الرئيسيةبحث

البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح/الباب الرابع


الباب الرابع: البشارات بالنبي محمد ﷺ في التوراة والانجيل

نورد فيه بينات من كتب العهدين، أعني من التوراة والإنجيل، على أن نبينا الأعظم محمدا ﷺ هو النبي الموعود به أيضا والمشار إليه والمنبأ عنه من الأنبياء كعيسى عليه السلام، بالأدلة الواضحة والبراهين المتينة كما قد تراها صريحة.

الشهادة الأولى

هو ما ورد عن نبينا محمد ﷺ في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثامن عشر والعدد الخامس عشر من قول سيدنا موسى، إذ قال قومه بني إسرائيل: «إن نبيا من بينك ومن إخوتك مثلي يقيمه الرب» ولم يقل من شعبك كما ترجمت إلى اللغة العربية، بل من بينك لأنها في اللغة العبرانية (مقربيخا) أي: من بينك، وفي العدد الثامن عشر أيضا، قال: «إن الرب إلهكم سيقيم نبيا من إخوتكم مثلي، فاسمعوا له وكل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها.»

أقول: إن هذه الشهادة هي بلا ريب منطبقة على نبينا محمد ﷺ من حيث إن إسماعيل وخلفه الذين منهم نبينا كانوا يسمون إخوة لبني إبراهيم، أعني: إسحاق وخلفه عليهما السلام، لأن الله تعالى قال لهاجر رضي الله عنها امرأة سيدنا إبراهيم عن إسماعيل ابنها بأن قبالة إخوته ينصب المضارب، ومن حيث إن إسحاق أبا يعقوب، وذريته بني إسرائيل دعوا إخوة لإسماعيل، فإسماعيل هو أخوهم بلا شك، فمن ههنا ألغز النبي موسى عليه السلام بكلامه، وأشار إشارة خفية غير صريحة في النسق، حسب عادة الأنبياء بإخفاء بعض مقاصدهم وتكلمهم بالرموز عن أن الله تعالى سيقيم نبيا بينهم من إخوتهم، [1] أي من بني إسماعيل المباين لهم، وهو محمدا ﷺ لكونه نبيا ومن ولد إسماعيل، لأن من عادة الكتب المنزلة أن تسمي أولاد الأعمام عن بعد بعيد: إخوة، ومثل ذلك قد ورد في القرآن الشريف إذ أنه دعى النبيين اللذين هما هود وصالح إخوة لعاد وثمود، وهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام أيضا.

وفي سفر العدد في الإصحاح العشرين في العدد الرابع يقول: «وأرسل موسى من تادش إلى ملك أدوم قائلا: هكذا يقول أخوك إسرائيل». مع أن الآخرين هم من بني الأعمام عن بعد بعيد.

وأما قولنا: إن هذه الشهادة منطبقة على نبيينا ﷺ بسبب أنه لا يشاركه غيره فيها، لأنه إن ادعت اليهود أن هذه الشهادة قيلت عن يشوع بن نون وليس عن نبيينا محمد ﷺ فنرى أنها لا تتفق مع دعوام بل تنفر عنها نفورا ظاهرا، لأن يشوع كان حاضرا معهم وعند موسى مقيما بخدمته، وقد أشار عنه بعبارة صريحة قبل هذه في الإصحاح الثالث من التثنية بقوله: «فليكن يشوع بن نون خادمك فهو يدخل عوضك وهو يقسم الأرض لإسرائيل». فما ينبغي أن يذكره لهم باسم نكرة بعد إشهاره لهم باسمه العلم.

وثانيا: إذا ادعت النصارى أن هذه الشهادة قيلت عن المسيح، فيقال لهم هذا الجواب؛ وهو أن موسى قال «نبيا مثلي الذي يقيمه الله»، وهم، أعني النصارى، يدعون أن عيسى هو إله وإنسان، فإذا ليس هو كموسى، من كون أن موسى إنسان فقط، وعيسى على زعمهم إله لموسى حتى، ولا ناسوت عيسى مثل ناسوت موسى، لأن ناسوت موسى هو من زرع بشري، وناسوت عيسى من غير زرع بشري، بل ناسوت عيسى من بتول فقط، وموسى كان من امرأة مثل بقية النساء مفضوضة، فما يكون المسيح مثل موسى، لأن موسى قال عن النبي الذي وعد به: «انه نبي مثلي»، حتى ولا شريعته مثل شريعته لأن شريعة عيسى فضلية وشريعة موسى عدلية، ولا إنذاره مثل إنذاره لأن موسى كان لبني إمراشيل حاكما وغنيا وبالسيف، وعيسى كان فقيرا ومحكوما عليه، هذا على موجب زعمهم، ولا كان لعيسى سيف مثل موسى ولا حكم.

وأيضا أقول إنه لم يقل في الإنجيل عن عيسى على التغليب اسم نبي على الحقيقة بالاسم والفعل. [2]

ويشوع بن نون كان نبيا أيضا، ولكنه الآخر لم يغلب عليه اسم النبي، أعني أنه لم يقل عنهما: يشوع النبي أو المسيح النبي في الغالب مثلما يقال: موسى النبي أو النبي محمد عليهم الصلاة والسلام.

وفي القرآن الشريف ترى هذه اللفظة، أي: اسم النبي مكررة مرات على نبينا المصطفى ﷺ، فتكون النبوءة من سيدنا موسى صادقة عليه، كما صدقت عليه لفظة «من إخوتكم»، من كونه من بن إسماعيل المبارك، إخوة بني سيدنا إبراهيم الذين منهم بني إسرائيل، الذين رمز لهم موسى عليه السلام أن من إخوتهم يقام النبي الموعود به.

وإن كان بنو عيسو أخو يعقوب يسمون أيضا إخوة لبني إسرائيل عن بعد بعيد كما جاء عنهم في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثاني، إلا أنه ما قام منهم نبي مثل محمد ﷺ حتى نستدل عليه من شهادة الحال، مع أن عيسو تروج محلة ابنة إسماعيل.

فينتج إذا: أن نبينا ﷺ هو المشار إليه من موسى دون شك، ومع ذلك فإن موسى بين بما أضاف من قول مقصوده، وهو: «بأن كل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها»، فلفظة استئصال يستدل منها على أنها كانت نبوءة من موسى على نبينا ﷺ وأنه يستأصل كل من لا يسمع له بسيفه البتار، وأن هذه الوصية هي صادقة عليه بهذا الوجه المشروح، ولا تصدق على المسيح؛ لأن المسيح قال: إنه ما جاء ليميت أنفس الناس، وذلك يقول: تستأصل. وليست كما تصور النصارى: أنها مقولة على الخراب الذي عمله تيطس، ملك روما الذي خرب بيت المقدس الشريف وقتل اليهود الذين كانوا فيها، وعلى ظنهم أن ذلك كان بسبب عيسى مع أن تيطس كان غير مؤمن ولا مطيع لعيسى، [3] وكان قتله لهم بسبب عصيانهم له بالأمور الملكية، لا لأجل الأمور الدينبة، أي لم يكن قتله لهم لأنهم لم يتبعوا عيسى ولم يطيعوه، لأنه هو أيضا كان مضطهدا لأتباع عيسى.

وربما كان يوجد نصارى كثيرون مختبئين، وقد قتلهم تيطس نفسه أيضا مع اليهود، لأن حربه وقعت بعد أربعين سنة من عيسى وكان قد تنصر كثيرون في تلك الأراضي.

وبالاختصار إن هذه الشهادة من موسى عليه السلام، أي لفظة «تستأصل» هي وحدها كافية بأنها مقولة على نبينا ﷺ ووظهر تحقيقها منه ومن صحابته وليس من غيره، لأنه كان المنتقم ووالمستأصل من قبل الله للذين لم يسمعوا له.

الشهادة الثانية

في إنجيل يوحنا في الإصحاح الأول في العدد الحادي والعشرين يقول: « وأرسل الفريسيون يسألون يوحنا المعمداني قائلين له: ألنبي أنت؟ فأجابهم: كلا. فأجابوه: ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟».

أقول: إن هذه الشهادة تتضمن أن الفريسيين علماء اليهود إلى زمن مجئ عيسى عليه السلام، كان متداولا بينهم عن آبائهم وأجدادهم المتناقلين لكلام النبي موسى عليه السلام بأن الله تعالى سيرسل نبيا وهم في انتظاره كالمسيح عليه السلام، وحيث إن علماء اليهود كانوا متحيرين في مجئ النبي المخبر عنه من موسى، ومعربسين قصة يوحنا ابن زكريا عليهما السلام، من أنه كان يسكن البواري كولد إسماعيل، فأرسلوا يسألونه: ماتقول عن نفسك؟ فلما جاوبهم بأنه ليس هو المسيح ولا إيليا ولا النبي اعترضوا وقالوا له: مابالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟

فيظهر من مضمون كلامهم أنهم في انتظار ثلاثة أنفار عظام، قد كان الأنبياء السابقون أخبروا بمجيئهم وأسمائهم، وهم: المسيح وإيليا والنبي.

فمن ههنا ينتج أن المسيح شخص، وإيليا شخص، والنبي شخص آخر، وحيث إن الانتظار كان للنبي أيضا، الذي هو غير المسيح، واسمه وارد بالسؤال بعد المسيح، فنبينا ﷺ كان وروده بعد المسيح، وهو خاتمة المطلوب. فمن هذه الشهادة سقطت:

أولا: دعوى اليهود الزاعمين أن شهادة موسى السابقة هي مقولة عن يشوع بن نون، لأنها لو كانت مقولة عن يشوع بن نون لما كان علماء اليهود لحد زمان عيسى يسألون المعمدان عن النبي قائلين:

ألنبي أنت؟ أجابهم: كلا.

وثانيا: تسقط دعوى النصارى القائلين إن النبي المقول عنه من موسى هو المسيح، لأنه ظهر من سؤال الفريسيين علماء اليهود القائلين: «إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي» أن النبي غير المسيح.

فإذا المسيح هو المطلوب الأول لهم، والنبي هو المطلوب الآخير لقولهم: «إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي».

ولو كان النبي هو المسيح كما فسره النصارى، لكان ينبغي ليوحنا بن زكريا عندما سأله علماء اليهود عن المسيح وإيليا والنبي أن يجاوبهم: إن سؤالكم هذا هو جهل مبين، لأن المسيح هو نفسه النبي، فصمته عن مجاوبتهم، ونفيه بأنه ليس هو النبي هو مصادقة كلية شرعية على أن الموعو به نبي آخرغير المسيح، وهو سيد الكائنات الأعظم محمد ﷺ.

الشهادة الثالثة

في إنجيل يوحنا في الإصحاح الخامس عشر يقول: «وإذا جاء البارقليط الذي أرسله إليكم من عند الأب روح الحق الذي من الأب يبثق هو يشهد لي وأنتم أيضا شاهدون». [4]

أقول: إن هذه الشهادة المقصود بها نبينا محمد ﷺ:

أولا: من اسم بارقليط.

ثانيا: من قوله: هو يشهد لي.

ثالثا: من تسميته له روح الحق.

رابعا: من قوله عنه إنه من الأب ينبثق.

أما عن قوله «إنه ينبثق من الأب» فهو معنى يخرج ويرسل، كما هو مصرح به في قواميس اللغة اليوناية، والكنائس الغربية هكذا تفسرها أيضا، وهذا الإرسال جاء مصرحا به عن النبي محمد ﷺ بقوله تعالى: )قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)، وقوله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق).

وأما تسميته له ﷺ بأنه رروح الحق، فنرى هذا الاسم من جملة أسمائه الشريفة المندرجة في كتاب دلائل الخيرات، المجموعة من الكتاب والسنة.

أما اسم بارقليط فهي لفظة يونانية، من معانيها في القواميس: المعزي والناصر والمنذر والداعي، والاسم المطابق هو الداعي. [5]

فالنصارى الذين آمنوا وأسلموا في العصور القديمة قد فهموا أن معنى هذه اللفظة منصرف إلى القرآن الشريف وإلى سيد المرسلين الأعظم ﷺ.

فأما انصرافها إلى النبي الأعظم ﷺ فمن كونه قد وصف بمثل هذه الأوصاف في الكتاب المنزل، كقوله تعالى في سورة النساء (واجعل لنا من لدنك نصيرا). وفي سورة الأحزاب (يا أيها النبي إنا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه).

أما النصارى الذين في الدهور المتأخرة، المتناسلين من أولئك، فلم يفهموها إلا عن الروح الذي حل على الحواريين، مع أن الروح الذي يدعون أنه حل عليهم لم يسم بارقليطا من الذين حل عليهم، ولا سمي روح الحق، ولا دعي المنبثق عن الأب مثلما سماه عيسى لما وعد به، بل إنه سمي من الحواريين روح وقوة وألسنة كالنار. [6]

وأما قوله: «إن البارقليط يشهد لي»:

فأقول: إنه يظهر من معناه بأن سيدنا عيسى يقصد شخصا آخر غير شخصه يشهد له بالحق، وغير الحواريين. وإثباتا لهذا الدليل هو تعمد إشارته في نسق هذه الجملة الواحدة القائلة عن البارقليط: هو يشهد لي وأنتم ايضا شاهدون.

