الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الطلاق/تعريف الطلاق


تعريف الطلاق


هو مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك ومنه طلقت البلاد أي تركتها .

هو جائز بنص الكتاب العزيز ، ومتواتر السنة المطهرة ، وإجماع المسلمين ، وهو قطعي من قطعيات الشريعة ولكنه يكره مع عدم الحاجة وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث ثوبان قال : قال رسول الله (ﷺ) أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة وأخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي (ﷺ) قال : أبغض الحلال إلى الله الطلاق .

وقال في الحجة البالغة : إن في الإكثار من الطلاق وجريان الرسم بعدم المبالاة به مفاسد كثيرة . وذلك أن ناساً ينقادون لشهوة الفرج ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل ولا التعاون في الارتفاقات ولا تحصين الفرج ، وانما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء وذوق لذة كل امرأة ، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح . ولا فرق بينهم وبين الزناة من جهة ما يرجع إلى نفوسهم وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح والموافقة لسياسته المدنية وهو قوله (ﷺ) لعن الله الذواقين والذواقات انتهى .

أقول : هذا الحديث ذكره صاحب الحجة تبعاً لابن همام من غير تخريج ولم أجده في كتب الحديث مخرجاً . نعم حديث لا أحب الذواقين من الرجال والذواقات من النساء رواه الطبراني عن أبي موسى مرفوعاً ، وكذا الدارقطني في الإفراد ، وهو في الجامع الصغير للسيوطي بلفظ إن الله لا يحب الخ . قال شراحه وفي سنده راو لم يسم . وأما حديث إن الله يكره المطلاق الذواق فقال السخاوي : لا أعرفه كذلك . ثم قال في الحجة : وأيضا ففي جريان الرسم بذلك إهمال لتوطين النفس على المعاونة الداعية أو شبه الداعية ، وعسى إن فتح هذا الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شئ من محقرات الأمور فيندفعان إلى الفراق . وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة والاجماع على إدامة هذا النظم . وأيضاً فإن اعتيادهن بذلك وعدم مبالاة الناس به وعدم حزنهم عليه يفتح باب الوقاحة . وأن لا يجعل كل منهما ضرر الآخر ضرر نفسه . وأن يخون كل واحد الآخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق وفي ذلك ما لا يخفى ومع ذلك لا يمكن سد هذا الباب والتضييق فيه فإنه قد يصير الزوجان متناشزين إما لسوء خلقهما أو لطموح عين أحدهما إلى حسن إنسان آخر أو لضيق معيشتهما أو لخرق واحد منهما ونحو ذلك من الأسباب . فيكون إدامة هذا النظم مع ذلك بلاء عظيماً وحرجاً انتهى .

من مكلف مختار لأن أمر الصغير إلى وليه . وطلاق المكره لا حكم له . والأدلة على هاتين المسألتين مقررة في مواضعهما . وقال (ﷺ) لا طلاق ولا عتاق في إغلاق معناه في إكراه وطلاق المكره هدر .

ولو هازلاً وهو الذي يتكلم من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب ونقيضه الجاد من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وابن ماجة والترمذي وحسنه والحاكم وصححه قال قال رسول الله (ﷺ) ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب ابن أردك وهو مختلف فيه . وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني مرفوعاً ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق وفي إسناده ابن لهيعة . وعن عبادة بن الصامت عند الحرث بن أسامة في مسنده مرفوعاً بنحوه وزاد فمن قالهن فقد وجبن وفي إسناده انقطاع . وعن أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ، ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز ، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز وفي إسناده أيضاً انقطاع . وعن علي موقوفاً عند عبد الرزاق أيضاً وعن عمر مرفوعاً عنده أيضاً. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً . قال ابن القيم : وأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور وكذلك نكاحه صحيح كما به النص وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور حكاه أبو حفص أيضاً عن أحمد وهو قول الصحابة وقول طائفة من أصحاب الشافعي . وذكر بعضهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه . ومذهب مالك رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه إن هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع انتهى .

