►معرفة الشعر والشعراء | معرفة أغلاط العرب | خاتمة الكتاب ☰ |
عقد له ابن جني بابًا في كتاب الخصائص قال فيه: كان أبو علي يروي وَجْهَ ذلك ويقول: إنما دخل هذا النحوُ كلامهم لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يستعصمون بها وإنما تهجُم بهم طباعهم على ماينطقون به فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القَصْد.
فمن ذلك ما أنشده ثعلب:
غدَا مَالِكٌ يَرْمِي نِسائي كأنما ** نسائي لِسَهْمَيْ مَالِكٍ غَرَضان
فيا رب فاترك لي جُهَيْمَةَ أَعْصُرًا ** فمَالِكُ موتٍ بالقضاء دَهانِي
هذا رجل مات نساؤه شيئا فشيئا فتظلّم من مَلَك الموت، وحقيقة لفظه غلط وفاسد وذلك أن هذا الأعرابي لما سمعهم يقولون مَلَك الموت وكثر ذلك الكلام سبق إليه أن هذه اللفظة مركبة من ظاهر لفظها فصارت عنده كأنها فعل، لأن ملكًا في اللفظ في صورة فَلَك وحَلَك فبنى منها فاعلًا فقال: مَالِك موت وعدّى مالكًا فصار في ظاهر لفظه كأنه فاعل؛ وإنما مالك هنا على الحقيقة والتحصيل مافل، كما أن ملكًا على التحقيق مَفل، وأصله مَلأك فألزِمت همزته التخفيف فصار ملكًا.
فإن قلت: فمن أين لهذا الأعرابي مع جفائه وغِلظ طبعه معرفةُ التصريف حتى يبنى من ظاهر لفظ مَلَك فاعلًا فقال مالك؟ قيل: هَبْهُ لا يعرف التصريف أتراه لا يحسن بطبعه وقوّة نفسه ولطف حسه هذا القَدْر هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم أو آلِفٌ لمذاهبهم لأنه وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصَّنْعَة فإنه يجدها بالقوّة ألا ترى أن أعرابيًا بايَع على أن يشرب عُلْبة لبن لا يتنحنح فلما شرب بعضها كدَّه الأمر فقال: كبش أملح فقيل له: ما هذا تنحنحت فقال: من تنحنح فلا أفلح أفلا تراه كيف استعان لنفسه ببحة الحاء واسْتَرْوَح إلى مُسْكِة النفس بها وعلّلها بالصُّوَيْت اللاحق في الوقت لها ونحن مع هذا نعلم أن هذا الأعرابي لا يعلم أن في الكلام شيئا يقال له حاء فضلًا عن أن يعلمَ أنها من الحروف المهموسة وأن الصوت يلحقها في حال سكنها والوقف عليها ما لا يلحقها في حال حركتها أو إدْرَاجها في حال سكونها في نحو بحر ودحن إلا أنه وإن لم يحسن شيئا من هذه الأوصاف صَنْعَة ولا علمًا فإنه يجدها طبيعة ووهمًا فكذلك الآخر لما سمع ملكًا وطال ذلك عليه أحسَّ من ملك في اللفظ ما يُحسه في حَلَك فكما أنه يقول أسود حالك قال هنا من لفظ ملك مَالك وإن لم يَدْرِ أن مثال ملك فَعل أو مَفل ولا أن مالكًا فاعل أو مافل ولو بنى من ملك على حقيقة الصنعة فاعل لقيل لائك كبائك وحائك.
قال: وإنما مكَّنت القول في هذا الموضع ليَقْوَى في نفسك قوّة حس هؤلاء القوم وأنهم قد يلاحظون بالمُنَّة والطباع ما لا نلاحظه نحن على طول المباحثة والسماع.