فبقوله هذا يظهر أن المزمع والعتيد أن يأتي ويشهد له هو غير الشاهدين الحاليين، ولو كانا واحدا لما قال: هو يشهد لي، بصيغة الزمان المستقبل البعيد كما في اليوناني، [7] وأنتم أيضا شاهدون بصيغة الزمان الحال. [8]

وأيضا أقول: إنه لوكان معناه بأن البارقليط الحال يتكلم في المحلول فيهم، لكان قال: إذا جاء البارقليط الذي أرسله إليكم هو يشهد لي بواسطة ألسنتكم، مثلما قال في موضع آخر عن الروح الذي حل عليهم «بأن روح أبيكم يتكلم فيكم»، وحيث أن ههنا ثنى موضوع كلامه بقوله: يشهد لي وأنتم أيضا شاهدون وغير أزمنة الشهادة، فيظهر أن الشاهدين له هم غير الشاهد الفريد الذي هو نبينا الأعظم محمد ﷺ.

وأما اسم بارقليط: فيحمل معناه أيضا على القرآن الشريف، لأنه، أي القرآن قد ورد من الله تعالى منبثقا وخارجا من لدن عنايته، معزيا بلفظه المحكم لرسوله المصطفى ﷺ ولخواصه أيضا.

فأما ما أورده تعالى من التعزية لرسوله، فمثل قوله (ولايحزنك الذن يسارعون في الكفر)، وقوله تعالى (واصبرعلى مايقولون)، وقوله (ولربك فاصبر).

وأما ما قاله تعالى من التعزية لأصحابه فقوله (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)، وقوله تعالى (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون).

وبالإجمال أقول: إذا أمعنت النظر في القرآن الشريف ترى أكثر معايه منصرفة إلى التعزية وأجناسها.

وإن قيل: إن البارقليط كان الوعد فيه للحواريين، لأن سيدنا عيسى قال لهم إنه يرسله إليهم، والقرآن جاء بعد الحواريين بستمائة سنة.

فأجيب: إن قوله أرسله إليكم مثل قوله لهم: «وها أنا معكم كل الأيام وإلى إنقضاء الدهر». فالحواريون لم يبقوا إلى انقضاء الدهر، بل خلفهم الذين بقوا إلى انقضاء عالم عيسى عليه السلام. انتهى. [9]

والحال أن قوله: «سيقيم لكم» مثل قول عيسى ههنا: «إنه يرسله إليكم»، فالضمير في اللفظتين متساوي للمخاطبين.

الشهادة الرابعة

إن سيدنا داود عليه السلام في المزمور الخامس والأربعين، المعنون في العبراني "من بني قورح من أجل الحبيب قد ترنم به"،

أشار إشارة مطابقة لسيد الخلق نبينا الأعظم حبيب الله ﷺ بقوله: «فاض قلبي كلمة صالحة، أقول أنا أعمالي للملك، لسان قلم كاتب سريع الكتابة، بهي في الحسن، أفضل من بني البثمر، انسكبت النعمة عى شفتيك، لذلك باركك الله إلى الدهر، تقلد سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك، استله وانجح، واملك من أجل الحق، ورأفة العدل، وتهديك بالعحب يمينك، نبلك مسنونة أيها القوي، الشعوب تحتك يسقطون في قلب أعداء الملك، كرسيك يا ألوهيم إلى دهر الداهرين، عصا الاستقامة عصا ملكك، أحببت العدل وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك ألوهيم إلهك بدهن البهجة، أفضل من رفقائك، المر والميعة السليخة من ثيابك، من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك».

أقول: والحق أن سيدنا رسول الله محمدا كان يفيض من قلبه كلمة صالحة، وهي كلمة الشهادة بالتوحيد، التي هي «لا إله إلا الله»، وأعماله كانت متجهة نحو الملك المتعال، ولسانه قلم كاتب سريع الكتابة، بهي في الحسن، أفضل من بيي البشر، لأنه لما كانت النعمة تسكب على شفتيه الشريفتين كان يباركه الله وتهبه تلك الفصاحة التي تدل عليها كتب الحديث التي تكلم بها، وهو القوي الذي كان سيفه على فخذه، وصاحب الحسن والجمال، الذي استله ونجح وملك، وأجرى الحق والعدل مع الرأفة التي هي شريعة الفضل والإحسان الممتزجة بالعدل، وهو القوي الذي نباله مسنونة، الذي تساقطت تحته الشعوب، الذي كرسي ملكه يدور إلى دهر الداهرين، الذي عصا الاستقامة عصا ملكه، الذي أحب العدل وأبغض الإثم، الذي مسحه الله بدهن الابتهاج أفضل من رفقائه الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام جميعا.

فالنصارى الغير منورين يفسرون هذا المزمور على سيدنا عيسى بنوع من المجاز، حيث إنه لم تنطبق عليه الحقيقة اللفظية، ولم يدركوا أنه إذا وجدت حقيقة للكلام فلا محل للمجاز، لأنه إذا وجد نبي قد سل سيفا حقيقيا فلا يجوز الالتفات إلى نبي استل سيفا مجازيا، وهم إلى الآن يقرون: إن هذا المزمور مقول عن عيسى عليه السلام.

وأما النصارى القدماء فقد فهموه عن نبينا محمد ﷺ، إذ هو واضح الدلالة عليه، لأن عيسى عليه السلام لم يعرف له فصاحة في كلامه، بل كان كلامه بالبساطة، بناء على دعوى النصارى، ولا تقلد سيفا على فخذه ولا نعت بالقوة، ولا كان شهيرا بالحسن والجمال، ولا استل سيفا من أجل أن يحكم بالحق ورأفة العدل، بل إن أحد حوارييه، الذي هو بطرس، حين استل سيفا منعه قائلا: «اردد سيفك إلى غمده»، مع أنه ما نجح ولا ملك في حياته، بل لما جاؤا ليصيروه ملكا هرب، ولا كان له عصا الاستقامة الذي هو الرمح، ولا جاء بالشريعة العدلية على زعم إنجيلهم، بل كان يبدله بالقول: «من ضربك على خدك الايمن حول له الآخر»، الشئ الذي ما قبلته الطبيعة ولا صار شريعة دائمة أو عامة. ولا كانت له نبال مسنونة ولا غير مسنونة، ولا تساقطت تحته الشعوب، ولا كان ذا عيش رغد وابتهاج، وأنه ما كان يتعاطى العطورات في ثيابه ومنازله إلا مرة أو مرتين، من امرأة في أواخر ظهوره. [10] ولا كان له منازل شريفة العاج ولا حقيرة، لأنه هو قال عن نفسه: «إن ابن البشر ليس له موضع يسند إليه رأسه».

فإذا: هذه الشهادة هي بالحق دالة على نبينا محمد ﷺ من كونها منطبقة عليه من كل جهاتها، لأنه كما قلنا عنه: إنه هو الذي كان يفيض قلبه كلمة صالحة، كلمة الشهادة بالتوحيد، وكانت شفتاه ولسانه متحركين بالفصاحة، أفضل من بني البشر، وهذا دليل أفضليته على الخلق ولذلك باركه الله، وهو الذي كانت أعماله متجهة نحو الملك المتعال، سبحانه وتعالى، وهو الذي كان قويا وتقلد سيفه على فخذه ونجح وملك، وملكه إلى الآن باق، وإلى يوم القيامة، يجري في شرائعه الحق، ويحنو بالعدل، أي إن أحكامه تبتدئ بالحق وترغب بالرأفة وتثيب عليها، وهو صاحب الوجه المنير بالحسن والجمال، وهو الذي رشق الكفار الذين عصوا دينه الشريف بعد نصحه لهم بنبال مسنونة، وقوته مع تلك العصا الذي هو رمحه المستقيم تصدق نبوءة داود هذه، وتساقطت تحته ثسعوبهم، وهو الذي مسحه الله بدهن البهجة، أفضل من رفقائه الأنبياء، وثيابه الشريفة بالمر والميعة والسليخة، وهذه الروائح الطيبة التي كانت تصدر من منازله السامية، ومن أقصى ثيابه الشريفة هي مخلوقة بجسمه الشريف، تفضلا من الله تعالى الذي مسحه وأرسله رحمة للعالمين، وكان صحابته الكرام -رضي الله عنهم- إذا صافحوه تبقى رائحة المسك في أيديهم المدة الطويلة، وإذا توجه إلى محل وأرادوا اللحاق به يتدلون في الأزقة من الروائح الطيبة ويعرفوا أين توجه، وهذه كانت من أقل معجزاته الشريفة.

وبالاختصار إن هذه العلامة تكفي للشهادة عليه ﷺ، [11] وأما باقي المزمور فقد يؤول على زوجته وباقي نسائه الفخام، رضي الله عنهن وعلى جواريه، ويؤول أيضا على سمو ديانته ومركزها التي شبهها داود بالملك.

تنبيه: اعلم أن لفظة ألوهيم المرقومة في أصل الشهادة في المزمور الخامس والأربعين في جملة «كرسيك يا ألوهيم»، وفي قوله «مسحك يا ألوهيم»، فلفظة ألوهيم هي عبرانية، وتترجم إل اللغة العربية إله ويقال لها معربة، وتترجم أيضا إلى معناها العربي «طايق» لكون لفظة ألوهيم هي مشتقة من «إيل» بفتح الياء وتعريبها: طايق، كقولنا: مالي طاقة، أي مالي قوة، فهذه لفظة ألوهيم التي تترجم إله معربة وتترجم: طايق على معناها العربي، تقال وتطلق على أفاضل المخلوقين الناطقين، وتقال على الخالق جل وعلا، وهكذا وجدت في التوراة والإنجيل، ومن القرائن تعرف كما قررنا عنها في الباب الأول من هذا الكتاب.

ثم إن لفظة ألوهيم هنا في قوله: «مسحك يا ألوهيم إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك»، تفيد من القرائن المشروحة أنها مقولة على نبينا محمد ﷺ لكونه من أشرف الناطقين، مثلما سمي عيسى وموسى عليهما السلام بلفظة تعريبها «إله»، وأما نحن بهذا المزمور لم نعربها ولم نكتبها إله، لعدم استعمالها عند العرب في هذا الشرع الطاهر على الخلق، بل ابقيناها على أصلها العبراني «الوهيم».

الشهادة الخامسة

إن إشعيا النبي في التوراة في الإصحاح الخامس عندما أنهى كلامه عن قصاص الذين تركوا شريعة الرب، رب الجنود، وأنه اشتد غضبه على شعبه وألقى يده عليهم وصارت جثثهم في الشوارع، ومع هذا كله لم يرتد غضبه ويده عالية، اضاف إلى قوله هده العبارة والرمز على نبينا محمد ﷺ، وأن الله يرفعه وينصبه علامة للأمم ودليلا ليهديهم به، قد تكلم في العدد السادس والعشرين وقال: «ويرفع علامة للأمم من بعيد ويصفر به من أقصى الأرض، وهو ذا يأتي سريعا بخفة ليس فيهم تاعب ولا عائي، لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حقويه ولا ينقطع سير حذائه، سهامه حادة، وبيع قسيه موتورة، حوافر خيله مثل الصوان، وبكراته [أي نوقه] مثل العاصف، زئيره كالأسد، وبنهم يدرك الفريسة ويحوزها، وليس من ينجى، ويهر عليه في ذلك اليوم كهدير البحر، وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة، والنور اعتم لضبابها.

أقول: وبالحق إن هذه الشهادة منطبقة على نبينا محمد ﷺ كما قلناه ومن كل جهاتها لأن قوله: «ويرفع علامة للأمم»، يعيي أنه هو العلامة المرفوعة للأمم، [12] والدليل الهادي ليقودهم إلى نور دين الله الحق، وهو الذي رفع للأمم اولا، كما عيسى رفع لليهود أولا، وبعده عمموا نبوته.

وقوله: «من بعيد» مشيرا على أن هذه العلامة ليست هي من أرض إسرائيل التي تكلم فيها إشعيا هذه الإشارة، أي قوله «ويرفع علامة للأمم» بل من أرض بعيدة، وأيضاح ذلك قد يظهر من العدد الذي يتلوه، حيث يكشف هذا الرمز بقوله: «ويصفر به من أقصى الأرض»، فقوله: «من أقصى الأرض»، يكشف أنه ليس من أرض إسرائيل ترفع العلامة، بل إنها ترفع من بعيد من أقصى الأرض، حيث رمز عنها بهذا الكلام، فكأنه يقول: إن نهاية وأقصى أرض إسرائيل هي الأرض التي خرج منها نبينا ﷺ، أعني: مكة المشرفة، التي هي عند أقصى أرض إسرائيل، لأن إقليم العرب لا فاصل بينه وبين أرض الموعد.

