينها أنحاء مختلفة من الكذب. فيجب أن يكون النقض نقضاً يرفع جميع تلك الأنحاء التى في النتيجة الكاذبة.
قال: وأيضاً فإن الذى ينقض قياس الخلف المبكت بأن يعرف أن النتيجة التى زعم القياس أنها ممتنعة هى ممكنة، فإنما نقض أن يكون هو عمل قياساً مبكتاً. فإن التبكيت الذى قصد لم يتم له. وذلك أن كل من ألف قياساً ليبين به شيئاً ما على طريق الخلف، فأنتج نتيجة ممكنة، لا ممتنعة، فلم يبين شيئاً، ولو ألف ألف قياس من هذه الصفة. ولكن متى لم يبين الإنسان من القياس الكاذب إلا هذا القدر، فلم يبين شيئاً من الكذب الذى فيه، ولا عرض له لا بإبطال، ولا بإثبات. ولعل وضعه النتيجة مبكتة يوهم أنه سلم أن تلك المقدمات صادقة. فإنه قد يظن أن ما ليس يعرض عن وضعه كذب، فهو صادق بل لا سبيل إلى إبطال المقدمات الكاذبة في أقيسة الخلف الموبخة،أعنى التى تنتج نقيض ما وضع إلا مع التسليم أن النتيجة كاذبة. ومثال ذلك أنه من ناقض قول زينن في إبطال الحركة الذى يقول فيه: إنه إن كانت الحركة موجودة، لزم أن يكون المتحرك يقطع قبل تمام المسافة نصفها، وقبل ذلك النصف نصف ذلك النصف. ولما كانت الأنصاف الموجودة في المسافة الواحدة بعينها غير متناهية، لزم إن كان المتحرك تحرك أن يقطع مسافات غير متناهية في زمان متناه. هذا خلف لا يمكن، فإذن الحركة غير موجودة.
فإن قال الناقض: إن هذا اللازم ليس بمحال من جميع الجهات، بل هو محال إن فرضنا أنه يقطعها في أزمنة متناهية، وليس بمحال إن فرضنا أنه قطعها في أزمنة غير متناهية لأن حال الزمان والمسافة واحد فيما يلزم من ذلك. فهذا وإن كان قد أبطل القياس الذى رام أن يبطل الحركة به، لكنه لم يعرض لبيان الكذب الذى في مقدماته.
وأما من ناقض هذا التبكيت السوفسطائى بأن قال: إن المتحرك ليس يقطع قبل تمام المسافة مسافات كثيرة، وإنما يقطع مسافة واحدة في زمان واحد، وإنما كان يجب أن يقطع مسافات كثيرة لو كانت الحركة الواحدة مؤلفة من حركات كثيرة بالفعل، وكذلك المسافة من مسافات كثيرة، فقد نقض الكذب الذى في المقدمات. ولذلك قيل إن تلك مقاومة بحسب القول. وهذه مقاومة بحسب الأمر نفسه. وأيضاً فهذه المقاومة قد تضعف أيضاً في صناعة الجدل. لأنه ليس بمشهور أن يقال إن الشىء الواحد بعينه يكون صادقاً من جهة، وكاذباً من جهة، أو معروفاً من جهة، مجهولا من جهة. بل المقاومة المشهورة في أمثال هذه الأشياء أن يقال: إن المعروف غير المجهول. لأنه لو كان زيد هو الداخل في الدار، أو هو المسئول عنه، للزم أن يوجد زيداً داخلا في الدار ضرورة ما دام زيد موجوداً، وكذلك ما دام مسئولا عنه، ويكون أخذ ما به زيد موجوداً هو دخوله في الدار أو السؤال عنه. فالمعروف إذن من زيد عند الجمهور هو زيد. إذ كان المعروف هو الذى بالذات، والمجهول هو الذى بالعرض. فإن من علم أن هذا أبيض، وجهل أنه موسيقار، فقد علم شيئاً، وجهل شيئاً آخر.
ومن نقض التبكيت الذى ألزم فيه أن يكون العدد كثيراً وقليلا معاً، فإن سلك الكذب الذى فيه وقال قد يمكن أن يكون كثيراً بالقياس إلى ما تحته، قليلا بالقياس إلى ما فوقه فقد لحقه مثل التقصير الذى قلنا، بل مناقضته التامة أن يقال له: إنه ليس كل عدد كثير، لأن الاثنين عدد وليس بكثير.
