→ التحايل على أحكام الشريعة | أدب الطلب ونهاية الأرب الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان الشوكاني |
مفاسد أصابت دين الإسلام ← |
الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان
ومن جملة ما ينبغي لطالب الحق أن يتصوره ويحذر من قبوله بدون كشف عنه ما يجعله كثير من أهل العلم دليلا يستدلون به على إثبات الأحكام الشرعية على العباد وهو الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان الإجماع فأما الإجماع فقد أوضحت في كثير من مؤلفاتي أنه ليس بدليل شرعي على فرض إمكانه لعدم ورود دليل يدل على حجيته وأوضحت انه ليس بممكن لاتساع البلاد الإسلامية وكثرة الحاملين للعلم وخمول كثير منهم في كل عصر من الأعصار منذ قام الإسلام إلى هذه الغاية وتعذر الاستقراء التام لما عند كل واحد منهم وأن الأعمار الطويلة لا تتسع لذلك فضلا عن الأعمار القصيرة فإن المدينة الواسعة قد يعجز من هو من أهلها أن يعرف ما عند كل فرد من أفراد علمائها بل قد يعجز عن معرفة كل عالم فيها كما هو مشاهد محسوس معلوم لكل فرد فكيف بالمدائن المتباينة فكيف بجميع الأقطار الإسلامية بدوها وحضرها ومداينها وقراها فقد يوجد في زاوية من الزوايا التي لا يؤبه لها ولا يرفع الرأس إليها من يقل نظيره من المشاهير في الأمصار الواسعة ومع هذه فهذا المذاهب قد طبقت الأقطار وصارت عند المنتمين إلى الإسلام قدوة يقتدون بها لا يخرج عنها ويجتهد رأيه ويعمل بما قام عليه الدليل إلا الفرد بعد الفرد والواحد بعد الواحد وهم على غاية الكتم لما عندهم والتستر بما لديهم خوفا من المتمذهبين لأنهم قد جعلوا المذهب الذي هم عليه حجة شرعية على كل فرد من أفراد العباد لا يخرج عنه خارج ولا يخالفه مخالف إلا مزقوا عرضه وأهانوه وأخافوه والدولة في كل أرض معهم وفي أيديهم والملوك معهم لأنهم من جنسهم في القصور والبعد عن الحقائق وإذا وجد النادر من الملوك والشاذ من السلاطين له من الإدراك والفهم للحقائق ما يعرف به الحق والمحقين فهو تحت حكم المقلدة وطوع أمرهم لأنهم جنده ورعيته فإذا خالفهم خالفوه فيظن عند ذلك ذهاب ملكه وخروج الأمر من يده وإذا كان الحال هكذا فكيف يمكن الوقوف على ما عند كل عالم من علماء الإسلام هذا باعتبار الأحياء وهو في أهل العصور المنقرضة من الأموات أشد بعدا وأعظم تعذرا فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا ما يوجد في المصنفات وما كل من يعتد به في الإجماع يشتغل بالتصنيف بل المشتغلون بذلك منهم هم القليل النادر ومع هذا فمن اشتغل منهم بالتصنيف لا يحظى بانتشار مؤلفاته منهم إلا أقلهم وهذا معلوم لكل أحد لا يكاد يلتبس ولا شك أن من الملوك من يصر على أمر مخالف للشرع فلا يستطيع أحد من أهل العلم أن ينكر عليه أو يظهر مخالفته تقية ومحاذرة ورغبة في السلامة وفرارا من المحنة وبالجملة فالدنيا مؤثرة في كل عصر وإذا عجز الملك عن إظهار مذهبه على فرض أنه من أهل الإدراك والحال أن بيده السيف والسوط فما ظنك بعالم المستضعف لم يكن بيده إلا أقلامه ومحبرته ومما أحكيه لك مما أدركته في أيام الحداثة ومن الصبا أن الإمام المهدي العباس بن الحسين رحمه الله تعالى أحد ملوك اليمن ووالد إمامنا الإمام المنصور حفظه الله كان له إدراك تام وفهم ثاقب واتصل بمقامه من أكابر العلماء المنصفين العالمين بالأدلة جماعة فأظهر في الصلاة سنن كانت متروكة لترك المتمذهبين لها فقامت قيامة جماعة من المتفيهقين المقلدين وأثاروا حفائظ جماعة من شياطين البدوان الذين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا يدرون من الدين إلا رسمه فتجمعوا في بواديهم وقالوا قد خرج الإمام من مذهب الشيعة إلى مذهب السنة ومن الاقتداء بعلي بن أبي طالب إلى الاقتداء بمعاوية كما لقنهم هذه المقالة شياطين المقلدة ثم خرجوا عليه في جند يعجز عن مقاومتهم فما وسعه إلا مصانعتهم بالمال والإعلان بترك تلك السنن التي هي أوضح من شمس النهار وأحكي لك أيضا حادثة أشنع من هذه كائنة في عام