ثم إن هذه الجملة قد تضمنت دليلا رمزيا آخر، لئلا تجهل العلامة، وأنه عربي بقوله: «ويصفر به» يعني ينادى به، لأن في اللغة العبرانية يقول: ويصفر به، أي أن الله تعالى نادى به الناس كالصفير، كعادة العرب لكونه ﷺ عربيا، لأن العرب ينادون بالصفير عند كمائنهم وأغراضهم الخفية.

وقوله: «يأت سريعا بخفة، ليس فيهم تاعب ولا عائي، لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حقويه، ولا ينقطع سير حذائه، سهامه حادة، وجميع قسيه موتورة».

فالحق أنه ﷺ أتى بجيوشه بخفة، وما كان في أعوانه تاعب، [13] ولا كان ينعس، بل إنه سهران في عبادة الله سبحانه وتعالى، ونشر دينه الشريف، كما ورد عنه ﷺ أنه كان يقوم الليل كله حتى ترم قدماه الشريفتان، فأمره تعالى في القرآن العظيم شفقة عليه وحبا وتعظيما له بقوله له (يا أيها المزمل قم اليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا).

و«لا انحلت منطقة حقويه»، يعني أن عزيمته نشيطة، و«غير منقطع سير حذائه»، يعني أن قدميه الكريمتين غير فاترة عن السعي بالخير والعبادة، و«سهامه حادة» يعني بما أنه لا يوجد من يساويه ممن كان يضرب بالسهام من قبل الله لأعدائه المعاندين بتلك القسي الموتورة، ويؤكد هذه المعاني غلاقة القول، بأن «حوافر خيله مثل الصوان»، كما وصفت تلك الخيل في القرآن الشريف في قوله تعالى (والعاديات ضبحا فالموريات قدحا). ثم إن ههنا إشعيا قد أظهر بنبوءته أن نبينا ﷺ هو المقول عنه هذه الأقوال وليس سواه، لأن عيسى عليه السلام لم تكن لديه خيل، وإنما نبينا محمد المصطفى ﷺ هو الذي كانت تقدح حوافر خيله، مثل الصوان المطابق لقوله تعالى (فالمورماث قدحا).

ثم قال إشعيا وبكراته» أي نوقه، مثل العاصفة. فلفظة نوقه هي أعظم دليل على المصطفى، من حيث أن عيسى ما كان عنده نوق ولا جمال، «وزئيره كالأسد، وكان يدرك الفريسة ويحوزها، وما كان أحد يتخلص منه»، ههنا سمى إشعيا «زئيره كالأسد». وفي الإصحاح الحادي والعشرين قال: «فصرخ الأسد». ونعم هذا التشبيه، لأنه ﷺ كان سلطان البشر، كما أن الأسد سلطان الحيوانات بالفروسية والشجاعة.

وآخر الأدلة من إشعيا على نبينا ﷺ: «يدوي عليه في ذلك اليوم دوي البحر وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة والنور أعتم بضبابها».

وقد صدق الدليل الأخير على أن نبينا الأعظم ﷺ هو الذي كان ينادي؛ كان يزعق على الكفر كدوي البحره وانتهره وزجره وروعه؛ أي الكفر. وهو الذي نظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة بالكفر ضيقة، وبالحقيقة كانت الأرض مظلمة بالكفر عابدة للمخلوقات.

وقوله: «والنور أظلم بضبابها» يعني أن نور الاعتقاد بالله الذي كان موجودا على الأرض عند النصارى واليهود القدماء قد غطاه ضباب الإلحاد والجحود فينما ضلوا عما تمملموه من موسى وعيسى عليهما السلام، وهذا بالحقيقة هو النور الذي أظلم بضبابها، لم أعني بالأمكنة المشرفة مثل مكة والقدس وغيرهما وهؤلاء أركان القدس.

الشهادة السادسة

إن متى الإنجيلي قد كتب عما رمز به سيدنا عيسى ﷺ في الإصحاح الحادي والعشرين بقوله: ذلك المثل بعدما قتل الفعلة أولئك العبيد المرسلين من عند صاحب الكرم حتى وابنه بالنية. [14] قال: «وإذا جاء رب الكرم ماذا يصنع بأولئك الفعلة؟ فقالوا له: الأرديا بالردى يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته. ثم قال أيضا يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الححر الذي رذله البناؤون، هذا صار رأسا للزاوية، من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا. من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع ويعطى لآخرين لأمة يصنعون ثمرته، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط عليه فإنه يطحنه».

أقول: وبالحق إن سيدنا عيسى عليه السلام أعطى هذا المثال نبوءة منه، رامزا به عن نبينا محمد ﷺ من دون شك، لأنه بعدما ذكر الكرم الذي هو الشريعة الموسوية، والفعلة هم بنو إسرائيل، وأن صاحب الكرم أرسل الأنبياء عليهم السلام، الذين كانوا يحضونهم على عمل الثمار فكانوا، أي الفعلة، يقتلونهم، أي عبيد رب الكرم عوضا عن عملهم الصلاح، وأكمل بابنه الذي كان بيده إثمار شريعة موسى، كما قال هو عن نفسه: «ما أتيت لكي أحل الشريعة لكن لأكملها»، وكملها بالفضل، فهو، أي عيسى عليه السلام، بعدما ذكر هذه الأفعال، وقرر لهم شريعته الفضلية ولم يقبلوها منه، لا بل إنهم كانوا قد هموا بقتله لولا أن الله تعالى رفعه إليه، وحواريه عليهم السلام كانوا مجتهدين بتنفيذها، ولأجل ذلك كانوا يحاربون ويقتلون وتزور كتبهم،[15] ويترك أكثرها ويقل زمان حسنها. أفاد عليه السلام إذ قال لتلخيص العبارة: «فإذا جاء رب الكرم ماذا يفعل بأولئك الفعلة؟ فأجابوه: الأرديا بالردى يهلكهم، ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين، ليعطوه ثمرته في حينها». هنا انكشف مجيئ صاحب الكرم، وأنه يهلكهم. [16] وظهر أيضا أن صاحب الكرم الموعود به من عيسى هو غير عيسى الواعد به، ومن المحقق أنه من بعد مجئ عيسى عليه السلام ما جاء غير نبينا ﷺ صاحب الشريعة الغراء.

ومن قوله: «إذا جاء» أن المسيح يقصد شخصا آخر غير شخصه، ومجيئه مستقبلا، وحيث إن الته تعالى بحسب ذاته العلية لا ينتقل من مكان إلى مكان من كونه حاضرا في كل مكان، فلزم أن يكون المجيئ المقول عنه من عيسى: «إذا جاء رب الكرم»، يقصد به رسوله وحبيبه محمدا ﷺ، أعظم الرسل من الله سبحانه، ويشهد مثل ذلك القرآن الشريف بقوله في سورة الفتح: (إن الذن يبايعونك إنما يبايعون الله)، وسمي رب الكرم على وجه الاستعارة للمسند إليه، لأن له أعطيت الأحكام والشريعة، وقد تأخر مجيئه حتى يكمل شر اليهود بقتلهم التابعين لعيسى بل وكذلك الكافرين وغيرهم، من الذين غلوا بعيسى ﷺ حتى إنهم تجاوزرا به حده وجعلوه إلها. فلما جاء ﷺ بعد سيدنا عيسى عليه السلام كان الله تعالى معه معاضدا ومساعدا، لكونه له رسولا ونذيرا، لأنه ﷺ أهلك الأرديا الذين أشار عنهم عيسى، وأما سيدنا عيسى فما جاء مرة أخرى حتى يستدل عليه به، ولا غيره أتى بعده وأهلك الأرديا الذين أشار عنهم هو، و«دفع الكرم» أي الشريعة إلى خلافهم، وإنما الذي جاء وأهلك الأرديا هو نبينا الكامل ﷺ [17] وأن الذين عملوا مفاسد من عهد عيسى وماتوا من العصاة إلى زمان نبينا كثيرون، وأما سيدنا عيسى فلم يقصدهم ولا كانوا كاملين، بل إنه قصد رجلا رب كرم يدفع الكرم إلى فعلة آحرين، أعني دفع الكرم الذي هو الشريعة الطاهرة إلى آخرين، الذين هم ذرية إسماعيل عوضا عن بني إسحاق ويعقوب عليهم السلام، الذين كانت الشريعة عندهم، وحواريي سيدنا عيسى هم من نسلهم، وأما الفعلة الآخرون هم أمة محمد ﷺ وذلك لمطابقة قوله: «ان ملكوت الله يترع منكم ويعطى لأمة لكي يصنعوا ثمرتها»، ولم يقل ههنا لأمم، بل قال: لأمة، لكونه قصد هنا الأمة الإسماعيلية التي أخذت البركة قبل إسحاق عليه السلام، [18] التي إمامها ونبيها هو محمد المصطفى ومنها تنبث إلى غيرها. [19]

فمن هنا يتضح أن الجملتين، أعني قوله: "ويدفع الكرم إل فعلة آخرين" وقوله إذ سمى الكرم "ملكوت"، وأنه ينزع منكم ويعطى لأمة يصنعون ثمرته، هما مقولتان من عيسى عليه السلام على نبينا ﷺ وأمته الطاهرة، وليس على غيره، ولكي يتأكد أن هذا الإعطاء هو لهذه الأمة أضاف إلى ذلك إشعاره بحقارتها من نسب الحجر لها، إذ قد شبهها بحجر مهمل. [20] والحق أن ذرية إسماعيل كانوا عند بني إسرائيل كحجر مهمل ومرذول عد البنائين لأن ذرية إسماعيل كانت متناسلة من أمة وآباؤه عند إخوته إسحاق ويعقوب وخلفه كحجر مرذول عند البنائين.

ولهذا أورده سيدنا عيسى بهذا أقول الذي تنبأ عنه داود سابقا إذ قال: «الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأسا للزاوية». أعني أن نبينا ﷺ هو الحجر الذي كان ثمينا وكريما في طبيعته، إلا أنه كان عربيا غريبا عن بني إسرائيل، وكان غير معدود مع الحجارة الذين هم خلف إسحاق ويعقوب.

فهذا هو المصطفى المكرم الذي اختاره الله سبحانه أن يكون راسا للزاوية، لأن الزاوية من جملة أشكالها الشكل المثلث للرؤوس المتساوية الجهات، ومعناه أن عيسى وموسى هما رأسان للزاوية شهيران، وحبيبه المصطفى ﷺ هو الرأس الثالث لهذه الزاوية المشار إليها من عيسى في هذه العبارة التي هي قوله : «وهذا صار رأسا للزاوية»، لمطابقة كلام النبي داود الذي أوردناه آنفا.

وأقول أيضا إن عيسى عليه السلام دعي من إشعيا: «حجر زاوية» كما تراه مصورا أمامك:

[21]

وأشار عنه إشارة أخرى غير الإشارة التي أشارها داود وعيسى عليهما السلام عن نبينا محمد ﷺ بأنه، أي عيسى، ممتحنا وكريما وأساسا مطروحا في صهيون»، ولم يقل عنه مثلما قيل من داود وعيسى عن نبينا المصطفى ﷺ بأنه «الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأسا للزاوية». فإذا قد وضح أن سيدينا عيسى ومحمدا عليهما السلام هما رأسان للزاوية متميزان.

فعيسى عليه السلام قد تميز من إشعيا إذ وصفه بأنه أساس للزاوية،.بمعنى أنه متقدم في الزمان كالبناء، لأن الأساس يتقدم الرأس.

ومحمد رسولنا ﷺ قد تميز إذ إنه وصف من داود وعيسى عليهما السلام بأنه رأس للزاوية، بمعنى أنه متأخر في الزمان كالخاتمة.

وذاك في صهيون وكريم وممتحن. وهذا مرذول عد البنائين وعجيب في أعيننا.

وقول عيسى ههنا عن الحجر الممثل به عن المصطفى ﷺ «وأنه عجيب» يطابق قول إشعيا عنه ﷺ أن اسمه عجيب، وسوف ترى شرح ذك في الشهادة التي تتلو هذه.

وفي هذه الشهادة نكمل الشرح ونقول: إن عيسى عليه السلام قال: «إن من قبل الرب كانت هذه وهو عجيب في أعيننا».

فهاهنا أوضح سيدنا عيسى أن نبينا المختار ﷺ هو رسول الله، ووارد من قبله تعالى حقا وصدقا لقوله: «وهذا كان من قبل الرب». وبين أيضا أنه عجيب في أعيننا، فلو كان هذا الكلام الذي تنبأ به داود وكرره عيسى عليهما السلام مقصودا به عيسى عليه السلام كما ظنه النصارى المتأخرون لكان واجب على سيدنا عيسى عندما كرر تلاوته أن يقول: إنه عجيب في أعينكم، لا أن يقول: إنه عجيب في أعيننا، لأن قوله: عجيب في أعيننا قد أوضح أنه يقول عن سيد الأنام إنه عجيب في عيني أنا عيسى أيضا كما هو عجيب في أعينكم.