قال: ومن الناس أيضاً من رام أن ينقض التبكيت المشهور الذى قيل فيه: إن هذا أب، وهو لك، فهو أب لك وليس أباً لك، من قبل الاشتراك الذى في لفظة )له(. فإنها تدل على الملك، وتدل على غير الملك. ومثل قول القائل: هذا عبد، وهو لك، فهو عبد لك. وليس كما ظنوا. فإنه ليس يظن أحد بلفظة )له(، إذا قرنها بالأبن أو بالأب أنهما تحمل على الملك. ولذلك ليس هذا الغلط عارضاً إلا من قبل أنه عرض لهذا الذى هو لك أنه ابن، وكذلك الحال في العبد، فانه ليس يقرن به أحد لفظة )لك(، وهو يتوهم شيئاً غير الملك. فلذلك ليس الغلط في هذا إلا من قبل ما بالعرض. وهو أن عرض للذى كان ابناً لك أنه عبد.
ومن هذا الجنس قولهم: كل علم خير، وبعض العلوم للأشرار، وما هو للأشرار فهو شر، فبعض العلوم إذن خير وليس بخير. فإنه قد يظن أن المغالطة جاءت في هذا من قبل الاشتراك الذى في )لام(النسبة، وليس الأمر كذلك. فإنه لما أضفنا )اللام(إلى الأشرار، زال الاشتراك الذى فيها، كما لو قلنا: إن الإنسان هو للحيوان، لم يفهم أحد من هذه النسبة إلا معنى واحداً فقط، بل الغلط العارض فيه أنه من قبل أنه ظن أن ما عرض أن وجد للشرير فهو شر مطلق، وليس كذلك، وإنما هو شر من جهة أنه عرض له أن كان علماً لشرير، لا أنه شر بذاته، وبما هو علم.
قال: وإذا وضع الشىء الصادق مبسوطاً، أى من حيث هو في مقولة واحدة من المقولات إما جوهر، وإما كم، وإما كيف، وإما إضافة، لم يعرض له أن يظن به أنه قد لزم عنه نقيضه على ما يظن أنه يلزم ذلك في بعض الأشياء. وأما الأشياء التى يظن أنه يعرض عن وضعها نقيض ما وضع فهى الأشياء التى توجد مركبة من مقولات شتى، وبالجملة: من أجناس متباينة. لكن في الحقيقة إذا أخذ الشىء من حيث هو مركب مع جنس آخر فلزم عنه نقيضه، من حيث هو بسيط، فلم يلزم نقيضه بالحقيقة، وإنما ظن به أنه نقيض.
ولذلك نقض هذا إنما يكون بأن يظهر ذلك الشىء الذى ركب معه حتى ظن أنه لزم عن رفعه، وعن إيجابه سلبه. وجميع المغالطات التى تأتلف. من هذا الموضع، إذا تؤملت، ظهر أن هذا هو سبيلها، مثل قولهم: أرأيت، يا هذا، أليس مستحيلا أن يكون موجود من غير موجود? فإذا قال: نعم. قال: أليس هذا الفرس فرس موجود من غير موجود فرساً. فإذن يكون موجود عن غير موجود وعن موجود معاً. وذلك أن الموجود في القول الأول أخذ بسيطاً، وفى الثانى مركباً، فأنتج النقيض بسيطاً. وليس يمتنع في الموجود البسيط أن يكون غير الموجود المركب، أعنى أن يكون الموجود المطلق غير موجود فرساً.
وكذلك المغالطة التى يقال فيها: أليس أن يحلف المرء براً حسن، وأن يخلف فاجراً قبيح، فإذن أن يحلف حسن وقبيح معاً، وذلك أن الحلف لم يؤخذ في القولين بسيطاً، وإنها أخذ مركباً مع شيئين متضادين، فظن أنه يلزم عن ذلك أن يكون هو نفسه متضاداً. ولو أخذ )يحلف(بسيطاً ومطلقاً في الموضعين، لكان مستحيلا أن يظن به أنه عرض له عن وضعه رفعه.