لمن كانت في طهر لم يمسها فيه ولا طلقها في الحيضة التي قبله أو في حمل قد استبان أقول : ويشترط في طلاق السنة أن لا تكن المرأة حائضاً وهذا لغضبه (ﷺ) على ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض كما في الصحيحين وغيرهما . وأما اشتراط أن لا تكون نفساء فلأن قوله (ﷺ) في حديث ابن عمر ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإذا بدا له أن يطلقها فليطلقها فهذا فيه ان طلاق السنة يكون حال الطهر ، والنفاس ليس بطهر ، وأما اشتراط أن يكون في طهر لم يجامعها فيه فلقوله (ﷺ) في حديث ابن عمر فليطلقها قبل أن يمسها يعني في ذلك الطهر . وأما اشتراط أن لا يطلقها في ذلك الطهر أكثر من طلقة فلما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم أراد ان يتبعها تطليقتين أخريين عند القرء فبلغ ذلك النبي (ﷺ) فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله إنك قد أخطأت السنة ، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قر وفي لفظ في كل قرء تطليقة وقد أنكر الحافظ ابن حجر هذه الرواية . وأخرج النسائي من حديث محمود ابن لبيد قال : أخبر رسول الله (ﷺ) عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهر كم وأما اشتراط أن لا يطلقها في طهر قد طلقها في حيضه المتقدم ، فلأمره (ﷺ) لابن عمر أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر . فلولا أن الطلاق في الحيض مانع من الطلاق في الطهر المتعقب له لم يأمره بإمساكها في الطهر الذي عقب الحيضة التي طلقها فيها . وجميع ما ذكرناه من حديث ابن عمر متفق عليه إلا رواية الدارقطني التي ذكرناها . وفي رواية من حديث ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنسائي أن النبي أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك وفي لفظ لمسلم أيضاً والترمذي مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً وظاهر هاتين الروايتين ، أن الطلاق في الطهر المتعقب للحيضة التي وقع الطلاق فيها ، يكون طلاق سنة لا بدعة. ولكن الرواية الأولى التي فيها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر متضمنة لزيادة يجب العمل بها . وهي أيضاً في الصحيحين فكانت أرجح من وجهين . ويدل على قوله أو حاملاً ، إن طلاق الحامل للسنة وأما من كانت صغيرة أو آيسة أو منقطعاً حيضها فالظاهر أنه يكون طلاقها للسنة من غير شرط إلا مجرد افراد الطلاق . وأما القول بأنه ليس بسنة ولا بدعة كما في البحر وغيره ففاسد لأن الأصل عدم عروض ما يمنع من الطلاق المشروع .

ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة لحديث ابن عمر عند مسلم وأهل السنن وأحمد أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي (ﷺ) فقال : مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً وفي لفظ أنه قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها قبل أن يمسها ، فتلك العدة كما أمر الله وهو في الصحيحين وغيرهما . وفي رواية في الصحيح أنه قرأ النبي (ﷺ) يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وللحديث ألفاظ . ووقع الخلاف بين الرواة هل حسبت تلك الطلقة أم لا ؟ ورواية عدم الحسبان لها أرجح . وقد أوضح الماتن هذه المسألة في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة والخلاف طويل والأدلة كثيرة ، والراجح عدم وقوع البدعي لما ذكره هنالك . وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله (ﷺ) : ليس ذلك بشئ وقد روى ابن حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك وإسناده صحيح وقد تابع أبا الزبير الراوي لعدم الحسبان لتطليقة ابن عمر المذكورة في الحديث أربعة عبد الله بن عمر العمري ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رواد ويحيى بن سليم وإبراهيم بن أبي حسنة ولو لم يكن في المقام إلا قول الله عز وجل يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وقد تقرر أن الأمر بالشئ نهى عن ضده ، والنهي يقتضي الفساد . وقول الله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان والمطلق على غير ما أمر الله تعالى به لم بسرح بإحسان . وقد ذهب إلى عدم الوقوع جماعة من السلف كابن علية وإليه ذهب ابن حزم وابن تيمية . وذهب الجمهور إلى الوقوع .