وخاتمة الشهادة هي قوله: «من سقط على هذا الحجر يترضض ومن يسقط عليه يطحنه»، وهذا هو الدليل الأخير [22] الظاهرة عبارته جدا، أعني نبينا ﷺ هو المشبه بالحجر الذي رض وطحن المخالفين لدينه السامي دون غيره.

الشهادة السابعة

إن النبي زكريا يقول في الإصحاح الثامن عبارة دالة دلالة واضحة على نبينا محمد ﷺ وعلى صحابته العشرة الكرام رضي الله عنهم:

كرآمار ياهواه صبياوت

هكذا يقول الله رب الجنود

فيايله هاهيما اشير عسوة اناسيم

في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال

ماكول لوشونوت هكوييم

من كل ألسنة الشعوب

واها حازيقي بختان ايش يااودي

ويتمسكون بذيل رجل حميد

ليامور تيلا خا عماخيم

ويقولون لنذهب معك

كه شامنسو ألوهيم عماخيم

لأننا سمعنا أن الله معك. [23]

أقول: إن هذه الشهادة التي رقمناها العبراني بالحبر الأحمر والعربي بالحبر الأسود حذرأ من التزوير، تبين لنا بأن نبينا محمدا ﷺ هو الموضرع الوحيد، والمؤكد إطلاق هذه الشهادة عليه من كل جهاته، لأنه أي زكريا قد أفصح بكلامه في هذه النبوءة عن الصحابة الكرام وأن عددهم عشرة، وأنهم من ألسنة ووجوه الشعوب أصحاب القول، وليسوا من سفاسفها، وأنهم شعوبيون من الأمم، وليسو من اليهود، وعن اسم النبي الكريم ذاته، إذ قال: «هكذا يقول الله رب الأجناد في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال من كل ألسنة الشعوب».

أقول: يا ترى من هم هؤلاء العشرة رجال، الذين وجدوا في العالم، وتبعوا رجلا، وكانوا هم وهو مشهورين سوى هؤلاء العشرة الصحابة الكرام الأقمار العظام الذين كان نورهم مستفادا من نور شمس سيدنا محمد ﷺ، وتمسكوا به وذهبوا معه ونادوه بلسان حالهم؛ فلنذهب معك يا رسول الله، لأننا علمنا أن الله معك. [24]

فهذا المعنى مكشوف وظاهر من عين ذاته ومطابق للنبوءة جدا، من كون أن زكريا تنبأ عن ظهور عشرة رجال يتمسكون بذيل رجل، والصحابة كانوا عشرة في العدد، وتبعوا نبينا محمدا ﷺ واعترفوا بأن الله تعالى معه، وهؤلاء ما وجد غيرهم من عهد آدم إلى الآن، ولا سمع بأن عشرة رجال تمسكوا في ذيل رجل وتبعوه سوى أولئك العشرة من الصحابة رضي الله عنهم. وبلا شك أن هذه الشهادة هي منطبقة عليهم على كل حال.

وأما قوله عن العشرة رجال: إنهم يتجمعون من كل ألسنة الشعوب،

أقول: إن الشعوب هم القبائل الخارجون عن بني إسرائيل، لأنه إلى هذا الزمان يسمون عند اليهود «هكوييم» أي الشعوبيين الأممين، وأما ألسنة الشعوب، فهم المتكلمون في الشعوب، أصحاب القول وذوي الرأي السديد، كما جاء معنى "لوشونوت" في القاموس العبراني الذي يسمى "شوراشيم".

وأما قوله عن العشرة رجال يتمسكون بذيل رجل اسمه حميد، فلفطة حميد هي اسم نبينا محمد، وهي في العبراني على وزن فَعِيل، وهذا الفعل بهذا الوزن يقصد فيه معنيين: اسم فاعل واسم مفعول، أي أنه يشتق من اسم حميد اسمان: اسم حامد واسم محمود. وهذه المشتقات هي من أسمائه الشريفة، لأنه أي المصطفى كان يسمى في زمان صباه حميدا، وذلك للتنويع، كما تنبأ عنه زكريا مع تسميته أحمد محمدا، وذلك بوجه التفضيل والمبالغة، كقولك عن الكبير أكبر وعن الحميد أجمد، وبالحق إنه حميد لأن الله تعالى قد سبق وهيأ له هذا الاسم الكريم، الذي هو من جملة أسمائه تعالى السنية. [25]

وحيث إن هذا الاسم الشريف هو مكتوب من زكريا باللغة العبرانية، ومضمونه عن النبي الهادي، فكان علماء اليهود يترجمونه بلفظه العبراني، ويقرأونه عبراني في اللغة العربية معربا كلفظة إبراهيم وإسحاق وباقي الأسماء الغريبة، ويسمى علم أعجمي، ويشرحون معناه على ما هو عليه في الاصطلاح النسبي، لا على ما هو عليه من أصول اللغة العبرانية إذا ترجمت إلى أصول اللغة العربية، بل كانوا يبقونه بلفظه العبراني، وكذا قد ترجمت هذه اللفظة إلى اليوناني واللاتيني وغيرهما من اللغات بلفظها العبراني كما إلى العربي.

فالنصارى الذين ترجمت إلى لغاتهم هذه الكلمة بلفظها العبراني، كانوا يفهمونها عن اليهود مثل اليهود، على ما هي عليه بالاصطلاح النسبي لا على ما هي عليه من أصول اللغة العبرانية كما قررنا، ولا أدركوا من أين اشتقت هذه الكلمة وأنها اسم لنبينا الأعظم، حتى أني أنا الفقير أيضا كت قرأتها جملة سنين وأتسلمها وأفهمها كما يفهمها اليهود والنصارى لحد الآن على موجب الاصطلاح النسبي لا على أصول اللغة العبرانية المنزلة فيها، بحيث إنها لا تقبل الوجهين إلا بمفردها لا بقرائتها.

ولما حصلت على كتب قواعد اللغة العبرانية التي كانت معدومة عند النصارى المتقدمين عنا في الزمان، ووجودها نادر أيضا عند اليهود بسبب أن المطابع لم تكن وجدت بعد، وقفت على هذه الأصول السنية عن جملة علماء من علماء الكتابين وفهمت معنى هذه اللفظة وأنها تقبل الوجهين إذا كانت بمفردها. [26] [27] عدا أن في جميع النسخ السريانية قد وجد عوض هذا، أي عوض لفظة "يااودي" لفظة "يهوذا" وهذه أعني لفظة يهوذا إذا ترجمت إلى اللغة العربية حرفت بحرف هي أحمد، وهو اسم نبينا الشهير والعلم، وقد نقل بالتأكيد أن زكريا كتب نبوءته التي فيها هذه الشهادة بالسرياني لما كان مسبيا في بابل. وبهذا الوجه لا حاجة إلى شهود.

وهذه الشهادة إذا فهمها أحدهم مصادفة كنت أراه يفكر في أيما نبي من الأنبياء قصد بها، مع أنها اسم لنبينا المصطفى، وذلك لأنه لا يعرف إلا اسم نبينا الذي هو أحمد أو محمد فقط على ظاهر الأمر، ولم يدرك أن أسماء نبينا ﷺ محمد أو أحمد هما مشتقان من اسم حميد، وأن اسم حميد هو نفس اسم أحمد. وبسبب هذه الوجوه المشروحة، مع خبث بعض حاخاميم اليهود، قد بقي اسم نبينا المصطفى مخبأ تحت هذه الستور، والذي يريد أن يحقق ذلك فليراجع هذه الفظة في القاموس العبراني المسمى "شوراش"، وفي كتاب الصرف والنحو عندهم "دودوق" في تصاريف اسم يهوذا واشتقاقاته، وليزيل عنه ظلمة الغشاوة، [28] وليعلم أن هذه النبوءة هي منطبقة على النبي المختار ﷺ من أربعة أوجه:

أولا: من عدد صحابته العشرة الكرام رضي الله تعالى عنهم.

ثانيا: أنهم كانوا من الأمم "هكوييم"، وليس هم من بي إسرائيل.

ثالثا: أنهم كانوا من ألسنة ووجوه الشعوب، وليس هم صيادي سمك.

رابعا: إن الذي تبعوه كان اسمه حميدا أحمد، وهو النبي أبو القاسم ﷺ، فعيسى عليه السلام ما كان اسمه حميدا أحمد، والذين تبعوه كانوا صيادي سمك فقراء، وليسو من ألسنة الناس ووجوه الشعوب، وكانوا يهودا. وليسو هم من الأمم شعوبيين، وكان عددهم اثني عشر نفرا، وليسو عشرة كما تنبأ عنهم زكريا. وهذا كفاية لأن التعويل على شهادة الحال، أي الشئ المنظور الواقع، هو المساعد الأكبر على تحقيق شهادة المقال، وهذه الشهادة هي المطابقة لقوله تعالى في سورة الأعراف: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل)، وقوله تعالى أيضا عن أن عيسى عليه السلام قال: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).

ثم مرادي الآن أن أسمي هذه الشهادة "التوأم" بإضافتي لها شهادة أخرى تجانسها من إشعيا النبي.

أقول: إن إشعيا قد قال في الإصحاح التاسع في العدد السادس:

كه يلل بلاد لانوبين نتان.

إن ولدا انولد لنا، ابنا انعطى لنا

ويتهى هم اسراه على شيخيمو رنيتاراسيموبيله

وتكون سيادته على كتفه، [29] ويدعى اسمه عجيبا

ليماريه هم سراه ولشلوم ابن قيس

ليكثر سلطانه ولسلام ليس قياس

علكسه دافيد وعلى علكته ليهاجيم

على كرسي داود وعلى مملكته يجلس

اوتاه ولساعداه به شناط وبمصداقاه

يرتبها وليساعدها بالعدل وبالصدقة التي هي الفضل

والحقيقة أن هذه الشهادة يرى العقل السليم أن فيها مطابقة كلية على سيدنا محمد ﷺ دون غيره من الأنبياء، إذ إن إشعيا يقول فيها:

أولا: إنه قد انولد لمن ولد، وأن سيادته على كتفه، فنبينا المصطفى ﷺ هو الذي كانت سيادته على كتفه، متعلقة في ذراعه وسيفه، ولم يأخذها بالميراث، وذراعه وسيفه هما متعلقان في كتفه وفي فروسيته، كما أخبر عنه إشعيا. وهذا على وجه المجاز، وأما على وجه الحقيقة، فنبينا ﷺ كان على كتفه علامة، وهي شامة كبيرة شهيرة ومكشوفة.

ولا يلزم لها برهان، لكونها شائعة وصلت إلينا بالتواتر وسطرت في أخباره الشريفة، واسمها ختمم النبوة، أي علامة.

وثانيا: يقول إشعيا إنه «يدعى اسمه عجيبا» ولفظة العجيب هي من جملة أسمائه الشريفة، لأنه ما من أحد من الأنبياء سلفا ولا من جميع بني إسرائيل تسمى باسمه الشريف، أي أنه تسمى أحمد، محمدا، حميدا، محمودا، والعجب الأخير أيضا من كونه من سلالة إسماعيل العربي، الذي ما قام مهم سواه واحدا وحيدا.

وعدا ذلك أن لفظة "عجيبا" قد وجدت في التوراة اليونانية "رسولا"، ولفظة رسول يستحقها أيضا لأنها هي الاسم الغالب عليه والشهير به والمختص به دون غيره من الأنبياء، ومكررا عليه كرات عديدة كلفظ نبي، ثم أيضا سماه إشعيا مشاورا، وذلك مطابق لما سماه الله تعالى في القرآن الشريف بقوله له: (وشاورهم في الأمر)، فهو مشاور. ثم دعاه إشعيا أيضا جبارا طايقا، وهذه الأسماء مع ما تقدمها هي من أسمائه الشريفة، وقد تجدها حرفيا في كتاب دلائل الخيرات مجمعة من الكتاب والسنة.

وثالثا: إن إشعيا قد قال عنه بأنه «أب الأخير» وفي الحقيقة أنه صار أبا، واستولى على الدهر الأخير، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، لأنه لم يقم بعده ﷺ نبي.

ورابعا: قد قال عنه إشعيا أنه «سيد السلام»، أعني أنه رئيس الإسلام والمسلمين الذين هم الأمة المخلصة الدين والحب لله تعالى، وأهل الوداد والعهود، أعني السلام والتسليم، وأشار إشعيا بلفظة "سلام"من كون لفظة سلام هي كقطب دائرة، تجمع إليها من خطوطها سائر تصاريف السلام مع اشتقاقاته، من كونها مصدرا لتفريع معانيه، ونبينا المختار دعي رئيسا لهذا القطب، أي أنه رئيس ليس لدين الإسلام والمسلمين فقط، بل هو رئيس لجميع فروع السلام، كما نعت بها في القرآن الشريف مرارا، مثلما قال عنه إشعيا.

