الرئيسيةبحث

البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح/الباب الثاني


الباب الثاني: الرد على النصارى في استدلالهم على ألوهية المسيح بالمعجزات التي أظهرها الله على يديه

رد على الافتخار الذي يفتخر به النصارى المبتدعون بسمو آيات عيسى وعجائبه وأنها فائقة، وقصدهم بذلك لكي يثبتوا بدعتهم منها، أعني الأوهية لعيسى. وقد قابلت آياته وإذا هي في الواقع آيات خارقة للعادة، إلا أن الأنبياء الذين سبقوه قد عملوا مثلها وما يعلوها ويفوقها أيضا، ثم إن آل زمانهم وأتباعهم لم يعتقدوا فيهم أنهم آلهة ولا مساوون لله تعالى في الجوهر.

أقول: إن الافتخار الذي يفتخر به النصارى بآيات عيسى لكي يثبتوا بها أنه إله ومساو لله تعالى في الجوهر، ذلك لايفيدهم شيئا، لأننا مع اعترافنا أن آيات سيدنا عيسى عليه السلام خارقة إلا إنها إذا إلا أن سيدنا موسى عال جملة ألوف بلواحقهم، ليس يوما ولا شهرا بل سنين عديدة في التيه في البرية. وعيسى عليه السلام بنوع عجيب صام أربعين يوما في البرية، إلا أن إلياس النبي تقابلت آياته بآيات سيدنا موسى والأنبياء عليهم السلام فيظهر أن بعضها متساوية وبعضها أقل رتبة منها. فسيدنا عيسى نعم: إنه أطعم خمسة آلاف وأربعة آلاف من خبز قليل لما صلى لله تعالى، صام مثله، وموسى النبي عليه السلام ضاعف الأربعين.

ثم إذا قلنا إن سيدنا عيسى صعد وعرج، فإيليا أيضا صعد بهولة عظيمة وبمركبة نارية. وعيسى انتهر البحر والريح فهدءا، ويشوع بن نون أوقف الشمس والقمر. [1]

نعم إن عيسى مشى على الماء، وأيضا تابوت العهد مع كهنة اليهود جازوا في نهر الاردن بأقدام غير مبلولة.

سيدنا عيسى أقام بصلاته أمواتا، وأيضا إيليا واليشع أقاما أمواتا في حياتهما، بل إن عظام اليشع من بعد موته وفنائه حينما وضعوا عليها ذاك الميت للحال قام ناهضا.

مرض البرص شفاه المسيح، واليشع شفى نعمان السريايي من البرص أيضا. [2]

نعم إن الأعمى برئ بسيدنا عيسى، وبرئ سابقا من مرارة حوت طوبيا، ومن بخور كبده أخرجت الشياطين، وماء بركة المرسلة كان يشفي المخلعين، وسيدنا المسيح كان يبرئ المخلعين.

سيدنا المسيح هو حي للآن، وإيليا وأخنوخ لم يموتا، بل هما باقيين أحياء.

نعم عيسى أحال شجرة التين المورقة وجعلها يابسة، وموسى تحولت عصاته اليابسة إلى حية. [3]

نعم عيسى حين اليهود أرادوا قتله على زعمهم صارت ظلمة على الأرض من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، وربما يكون انكسافا طبيعيا. وأما الظلمة التي صارت بمصر على يد موسى عليه السلام فقد استقامت ثلاثة أيام.

نعم إن عيسى حينما اعتمد شهد له صوت من السماء قائلا: «هذا هو ابني الحبيب»، وأما موسى حسبما ورد عنه بأن الله تعالى ناجاه مخاطبا وقائلا: «قد أقمتك إلها لفرعون».

نعم إن سيدنا عيسى لما تجلي عليه لمعت ثيابه كالثلج، ولكن موسى حينما نزل من الجبل من مناجاة الله سبحانه له كان يضع على وجهه برقعا ليغطي به ذاك البهاء الذي كان فيه، وذلك البهاء لم يكن وجوده ساعة كالتجلي بل بقي زمانا طويلا.

فهذه المقولات والمقابلات قد أوردتها ليس لأن عندي أن سيدنا عيسى هو دون سيدنار موسى عليهما السلام حاشا وكلا، وإنما ليعلم أن المسيح ليس بزائد عن موسى ولا هو إلها له كما يزعم النصارى.