وفي وقوعه أقول : هذه المسألة من المعارك التي لا يجول في حافاتها إلا الأبطال ، ولا يقف على تحقيق الحق في أبوابها إلا أفراد الرجال . والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب . فمن رام الوقوف على سرها فعليه بمؤلفات ابن حزم كالمحلي . ومؤلفات ابن القيم كالهدي . وقد جمع السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفاً حافلاً . وجمع الإمام الشوكاني رسالة ذكر فيها حاصل ما يحتاج إليه من ذيول المسألة وقرر ما ألهم الله إليه وذكر في شرح المنتقى أطرافاً من ذلك .

وخلاصة ماعول عليه القائلون بوقوع الطلاق البدعي هو اندراجه تحت الآيات العامة وتصريح ابن عمر بأنها حسبت تلك طلقة . وأجاب القائلون بعدم الوقوع عنهم بمنع اندراجه تحت العمومات لأنه ليس من الطلاق الذي أذن الله به ، بل هو من الطلاق الذي أمر الله بخلافه قال فطلقوهن لعدتهن وقال (ﷺ)  : مره فليراجعها وصح أنه غضب عند أن بلغه ذلك وهو لايغضب مما أحله الله . وأما قول ابن عمر : أنها حسبت فلم يبين من الحاسب لها ، بل أخرج عنه أحمد وأبو داود والنسائي أنه طلق امرأته وهي حائض فردها رسول الله (ﷺ) ولم يرها شيئاً وإسناد هذه الرواية صحيح ولم يأت من تكلم عليها بطائل ، وهي مصرحة بأن الذي لم يرها شيئاً هو رسول الله (ﷺ) فلا يعارضها قول ابن عمر لأن الحجة في روايته لا في رايه . وأما الرواية بلفظ مره فليراجعها ويعتد بتطليقه فهذه لو صحت لكانت حجة ظاهرة ولكنها لم تصح كما جزم به ابن القيم في الهدي . وقد روي في ذلك روايات في أسانيدها مجاهيل وكذابون لا تثبت الحجة بشئ منها .

والحاصل أن الاتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السنة يقال له طلاق بدعة . وقد ثبت عنه (ﷺ) أن كل بدعة ضلالة . ولا خلاف أيضاً أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه وبينه رسول الله (ﷺ) في حديث ابن عمر . وما خالف ما شرعه الله ورسوله (ﷺ) فهو رد لحديث عائشة عنه (ﷺ) كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهو حديث متفق عليه . فمن زعم أن هذه البدعة يلزم حكمها وأن هذا الأمر الذي ليس من أمره (ﷺ) يقع من فاعله ويعتد به لم يقبل منه ذلك إلا بدليل وإذا كان من جلمة طلاق البدعة ايقاع الثلاث دفعة كما سيأتي فهذه الصورة من طلاق البدعة بخصوصها .

ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف قال الماتن في رسالته في هذا الباب : اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال : الأول وقوع جميعها وهو مذهب الأئمة وجمهور العلماء وكثير من الصحابة وفريق من أهل البيت . الثاني عدم الوقوع مطلقاً لا واحدة ولا ما فوقها لأنه بدعة محرمة وهذا المذهب حكاه ابن حزم . وحكى للإمام أحد ما يكفي وقال : هو مذهب الرافضة

قلت : بل هو مذهب جماعة من التابعين كما حكاه الليث ومذهب ابن علية وهشام بن الحكم وجميع الأمامية ومن أهل البيت عليهم السلام الباقر والصادق والناصر وبه قال أبو عبيدة وبعض الظاهرية لأن هؤلاء قالوا : إن الطلاق البدعي لا يقع والثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة لا يقع . الثالث وقع الثلاث أن كانت المطلقة مدخولة وواحدة إن لم تكن كذلك وهذا هو مذهب جماعة من أصحاب ابن عباس واسحق بن راهوية . الرابع أنه يقع واحدة رجعية من غير فرق بين المدخول بها وغيرها وهذا مذهب ابن عباس على الأصح وابن اسحق وعطاء وعكرمة وأكثر أهل البيت وهذا أصح الأقوال انتهى . ثم سرد أدلة هؤلاء ورجح القول الرابع فليرجع إليه .