وخامسا: قد قال عنه إشعيا «ليكثر سلطانه»، وهذا القول قد ورد في سفر التكوين إلى سيدنا إبراهيم وللسيدة هاجر عن رئاسة نسل سيدنا إسماعيل، الذي منه سيدنا محمد ﷺ. [30]

وسادسا: قد أفادنا إشعيا عن دوام دين الإسلام بقوله: «ولسلام ليس له حد وقياس». وهذه نبوءة صريحة بأن دين الإسلام يبقى إلى انتهاء العالم.

وسابعا: قد قال إشعيا بأن نبينا يجلس على كرسي داود وعلى مملكته، ليرتبها ويساعدها بالعدل والإحسان، الذي هو الحنو، وحيث إن كرسي داود وسلالة ملكه قد فنوا قبل مجئ عيسى بزمان طويل، [31] واستولى عليها الرومانيون قبل زمان عيسى، وفي زمانه، وبعد زمانه، فلزم أن يكون هذا الجلوس على وجه الاستعارة، أي أنه يقصد منه الجلوس والترتيب والمساعدة من رجل صالح مؤمن بالله، وصاحب شريعة يجري في شريعته العدل والفضل، وليس معناه أن يكون كطيباريوس الروماني أو كأوغسطس قيصر الوثني، الذين كانا على كرسي داود فعليا في زمان عيسى وكانا بعيدين من شريعة عيسى وموسى، لأن كلام إشعيا إنما هو عن مجئ رجل يجمع الشريعتين، أعني: شريعة موسى العدلية، وشريعة عيسى الفضلية، ويجعل لكل منهما مركزا بحيث أن كل واحدة منهما مفتقرة إلى الأخرى.

ونرى ذلك الترتيب عيانا في شريعة نبينا محمد ﷺ، المرتبة من العدل والفضل، كما جاء في قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله).

فهنا في قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قد استعمل الشريعة العدلية، وأما في قوله (فمن عفى وأصلح فأجره على الله) فقد أفادنا عن الشريعة الفضلية المفوضة إلى إرادة الإنسان، ومن قوله تعالى (العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن). وباقي غلاقة القول العدلي قد أضاف إليه القول التصدقي أي الفضلي بقوله تعالى غب ذلك (فمن تصدق به فهو كفارة له).

وهذا القول الشريف المركب من العدل والإحسان، أي التصدق الجامع بين الشريعتين السابقتين الذي كان في أصل شريعة موسى وانمحى ينطق على نبوءة إشعيا هذه القائلة عن المتنبأ عنه: إن إتيانه يكون بالعدل والصدقة. [32]

وهذه المعاني هكذا كان يفهمها النصارى واليهود القدماء، وكانوا يسلمونها إسلاما خالصا. وأما النصارى المتأخرون فيصرفونها إلى عيسى عليه السلام، والحال أنها لا تطبق عليه.

أولأ: لأنه ماكان لعيسى رئاسة مرتبطة في قوة كتفه المتعلق فيه ذراعه وسيفه، بل إنه كان خاليا من الرئاسة مطلقا، ولا كان له في كتفه علامة شامة كبيرة مكشوفة كالمصطفى، وكان دائما يتخوف ويتهرب، كما يخبر عنه إنجيلهم، ومحكوما عليه.

ثانيا: إن سيدنا عيسى المسمى عندهم يسوع لم يكن اسمه "عجيبا"، لأنه قد سبقه من كان باسمه من الأنبياء، وهو يشوع بن نون، [33] وخلافه كثيرون، ومع ذلك فنرى أن لفظة «اسمه عجيبا» قد انطبقت على نبينا المصطفى ﷺ من كل جهاتها، لأنه من عهد آدم إلى الآن ما خرج نبي من الأنبياء اسمه أحمد، محمد. وأعجب من ذلك خروج هذا النبي الكريم من بني إسماعيل في قبيلة معدومة الأنبياء. عدا أن هذا الاسم الذي هو «عجيبا» هو من جملة أسمائه، وتراه مدرجا في "دلائل الخيرات"، ولهذا قد دعى إشعيا اسمه عجيبا،وقد صادق على ذلك، أي على قوله: «عجيبا» عيسى بقوله: «وهو عجيب في أعيننا»، وما كان عيسى جبارا مثل المصطفى، بل إنه كان يتظاهر دائما بأنه كان ضعيفا فقيرا.

وإن قيل عنه من النصارى إنه كان جبارا بلاهوته وليس بناسوته، فأقول: إننا نقضنا هذا الوجه نقضا كافيا فيما سلف وأنه ليس فيه لاهوت. والآن نقول أيضا: إن كان سيدنا عيسى جبارا حسب لاهوته المتحد فيه ناسوته فلماذا عندما تضيق وتحزن وبضجيج توسل وبخوار صوت وأظهر ضعف الإنسانية انحدر ملاك من السماء مقويا له كما أخبر إنجيلهم؟ وأين كان جبروت لاهوته، ولماذا ما صبر لاهوته ناسوته على التضييق وقواه؟ بل إنه افتقر إلى ملاك ليقويه، مع أن هذا الافتقار والمساعدة خلاف افتقاراته الطبيعية ومساعداتها. وأيضا مادعي عيسى مشاورا ولا تسمى هذا الاسم على الإطلاق.

ثالثا: ان عيسى ما كان أبا الأخير، بل كان متوسطا فيما بين موسى ونبينا عليهما السلام وعليه البركات.

رابعا: إن عيسى ما كان رئيس سلام كما قال إشعياء بل كان رئيس الأمة المسيحية، وأما رئيس سلام أي رئيس الإسلام فقد كان محمدا المصطفى ﷺ.

خامسا: إن عيسى لم يكثر سلطانه كما تنبأ عنه إشعيا، بل إنه ما كان له ملك أبدا لأن اليهود لما أرادوا أن يخطفوه ويصيروه ملكا هرب. [34]

سادسا: إن سيدنا عيسى ما كانت شريعته عدلية وفضلية كما تنبأ إشعيا في هذه النبوءة، بل كانت شريعته فضلية فقط. وأما الذي انطبقت عليه هذه النبوءة وجاء بالشريعة المرتبة بالعدل والإحسان هو أبو القاسم محمد خاتم الأنبياء والمرسلين. ﷺ

فإذا كان إشعيا تنبأ عن رجل يكون إتيانه بهذه الصفات المشروحة، أي إنه يكون صاحب شريعة ممتزجة من العدل والفضل وصاحب حكم وتملك والأب الأخير الذي لم يعقبه نبي آحر غيره، ورئيس سلام، أعني رئيس الإسلام، ومشاورا وجبارا وطائقا وعجيبا اسمه، ووصاحب علامة على كتفه المتعلقة برئاسته الدالة عليه دون غيره الذي إما على وجه المجاز على مذهب أصحاب علم المعاني والبيان هي رئاسته بسيفه، الذي كان يقلقه على كتفه، كعادة العرب إلى الآن، [35] وإما على وجه الحقيقة تكون الشامة الكبيرة المكتوبة هي العلامة التي كانت على كتفه، التي لا تقبل أدنى شبهة.

وهذه الصفات قد وجدت فيه حقيقية ظاهرة، أي في النبي المصطفى ﷺ، وليست مجازية، وإذا وجدت الحقيقة فلا محل للمجاز. فكيف يسلم العقل قبولها على سيدنا عيسى عليه السلام الذي لم تنطبق عليه، مع أنه ليس مفتقرا إلى سرقة الشهادات التي قيلت عن المختار ﷺ، إذ إنه قيل عنه من إشعيا ومن الأنبياء شهادات أخر كثيرات، التي لم تنطبق على غيره، حتى ولا على نبينا المصطفى صلى الله عليهما وسلم أفضل الصلاة وأتم السلام.

الشهادة الثامنة

إن النبي إشعيا قد أورد في الإصحاح الحادي والعشرين كله ألغازا أخر تنبئ عن نبينا محمد ﷺ، إذ قال من العدد الأول مبتكرا فيه وقائلا: «ثقل البحر البري».

إن إشعيا النبي القائل: «ثقل البحر البري»، قد أشار به عن نبينا وأخذ فيه وجه الاستعارة التشبيهية بأنه بحر بري، أعني أن خروجه ومشيه وفعله في البر مميزا إياه من البحر المائي وإضافته إلى قوله: «ثقل البحر»، أعني أمواجه البليغة التي كانت تهيج فيه، وتكسر سنن الكفر مع أصنامها، وأردف أن قال عن وجوه وروده: «إنه مثلما تأتي الزوابع من الجنوب يأتي إلينا من البر من بلد مخيف» يعني أن هذا البحر مع ثقله وأمواجه، يأتي إلينا من البر من بلد مخيف كالزوابع. ونبينا ﷺ كان مجيئه كالزوابع الجنوبية، وكالأمواج الثقيلة، وكان يلاطم ويهدم البروج الكفرية التي كانت يومئذ مشيدة عند الأعم من البشر، وأضاف إلى قوله: «إنني أخبرت ببيان صعب، العاصي يعصي والناهب ينهب».

ففي هذا النبي إشعيا قد أظهر ثقل فعل البر البري، وكيف نهب العصاة لله كموسى، وهذا النهب هو من خصال العرب، وقد تعجب منه إشعيا إذ قال: إنني أخبرت ببيان صعب الناهب ينهب، وأما على وجه المجاز فنقول بأنه ﷺ نهب العصاة.

وأكد المعنى أن اشار عن نفسه بلسان الحال: «امتلأ حقوي وجعا ومغصا في قلبي، وارتعاشا، والظلمة أزعجتني». يعني أن ظلمة الكفر التي كانت معششة في البشر [36] كانت مورثة على رسوله الانزعاج والمغص، ثم قال: «ابسط المائدة اطلع من المطلع إلى الآكلين والشاربين، قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة». كأنه يتكلم بلسان حال نبينا ﷺ الناظر إلى الآكلين والشاربين، والمنادي إلى صحابته الكرام، «قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة»، لأنه هكذا قال لي الرب: «اذهب وأقم الديدبان ليخبر مايرى، فرآى فارسين أحدهما راكب حمار والآخر راكب جمل. فالراكب على الحمار هو سيدنا عيسى بدخوله عليه القدس الشريف، وأما الراكب على الجمل فهو دليل كاف على نبينا ﷺ.

فهذه العبارة هي على موجب التوراة العربية المترجمة عن اللاتينية، وأما على موجب التوراة العبرانية فالمعنى فيها أجلى من هذا لأنها تقول: (قاري ريخيب صيميد فاراشيم ريخيب حاسود ريخيب كامال) وترجمتها إلى العربي: «فرأى ركب رديف خيل ركب حمار ركب جمل»، وهذه كانت جيوش نبينا المصطفى ﷺ، خلاف عساكر الملوك المقاتلين، لأن الملوك لا تركب جيوشها مراديف، ولا يركبون حميرا ولا جمالا، وهذه عادة العرب فقط على وجه التغلب، وإن إشعيا على هذا المنوال أبصر في رؤياه جيشو نبينا ﷺ ركب رديف خيل ركب حمار ركب جمل. [37] «فصرخ الأسد»، أي نبينا الأعظم ﷺ، وهذا نوع من الالتفات، «على مطلع الرب أنا واقف بالليل وبالهار».

وبالحق إنه كالأسد، وإنه على أوامر الرب كان واقفاء وبها عارفا.

يقول إشعيا: «وإذا برجل راكب أزواجا من الفرسان»، وقال: «سقطت بابل مع أصنامها»، وهذا التفات ثان.

أقول: فكأن الله سبحانه قد كشف لإشعيا أعمال رسوله محمد ﷺ مكررا عليه المعاني لأجل التأكيد، مخبرا له عن رديف الفرسان أزواجا أزواجا ومعهم رجل. وبلا شك إنه هو ﷺ الذي كانت جيوشه مراديف أزواجا، وأبان عن السقوط الكائن من فتح بابل وإسقاط أصنامها. [38]

وختم إشعيا كلامه: «إن هذا من عند رب الأجناد».

ثم أفصح بنبوءته عن الأمكنة والأشخاص، أما عن الأمكنة فقال: « دومة تصرخ إلي من ساعير يا حارس فقال الحارس: ارجعوا وأقبلوا». [39]

أقول: إن ساعير اسم إيالة، ودوما اسم بلد في ساعير قد كانت مثقلة بالضلال، وأهلها بلسان الحال قد استغاثوا بالحارس، أي بالنبي اليقظان فجاوبهم: «إلى الله ارجعوا واقبلوا». [40]

وأما عن الأشخاص فقال: «ثقل على العرب حسبتم تبيتون في الغاب».