ومن هذا الجنس قولهم: أرأيت الصحة أليست خيراً، وهى للشرير شر فالصحة خير وشر معاً.
ومثل قولهم: أليس الغنى لمن يستعمل المال في حقه خير، وهو للأشرار شر، فالغنى خير وشر معاً. إلى غير ذلك من المباكتات التى يستعملها أرسطو في هذا الباب. فهى كلها داخلة في هذا الجنس.
والسبب فيه هو هذا السبب بعينه. ووجه نقضها هو هذا الوجه بعينه، أعنى أن يتأمل حال المقدمات في أنفسها، وحالها عند النتيجة، فيعرف الشىء الذى فيه يختلف. إذ كان لا يمكن أن يلزم عن الشىء نقيضه. ولا يظن به ذلك إذا أخذ بسيطاً، بل إذا أخذ مركباً، كما قلنا.
قال: وينبغى للمجيب أن يتأمل القول المبكت الذى يعرض من قبل إهمال شروط النقيض: أما أولا فهل ذلك القول منتج لنقيض الوضع أم لا. ثم إن كان منتجاً، تأملنا هذا الحد الأوسط مأخوذ في المقدمتين بحال واحدة. أو بحالين مختلفين. وهل الطرفان الأ كبر والأصغر هما بأعيانهما المأخوذان في النتيجة بحال واحدة، أم بحالة تختلف. فإنه إذا تحفظ بهذه الأشياء لم يحدث عليه تبكيت من هذا الباب. وإذا سئل عن شىء واحد مرتين هل هو كذا، أو ليس بكذا، فلا يسلمه مطلقاً، ولكن يقول هو كذا من جهة كذا، وليس بكذا من جهة كذا. مثل أن يسئل هل الاثنان ضعف، أو غير ضعف، فيقول هى ضعف لكذا، وليست ضعفاً لكذا.
والمغالطات التى تكون من هذا الباب هى مثل قول القائل: أليس من يعرف الشىء لا يجهله، ومن يجهل الشىء لا يعرفه? فإذا قيل: نعم، قيل: وأنت تعرف زيداً أنه زيد، ولا تعرف أنه موسيقار، فأنت تعرفه وتجهله معاً.
قال: وأكثر ما ينبغى أن يتحفظ في المسائل التى تجمع مسئلتين في مسألة واحدة ألا يجاب فيها بالأمرين المتقابلين، إذا كانا موجودين في ذينك الشيئين اللذين سئل عنهما كأنهما شىء واحد. مثل أن يسئل عن رجلين: أحدهما صالح، والآخر طالح، فيقال: هل فلان وفلان صالح أو طالح، فيقول القائل: هما صالح وطالح. لأن ذلك صادق على مجموعهما. أو هما لا صالح، ولا طالح، لأن ذلك أيضاً صادق عليهما معاً.
فإنه إذا كان الجواب هكذا، أمكن للسوفسطائيين مغالطة كثيرة. وذلك أنهم يقولون: إن كان كلاهما صالحاً وطالحاً، فالصالح هو بعينه طالح، والطالح صالح، أو الطالح هو لا طالح، والصالح لا صالح.
قال: وليس يبرىء من هذا التغليط أن يأتى بلفظ الجمع إن كانت جماعة، ولا بلفظ التثنية إن كانا اثنين.
فلذلك لا ينبغى أن يكون الجواب في أمثال هذه الأشياء بالمقابلات، وإن كانت صادقة، فإنه يفتح للمشاغبين باباً كبيراً، وإن كان بيناً أنه لا يعرض عن ذلك مثل هذا الجواب حقيقة، لأن الذى يصدق على المجموع ليس بصادق على كل واحد منهم.
قال: وأما إذا سأل السائل بالموضع الذى يلجىء المجيب إلى التكرير، وهى، كما قلنا موضعان: أحدهما: في تعريف الأشياء التى من المضاف.
والثانى: في تحديد الأغراض التى تؤخذ في حدودها موضوعاتها.