قال ابن القيم : قد صح عنه صلى الله عليه تعالى وآله وسلم أن الثلاث كانت واحدة في عهده وعهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر وغاية ما يقدر مع بعده أن الصحابة كانوا على ذلك ولم يبلغه . وهذا وإن كان كالمستحيل فإنه يدل على أنهم كانوا يفتون في حياته وحياة الصديق بذلك . وقد أفتى هو (ﷺ) فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أخذ باليد ولا معارض لذلك . ورأى عمر رضي الله تعالى عنه أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجراً لهم لئلا يرسلوها جملة وهذا إجتهاد منه رضي الله تعالى عنه غايته أن يكون سائغاً لمصلحة رآها ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله (ﷺ) وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته . فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء وبالله التوفيق انتهى .

الراجح عدم الوقوع قال الماتن ذهب الجمهور إلى أنه يقع وأن الطلاق يتبع الطلاق . وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطالق بل يقع واحدة . وقد حكي ذلك عن أبي موسى وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى ورواية عن علي ورواية عن زيد بن علي وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تميمة والحافظ ابن القيم وقد حكاه ابن مغيث في كتاب الوثائق عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير وحكاه أيضاً عن جماعة من مشايخ قرطبة ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس . واستدل الجمهور بحديث ركانة بن عبد الله أنه طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي (ﷺ) بذلك فقال : والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله (ﷺ)  : والله ما أردت إلا واحد قال ركانة : والله ما أردت إلى واحدة فردها إليه أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وصححه أبو داود وابن حبان والحاكم وفي إسناده أيضاً الزبير بن سعيد الهاشمي . وقد ضعفه غير واحد وقيل أنه متروك . وفي إسناده أيضاً نافع بن عجير وهو مجهول ومتنه أيضاً مضطرب كما قال البخاري ففي لفظ منه أنه طلقها ثلاثاً وفي لفظ واحدة وفي لفظ البتة وقال أحمد : طرقه كلها ضعيفة . وأما استدلالهم بقوله تعالى الطلاق مرتان وبقوله فإن طلقها فلا تحل له فليس في ذلك من الحجة شئ بل هو عليهم لا لهم . وقد حقق هذا صاحب الهدي بما يشفي . وقد ورد ما يدل على أن الطلاق يتبع الطلاق وليس في الصحيح شئ من ذلك . وأرجح من الجميع والحجة في هذا المقام حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم وغيره أن الطلاق كان على عهد رسول الله (ﷺ) وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر الثلاث واحدة فلما كان في عهد عمر تتابع الناس فأجازه عليهم انتهى . وكل رجال إسناده أئمة وله ألفاظ وأسانيد وفي لفظ أن أبا الصهباء قال له ألم تعلم أن الثلاث كانت واحدة على عهد رسول الله (ﷺ) وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر قال نعم ولم يأت من حاول التخلص عنه بحجة تنفق . والتمسك بما في بعض الروايات من تقييد ذلك بالطلاق قبل الدخول لا وجه له . فإن الطلاق لا يتفاوت الحال فيه قبل الدخول وبعده وإذا ثبت الحكم في أحدهما ثبت في الآخر ومن ادعي الفرق فعليه إيضاحه . وفي حديث محمود بن لبيد أن رسول الله (ﷺ) أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثاً جمعاً فقام غضبان فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال : يارسول الله ألا أقتله وقد أخرجه النسائي بإسناد صحيح . وروى البيهقي عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول الله (ﷺ) كيف طلقتها ؟ فقال : طلقتها ثلاثاً فقال : في مجلس واحد قال : نعم قال : إنما تلك واحدة إن شئت فراجعها وأخرج نحوه عبد الرزاق ، وأبو داود من حديثه ، وهذا خلاصة الحجج في هذه المسألة وهي طويلة الذيول ، كثيرة النقول ، متشعبة الأطراف ، قديمة الخلاف ، والإحاطة بجميع ما فيها من الأقوال وأدلتها وتصحيحها يحتمل مصنفاً مستقلاً ، وقد جمع في ذلك شيخنا العلامة الشوكاني رسالة بسط فيها بعض البسط ، وقد امتحن بهذه المسألة جماعة من العلماء منه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وجماعة ممن بعده ، والحق بأيديهم ، ولكن لما كان مذهب الأربعة الأئمة أن الطلاق يتبع الطلاق ، كان المخالف لذلك عند عامة أتباعهم ، وكثير من خاصتهم كالمخالف للإجماع . وقد ظهر مما سقناه ههنا من الأدلة والنقول أن الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد أو ألفاظ في مجلس واحد من دون تخلل رجعة يقع واحدة ، وإن كان بدعياً فتكون هذه الصورة من صور الطلاق البدعي واقعة مع إثم الفاعل دون سائر صور البدعي فلا يقع الطلاق فيها لما قدمنا تحقيقه ، وأطال ابن القيم في تخريج أحاديث الباب والكلام عليها ، وأثبته بالكتاب ، والسنة ، واللغة ، والعرف ، وعمل أكثر الصحابة . ثم قال بعد ذلك فهذا كتاب الله تعالى ، وهذه سنة رسول الله (ﷺ) ، وهذه لغة العرب ، وهذا عرف التخاطب ، وهذا خليفة رسول الله (ﷺ) والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب . فلو عدهم العاد بأسمائهم واحداً واحداً أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى ، وإما بإقرار عليها ، ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكراً للفتوى به بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا ، وساكت غير منكر . هذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر ، وهم يزيدون على الألف قطعاً كما ذكر يونس بن بكير عن أبي اسحق . فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى أو إقرار أو سكوت . ولقد ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه بل لم يزل فيهم من يفت به قرناً بعد قرن وإلى يومنا هذا . فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال : أنت طالق ثلاثاً بفم واحد فهي واحدة . وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف حكاه عنهما ابن وضاح . وأما التابعون فأفتى به عكرمة وطاوس وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد بن اسحق وحلاس بن عمرو والحارث العكلي . وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه وأفتى به بعض أصحاب مالك وأفتى به بعض الحنفية وأفتى به بعض أصحاب أحمد . والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب ، والسنة ، والقياس ، والإجماع القديم ، ولم يأت بعده إجماع يبطله . ولكن رأي أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أن الناس استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم ايقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه . والذي ندين الله تعالى به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله (ﷺ) ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان انتهى حاصله . وتمام هذا البحث في إعلام الموقعين وإغاثة اللهفان للحافظ ابن القيم ، وفي رسالة مستقلة للماتن ، وفي كتابنا مسك الختام فليرجع الطالب إليها إن أراد التفصيل والتحقيق وبالله التوفيق .

