→ فصل في الكلام في حكم الاختلاف | النبذ في أصول الفقه الظاهري المؤلف: ابن حزم |
فصول في الرواية والرأي ← |
- فصل لا يجوز تأخير البيان عن وقت وجوب العمل به
ولا يجوز تأخير البيان عن وقت وجوب العمل بذلك الأمر اذ في تأخيره إلباس , وقد أمنا ان يلبس الله تعالى علينا دينه بل هو مبين له على لسان من افترض عليه البيان وبالله تعالى التوفيق .
- فصل أقسام النسخ
والقرآن ينسخ القرآن والسنة تنسخ القرآن أيضا قال الله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }.
فإذ ذلك كذلك فالكل من عند الله وبوحيه تعالى سمى هذا كتابا وسمى هذا سنة وحكمة قال تعالى { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا }.
فان قيل السنة ليست مثلا للقرآن ولا خيرا منه وانما هي بيان للقرآن , قلنا ؛ وبالله تعالى التوفيق السنة مثل القرآن في وجوب الطاعة لهما اذا صحت السنة قال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } والنسخ بيان ورفع للأمر فالناسخ مبين أن حكم المنسوخ قد ارتفع وانتهى أمره قال تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم } .
وقد يأتي الخبر بما هو خير لنا مما جاء به القرآن من رفق وتخفيف والقرآن قد بين السنة أيضا قال تعالى { تبيانا لكل شيء }.
- فصل مايجوز فيه النسخ
والنسخ لا يجوز إلا في الأوامر أو في لفظ خبر معناه معنى الأمر ولا يجوز النسخ في الأخبار لأنه إن كان يكون كذبا وقد تنزه الله تعالى عن ذلك وكذلك الرسل واما دليل صحة النسخ فقول الله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } وبالله تعالى التوفيق
- فصل في الأوامر والنواهي
في الأوامر والنواهي واوامر االله تعالى ورسوله ﷺ كلها فرض ونواهي الله تعالى ورسوله ﷺ كلها تحريم ولا يحل لأحد أن يقول في شيء منها هذا ندب أو كراهية الا بنص صحيح مبين لذلك أو اجماع كما قلنا في النسخ قال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } .
ومعنى الندب والكراهية انما هو ان شئت أفعل وان شئت فلا أفعل هذا موضوعهما في اللغة ولا يفهم من أفعل ان شئت لا تفعل ولا يفهم من لا تفعل ان شئت افعل ومن ادعى هذا فقد جاء هو بالمحال .
وقد افترض الله تعالى علينا طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن قال هذا الأمر ندب وهذا النهي كراهية فانما يقول ليس عليكم ان تطيعوا هذا الأمر ولا هذا النهي وهذا خلاف لله عز وجل مجرد .
- فصل أقسام الإباحة
والاباحة تنقسم اقساما ثلاثة ندب يؤجر على فعله ولا يعصي بتركة ولا يؤجر وكراهية يؤجر على تركها ولا يعصي بفعلها ولا يؤجر ومباح مطلق لا يؤجر على فعله ولا على تركة ولا يعصي بفعله ولا بتركه .
- فصل في الأفعال
في الأفعال وأفعال النبي ﷺ على الندب لا على الوجوب الا ما كان منها بينا لأمر أو تنفيذا لحكم مثل قوله ﷺ {ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام}.
ثم نجد رسول الله ﷺ قد سفك دما أو انتهك بشرة أو استباح مالا او عرضا . فندري ان ذلك الفعل منه ﷺ فرض انفاذه لأنه لم يستبح شيئا من ذلك بعد التحريم الا بفرض واجب , هذا اذا كان مع ذلك قرينه أمر , مثل ان يخبر ان من فعل كذا فعليه كذا وكذا وعاقبوا من فعل كذا ثم يفعل هو ﷺ به فعلا ما فهو فرض فانه بيان لأمر فان تعرى من الأمر فانما هو اباحة بعد التحريم فقط لأننا على يقين من خروجه عن التحريم الى الاباحة وعلى شك من وجوبه .
برهان ما قلنا في الأفعال قول النبي ﷺ {لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك لكل صلاة} وكان هو ﷺ يكثر السواك لكل صلاة وكان انه لو أمرهم بذلك لوجب ولشق عليهم وأنه اذا لم يأمرهم لم يجب عليهم فعله.