وبقي علينا أن نشرح ونبين الآيات والعجا\ب التي فعلها موسى ولم يفعل سيدنا عيسى مثلها ولم يرد على يديه مثل أصغرها، كتحويل بحار المصريين إلى دم وإيجاد الضفادع الكثيرة والوباء المهلك والجرب والجراد والبرد وموت الأبكار وشق البحر الأحمر بعصاته وإدخال الشعب على الأرض اليابسة في وسط البحر وعامود الغمام وإنباع الماء من الصخرة التي كانت تتبع الشعب أينما مشى لتسقيه وحية النحاس التي كانت تمنع الموت عن الناظرين إليها من الذين كانت تلدغهم الحيات، كما كتب وشرح ذلك بالإفراد في سفر الخروج. وفي غير محل من التوراة تجد آيات أخر فائقة لم تعمل من عيسى عليه السلام كنجاة دانيال من جب السباع وحفظ الثلاثة فتية الذين طرحهم الملك في أتون النار ولم تمسهم ولم تحرق ثيابهم نار ذلك الأتون المتوقد سبعة أضعاف، وشق نهر الأردن من أثواب إيليا حينما ضربه اليشع بتلك المخملة.

فهذه جميعها ما عمل مثلها المسيح عليه السلام مع أن الواجب حيث إن عيسى حسبما يزعمون عنه أنه إله ومساو لله تعالى في الجوهر أن تكون آياته وعجائبه أكثر خرقا للعادة وأعلى وأسمى وأغرب من آيات موسى والأنبياء ولم يقع مثلها في الوجود من كونه كما نوهوا عنه أنه خالق الأنبياء وإلههم - أعوذ بالله من ذلك - وعندما ينحصر المبتدعون لألوهية عيسى من هذه التقارير والمقابلات ربما يقولون: إن أفعال المسيح الخارقة هي عقلية روحانية، مثلما أنه خلص آدم من خطيئته التي لحقتهم وأنه صيرهم أبناء الله بالنعمة وأنه أنقذهم من يد الشيطان الرجيم.

أقول: إن هذه الدعوى المتضمة أن عيسى عليه السلام خلص آدم من الخطيئة ونسله أيضا معه هي دعوى لا دليل عليها ويكذها الحس ومنافية للعدل.

أما قول لا دليل عليها ويكذبها الحس فلأن آدم لما أخطأ على زعمهم مات نفسا وجسدا في الحال: مات بالنفس وبالاستقبال مات بالجسم. وهذين، أعني موت النفس والجسم قد لحق ذريته بأجمعها كما حرر ذلك ر بولس عن موت الجسم لا النفس: (:أن بآدم دخل الموت وعم على الجنس البشري». ولم نر في كل هذه الدهور من حين جاء عيسى وعمل الخلاص - على زعمهم - لآدم وذريته حتى الآن أن البشر تخلصوا أو أي فرد منهم من الموت الجسدي الذي تبع الموت النفساني رعلى زعمكم [4] حتى نستدل على أن سيدنا عيسى خلص البشر من الموت النفساني، بل إننا نراهم يموتون على السواء، حتى الطفل المعمد الذي تخلص من خطيئة آدم وصار ابنا لله على زعمهم الباطل ولم يعمل خطيئة واحدة فإننا نراه يمرض ويموت.

ثم نرى أيضا أن جميع القصاصات الواردة على البشر بواسطة خطيئة أبيهم آدم المشروحة في التوراة في الإصحاح الثالث من سفر التكوين، كالإتعاب وأكل الخبز بعرق الوجه وإخراج الأرض الأشواك التي تفسر بالغموم والهموم وولادة المرأة بالأوجاع ولعنة الأرض، كلها باقية غير منحلة ولا ناقصة ولا نالها تغير ولا تحويل.

وحيث لا يثبت صحة المدلول إلا بالدليل، والدليل هنا بقاء القصاصات التي شرحناها هو ظاهر بين، فينتج إذا من كون القصاصات باقية أن المسيح ما عمل خلاصا كما يزعمون، وهذا هو المدلول الصحيح الذي لا شك فيه، لأن بهذا الميزان انتقض مدلولهم. [5]

وأما قولي عن دعواهم إنها منافية للعدل، فلأن الوصية في التوراة تجتزئ ذنوب الآباء من الأبناء إلى ثلاثة وإلى أربعة أجيال حسبما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشر، وهذه الوصية يحتسبها العقل ظلما، إذ أنه يسمع العدل الحقيقي الإلهي من فم نبي آخر يقول: «إن النفس التي تأكل الحصرم هي تدرس»، وقوله: «لا يموت الابن بخطيئة الأب».