وأما التفريق بين المعسر وبين امرأته فأقول : إذا كانت المرأة مثلاً جائعة ، أو عارية في الحالة الراهنة فهي في ضرار ، والله تعالى يقول ولا تضاروهن وهي أيضاً غير معاشرة بالمعروف والله يقول وعاشروهن بالمعروف وهي أيضاً غير ممسكة بمعروف ، والله يقول فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان بل هي ممسكة ضراراً ، والله يقول ولا تمسكوهن ضراراً والنبي (ﷺ) يقول لا ضرر ولا ضرار وقد ثبت في الفسخ بعدم النفقة ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعاً قال : قال رسول الله (ﷺ) في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته يفرق بينهما وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق عن سعيد ابن المسيب ، وقد سأله سائل عن ذلك فقال : يفرق بينهما . فقيل له سنة فقال نعم سنة . وما زعمه ابن القطان من توهيم الدارقطني فليس بظاهر . ثم من أعظم ما يدل على جواز الفسخ بعد النفقة أن الله سبحانه قد شرع الحكمين بين الزوجين عند الشقاق وجعل إليهما الحكم بينهما . ومن أعظم الشقاق أن يكون الخصام بينهما في النفقة . وإذا لم يمكنهما دفع الضرر عنها إلا بالتفريق كان ذلك إليهما . وإذا جاز ذلك منهما فجوازه من القاضي أولى . فإن قلت : تجويزك الفسخ للنفقة بتلك الأدلة العامة يستلزم جوازه من القاضي أولى . فإن قلت : تجويزك التضرر بها على أحد الزوجين قلت : النفقة وتوابعهما واجبة للزوجة على زوجها وليس ما يفوت بسبب تلك العيوب بواجب لها عليه ثم التضرر بترك النفقة وتوابعها لا يعادله شئ ، وإذا كان العيب في الزوجة كالجنون والجذام والبرص فقد فات الزوج شئ واجب له لكن قد جعل الله بيده الطلاق . ثم قد ورد في خصوص الفسخ بعدم النفقة ما قدمنا ذكره