فينبغى للمجيب إذا ما سئل عن الأشياء المضافة، وألجأه السؤال إلى التكرير، أن يبين أن هذه ليس يمكن أن يعرف جوهر أحدهما إلا بأن يؤخذ فيه الآخر إذا عرفت من حيث هى مضافة، لا من حيث هى مقولة أخرى. مثال ذلك أنه لا يعرف الضعف، بما هو ضعف، إلا بمعرفة النصف، وقد يمكن أن يعرف بذاته، لا من حيث هو من المضاف، بل من جهة أنه من الكمية، مثل أن يعرف أن الضعف اثنان أو أربعة، لكن من عرف أن الضعف اثنان أو أربعة فلم يعرف الإضافة، بل إنما عرف الموضوع للإضافة. وكذلك من عرف علماً من حيث هو في صناعة من الصنائع، كأنك قلت علم الطب، فإنما عرفه من حيث هو في باب الكيف، لا في باب المضاف. ولو عرفه في باب المضاف لما عرفه إلا بالشىء الذى يضاف إليه. وإن تبين بالجملة أنه ليس يعرض محال من التكرير فيما طبيعته تقتضى التكرير. وذلك أن من حد العشرة بأنها عدد يأتلف من واحد وواحد وواحد، حتى يكمل الأحاد التى فيها، فقد كرر ولم يأت بشىء مستحيل. وكذلك حدود الموجبة هى مكررة في حدود السالبة. وليس يلحق من ذلك استحالة. وذلك أن سلب قولنا: )أن يفعل(هو )ألا يفعل(، وهو تكرير للمحمول والموضوع. ومن جاوب بشىء سئل فيه هل هو أبيض أنه ليس بأبيض. فقد كرر، إلا أنه ليس أحد من الناس يرى أنه أتى بمستحيل.
وأما إذا ألجىء المجيب في السؤال عن حدود الأعراض التى يؤخذ في حدها الموضوع إلى التكرير، مثل أن يسئل: ما هو الأنف الأفطس، فيجيب بأنه الأنف الذى فيه التقعير الذى في الأنوف، فينبغى أن يبين له أن سؤاله هة الذى اضطره إلى التكرير، وذلك أنه لو سأل: ما هو الفطس، لكان الجواب أنه أنف عميق. وكان ذلك تفصيلا لما دل عليه الاسم. إذ كان هذا هو شأن الحدود مع الأسماء، أعنى أن يفهم الحد مفصلا الشىء الذى فهمه الاسم مجملا.
وأما وقد سأل: ما هو الأنف الأفطس، فانه لو جووب بأنه أنف عميق لم يكن فرق بين ما سأل عنه وبين ما جووب به، فكان بمنزلة من بدل اسما باسم. فلذلك احتيج أن يفصل له لفظ التقعير فيقال هو الأنف الذى فيه التقعير الموجود في الأنوف، إذ كان التقعير منه ما يوجد في الأنوف، ومن ما يوجد في الساقين وهو الذى يسمى فحجاً أو صككاً. لأن في هذا السؤال لم يبق شىء يفصل له إلا ما يدل عليه التقعير. وأيضاً فمع أن هذا شىء ضرورى بحسب هذا السؤال، فليس في هذا تكرير إذ كأنه إنما أشكل عليه معنى هذا التقعير ما هو. إذ كان التقعير يختلف بحيب الأعضاء التى هو فيها، ولا استحالة في ذلك، وإما المستحيل لو فهم هاهنا من التقعير التقعير الموجود في الساقين.
وأما الأقاويل المستغفلة التى يظن أن المفهوم عنها مستحيل وهى أحد الأشياء التى يسوق إليها المغلط، فلما كان الموضع الذى أعطى في عملها غير مشترك لنا ولهم، وكان أيضاً ما قال في نقض هذه المواضع خاصاً بلسانهم، أو غير مشترك لنا ولهم.
ونحن فينبغى لنا أن نتأمل هذا الجنس من الكلام في لسان العرب. فإن كان موجوداً. فنتأمل هل له مواضع ينشأ منها هذا الكلام، أم لا. وإن كان، فما الحيلة في نقضها.
وأبو نصر يرى أن هذا الجنس من الكلام هو الذى يسمى عياً في لسان العرب، وانه إنما يعرض من نقصان العبارة، كما أن الهذر إنما يعرض من زيادة العبارة.