فكيف يسلم العقل ههنا بأن خطية آدم وقصاصه يتسلسل جيلا بعد جيل وشخصا بعد شخص حتى يجيء عيسى ليخلص جنس البشر؟ وأن الله تعالى العادل سبحانه يترك البشر تحت هذا الظلم القسري؟ أعني أن آدم يخطئ وتهلك ذريته معه بسبب خطئه إلى أجيال عديدة، حتى يرسل عيسى لكي يخلصهم. وما يرى في الناس خلاص، لأنه كما سبق أقول بأنه لا يوجد قصاص واحد من المترتب على آدم انحل وتلاشى بواسطلة الخلاص الذي يدعون أنه تحقق بعيسى حتى يمكن أن نستدل به عليه إن كان حقا.

فإذا، حيث إننا لم نر انحلالا لقصاص من المترتب على آدم والمتسلسل إلى ذريته حتى الآن، فيلزم أنه لا دليل على الخلاص الذي يعتقده النصارى المتأخرون ولا إثبات.

وإذا كانت خطيئة آدم لزمت البشر جميعهم على زعمهم الباطل، فكيف الله سبحانه وتعالى العادل يحبس بعضهم في الجحيم تحت يد إبليس وسلطانه نحو خمسة آلاف سنة، وبعضهم الذين جاؤا من بعد عيسى يخلصهم بعيسى بلا حبس ولا دقيقة واحدة، مع أن الكل أخطاوا بآدم فأين عدل الله بذلك؟ [6]

مع أن عيسى عليه السلام الذي نسبوا إليه هذه الدعوى لم يتكلم ولا تعرض لذكر هذه القضية في جميع تعاليمه على الإطلاق، لا بل إنه تكلم بما يضاد هذا الاعتقاد عن لعازر: أن الملائكة نقلته إلى حضن إبراهيم، وإبراهيم قد أفاد عنه عيسى ههنا بأنه هو نفس النعيم.

ويظهر من هذا الكلام على خلاص واقع قبل الفداء الموهوم.

وإن قيل إن ذلك القول في الإنجيل من سيدنا عيسى كان مثالا،

فنجيب: إن المثل لا بد من أن يكون له رابط فيما بينه وبين الممثل به، فكيف سيدنا عيسى يمثل إبراهيم بالنعيم ويكون يومئذ إبراهيم على رأيكم في جوف الجحيم؟ وما هو الرابط فيما بين المثل والممثل به؟

وغلاقة هذا المبحث تراه في كتاب الأجوبة الجلية أصول وخصوم، أي ردودهم وجواباتها، مع قوله الصريح: بأني «لم آت لأدعو صديقين، بل خطاة إلى التوبة».

فإذا ينتج: أنه يوجد صديقين وما أتى ليدعوهم، لأنه في مقدم هذه الجملة قد أورد سندا قويا لها وهو قوله: «إن الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب لكن المرضى».

والبيان الأخير، أن هذا الرأي، أي: بأن الخطيئة موروثة من آدم والمسيح خلص البشر منها هو رأي منكر الآن عند النصارى الموحدين، ومن ذلك يظهر أنه تزوير محدث.

ونختم هذا الباب بقول مختصر، ونقول: إن النصارى يقولون إنهم هم أبناء الله بواسطة الإيمان والمعمودية، وقد ورد عندهم في كتابم «بأن من ولده فما يخطئ»، وأننا نرى إلى الآن الخطايا جميعها التي يدعو إليها إبليس والشهوات يفعلها النصارى وقد ظهرت فيهم واستحوذت عليهم ليس بأقل من الخارجين عن معتقدهم، بل أكثر وأبلغ، ولم نر لهم ميزة تميزهم عن غيرهم في شئ، فلا يخلو إما أن يكون هؤلاء النصارى لا يخطئون من حيث إنهم أبناء الله ومولودين من الروح الصالح وخلصهم المسيح من الخطيئة ومن يد إبليس، كما ورد عنهم في كتابهم وهو صدق وحق، وإما أنهم أي النصارى إذا كانوا يخطئون دائما مثل الذين هم خارجون عن اعتقادهم كما يرى ظاهرا فيهم، فليسو هم أباء الله كما يزعم كتابهم عنهم ولا خلصهم المسيح من يد إبليس، ويكون كتابهم في هذا الباب متقول.