ومن ذلك همزهم مصائب وهو غَلَطٌ منهم وذلك أنهم شبَّهُوا مصيبة بصحيفة فكما همزوا صحائف همزوا أيضا مصائب وليست ياء مصيبة بزائدة كياء صحيفة لأنها عين عن واو وهي العين الأصلية وأصلها مُصْوِبة لأنها اسم فاعل من أصاب وكأن الذي سهل ذلك أنها وإن لم تكن زائدة فإنها ليست على التحصيل بأصْل وإنما هي بدل من الأصل والبدل من الأصل ليس أصلًا فهو مشبه للزائد من هذه الحيثية فعومل معاملَته.
ومن أغلاطهم قولهم: حَلأت السَّويق ورثأت زَوْحي بأبيات واستلأَمْتُ الحجر ولَبّأتُ بالحج وأما مَسيل فذهب بعضهم في قولهم في جمعه: أمْسِلة إلى أنه من باب الغَلَطِ وذلك أنه أُخذ من سال يسيل وهذا عندنا غيرُ غلط لأنهم قد قالوا فيه مَسَل وهذا يشهد بكون الميم فاء وكذلك قال بعضهم في مَعِين لأنه أخذه من العين وهو عندنا من قولهم: أمعن له بحقه إذا طاع له به فكذلك الماء إذا جرى من العين فقد أمعن بنفسه وأطاع بها.
ومن أغلاطهم ما يتعايَوْن به في الألفاظ والمعاني نحو قول ذي الرُّمة: * والجيدُ من أدْمَانةٍ عَنُودِ * وإنما يقال: هي أَدْماء والرجل آدم ولا يقال: أدمانة كما لا يقال حمْرانة وصفْرَانة. وقال:
حتى إذا دَوَّمَتْ في الأرض راجَعها ** كِبْرٌ ولو شاء نَجَّى نَفْسَهُ الهَرَبُ
وإنما يقال: دوّى في الأرض ودوَّم في السماء، ولذلك عير بعضهم على بعض في معانيهم كقول بعضهم لكثير في قوله:
فما روضة بالحَزْنِ ظاهرةُ الثرى ** يَمُج الندى جَثْجَانُهَا وَعَرارُها
بأطيبَ من أردان عَزَّةَ مَوْهنًا ** وقد أُوقِدَتْ بِالْعَنْبَرِ اللَّدْنِ نارُها
والله لو فعل هذا بأمَةٍ زَنْجِيّة لطاب ريحها ألا قلت كما قال سيّدك:
ألم تر أني كلمَّا جئت طارقًا ** وجدتُ بها طِيبًا وإن لم تَطَيَّبِ
وكان الأصمعي يَعيب الحطيئة فقال: وجدت شعره كله جيدًا فدل على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي الكلام على عواهنه جيده على رديئه. هذا ما أورده ابن جني في هذا الباب.
وقال ابن فارس في فقه اللغة: ما جعل اللهُ الشعراء معصومين يُوَقّوْن الغلط والخطأ فما صح من شعرهم فمقبول وما أبَتْهُ العربيةُ وأصولُها فمردود كقوله: * ألم يَأْتِيك والأَنباءُ تنمي * وقوله: * لما جفا إخوانُه مُصعبا * وقوله: * قفا عند مما تعرفان رُبُوع * فكله غلط وخطأ. قال: وقد استوفينا ما ذكرت الرواة أن الشعراء غلِطوا فيه في كتاب خُضارة؛ وهو كتاب نقد الشعر.
وقال القالي في أماليه: في قول الشاعر:
وألْين من مس الرخامات تلتقي ** بمارية الجَادِيُّ والعنبر الورد
غلِط الأعرابي لأن العنبر الجيد لا يوصف إلا بالشُّهْبَة.