فينبغى أن يفحص عن هذا كله، ويعرف ما هو منه عى بالحقيقة، وما هو عى بحسب الظن، ومن أى مواضع ينشأ أمثال هذا المعنى في كلام العرب، أو في كلام جميع الأمم، إن كان هاهنا عى مشترك لجميع الأمم.
قال: والكلام المضلل منه ما هو عسير معرفته، ومنه ما هو سهل معرفته. والعسير قد يكون من قبل عسر معرفة الموضع المغلط نفسه. وذلك أن بعضها أشد تغليطاً من بعض. وقد يختلف الموضع الواحد في العسر و السهولة بحسب المادة المستعمل فيها. وقد يعسر القول المغلط من قبل أن فيه أكثر من نوع واحد من أنواع الأشياء المغلطة، مثل أن يكون مغلطاً من قبل ما بالعرض، ومن قبل أشتراك الأسم، وغير ذلك من أنواع المواضع المغلطة.
والقول المغلط الشديد التغليط هو الذى لايوقف منه بسرعة على أن الكذب فيه إنما جاء من قبل شكل القياس، أو من قبل المقدمات، أو من كليهما جميعاً.
ثم بعده في العسر الذى يعلم منه أن الكذب فيه أنما هو من قبل المقدمات، ولايعلم من أى شىء عرض ذلك في المقدمات: هل من اللفظ، أو من المعنى.
ثم بعد هذا في السهولة: القول الذى يعلم أن الكذب في مقدماته من جهة، ولا يعلم في أى مقدمة هو ذلك بسرعة.
قال: والقول العسير الحل من هذه هو ما كانت المقدمات فيه أشهر من النتيجة، لأن القول الذى هو مثل هذا كثيراً ما يبطل المشهورات. وأكثر ما يخفى الأمر إذا كان السؤال عن طرفى نقيض ليس واحد منهما أشهر من الآخر، فإنه يعسر علينا أن نعرف أى الطرفين يسلم.
قال: والقول الهين الحل هو الذى يكون من الأمور التي ليست بمشهورة، أو من الشنيعة، أو القول الذى لم يتسلم من المجيب.
قال: وإذا سئل المجيب عن مقدمات مشهورة، فليس ينبغى أن يتهاون به، وإن كان غير مرتب لها، ولا عارفاً بتأويل القول.
ويجب أن يجعل النقض تارة بحسب القول، وتارة بحسب القائل بأن يعرفه أنه لم السؤال. فإن السؤال قد بحسب المسألة نفسها، وقد يكون بحسب المجيب، وقد يكون بحسب الوقت الحاضر.
قال: وإذ قد بلغنا هذا المبلغ من القول في هذه الصناعة، فقد تبين لنا من أين تكون الأقاويل المضللة للمتعلمين، وكذلك عددها، وكيف يرجع بعضها إلى الغلط في القياس، وكيف ينبغى أن يسئل من يروم تأليف الأقاويل التى من هذا الجنس، وكم الأغراض المقصودة في هذا الجنس من الكلام، وكيف تنقض ويجاب عنها. وذلك هو جميع ما كان مشوقاً لنا معرفته في هذه الصناعة. ولذلك ما ترى أنا قد فرغنا من القول في هذه الصناعة، ووقفنا على جميع أجزائها. والذى بقى لنا هو أن نقول في السبب الذى دعانا إلى النظر في هذه الصناعة على جهة التذكرة. وذلك أنا لما كنا مشتاقين إلى أن تكون عندنا قوانين نقدر أن نعمل منها أقيسة من مقدمات مشهورة على جهة السؤال والامتحان، وهى الأقيسة التي تستعملها صناعة الجدل، وقوانين نقدر بها أن نتحفظ من أن تؤلف علينا أمثال هذه الأقيسة، وكانت ها هنا أقيسة مرائية يظن بها أنها من هذا النوع، وليست بها، رأينا أن العلم بالجواب إنما يتم لنا في صناعة الجدل بمعرفة هذا النوع من الأقيسة التى تسمى المرائية، ومعرفة نقضها، فأردفنا النظر في صناعة الجدل في هذه الصناعة.
ولمكان هذا الذى قلناه، كان الجواب في صناعة الجدل أعسر من السؤال. ولذلك كان سقراط يعترف بأنه يحسن أن يسئل، ولا يحسن أن يجيب.