تحرير هذه الأحرف هي أني لم أزل منذ اتصلت بخليفة عصرنا حفظه الله مرغبا له في العدل في الرعية على الوجه الذي ورد الشرع به ورفع المظالم المخالفة لقطعيات الشريعة كالمكس ونحوه والاقتصار على ما ورد به الشرع وعدم مجاوزته في شيء فألهمه الله سبحانه إلى الإجابة إلى ذلك بعد طول مداراة وترغيب فجعلت مكتوبا محكيا عنه مضمونه أنه قد أمر عماله في العدل في الرعية ورفع كل مظلمة والاقتصار على ما ورد به الشرع في كل شيء وأن من لم يمتثل هذا الأمر كان على القاضي في ذلك القطر أن ينهى أمره إلى حضرة الإمام حتى يحل به من العقوبة ما يردعه ويردع أمثاله وفي هذا المكتوب التشديد في الربا والسياسة الشيطانية والأخذ على قضاة الأقطار أن يبعثوا من يعلم الناس أمر دينهم من الصلاة والصيام والحج والزكاة والتوحيد على الوجه المطابق لمراد الله عز وجل وقرر الإمام ذلك وأنفذه وأظهره في الناس فقامت شياطين المقلدة وفراعين البدوان وخونة الوزراء في وجه هذا الأمر قياما يبكي له الإسلام ويموت كمدا عنده الأعلام فجعلوا هذا المعروف منكرا وما كان الأمر السابق عليه من المنكر معروفا وليس العجب ممن له حظ في المظالم ونصيب من المكس وقسط من السحت فقد يفعل ذلك من يؤثر الدنيا ويبيع الآجل بالعاجل ولكن العجب من جماعة لا حظ لهم في شيء من ذلك ولهم حظ من العلم ونصيب من الورع متكئين على أرائكهم عاكفين على دفاترهم صاروا ينكرون من هذا الأمر ما يعلمون أنه مخالفة لقطعيات الشريعة مع علمهم بحكم من خالفها واعترافهم بأن هذا هو الحق الذي اتفقت عليه الكتب المنزلة والرسل المرسلة لكنهم يتركون تدبير الشرع ويعودون لتدبير الدولة وما يصلحهم ويصلح لهم حتى كأنهم من أهل الولايات ومن القابضين للجبايات وظهر ما عندهم وتكلموا به للناس حتى اعتقد من لا حقيقة لديه من العامة ومن يلتحق بهم ومن أصحاب الدولة ومن شابههم أني أرشدت إلى خطأ وأمرت بمنكر فاجتمع من جميع ما قدمت ذكره تشوش خاطر الإمام ومن له رغبة في شرائع الإسلام فتوقف الأمر ولم ينفذه من يقدر على التنفيذ ممن له رغبة فيه ووجد أعداء الله من الظلمة المجال فبالغوا في المخالفة والمدافعة والمحاولة والمصاولة فاسمع هذه الأعجوبة واعتبر بها وأني لا أشك أن الله سبحانه منفذ شرعه وناصر من نصره وخاذل من خذله ومتم نوره على رغم أنف من أباه ولكن للباطل صولة وللشيطان جولة حتى يقر الحق في قراره ويتم من العدل ورفع الظلم ما أمر الله به ومن رام أن ينصر باطلا أو يدفع حقا فهو مركوس من غير فرق بين رئيس ومرؤوس وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وعند عزائم الرحمن يندفع كيد الشيطان القياس وأما القياس فاعلم أنه قد رسمه أهل الأصول بأنه مساواة أصل للفرع في علة حكمه ثم شرطوه بشروط وقيدوه بقيود هي معلومة عند من يعرف الفن لكنهم توسعوا في هذه المساواة وأثبتوها بأمور هي مجرد خيال ليس على ثبوته إشارة من علم وبيانه أنهم جعلوا مسالك العلة أنواعا فأكثر ما قيل أنها عشرة ثم جميع هذه المسالك إلا القليل هي بحث الرأي ومحصل الدعاوي المجردة فعليك أن تضع قدمك موضع المنع وتقوم في مقام الإنكار حتى يوجب عليك المصير إلى شيء منها ما لا يقدر على دفعه ولا يشك في صحته كمسلك النص على العلة ومسلك القطع بانتفاء الفارق ومثل هذا فحوى الخطاب وما شابه هذه الأمور وإياك أن تثبت أحكام الله بخيالات تقع لك أو لعالم مثلك من سابق الأمة أو لاحقها فإن عليك من الوزر والوبال ما قدمنا ذكره في هذا الكتاب وبالجملة فالقياس الذي يذكره أهل الأصول ليس بدليل شرعي تقوم به الحجة على أحد من عباد الله ولا جاء دليل شرعي يدل على حجيته وإن زعم ذلك من لا خبرة له بالأدلة الشرعية ولا بكيفية الاستدلال بها يعرف هذا من يعرفه وينكره من ينكره وأما ما كانت العلة فيه منصوصة فالدليل هو ذلك النص على العلة لأن الشارع كأنه صرح باعتبارها إذا وجدت في شيء من المسائل من غير فرق بين كونه أصلا أو فرعا وهكذا ما وقع القطع فيه بنفي الفارق فإنه بهذا اقدر قد صار الأمران اللذان