وأما التفريق بين المفقود وبين امرأته فأقول : قد تشعبت المذاهب في هذه المسألة إلى شعب ليس عليه أثارة من علم لا سيما التحديدات بمقادير معلومة من الأوقات منها ماهو رجوع إلى مذاهب الطبائعية كقول من قال : أنه ينتظر المفقود حتى يمضي له من يوم ولادته مائة وعشرون سنة لأن كل طبيعة من الطبائع الأربع إذا لم يعرض لها ما يفسدها تغلب على الإنسان ثلاثين سنة فتحصل من مجموع الأربع الطبائع مائة وعشرون سنة وهذا مذهب كفري وكلام بمعزل عن الشريعة قال الماتن في حاشية الشفاء : وقد رأينا في عمرنا من عاش مائة وسبعاً وعشرين سنة ونصف سنة ورأيناه وهو في هذا السن في كمال من حواسه وجوارحه بحيث إنه لم يفقد منها شيئاً وهو يذهب ويجيء ويحضر المساجد وغاب عنا بعد ذلك فالله أعلم بعد هذه المدة انتهى .

أقول : وقد رأينا من عاش فوق المائة إلى عشرين سنة أو أكثر من ذلك وهم كثيرون وسمعنا بمن عاش فوق المائة إلى أربعين سنة بل أزيد من ذلك وهم قليلون ، والقدرة الإلهية صالحة للكل ، وبالجملة فمن العلماء من قال : مائة وخمسون ومنهم من قال : مائتان ومنهم من قال : أربع سنين ومنهم من قال : زيادة على ذلك ، ومنهم من فرق بين من كان له أهل ومال ومن لم يكن له أهل ومال ، والكل محض رأي . وعندي أن تحريم نكاح المحصنة ورد به النص القرآني ، وأجمع عليه جميع المسلمين ، بل هو معلوم من ضرورة الدين . وامرأة المفقود محصنة فالأصل الأصيل تحريم نكاحها ، وإذا لم يكن لها ما تستنفقه وكان امساكها حينئذ وإلزامها على استمرار نكاح الغائب فيه أضرار بها كان ذلك وجهاً للفسخ . وهكذا إذا طالت مدة الغيبة وكانت المرأة تتضرر بترك النكاح فالفسخ لذلك جائز ، وإذا جاز الفسخ للعنة فجوازه للغيبة الطويلة أولى لأنه قد علم من نصوص الكتاب والسنة تحريم الإمساك ضراراً والنهي للأزواج عن الضرار في غير موضع ، فوجب دفع الضرار عن الزوجة بكل ممكن وإذا لم يكن إلا بالفسخ جاز ذلك بل وجب . وأما عدم وقوع طلاق المكره فدليله حديث لا طلاق في إغلاق أخرجه أحمد وأبو داود وأبن ماجه والبيهقي والحاكم وصححه من حديث عائشة وضعفه أبو حاتم بمحمد بن عبيد الله بن أبي صالح ورد عليه بأنه قد أخرجه البيهقي من طريق غيره . والإغلاق عند علماء اللغة الإكراه كما في النهاية وغيرها . وأما عدم صحة الطلاق قبل أن ينكحها فالأحاديث الواردة في هذا الكتاب لا تخلو عن مقال لكن لها طرق عدة عن جماعة من الصحابة وهي لا تقصر عن بلوغ رتبة الحسن لغيره فالعمل بها متحتم ولم يأت من خالفها بشئ إلا مجرد رأي محض . ثم إن السيد لا يطلق عند عبده بل الطلاق إلى العبد وذلك هو الأصل في الشريعة المطهرة فمن زعم أنه يصح طلاق غير زوج فعليه الدليل