هامش

  1. حاشية: اعلم أن وقوف الشمس والقمر من يشوع بن نون هو أبلغ من سكون الريح من عيسى، لأن الريح قد يمكن سكونه صدفة وأما الشمس والقمر فغير ممكن وقوفهما، لا بل ممتنع إلى أقصى غاية.
  2. حاشية: اعلم أنه قد زاد في هذه الآية أن اليشع نقل البرص من جسم نعمان السرياني إلى جسم جيازي خادمه، أي خادم اليشع، والمسيح لم ينقل البرص.
  3. حاشية: اعلم أن يبس شجرة التين هو داخل تحت قانون الطبيعة، أي أنه يمكن أن يبس الشجرة كان بنوع الصدفة، لأن الشجرة قد تيبس، إلا أن العصا تتحول إلى حية ليس هو من الأشياء الصدفية الممكنة بل هو من الممتنع وجوده إلا بقدرة الله وهو أبلغ الخوارق وأكبرها.
  4. حاشية: اعلم أن الاعتقاد عند النصارى أن المسيح قد جاء مخلصا وفاديا ويدعون على لسان بولسهم أن عيسى صار لعنة لأجل البشر وفداهم من لعنتهم ورفعها عنهم، ثم يدعون أنه مات عنهم ليفديهم من الموت، وما نرى أنه رفع الموت عنهم بموته الذي كان سببه خطيئة آدم، فأين الفداء الذي يدعونه؟ وقد يستنتج من ذلك أن الموت لم يرفع عنهم بأن تكون اللعنة مع الموت التي قال عنها بولس باقية هي أيضا. هذا على موجب رأيهم واعتقادهم.
  5. حاشية: اعلم أنه لو قيل من بعض علماء النصارى إن هذه العوارض المشروحة كالأوجاع والموت الموجود الآن وأنها بعد مجئ المسيح لم تعد تحسب شيئا عند التابعين له ولا نظن أنحا موت وأثقال، فنجيب: والحال أن عيسى نفسه كان يتضيق منها ويحزن ويتهرب من الموت ويطلب من الله رفعه عنه، وأيضا نجد أن هذه العوارض بعد المسيح كان حصولها وشكلها عند النصارى كمثل شكلها عند الذين هم خارجين عن النصرانية، لأن محبي عيسى الذين ما اعتبروا الموت والعوارض شيئا كالمحبين الموجودين خارج دين النصرانية الذين بذلوا دماءهم وجهدهم رغبة في دينهم، فإذا لا تصح دعوى المدعي لأن في القرآن الشريف إن الذين يموتون شهداء في سبيل الإيمان لا يقال عنهم أموات بل أحياء.
  6. حاشية: اعلم أن الأغرب من كل ما ذكرنا هو أننا لم نر في كتب موسى ولا في قصص نوح وإبراهيم وباقي الأنبياء خبرا بأن أنفسهم من بعد موتهم سوف تذهب إلى تحت يد حكم وسلطان الشيطان لسبب خطيئة أبيهم آدم، أو أنهم ماتوا على رجاء وإيمان بأن عيسى هو إلههم وأنه مزمع أن يأتي ويموت ويخلص أنفسهم من هذا الأسر، بل إننا نسمع منهم وعنهم أنهم ناجوا الله تعالى وخاطبوه كرات عديدة وحصلوا منه على نعم جسيمة في حياتهم مثل إقامتهم للأموات وغير ذلك من الآيات الخارقة. حتى وبعد موتهم قد أشار عنهم سليمان وعن أمثالهم بأن نفوسهم في يد الله ولن يلامسهم عذاب، وأنهم من بعد موتهم قد أصبحوا في ملامة وأنهم لما كانوا يعذبون في الدنيا كان اعتقادهم أنهم لن يهلكوا بعد الموت وأن الله سبحانه يقبلهم قبولا كاملا وأنه تعالى يملك عليهم الدهر، ولم يقل عنهم أنهم من بعد موتهم دخلوا في الجحيم مأسورين تحت يد الشيطان وهو يملك عليهم كما تزعم بعض فرق النصارى . فإذًا هذا قولهم بأفواههم أنى يؤفكون.