وما حدثنا أيضا عبد الله بن يوسف ( ثنا ) أحمد بن فتح عبد الوهاب بن عيسى أحمد بن محمد أحمد بن علي مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله ﷺ فقال {يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله قال فسكت وقد قالها ثلاثا فقال رسول الله ﷺ لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ذروني ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فاذا امرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم واذا نهيتكم عن شيء فدعوه}.
وفيه تنبيه على بطلان القياس وعدم صدق ظنونه فإنه قاس الحج على الصلاة المتكررة في اليوم والليله خمس مرات وعلى الصوم الواجب في كل عام وعلى الزكاة في وجوبها اذا ما وجد ما يتعلق به فاجيب بالرد وأمر بما أمر الله تعالى به من ترك التعرض للسؤال وفيه دلاله على أن المسكوت عنه ليس لأحد أن يفتح فيه حكما .
- قال أبو محمد: هذان الخبران برهان صحيح في وجوب فرض وابطال دعوى الندب والوقف فيها وفي الآخر منهما أن ما أمر به فواجب أن يؤتى ما استطاع المأمور وما نهى عنه فواجب تركه وما ترك فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو عفو متروك فبالضرورة ندري أن ما خرج عن أن يأمر به أوينهي عنه فهو غير واجب ولا محرم وأفعاله خارجه عما أمر به وعما نهى عنه فهي غير واجبة ولا محظورة وأيضا فان الله تعالى يقول { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم } .
فصح ان ما لم ينزل به القرآن والوحي فهو معفو عنه وأفعاله ﷺ خارجه عما نزل القرآن بايجابه فهو عفو وقال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فقد جاء الوعيد على خلاف الأمر الذي هو بالنطق وقال تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فقد جعل تعالى لنا أن نأتسي بفعله ﷺ.
فإن قيل أن الله يقول { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } .
فإنه يدخل فيه فعله ﷺ لأن الأمر يعبر به عن الحال فنقول الأمر على خلاف ما يظن . أي الحال . وتوضيح ذلك وبالله تعالى التوفيق: لا يجوز هذا لأن تخفيف الله تعالى عنا بما سكت عنا فيه النبي ﷺ ولم ينزل به الوحي فضيلة والفضائل لا تنسخ وأيضا فان هذه الآية انما جائت بعقب ذكر المتسللين لِواذاً عنه , وعن دعائه فصح أن الأمر المذكور فيها انما هو الأمر بالقول فقط وأيضا فانه لا خلاف في أن أفعال النبي ﷺ ليست فرضا عليه بمجردها واذا ليست فرضا عليه لأن الأصل فيها غير فرض فمحال أن تصير بغير أمر بها فرضا علينا بالدعوى .
- قال أبو محمد رحمه الله تعالى وليس في قوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }.
حجة لمن قال بوجوب الأفعال لمجردها لأن الاتيان في لغة العرب هو الاعطاء ولا يقع في اللغة على الفعل اعطاء وانما هذا في الأوامر والنواهي لا سيما وقد وصل الآية بقوله عز وجل { وما نهاكم عنه فانتهوا }.
ولو كانت الأفعال لمجردها تفيد الوجوب لكان تكليفنا بما لا يطاق من المشي حيث مشى رسول الله ﷺ والأكل كما أكل والشرب كما شرب نعم والسكنى حيث سكن وما أشبه هذا .
ووجوب هذا باطل باجماع وخلاف لاتباعه ايضا لأن حقيقة ابتاعة ان نكون له ولم يفرض عليه مباحا لم يفرض علينا وما كان له ﷺ تركه كان لنا تركه وكان لنا فيه الفضل كما كان له فيه الفضل ولا مزيد .
ولا ينبغي ان نخص بعض الأفعال دون بعض ونفرق بين أقسامها بلا دليل الا فيما ورد منها فيه الأمر والأمر هو الموجب لها - لا هي لمجردها - فان قالوا فان الله تعالى قال { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } قالوا قوله تعالى { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } وعيد وتهديد . ثم قوله {فإن الله هو الغني الحميد} , تأكيد للوعيد والتهديد فإن هذا ليس كما تأوله وليس في قوله تعالى {فإن الله هو الغني الحميد} وعيد أصلا ولو كان ايجابا أو وعدا أو وعيدا لكان اللفظ على من كان يرجو الله واليوم الآخر فلما جاء النص بلفظ { لمن كان يرجو الله }.
صح أن ذلك لأهل هذه الصفة لا عليهم وهذا بين واضح .