والمعنى الذي أورده في أول الإصحاح، أي ثقل البحر البري قل أورد توجيهه هنا: بأنه يكون على العرب، لقوله: «ثقل على العرب»، أعني أن أول توجيهه وإنذاره كان إلى العرب ثم إنه جمع بقوله: «تلاقون العطشان بالماء يا سكان التيمن واخرجوا بالخبز للقاء المنهزم».

إن هذه النبوءة من إشعيا قد انطبقت على نبينا محمد ﷺ من دون شك ولا مراجعة، إذ إن إشعيا المشار إليه ما ترك مقطعا من هذا الإصحاح خاليا من إشارة ورمز على نبينا ﷺ، فكأنه في هذا العدد الذي هو الخامس عشر يقول: يا سكان التيمن - أي القبلة - اخرجوا بالخبز والماء للقاء المنهزم، فبقوله المنهزم كأنه يتعمد شخصه السامي الشريف، لأنه في أول نبوته حينما انهزم وهاجر من وطنه، أي من مكة الشرفة وجاء إلى المدينة المنورة، فعلى الطريق قدم له الخز والماء من سكان التيمن. [41]

ولفظة التيمن مع لفظة العرب السابقة عليها ها من أكبر الأدلة على ظهوره من تلك المحلات لا من سواها، وفي المقطع الذي يتلوه قد عطف إشعيا بضمير الجمع إذ قال: «لأنهم منهزمون من قبل السيوف، من وجه السيف الحاضر، من وجه القوس الموترة، ومن وجه الحرب الشديدة» يعني أن خصومه ينهزمون في عودته ورجوعه عليهم من قبل السيوف من وجه السيف، كما جاء الأمر عليه بقوله تعالى له (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)، وكذلك جرى ذلك الانهزام على أعدائه، أعني من جراء سيفه وقوسه الموترة والحرب الشديدة، وكلام إشعيا «بأنهم منهمزمون» متوجه على العرب وعائد ضميره إليهم، والدليل على ذلك هو قوله: «ثقل على العرب».

وترى هذه المعاني موضحة في محلاتها، إذ أن سيدنا محمدا ﷺ هو الذي كان وروده كثقل البحر، وكان هو بحر بريا وليمى مائيا، وهو الذي أتى لنا من البر من بلد مخيف، مثلما تأتي الزوابع من الجنوب، ونهب العصاة». [42]

وهو الذي قد نادى صحابته: قوموا يا أيها القواد ودربوا بالأتراس، وكان ﷺ فارسا، وجيوشه المراديف الراكبين الجمال والخيل والحمير.[43] وهو الأسد الذي صرخ «على مطلع الرب: أنا واقف»، أي على مناظر الرب وأوامره، أنا واقف نهارا وليلا، وهو الرجل الراكب أزواجأ من الفرسان، العارف سقوط بابل قبل كونه مع أصنامها، الصائر فيما بعد من أمته وخلفه، وهو الذي نادته دوما من ساعير: يا حارس، و أجابها: «ان طلبتم فاطلبوا ارجعوا إلى الله واقبلوا». [44]

وهو الثقل الذي كان على العرب العصاة الذين انهزم منهم وهاجر، وقد لاقوه سكان التيمن أي القبلة بالخبز والماء وفيما بعد عند رجوعه غدت أعداؤه مهزمين من وجهه ومن سيفه وقوسه من وجه حربه الشديد.

وبالاختصار أقول: إن إشعيا قد ختم كلامه هذه الجملة الحاملة تلك الإشارة الوافية المعنى بقوله: «بأن هكذا قال لي الرب في انقضاء سنة كسنة الأجير يفني كرامة قيدار وبقية عدد أصحاب القسي الجبابرة من بني قيدار يتقللون فإن الرب إله إسرائيل تكلم».

أقول: إن معنى قوله في انقضاء سنة كسنة الأجير أراد به حولا طويلا وثقيلا، إذ إن الأجير المستأجر قد يحسب سنة استئجاره أنها طويلة ثقيلة. ونبينا رسول الله ﷺ المشبه بالبحر البري من بعد انتهاء هذه السة الطويلة التي جاهد فيها، التي شبهها إشعيا كسنة الأجير قد أفنى فيها جميع كرامة قيدار، لأن قيدار قبيلة وهي سلالة من ثاني ولد من أولاد سيدنا إسماعيل التي كانت تحارب رسول الله محمدا ﷺ لما عصت دينه الشريف، وأنشأت عليه الحروب الردية، فسحق قسي جبابرتهم وتقللوا كما تنبأ عليهم إشعيا بقوله: «يفني جميع كرامة قيدار وبقية أصحاب القسي الجبابرة، من بني قيدار يتقللون، فإن الرب إله إسرائيل تكلم». وهذه النبوءة مربوطة بجملة علامات ومنطبقة على نبينا الأعظم ﷺ دون سواه.

الشهادة التاسعة

إنه في الإصحاح الثالث والثلاثين من تثنية الاشتراع قد أفادنا سيدنا موسى نبوءة وإشارة عن الأرض التي منها خرجت شريعة وأنوار سيدنا محمد ﷺ، وهو جبل فاران، الذي في أرضه موجود مكة المشرفة بقوله: «جاء الرب من سيناء وأشرق لنا من ساعير واستعلن من جبل فاران».

أقول: أما قول سيدنا موسى بأنه «جاء الرب من سيناء»، أي أنه تعالى أورد ثمريعته بكتاب التوراة في سيناء، وأما قوله: «وأشرق لنا من ساعير» فهي نبوءة عن ثمريعة عيسى لأن ساعير كما كتب عنها في سفر التكوين وفي كتب الجغرافيا هي معلومة، بأن فيها أشرقت البشارة والإنذار في الديانة انصوانية، لأنها كانت من حظ سبط يهوذا، وعيسى كان من سلالة سبط يهوذا.

وأما قوله: «واستعلن من جبل فاران» فمعناه أنه من هناك ظهرت شريعة الله تعالى وناموسه العظيم الذي هو القرآن الشريف الذي أنزل على المصطفى الكريم، لأن جبل فاران وأرضه هو ظرف لمكة المشرفة، حيث كان يتردد ﷺ، وولادته كانت هناك، وله فيها أحاديث كهيرة وعجيبة.

ولفظة فاران لها معان كثيرة في م "شوراش" العبراني، أي القاموس، منها الجبل الظليل، ومنها الجبل الذي فيه مغر مجوف من داخله، كما ترجمت هذه اللفظة من اللغة اليونانية.

وجبل مكة الذي شرحنا عنه، الذي موقعه بقربها مسافة ثلاثة أميال، واسمه الآن غار حراء، بمعنى المغور الذي كان ﷺ يختلي فيه في مغارة ثمان سنوات، معتزلا لفراغ القلب بالذكر، وفيه أوحى الله تعالى إليه بواسطة جبرائيل عليه السلام، والذي يؤكد ذلك ظهور أنوار سيدنا محمد ﷺ منه وشريعته الغراء وليس سواها، كما قد يثبت هذا الباب حبقوق النبي في الشهادة التي تتلو هذه، إذ إنه مع ذكر اسم فاران، يعين أيضا جهتها التي هي القبلة لئلا تجهل وتلتبس. [45]

وأيضا أقول: إن لفظة فاران مشتقة من فاران في اللغة العبرانية، وتعريبها المتجمل المتزين، وكأن حبقوق مع موسى عليهما السلام يقولان عن نبينا: إنه يأتي من الجبل المتزين. وجبل مكة يصدق عليه هذا الاسم أيضا، بحيث هو المتجمل بوجود بيت الله، الحرم الأعظم المبني فيه من دهور عديدة، قبل ظهور النبي الكرم، من سيدنا إبراهيم، المتردد على تلك الأمكنة، كما هو محرر في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر. وقيل من قبله وعاد فتجدد. ومن هذا الجبل ظهر نبينا محمد الأعظم، وكانت صحابته عشرة، كما تنبأ عنهم زكريا في الشهادة السابقة وشهادة الحال، أعني ظهوره ﷺ من ذلك الجبل المترين، الذي هو بالبراني فاران، هو الإثبات الجاذب لشهادة المقال.

وإن قيل: إن سيدنا موسى تكلم بهذه الاشارة بصيغة الماضي، لأنه قال استعلن، ولم يقل يستعلن بصيغة المضارع.

فأجيب: إنه من عادة الكتب أن تستعمل صيغة الماضي بمعنى المستقبل في بعض محلات، ومن واقع الحال قد يعلم ذلك، كما أنه قل قيل من سيدنا داود عن عيسى: «بأن إلها قام في مجمع الآلهة»، على صيغة الماضي، وهو وقتئذ لم يكن قام، وقوله: «والرؤساء اجتمعوا جميعا»، ولم يكن بعد اجتمعوا، وأمثاله فهي في الماضي، والنصارى تفسرها بالمستقبل.

الشهادة العاشرة

إن حبقوق يقول في الإصحاح الثالث: «ايلواه من التيمن يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس، غطى السماء ببهجته، ومن شكرانه امتلأت الأرض، بهاؤه يكون كالنور، قرون من يده، هناك مختفية قوته، قدامه يمشي الوبا، ويخرج الشرار لعند قدميه وقف ومسح الآرض، نظر وحل الأمم وتبدد جبال العالم وانحنت آكام الدنيا، العالم هو له».

أقول: إن هذه الشهادة قد حلت وكشفت أولا نبوة سيدنا موسى عليه السلام التي سبقت في الشهادة التاسعة، وهي قوله: «استعلن من جبل فاران».

فههنا قد كشفت، وعين حبقوق أن جبل فاران هو الذي موقعه في التيمن، التي هي القبلة، وليس هو البرية التي هي مجاورة سيناء، بقوله: «ايلواه من القبلة يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس»، وسماه حبقوق ايلواه أي إله.

وكما قررنا عن لفظة إله أنها بالعبراني مشتقة "إيل"، التي ترجمتها إلى اللغة العربية طايق مكين. فكأن حبقوق قد عين مكان خروج نبينا ﷺ ونعته بقوله «الطايق من القبلة يأتي ومن جبل فاران يدعس»، أي جبل فاران، الذي هو في لصيق الأرض التي فيها مكة المشرفة، وهو في القبلة أيضا، وليس في حدود سيناء، لأن التي في حدود سيناء هي برية كما قلنا، وههنا حبقوق يذكر جبلا مثلما يذكره مومى، مع أن برية فاران أيضا مسكنا لإسماعيل وخلفه، وهناك تزوج بالمرأة المصرية. راجع سفر التكوين في الإصحاح الحادي والعشرين.

فهذا النبي الكريم الذي سماه حبقوق ايلواه، وأنه يأتي من القبلة من جبل فاران، قد أشار عنه بأوصاف أخر وهي قوله: «غطى السماء ببهجته، ومن مدحه امتلأت الأرض، وبهاؤه كالنور».

فكل هذه الأوصاف تراها معلقة على سيد المرسلين، بحيث لم يشترك معه غيره فيها، لأنه ماوجد في الكون نبي أبهج مه وأبهى، ولا وجد سواه من يمدح في المنائر والمنابر، في المساجد والأزقة، من العلماء والفقهاء، من الأغنياء والفقراء. وقد ترى جميع ألسنتهم غير هادئة من مدحه وشكرانه وأداء الصلاة والسلام عليه وأنواع البركات التي لم يكن لغيره صائر مثلها مثل موسى وعيسى عليهما السلام، وذلك تطبيق لنبوءة حبقوق القائلة: «ومن مدحه امتلأت الأرض».

وأثبت حبقوق نبوءته ﷺ بإشارته إلى القرون التي كانت من يده، وهم الصحابة الكرام، التي كانت قوته مختفية فيهم، لأن حبقوق على بسيط القول تنبأ على أن قرونا في يده، وهناك مختفية قوته، أي في القرون. أعني القوة التي ظهرت بالفتوحات وانتشار الدين من صحابته النجباء رضي الله عنهم، الذين قد سماهم ههنا حبقوق بالقرون، وأضاف إلى ذلك بأن «قدامه يمشي الربا»، وهذا هو وجه الاستعارة التشبيهية، أي أنه شبه موت السيف العجول الذي عمله بالوبا، وأما على وجه الحقيقة فنرى هنا حبقوق كأنه كان ينظر بعينيه ما قد حدث من أمر الوباء وكيف أنه أطاع رسول الله ﷺ لأنه ﷺ حضر لديه الوباء مع جبريل عليه السلام فأرسله إلى بلدة سكانا يهود، واسمها الجحفة، التي منها الآن تبتديء أعمال الحج المصري في القعدة، لأن يهودها في تلك الأيام كانوا كامنين لرسول الله ﷺ الضر. وهذا الوباء هو الذي أرسله ومشى قدامه، وهو مطابق لنبوءة حبقوق هذه حرفيا، كما جاء هذا الخبر في أحاديثه الشريفة في سيرة حياته المنقولة في كتاب مؤلف من الشيخ علي برهان الدين الحلبي، ويسمى القصة الحلبية. وقد نقل عنه في حديث آخر بانه ﷺ أرسل قدامه الوباء إلى الشام« وهي بلد من بلد حوران.