وقال ابن جني: اجتمع الكُمَيت مع نُصَيْب فأنشد الكُمَيت: * هل أنت عن طلب الأيفَاع منقلبُ * حتى إذا بلغ إلى قوله:
أم هل ظعائنُ بالعَلْيَاء نافعة ** وإنْ تكامل فيها الدَّلُّ والشَّنَبُ
عقد نُصيب بيده واحدًا، فقال: الكُميت: ما هذا فقال: أُحْصِي خطأك تباعدت في قولك الدل والشنب ألا قلت كما قال ذو الرُّمة:
لمياء في شَفَتَيْها حُوَّة لَعس ** وفي اللِّثات وفي أنيابها شَنَب
ثم أنشده: * أبت هذه النفس إلا ادكارا * حتى إذا بلغ إلى قوله:
[ إذا ما الهجارس غنّينها ** يجاوبن بالفلوات الوبارا
فقال له نصيب: الفلوات لا تسكنها الوبار. ]
فلما بلغ إلى قوله:
كأن الغُطَامِط من حليها ** أراجيز أَسْلَمَ تهجو غِفارًا
قال نُصَيب: ما هجت أسلُم غِفارًا قط فوجِم الكميت!
وقال ابن دريد في أواخر الجمهرة: باب ما أجروه لى الغلط فجاؤوا به في أشعارهم:
قال الشاعر:
وكُلُّ صَمُوتٍ نَثْلةٍ تُبَّعِيّةٍ ** ونَسْجُ سُلَيْمٍ كلَّ قَضَاء ذائل
أراد سليمان؛ وذائل أي ذات ذيل. وقال آخر: * من نَسْجِ داوود أبي سلّام * يريد سليمان. وقال آخر: * جَدْلاء محكمة من صنْع سلّام * يريد سليمان. وقال آخر: * وسائلة بِثَعْلَبَة بن سير* يريد ثَعْلبة بن سيار. وقال آخر: * والشيخ عثمان أبو عفانا * يريد عثمان بن عفان. وقال آخر:
فإن تنسنا الأيامُ والعصر تعلمي ** بني قارب أنا غِضاب لمعبد
أراد عبد الله لتصريحه به في بيت آخر من القصيدة. وقال آخر: * هوى بين أطراف الأسنة هَوْبَرُ * يريد ابن هوبر. وقال آخر:
صبحن من كاظمة الحصن الخرب ** يحملن عباس بن عبد المطلب
يريد عبد الله بن عباس. وقال آخر: * كأحمر عادٍ ثم تُرْضِع فَتَفطِم * وإنما أراد كأحمر ثمود. وقال آخر: * ومِحْورٍ أخْلِصَ مِنْ ماءِ اليَلَبْ* فظن أن اليَلَب حديد وإنما اليَلَبُ سيور تنسج فتلبس في الحربِ. وقال آخر: * كأنه سِبْط من الأسباط * فظن أن السِّبط رجل وإنما السِّبْط واحد الأسباط من بني يعقوب. وقال آخر: * لم تَدْرِ مَا نَسْجُ اليَرَنْدَجِ قَبْلَهَا * ظن أن اليَرَنْدَجَ ينسج وإنما هو جلد يصبغ. وقال آخر:
لما تحاملت الحمول حسبتُها ** دوما بأثَلة ناعما مكموما
والدَّوم: شجر المقل والمكموم لا يكون إلا النخل، فظن أن الدَّوم النخل. وقال آخر يصف درّة:
فجَاء بها ما شِئْتَ من لَطَمِيّةٍ ** يدوم الفرات فَوْقَها وَيَمُوج
فجعل الدر من الماء العذب وإنما يكون في الماء الملح. وقال آخر يصف الضفادع:
يَخْرُجْنَ من شَرَبات ماؤها طَحِل ** على الجذوع يَخَفْنَ الغَمْرَ والغرقا
والضفادعُ لا َيَخَفَنَ الغَرَق. وقال آخر: * تفض أم الهام والتَّرائِكا * والترائك: بيض النعام فظن أن البيض كله ترائك. وقال آخر:
بريّة لم تأكل المُرَقَّقا ** ولم تَذُقْ من البقول الفُسْتُقا
فظن أن الفُسْتُق بَقْل. وقال آخر:
فهل لكمو فيها إليّ فإنني ** طبيب بما أعيا النِّطَاسيّ حِذْيَما
يريد ابن حِذْيم وقال آخر: * شُعْبَتا مَيْس براها إسْكَاف * فجعل النجار إسْكافًا. قال أبو عبد الله بن خالويه: ليس هذا غلطًا، العرب تسمي كل صانع إسكافا.