وأيضا فانه لا يقال فيما هو فرض علينا : { لقد كان لكم في رسول الله } في وجوب هذا الفرض عليه {أسوة حسنة} وأيضا فاذا كانت الأفعال فرضا كما أن الأوامر فرض لم يبقى شيء يكون به ﷺ فيه أسوة حسنة فيبطل معنى الآية وفائدتها وهذا لا يجوز .
ووجه آخر وهو انما ندب الله تعالى الى التأسي بالنبي ﷺ في هذه الآية المسلمين لا الكفار والمسلمون هم الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ولم يندب قط كافرا الى التأسي بالنبي ﷺ بهذه الآية ولا منعوا أيضا من ذلك فبطل دعوى الوعيد في اللفظ جمله وبالله تعالى التوفيق.
واما قوله تعالى { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } فان هذه قضية قائمة بنفسها مكتفيه بحكمها غير متعلقه بما قبلها ولا ما قبلها مفتقر اليها ولا معلق بها ولا دليل على ذلك أصلا فحصلوا أيضا على دعوى ثانية بلا برهان وأيضا لو قلنا في قوله تعالى ومن يتول فان الله غني عمن تولى على ظاهر الآية وقال من يتولى انى ليس لي أسوة به عليه السلام ولا بما فيه من أسوة حينة فمن قال هذا فهو كافر فهذا هو المتولي عن الآية حقا لا من ترك ان يأتسي غير ممتنع ولا راغب عن التأسي ولو كان هذا لكان قولا لا دافع له وهذا بين جدا.
وأيضا فان القائلين بهذا تعلقوا بذلك في مسائل يسيرة جدا وتركوا مالا يحصي من أفعاله ﷺ فقد تناقضوا فان ادعوا اجماعا على انها ليست فرضا كانت دعوى زائدة وافتراء على الأمة وكل دعوى لا يقوم بصحتها دليل فهي باطله قال الله تعالى { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
- فصل آخر في منازعة الواحد توجب الرد الى القرآن والسنة
واذا خالف واحد من العلماء جماعة فلا حجة في الكثرة لأن الله تعالى يقول وقد ذكر أهل الفضل وقليل ما هم وقال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }.
ومنازعة الواحد منازعة توجب الرد الى القرآن والسنة ولم يأمر الله تعالى قط بالرد الى الأكثر والشذوذ هو خلاف الحق ولو أنهم أهل الأرض لا واحد .
برهان ذلك : أن الشذوذ مذموم , والحق محمود ولا يجوز أن يكون المذموم محمودا من وجه واحد ويسأل من خالف هذا عن خلاف الاثنين للجماعة ثم خلاف الثلاثة لهم ثم الاربعة وهكذا أبدا فان حد حدا كان متحكما بلا دليل فقد خالف أبو بكر رضى الله عنه جمهور الصحابة رضوان الله عليهم وشذ عن كلهم في حرب أهل الردة وكان هو المصيب ومخالفه مخظئا برهان ذلك القرآن الشاهد بقوله ثم رجوع جميعهم اليه .
- فصل في رفع الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه عن أمة محمد ﷺ
ولا حكم للخطأ ولا للنسيان ولا للاكراه الا حيث اوجب له النص حكما ولا فلا يبطل شيء من ذلك عملا ولا يصلح عملا مثال ذلك من أكره على المشي في الصلاة أو نسى فصلاته تامة ومن نسي فصلى قبل الوقت أو أكره على ذلك لم تجزه وهكذا في كل شيء.
برهان ذلك : قوله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وما صح عن النبي ﷺ أنه عفا لأمته عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
- فصل النية أساس لصحة الأعمال الشرعية
ولا يصح عمل من اعمال الشريعة الا بنية متصلة باول الشروع فيه لايحول بين النية والدخول في العمل زمان اصلا برهان ذلك قول الله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } وقوله ﷺ {انما الاعمال بالنيات ولكل امرىء مانوى} وقد صح ان اعمال الشريعة كلها عبادة ودين فلم يامر الله تعالى بنص القران الا ان نؤدى كل ذلك بالاخلاص والاخلاص هو القصد بالقلب الى ذلك وهو النية نفسها .
- فصل لايزول اليقين بالشك
وكل ما صح بيقين فلايبطل بالشك فيه سواء الطهارة والطلاق والنكاح والملك والعتق والحياة والموت والايمان والشرك والتمليك وانتقاله وغير ذلك .
برهان ذلك : قوله تعالى { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } والشك والظن شيء واحد لان كليهما امتناع من اليقين وان كان الظن اميل الى احد الوجهين الا انه ليس يقينا وما لم يكن يقينا فهو شك ولا يحل القطع به .