ولذلك رأينا ألا نكتفى من معرفة هذه الصناعة بأن نعلم الأشياء المغلطة، وكيف نسأل عنها فقط، بل وكيف نجيب عنها وننقضها.
فأما أنه إذ قد تكلمنا في أغراض هذا الجنس من القول، أعنى الأقاويل المغلطة والمواضع التى يؤلف منها هذا الجنس من القول، وكيف يسئل عنها حتى يكون فعلها أتم، وكيف يجاوب عنها وتنقض، فقد بلغنا من ذلك النهاية المتشوقة فأمر معروف بنفسه.
قال: وينبغى ألا يجهل ما عرض لنا في هذه الصناعة. فإن من الصنائع ما قد قيل في مبادئها، وإنما بقى منها على المتأخر تتميم تتميم تلك المبادىء، ومنها ما لم يقل في مبادئها شىء.
وهذه إذا شرع في النظر فيها، فقد يعسر على الناظر فيها أن يأتى في ذلك بشىء كثير من أجزاء تلك الصناعة، بل إن أتى، فإنما أتى في ذلك بشىء صغير يسير، إلا أنه، وإن كان صغيراً في القدر، فعسى أن يكون آثر من ذلك الشىء الكبير الذى يأتى به المتأخر تكميلا للصناعة التى قد فرغ المتقدم من مبادئها. وإنما كان ذلك كذلك، لأن القول في المبدأ عسير، والقول فيما بعد المبدأ سهل. ولذلك كان القول في المبدأ، وإن كان يسيراً في القدر، فهو عظيم في القوة. والقول فيما بعد المبدأ، وإن كان كثيراً، فهو صغيراً في القوة. وهذا بعينه عرض لنا في هذه الصناعة بالإضافة إلى سائر الصنائع المنطقية الأربع، فإنه لم نلف في هذه الصناعة شيئاً يتنزل منها منزلة المبدأ، ولا منزلة الجزء. وأما سائر الصنائع، فإنا، وإن لم نلف منها شيئاً يتنزل منزلة المبدأ، فقد ألفينا شيئاً يتنزل منزلة الجزء، مثل ما عرض في صناعة الخطابة. فإنه تعاور الكلام فيها قوم من القدماء حتى ألفينا جميع أجزائها قد كمل، لكن في المواد، إذ كانوا إنما تكلموا في ذلك من غير أن يتكلموا في الأشياء التى تتنزل منها منزلة المبادىء، وهى الأمور المشتركة للصنائع الخمس، مثل القول في القياس المطلق وما أشبهه من الأمور المشتركة. فأما هذه الصناعة فلم نجد فيها شيئاً يجرى مجرى المبدأ، ولا مجرى الجزء، وإنما وجدنا فيها أشياء كثيرة تجرى مجرى الأشخاص الموجودة من الصناعة عند أهل تلك الصناعة.
فكما أنه من لم يكن عنده من علم الصناعة إلا وجود عدد ما من أشخاصها التى تفعلها تلك الصناعة فليس عنده علم بالصناعة. مثال ذلك أن من لم يكن عنده من صناعة الخفاف إلا أشخاص من الخفاف محدودة، فليس عنده من صناعة الخفاف شىء، كذلك من تعاطى ممن سلف تعليم هذه الصناعة من غير أن يكون عنده منها إلا أقوال محدودة العدد، أعنى أقوالا سوفسطائية، فهو بمنزلة من رام تعليم الخفاف بأن يعطى الناس خفافاً من عنده، أو يقول لهم إن القدم ينبغى أن تصان بالخفاف، من غير أن يعرفهم من أى شىء تصنع الخفاف، ولا كيف تصنع.
وليس من العجيب تمام الصناعة لكثير من الناس، لكن العجب أن نتم الصناعة لواحد فقط. وإذا كان تتميم الصناعة للناس الكثيرين أمراً فاضلا جداً، فأفضل منه وأعجب إيجاد الصنائع بأسرها للواحد وإنشاؤها من المبدأ إلى المنتهى.
قال: ولمكان هذا قد يجب على كل من وقف على قولنا هذا أن يكون لنا منه شكر كثير وحمد عظيم على ما أنشأناه من هذه الصناعة وحصلناه من مبادئها وأجزائها.