«ويخرج الشرار لعند قدميه». إن الشرار الذي أفادنا عه حبقوق هو الذي قال عنه إشعيا في الشهادة الخامسة «بأن حوافر خيله مثل الصوان الذي منه ينبعث الشرار»، ويخرج لعند قدميه حينما كان يمشي قدامه الوبا ويحارب وييت أعداء دينه السامي، الموردين الضر عليه، بعد نصحه لهم ﷺ كإيليا الذي قتل كهنة باعال بالسيف، وبدد جبال العالم، أعني أنه قد شتت ذوي الاقتدار وانحنت آكام الدنيا له، أعني الممالك، لأن العالم هو له، بحيث إنه هو سيد الأولين والآخرين.

وبالاختصار إن سيدنا عيسى ما جاء من التيمن، أي من القبلة كما قال حبقوق، ولا من جبل فاران دعس، وكل هذه الأوصاف المشروحة لم تنطبق عليه [46] كانطباقها على المصطفى ﷺ. [47]

الشهادة الحادية عشر

إن سيدنا عيسى عليه السلام قد أفاد عن ورود سيدنا محمد ﷺ بعده وأنه أعظم من كل الأنبياء بقوله في بشارة لوقا في الإصحاح السابع، وفي بشارة متى الإصحاح الحادي عشر: «إنه لم يقم في مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان، وأما الأصغر الذي هو في ملكوت السماء فأعظم منه».

أقول: يا ترى ومن هو هذا النبي الاصغر الذي هو في ملكوت السماء، الذي أفاد وأشار عنه عيسى عليه السلام وأنه أعظم من يوحنا المعمداني الذي هو أعظم من كل الأنبياء؟ فلنلظر إلى الوسط من تفاسير علماء النصارى لهذه الآية، ونقول إن قوما منهم قالوا إنها منيوحنا الإنجيلي، أحد حواريي سيدنا عيسى. وقوما منهم قالوا إن هذه الاية مقولة عن عيسى نفسه.

فأجيب: إن هذين القولين منقوضان، لأن يوحنا الإنجيلي ما تسمى نبيا على الإطلاق ولا نعت بأنه أعظم من كل الأنبياء، إذ أن بعضا من النصارى قالوا إن بطرس الحواري أعظم منه، وقوما قالوا إنه مساو لبطرس، ومع ذلك فإنه ليس يوحنا الإنجيلي فقط الذي لم يكن نبيا، بل لم يكن بعد عيسى من قومه نبي، فضلا عن أن يدعى أنه أعظم الأنبياء، وصريح الاية تشهد عن الأصغر بأنه نبي، وأنه أعظم من كل الأنبياء.

وأما الذين فسروا هذه الآية على شخص عيسى فنقول لهم: إن سيدنا عيسى ليس هو من مواليد النساء الطبيعية المعتادة كمثل المعمداني أو كباقي الأنبياء، حتى يستدل بأن هذه الآية مشيرة عليه، لأنه عليه السلام مولود من آنسة بتول عذراء، ولم يولد بالأوجاع والزرع النكاحي والعامل النسائي المألوف كالمعمدان أو كباقي الأنبياء.

فبإبطال هذين القولين وعدم احتمال المعنى لهما، وإسقاط الدعوى ما يوجب أن يكون المضون منصرفا ومقولا عن نبي آخر شهير عظيم خلافهما تنطبق عليه الآية: فيكون النبي الموعود به من عيسى هو من مواليد النساء الطبيعية المألوفة مثل يوحنا وباقي الأنبياء، ومنعوتا وشهيرا بالعظمة.

ونرى أنه لم يقم نبي بعد المعمداني بهذه الصفة، بل لم يوجد من تسمى أصغر وعظيما وموجودا في عالم الأرواح تطبيقا لإشارة سيدنا عيسى سوى سيد المرسلين الأولين والآخرين، وهو الذي قيلت عنه هذه النعوت ﷺ، الذي قال عنه موسى الكليم في الشهادة الأولى: «إن الرب إلهكم سيقيم نبيا من إخوتكم مثلي...».

وأيضا نقول: إن لفظة الأصغر المقولة بهذه الآية الإنجيلية هي في اللغة اليوناية "اوميكرتيروس"، وهذه اللفظة عند علماء الغراماتيك والنحو يونانيا وعربيا تفيد المبالغة بالصغر، كما أن لفظة "ميغاليتوروس" التي هي أعظم. وهذه المبالغة بالصغر تصدق على المختار من كونه هو الأصغر في كل الأنبياء، إذ إنه آخرهم جميعا وأتباعه، وبأن هذا الأصغر هو الأعظم بالمجد والشرف، وقد علم منه بأنه، أي نبينا، هو الأصغر بالتأخير، وهو الأعظم بالمجد والشرف والكبير في رتبة النبوة.