وقال ابن دريد في الجمهرة: قال رُؤْبَة:
هل يُنْجِيَنِّي حَلِفٌ سِختِيتُ ** أو فضة أو ذهب كبريتُ
قال: وهذا مما غلط فيه رؤبة فجعل الكبريت ذهبًا.
وقال أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات: قول زهير:
فَتُنْتَجْ لكمْ غِلْمَان أَشْأَم كُلُّهُمْ ** كأحمرِ عاد ثم تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
قال: يريد كأحمر ثمود فغلط قال: ومثله قول امرئ القيس:
إذا ما الثُّريا في السماء تَعَرَّضَت ** تَعَرُّض أثناء الوشَاح المُفَصَّل
قالوا: أراد بالثُّريا الجوزاء فغلط وتأوَّله آخرون على أن معنى تعرضت اعترضت قال: ويقال: إنها تعترض في آخر الليل ويقال: إنها إذا طلعت طلعت على استقامةٍ فإذا استقلت تعرّضت.
وفي شرح الفصيح لابن خالويه: كان الفراء يجيز كسر النون في شَتَّان تشبيهًا بسِيان وهو خطأ بالإجماع فإن قيل: الفراء ثقة ولعله سمعه فالجواب: إن كان الفراء قاله قياسًا فقد أخطأ القياس وإن كان سمعه من عربي فإن الغلط على ذلك العربي لأنه خالف سائر العرب وأتى بلغة مرغوب عنها.
فصل
ويلحق بهذا أكاذيب العرب وقد عقد لها أبو العباس المبرد بابًا في الكامل فقال: حدثني أبو عمر الجرمي قال: سألت مقاتل الفرسان أبا عبيدة عن قول الراجز:
أهَدَّمُوا بَيْتَكَ لا أَبا لَكَا ** وَأَنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا
فقلت: لمن هذا الشعر قال: تقول العرب: هذا يقوله الضَّبُّ لِلْحِسْل أيام كانت الأشياء تتكلم.
قال: وحدثني غير واحد من أصحابنا قال: قيل لرؤبة: ما قولُك:
لَوْ أَنَّنِي عُمِّرْتُ عمرَ الحِسْل ** أو عُمْرَ نوحٍ زَمَنَ الفِطَحْل
ما زمن الفِطَحْل قال: أيام كانت السِّلامُ [1] رطَابًا. وبعد هذا البيت: * والصَّخْرُ مُبْتَلٌّ كمثل الوَحَل *
قال: وحدثني سُليمان بن عبد الله عن أبي العَمَيْثَل مولى العباس بن محمد قال: تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرّة علي فرس لي فإذا أنا بظُلْمَةٍ شديدة فَيَمَّمْتُها حتى وصلتُ إليها فإذا قطعةٌ من الليل لم تَنْتَبِه فما زلت أحمل عليها بفرسي حتى أَنْبَهْتُها فانجابت فقال الآخر: لقد رميت ظبيًا مرة بسهم فعدل الظَّبْيُ يَمنة فعدل السهم خلفه فَتياسر الظبي فتياسر السهم ثم علا الظبيُ فعلا السهم خلفه ثم انحدر فانحدر حتى أخذه.
قال: وحدثني التوّزي قال: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب فقال: إن العجم تكذب أيضا فتقول: كان رجل نصفُه من نحاس ونصفُه من رصاص فتعارِضُها العرب بهذا وما أشبهه.
هامش
- ↑ السِّلام: الحجارة.