فإن وجد في بعض أجزائها نقض، فليكن منه صفح عنا، وعذر لنا، لمكان الأشياء التى قلناها.
فهذا هو آخر ما ختم به هذا الرجل كتابه هذا. وقد نقلنا منه ما تأدى إلى فهمنا بحسب ما يسر لنا في هذا الوقت. وسنعيد فيه النظر إن فسح الله في العمر ويسر لنا أسباب الفراغ. فإن هذا الكتاب معتاص جداً، إما من قبل الترجمة، وإما من قبل أن أرسطو قصد ذلك فيه. ولم نجد فيه لأحد من المفسرين شرحاً لا على اللفظ، ولا على المعنى، إلا ما في الشفاء لأبى على بن سينا شيئاً من ذلك.
والكتاب الواصل إلينا من ذلك هو في غاية الاختلال، مع أن الرجل عويص العبارة. فمن وقف على كتابنا هذا، ورأى أنه قد نقص من كلامى شىء هو في كلامه، أو سقت شيئاً من كلامه على غير الجهة التى قصدها، فليعذرنى. فإن من يتعاطى فهم كلامه من غير أن يسبقه فيه غيره هو شبيه ممن يبتدىء الصناعة. ولذلك كثير مما أوردناه في ذلك إنما هو على جهة الظن والتخيل. وأنت تتبين ذلك إذا وقفت على نص كلامه في هذا. لكنى أرجو أنه لم يفتنا شىء من أجناس الأقوال التى أودعها هذا الكتاب، ولا من أغراضه الكلية. وإن كنا نشك أنه قد فاتنا كثير من الأشياء الجزئية، وكثير من جهة استعمال القول فيها، والتعليم لها. ولكن رأينا أن هذا الذى اتفق لنا في هذا الوقت خير كثير. وعسى أن يكوت كالمبدأ للوقوف على قوله على التمام لمن يأتى بعد، أو لنا إن وقع لنا فراغ وأنسأ الله في العمر. فانظروا كيف حال من يأتى بعد هذا الرجل في فهم ما قد كمل وتمم، فضلا عن أن يظن بأحد أنه يزيد عليه أو يتمم شيئاً نقصه.
وقد اعترف ابن سينا بهذا وقال إنه اليوم له ألف سنة، وكذا مائة من السنين ولم نجد أحداً زاد عليه في هذه الصناعة. قال: ونحن أيضاً فقد أجهدنا أنفسنا في ذلك زمان إكبابنا من هذه الأشياء واستقرينا جميع الأقاويل فلم نلف شيئاً يخرج عنها ولا يشذ إلا ما يتنزل منزلة اللاحق أو منزلة البسط لمجمل، أو كيف قال.
وأما أنت فقد يمكنك أن تقف من قولنا المتقدم في هذا الكتاب وقوف يقين أن ليس هاهنا مغلطات إلا تلك التى عددناها، أعنى ما يجب أن يعد جزءاً من الصناعة، وأن الموضع الذى يظن أن أبا نصر استدركه، وهو موضع الإبدال، هو شىء لم يخف على أرسطو، وأن الأمر فيه على أحد وجهين: إما ألا يكون مغلطاً بالذات وفى الأ كثر. فإن موضع الإبدال هو بالذات، كما علمنا أرسطو، خطبى أو شعرى.
وإما أن يكون معدوداً في المغلطات التى بالعرض، إن كان ولا بد واجباً أن يذكر في أجزاء هذه الصناعة.
وكذلك كثير مما زاد في باب المطلقات والمقيدات، وفى باب أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب، فيه كله نظر. وذلك أنه يشبه أن يكون بسطاً وشرحاً، ويشبه ألا يكون من الباب، أو يكون يوجد فيهما الأمران.
وقد اعترف ابن سينا بهذا وقال إنه اليوم له ألف سنة، وكذا مائة من السنين ولم نجد أحداً زاد عليه في هذه الصناعة. قال: ونحن أيضاً فقد أجهدنا أنفسنا في ذلك زمان إكبابنا من هذه الأشياء واستقرينا جميع الأقاويل فلم نلف شيئاً يخرج عنها ولا يشذ إلا ما يتنزل منزلة اللاحق أو منزلة البسط لمجمل، أو كيف قال.