انتهت الشهادات

هامش

  1. حاشية: اعلم أن قوله من إخوتكم قول ملغوز فائق الحكمة، لأنه لو كان قصد موسى عليه السلام عن أن النبي الذي وعد به هو من بني إسرائيل لكان ينبغى له أن يقول عوضا من إخوتكم، إن منكم يقيم الرب نبيا أو من أسباطكم أو من سلسلتكم أو من نسلكم أو من زرعكم أو من بنيكم أو من مولوديكم، وبحيث إنه قد ترك ذكر هذه السلسلة النازلة لزم أن يكون الحق كما ثمرح المؤلف بتطبيق العلامات والقرائن الدالة عليه من موسى عليه السلام في هذه الشهادة.
  2. حاشية: اعلم أن التغليب المقول من صاحب التأليف قد يراد به عد أصحاب علم البديع بالمثال، على أن اسم نبي قد ورد مقولا في الإنجيل على عيسى مرتين أو ثلاثة، وأما في القرآن الشريف قد ورد مقولا على رسول الله مرات عديدة، وتكثير هذه المرات قد يقال له عند العلماء: التغلب، وهو تكراره في الاستعمال كرات عديدة، النبي النبي النبيى النبي، [وقد تكرر على عيسى في الإنجيل مرتين أو ثلاثة فقط].
  3. حاشية: اعلم أنه بالتبعية لكلام النبوة ينبغي أن يكون تيطس من المقتولين المستأصلين لأنه ما سمع لعيسى فكيف يسوغ أن يقال بأنه هو المستخلص حق عيسى والنائب عنه والمنتصر لدينه.
  4. حاشية: اعلم أن هذه الشهادة مترجمة على موجب أصلها باليوناني مع كون في نصفها ويدمس بشكل هلالين اللذين يدلان على أن الموحود فيما بين الهلالين هو دخيل.
  5. حاشية: اعلم أن لفظة بارقليط إذا ترجمتها للعربي حرفا بحرف بالمطابقة هي الداعي، ومشتقة من دعى يدعو، وهو اسم من أسماء النبي ﷺ
  6. حاشية: اعلم أنه قد أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم إلى أن يلبسوا قوة من العلا بورود الروح القدس عليهم، ولم يقل إنهم يلبسوا بارقليطا أي داعيا.
  7. حاشية: اعلم أن في اللغة اليونانية يوجد فعلان للمستقبل: فعل بعيد وفعل قريب، وهذه اللفظة وجدت مكتوبة في وزن الفعل البعيد، أعني: يشهد لي بمعنى سوف يشهد.
  8. حاشية: ولفظة شاهدون قد يراد بها في اليوناني ليس الفعل الحالي فقط، بل والمستمر.
  9. حاشية: اعلم أن مثال ذلك قد قاله موسى أيضا في تثنية الاشتراع: إن الرب إلهكم سيقيم لكم نبيا مثلي. وقد يفسره النصارى على عيسى الذي جاء بعد موسى بنحو ألف وقريب الستمائة سنة.
  10. حاشية للناسخ: إن الطيب الذي سكبته الامرأة على عيسى كان عطورات، إلا إن ههها ذكر داود أنه (مرّ) أي مسك وهو علامة للنبي.
  11. حاشية: اعلم بأن قول المزمور المأخوذ عن اللغة العبرانية بأن المر الذي هو المسك من أقصى ثيابه، فلفظة أقصى الثياب تشير إلى جسمه الشريف، لأنه لا يوجد في أقصى الثياب إلا الجسم. ونبينا ﷺ قد نقل عنه في حليته الشريفة كان له رائحة عطرية تطبيقا لهذه النبوءة الداودية، ولفظة مسحه هي على موجب اصطلاح اللغة العبرانية في التوراة بأن كل نبي يسمى مسيح الرب، أي أن الله أقامه نبيا.
  12. حاشية: اعلم أن ما من أحد من الانبياء الذين هم من بني إسرائيل رفع علامة للأمم ولا أنذرهم، حتى ولا عيسى، بل محمد المصطفى ﷺ الذي هو وحده رفع للأمم وهو من الأمم، كما تنبأ عليه إشعيا، ومن غلاقة شرح هذه الشهادة قد ترى هذا المعنى صريحا ظاهرا.
  13. حاشية: اعلم أن الخفة وعدم التعب اللذين ذكرهما إشعيا في جيوش النبي ﷺ هما برهانان قويان ظاهران مشيران على الملائكة الذين كانوا يحاربون معه وعنه، كما خبرهم مشاع في القرآن الشريف في سورة الأنفال بألف، وفي سورة آل عمران بخمسة آلاف، لأنهم أي الملائكة ما كان يعتريهم ألم ولا تعب ولا عي، وسريع إتيانم إلى مساعدة رسول الله.
  14. حاشية: اعلم ولتأكيد أنه بالنية لا بالفعل، أن وقت قول سيدنا عيسى (هذا المثل) ما كان قتل على زعمهم، وهو ذكر أنهم أخرجوه خارج الكرم وقتلوه.
  15. حاشية: اعلم أنك إن أردت أن تعرف البينة من كتب النصارى أين وجد مشارا بالتحريف في كتبهم ذاتها، فعليك بمطالعة كتب مورخيهم، وفي رسالة بولس إلى أهل قرينته الإصحاح الثاني والعدد السابع عشر، وفي رسالة بطرس الثانية الجامعة الإصحاح الثالث العدد السادس عشر. ثم إذا أردت أن تعرف أين وجد ذكر أناجيل غير أربعة الموجودة الآن وقد اختفت، فعليك بمراجعة إنجيل لوقا الإصحاح الأول العدد الأول، فإنك تجد المطلوب الذي قاله المؤلف رحمه الله تعالى، عدا الشكوك اللاحقة المحررة في الباب الخامس التي تؤكد ذلك التحريف.
  16. حاشية: اعلم أن معنى الهلاك الذي ذكره عيسى ههنا هو نفس الاستئصال الذي ذكره موسى، إذ إن موسى في الشهادة الأولى قال: كل نفس لا تسمع لذاك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها، أي تهلك. وههنا عيسى قد كشف هذا الهلاك وفي أي زمان بقوله : إذا جاء رب الكرم فإنه يهلكهم.
  17. حاشية: اعلموا أنه قد يتوهم بعض من علماء النصارى ويقولون: إن هذا المجئ هو متعلق بعيسى وإنه سوف يأتي بالقيامة. والحال أن القيامة إذا قامت يكون زمان الأعمال والشريعة قد مضى وانتهى وليس يوجد أعمال وشرائع يؤديها البشر. وهنا عيسى عليه السلام يقول: ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته. فيظهر من قوله هذا أنه يوجد بعد مجئ رب الكرم الذي وعد فيه عيسى زمان فيه أعمال وثمار ترجى من البشر، وهي هذه التي ابتدت من حين ظهور محمد ﷺ الذي نزع الملكوت، وأعطاها لأمته الشريفة حتى يثمروا، كما تنبأ عنهم ههنا عيسى عليه السلام.
  18. حاشية: لاحظ هذه البركة التي لإسماعيل في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر والسابع عشر التي ما أخذت مفعولها إلا في ذات شخص سيدنا محمد ﷺ.
  19. حاشية: اعلم أن البركة المقولة من الله سبحانه في سفر التكوين إلى سيدنا إبراهيم المتعلقة في إسماعيل لم تتحقق إلا في المصطفى ﷺ وسليله، التي صدقت عليه هذه البركة مع كل علايمها وعليك في مراجعتها.
  20. حاشية: اعلم أن بطرس أحد حواريي سيدنا عيسى عليه السلام نظرا لشدة محبته لعيسى عليه السلام سماه حجرا، إذ إن التسمية بالحجر مفردا هي صفة محمودة.
  21. صورة
  22. حاشية: اعلم أن لفظة هذا هو الدليل الآخير المقيد باسم الإشارة في قوله: «وهذا الحجر»، وأنه يطحن ويرضض، يستفاد منه أنه مقول عن شخص آخر غير شخص عيسى القائل الكلام، لأن عيسى عليه السلام لا طحن ولا رض، ولا يجوز عند علماء القراماتيك باليوناني أي علماء النحو والصرف أن يعود اسم الإشارة عليه، لكونه هو المتكلم به، أي أن عيسى هو المتكلم به فلا يجوز أن يعود عليه الضمير، بل إنه ينطبق على شخص غير عيسى لأ عيسى هو المتكلم به، والمشار إليه هو سيد المرسلين ﷺ.
  23. حاشية: اعلم أن لفظة "عماخيم" ولفظة "ألوهيم" في العبراني هما مقولتان بصيغة الجمع وأيضا للتفخيم حينما تطلق على المفرد، ومن القرائن يعلم ذلك، فأما لفظة عماخيم المقولة في هذه الشهادة فمن قرينتها التي هي قوله: "تبعوا رجلا" يستدل على أنها مقولة للفرد على وجه التفخيم، لمحما في العربي أيضا يجوز ذلك. وأما لفظة ألوهيم لا يوجد لها مثال في العربي على الإطلاق، بل هو اصطلاح اللغة العبرانية فقط، وهي معلوم عند اليهود.
  24. حاشية: اعلم أن هذه الشهادة كلما قرئت من النصارى مع ضعف ترجمتها كنت أرى أكثرهم منقسمين الأفكار فيها، ويخط في ذهن أذكيائهم عها بأنها مشيرة على المصطفى المختار، لكون صحابته مشهورين عندهم، وأن عددهم عشرة.
  25. حاشية: اعلم أن لفظة اسم حميد هو من جملة أسماء الله، وفي هذه الجملة على موجب اللغة العبرانية لها محذوف مقدر أي اسمه أحمد.
  26. حاشية: اعلم أن معنى كلام المؤلف أنه وجدت هذه اللفظة أي "يااودي" في هذه الجملة، فلا عادت تقبل إلا الوجه الواحد وهو حميد، وذلك استنادا على القرائن المطابقة عليها.
  27. حاشية في مخطوط آخر: واعلم أن قوله أنها تقبل الوجهين إذا كانت بمفردها أي إنها تقبل أن تترجم ياأودي كمثل باقى الأسماء المفردة تعريب، كما مر من كلام المؤلف كإبراهيم وإسحاق، وتقبل أيضا أن تترجم حميد. ولكن في هذه الجملة المقولة من زكريا من حيث وجود القرائن المتعلقة فيها فما عادت تقبل إلا الوجه الواحد هو حميد.
  28. حاشية: اعلم أيها المطالع لهذه الشهادة الجوهرية الفريدة، أنه وجد في التوراة بخط اليد قديمة التاريخ باللغة السريانية، وبالأصح هى التي كتب النبي زكريا بنبواته فيها لما كان في بابل بالسبي، مكتوبا بصراحة عوضا عن لفظة (يا أودي) الموجودة في اللغة العبرانية التي استخدمها المؤلف رحمه الله ومبدلة بلفظة يهوذا ، ولفعلة يهوذا هي بالعربي أحمد، وهو اسم نبينا العلم الظاهر ، ولايلزم شرح لذلك لأن القرآن الشريف في سورة الصف يقول (واذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد). فلا حاجة بنا لشهود من بعد هذه الشهادة.
  29. حاشية: إن في العبراني هذه الجملة لها محذوف مقدر، وهو لفظة علامة، أي وتكون علامة سيادته على كتفه.
  30. حاشية: إن سلطنة النصرانية ما كانت دليلا على دين عيسى لأنها قامت بعد تاريخ عيسى بأكثر من ثلاثمائة سنة، وأما سلطنة نبينا فقد صارت دليلا كافيا، فقد انشرت بنورها حالا في شخصه السامي فعليا، كما قال عنها إشعيا النبي في هذه الشهادة، وثانيا من عدم مطابقتها على عيسى من حيث أن إشعيا يذكر عن المنبأ عنه بأن له ملك دنيوي وأنه يجلس ويقوم بالعدل والإفضال. فعيسى ما كان له ملك دنيوي، لأنه قال: إن مملكتي ليست من هذا العالم، ولا كان له شريعة عدلية وفضلية معا كما قالت النبوءة. بل محمد ﷺ الذي كانت له هذه الشريعة مع السلطة السامية.
  31. حاشية: اعلم أن انقضاء مملكة سلالة داود كانت قبل مولد عيسى بنحو خمسمائة وثمان وثمانون سنة، واستولت عليها البابليون ثم الرومانيون، وعيسى ما جلس عليها ولا ملك.
  32. حاشية: اعلم أن علماء اليهود يترجمون هذه الجملة خلاف أصلها العبراني الذي شرحه المؤلف عن قاموس اللغة العبرانية وقواعدها، لأنهم يترجمونها أي أحبار اليهود إلى الآن بالعدل وبالإنصاف كونهما من جنس واحد، وإذا سأل أحد ما السبب الذي أحوجكم لدفع لفظة التصدق وبدلتموها بالانصاف، فيجيبون أن العدل لا يواسيه التصدق، أي أن العدل والفضل لا يجتمعان، ولم يدركوا هذا السر الإلهي الذي الله سبحانه وتعالى قد أوحى به إلى إشعياء إذ كان مزمعا أن يضعه في شريعته المحمدية الجامعة للوجهين، أعني الفارضة العدل والمفوضة التصدق كما قال المؤلف رحمه الله.
  33. حاشية: اعلم أن لفظة يشوع هي عبرانية، ولما ترجموها من العبراني إلى اليوناني كتبوها "ايسوس" ولما ترجموها من اليونان إلى العربي عربوها يسرع، وأما حقيقة ترجمتها في العربي هي مخلص، وكثيرون هم الذين يتسمون بها إلى الآن عند اليهود في اللغة العبرية.
  34. حاشية: اعلم أن الإنجيلي لم يشرح لنا كيف أرادوا أن يقيموه ملكا، وكم واحدا من اليهود الذين كانوا يحبون عيسى وأرادوا أن يصيروه ملكا، مع أن كل كبراء اليهود وعظمائهم الذين بيدهم الأمور كانوا يبغضونه، وأما المحبون له فكانوا من العوام. والعجب فيهم أنهم كيف تجرؤا على الحاكم الروماني، ولم يخشوا كبراءهم ورؤساء ديانتهم حاشية في مخطوط آخر: اعلم أن من قول المؤلف الذي شرحه يتحقق أن السلطان الذي ذكره إشعيا هنا إنما تحقق في شخص محمد عليه الصلاة والسلام. وإن اعترض النصارى بأن نبينا محمدا ﷺ ما جلس على كرسي داود وعلى مملكته، كما قيل في غلاقة هذه الشهادة، فنجيبهم أنتم تسحبون هذه الشهادة إلى عيسى وعيسى لم يجلس على كرسي داود، لأنه في زمن عيسى كان هيرودوس جالسا عن طيباروس قيصر. وحيث إنها لا تنطبق العبارة على الاثنين حقيقة، فيلزم أن تطلق مجازا على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه هو الذي قوم مملكة داود، إذ إنه الذي جاء بشريعة العدل والتصدق، وتشهد على صحة إطلاقها عليه القرائن التي تقدم شرحها من المؤلف رحمه الله تعالى في بيان معانيها بالتفصيل.
  35. حاشية: اعلم أن البين الواضح الذي قد يحمل عليه هذا المعن حرفيا الذي هو إشعيا بأن رئاسته على كتفه، وهو أن هذه الرئاسة هي الدلالة التي كانت في منكبه الشريف، التي كانت تشير على رئاسته وتسمى خاتم النبوة، وهي شمامة كبيرة في لحم كتفه مكتوبة وشهيرة. وكما قررنا في حاشية سابقة أن هذه الجملة في العبراني أيضا لها محذوف مقدر وهو لفظة علامة، أعني أن علامة رئاسته تكون على كتفه، وهذه العلامة كانت بالواقع على كتف رسول الله، وقد وصل إلينا خبرها بالتسلسل خلفا عن سلف، بأنه ﷺ كانت له علامة على كتفه كشامة كبيرة مكشوفة واشتداد ذراعه.
  36. حاشية: اعلم أن هذه الظلمة المذكورة في هذه الجملة هي التي ذكرها إشعيا في آخر الشهادة الخامسة، أي قوله: وإذا هي مظلمة ضيقة، وهي في هذا المعنى ذاته.
  37. حاشية: اعلم أن اسم حمار وجمل هما أسماء جنس معناهم حمير وجمال.
  38. حاشية: اعلم أن هاهنا سمى إشعيا مكة باسم مجازي وهو بابل، لأن هناك أيضا تبلبلت الآراء والعقول في أمر نبوة النبي ﷺ، وانقسمت عندما تساقطت أصنامها، كما خبر ذلك هو مشاع في القصة الحلبية وغيرها.
  39. حاشية: اعلم أن دوما هو الولد السادس من الاثني عشر، أولاد سيدنا إسماعيل، وهذا الولد هو الذي عمر هذد البلدة، وقبيلته كانت ساكنة فيها، وهي التي استغاثت وصرخت للنبي: يا حارس، كما أخبر هنا إشعيا . وقوله السابق إن هذا من عند رب الأجناد قد وافقه سيدنا عيسى وأكده بقوله بأن هذا كان من قبل الرب وهو عجيب في أعيننا.
  40. حاشية: اعلم أن هذا القول، أي ارجعوا إلى الله وأقبلوا كان لهج وإنذار النبي الكريم، لأن كذا كانت ألفاظه الشريفة ومضامينه.
  41. حاشية: اعلم أن لفظة التيمن هي لفظة عبرانية ومعناها في العربي القبلة التي قد ظهر منها نبينا الأعظم.
  42. حاشية: اعلم أن قوله من بلد مخيف أي من مكة المشرفة التي كانت مخيفة لقلة تمدن سكانها يومئذ، وقد وجد في التوراة العبرانية عوضا عن قوله "من بلد مخيف" مكتوب "من المدينة المنورة" وقوله: نهب العصاة يجوز إن ذلك القول كان حرفيا أيضا بالفعل وكان لمحاربيه، كما أمر الله قبله يشوع ابن نون وموسى بمثل ذلك بنهب العصاة.
  43. حاشية: اعلم أن هذه الأشكال من المراكيب والمراديف هى وحدها كافية أن تثبت هذه الشهادة على المختار لكون تلك المذكورات هي من خصال العرب.
  44. ,حاشية: اعلم أن لفظة يا حارس هي اسم من جملة أسمائه الشريفة وهي مشهورة وموجودة في كتب كثيرة منها دلائل الخيرات، وقد تراها مكتوبة في العبراني الحريص أو الحافظ.
  45. حاشية: اعلم أن بعضا من النصارى يتوهمون أن فاران هي بقرب جبل سيناء، والحال لو أنها كانت هذه فاران المشار إليها من موسى، لكان يلزم أن يذكرها في هذه الشهادة قبل ساعير، وقد تراه أنه ذكرها بعد ساعير خلاف واقعهما، وأيضا إن فاران التي وجودها بقرب سيناء هي برية كما أفاده عنها التوراة، وههنا موسى عليه السلام يذكر جبلا بقوله: من جبل فاران. والقاعدة في ذلك أن تلك البرية دعيت فاران لسبب أنها ظليلة في الأشجار الهيشية، والجبل الذي هو بمكة سماه موسى ههنا فاران لكونه مجوفا مغورا. ولفظة فاران هي عبرانية تقبل الوجهين عدا غيرهما، أي أنها تترجم مجوف مغور وتترجم أيضا ظليل. فإذا كانت قرائنها في كتاب التوراة مذكورة برية يلزم أن تفهم أنها ظليلة، وإن كان لفظة فاران قرائنها جبلا فينبغي لنا أن نفهم بأنها جبل مجوف مغور. فههنا في قول موسى: إنه يستعلن من جبل فاران، فعلم أن هذا هو جبل فاران، الذي فيه المغارة، الذي هو بقرب مكة المشرفة، وفيها كان ﷺ يختلي. وهذا الجبل هو في القبلة أيضا، كما شرح عنه المؤلف عن موسى وحبقوق، وبالاختصار إن لفظة جبل فاران هي بالعربي جبل غار، وهو اسم شهير ومعلوم لجبل مكة المشرفة، وإن قلت: إنه مشتق من فاران وهو بالعربي أيضا المتزين منطبق عليه هذا الاسم أيضا من كونه متزينا في وجود بيت الله، الذي يشرحه المؤلف بعد ذلك.
  46. حاشية: اعلم أن هذه الشهادة التي هي العاشرة هي مترجمة من اللغة العبرانية خالية من الزغل وعليك بمقابلها.
  47. حاشية: اعلم أن في هاتين الشهادتين المارتين أعني التاسعة والعاشرة قد ذكر فيها موسى وحبقوق اسم جبل فاران، والمؤلف رحمه الله ترجم لفظة فاران من القاموس العبراني بثلاثة معان: الظليل والمغور والمتزين، وهذه الثلاثة معاني قد انطبقت على جبل مكة بموجب القرائن.