وأما أنت فقد يمكنك أن تقف من قولنا المتقدم في هذا الكتاب وقوف يقين أن ليس هاهنا مغلطات إلا تلك التى عددناها، أعنى ما يجب أن يعد جزءاً من الصناعة، وأن الموضع الذى يظن أن أبا نصر استدركه، وهو موضع الإبدال، هو شىء لم يخف على أرسطو، وأن الأمر فيه على أحد وجهين: إما ألا يكون مغلطاً بالذات وفى الأ كثر. فإن موضع الإبدال هو بالذات، كما علمنا أرسطو، خطبى أو شعرى.
وإما أن يكون معدوداً في المغلطات التى بالعرض، إن كان ولا بد واجباً أن يذكر في أجزاء هذه الصناعة.
وكذلك كثير مما زاد في باب المطلقات والمقيدات، وفى باب أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب، فيه كله نظر. وذلك أنه يشبه أن يكون بسطاً وشرحاً، ويشبه ألا يكون من الباب، أو يكون يوجد فيهما الأمران.
وقد اعترف ابن سينا بهذا وقال إنه اليوم له ألف سنة، وكذا مائة من السنين ولم نجد أحداً زاد عليه في هذه الصناعة. قال: ونحن أيضاً فقد أجهدنا أنفسنا في ذلك زمان إكبابنا من هذه الأشياء واستقرينا جميع الأقاويل فلم نلف شيئاً يخرج عنها ولا يشذ إلا ما يتنزل منزلة اللاحق أو منزلة البسط لمجمل، أو كيف قال.
وأما أنت فقد يمكنك أن تقف من قولنا المتقدم في هذا الكتاب وقوف يقين أن ليس هاهنا مغلطات إلا تلك التى عددناها، أعنى ما يجب أن يعد جزءاً من الصناعة، وأن الموضع الذى يظن أن أبا نصر استدركه، وهو موضع الإبدال، هو شىء لم يخف على أرسطو، وأن الأمر فيه على أحد وجهين: إما ألا يكون مغلطاً بالذات وفى الأ كثر. فإن موضع الإبدال هو بالذات، كما علمنا أرسطو، خطبى أو شعرى.
وإما أن يكون معدوداً في المغلطات التى بالعرض، إن كان ولا بد واجباً أن يذكر في أجزاء هذه الصناعة.
وكذلك كثير مما زاد في باب المطلقات والمقيدات، وفى باب أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب، فيه كله نظر. وذلك أنه يشبه أن يكون بسطاً وشرحاً، ويشبه ألا يكون من الباب، أو يكون يوجد فيهما الأمران.
وقد اعترف ابن سينا بهذا وقال إنه اليوم له ألف سنة، وكذا مائة من السنين ولم نجد أحداً زاد عليه في هذه الصناعة. قال: ونحن أيضاً فقد أجهدنا أنفسنا في ذلك زمان إكبابنا من هذه الأشياء واستقرينا جميع الأقاويل فلم نلف شيئاً يخرج عنها ولا يشذ إلا ما يتنزل منزلة اللاحق أو منزلة البسط لمجمل، أو كيف قال.
وأما أنت فقد يمكنك أن تقف من قولنا المتقدم في هذا الكتاب وقوف يقين أن ليس هاهنا مغلطات إلا تلك التى عددناها، أعنى ما يجب أن يعد جزءاً من الصناعة، وأن الموضع الذى يظن أن أبا نصر استدركه، وهو موضع الإبدال، هو شىء لم يخف على أرسطو، وأن الأمر فيه على أحد وجهين: إما ألا يكون مغلطاً بالذات وفى الأ كثر. فإن موضع الإبدال هو بالذات، كما علمنا أرسطو، خطبى أو شعرى.
وإما أن يكون معدوداً في المغلطات التى بالعرض، إن كان ولا بد واجباً أن يذكر في أجزاء هذه الصناعة.
وكذلك كثير مما زاد في باب المطلقات والمقيدات، وفى باب أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب، فيه كله نظر. وذلك أنه يشبه أن يكون بسطاً وشرحاً، ويشبه ألا يكون من الباب، أو يكون يوجد فيهما الأمران.