لا فارق بينهما شيئا واحدا ما دل على أحدهما دل على الآخر من دون أصلا أو فرعا وهكذا ما وقع القطع فيه بنفي الفارق فأنه بهذا القدر قد صار الأمران اللذان لا فارق بينهما شيئا واحدا ما دل على أحدهما دل على الآخر من دون تعدية ولا اعتماد أصلية ولا فرعية وأما فحوى الخطاب ولحنه فهذان هما راجعان إلى المفهوم والمنطوق وإن سماهما بعض أهل العلم بقياس الفحوى وبحث العمل بالمفهوم خارج عما نحن بصدده وقد جاءت لغة العرب الحاكية لما كانوا يفهمونه ويتحاورون به ويعملون عليه أن مثل هذا المفهوم كان معتبرا لديهم مأخوذا به عندهم ولهذا قال من قال من العلماء إنه منطوق لا مفهوم ولقد تلاعب كثير من أهل الرأي بالكتاب والسنة تلاعبا لا يخفى إلا على من لا يعرف الإنصاف بهذه الذريعة القياسية وعولوا على ما هو منه أوهن من بيت العنكبوت وقدموه على آيات قرآنية وأحاديث نبوية وما هذه بأول فاقرة جاء بها الشيطان وحسنها لنوع الإنسان وذاد بها عباد الله عن شرائعه ومن أنكر هذا فلينظر المصنفات في الفقه ويتتبع مسائلها المبنية على مجرد القياس المبني على غير أساس مع وجود أدلة نيرة وبراهين مرضية ومن هذا الباب دخل أهل الرأي وإليه خرجوا من أبواب الأدلة الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فكن رجلا رجله في الثرى وهامه همته في الثريا وكل من له فهم لا يغرب عنه أن الله تعالى لم يتعبد عباده بمجرد قول عالم من العلماء أنه قد أفاده مسلك تخريج المناط أو تنقيح الناط أو الشبه أو الدوران أو نحو هذا الهذيان هذا على فرض أنه لم يوجد في الكتاب والسنة ما يخالف هذا المسلك الذي لا يسلكه المتورعون ولا يمشي عليه المتدينون فكيف إذا كان الدليل المخالف له واضح المنار ظاهر الاشتهار قريب الديار لمن سافر إليه من أهل الاعتبار والكلام في هذا البحث طويل الذيول وقد أفرده جماعة من أهل العلم بالتصنيف وليس المراد هنا إلا مجرد التنبيه لطاب العلم وإني وإن حذرته عن العمل بهذا القياس فلا أحذره عن العلم به وتطويل الباع في معرفته والإحاطة بما جاء به المصنفون من أهل الأصول في مباحثه فإنه لا يعرف صحة ما قلته إلا من عرفه حق معرفته وقد يعرف الشيء ليجتنب ويحذر ويعرف الشر لا للشر الاستحسان وأما الاستحسان فاعلم أنهم رسموه بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عله التعبير عنه وأنت لا يخفى عليك إن بقي لك نصيب من فهم وحظ من إنصاف أن الله تبارك وتعالى لم يتعبد أحدا من عباده بدليل يستدل به أحد من علماء الأمة ويمكنه التعبير عنه وإبرازه من القول إلى الفعل إلا إذا كان صحيحا تقوم به الحجة فكيف يتعبدهم بما انقدح في نفس فرد من أفرادهم على وجه لا يمكنه التعبير عنه ولا إبرازه إلى الخارج فإن هذا الذي انقدح في نفسه لا ندري ما هو ولا كيف هو فكيف يكون حجة على أحد من الناس وقد عجز صاحبه عن بيانه وعسرت عليه ترجمته فبالله العجب من هذا الهذيان وكيف استجاز قائله أن يحكم عليه وأنه دليل شرعي ويفترى على الشرع ما ليس منه وعلى الله سبحانه ما لم يقله وبالجملة تبيان فساد هذا لا يحتاج إلى إيضاح وإفهام البشر وإن بلغت في الضعف أي مبلغ وقاربت أفهام الدواب فهي لا تطلب البرهان على بطلان هذا الهذيان ولو احتاج محتاج إلى الاستدلال على بطلان هذا الباطل لزمه أن يدفع فرية كل مفتر على الله ولله در الإمام الشافعي حيث يقول من استحسن فقد شرع الاجتهاد وأما الاجتهاد فقد رسموه بأنه استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن يحكم شرعي ولا شك أن هذا الظن الكائن بعد الاستفراغ وإن تعبد الله به ذلك المستفرغ لكونه فرضه عند فقد الدليل كما تقدم البحث عن هذا والاستدلال عليه لكن الشأن في كون هذا الظن حجة على أحد من عباد الله ممن لم يقع له هذا الظن ولا تقدم له استفراغ الوسع فإن الحجة الشرعية ليست ظنون بعض المكلفين بالشرع المتعبدين به على البعض الآخر ولا جاء في الشريعة حرف واحد مما يفيد هذا ويدل عليه بل صرح الكتاب العزيز بالنهي عن اتباع الظن وأنه لا يغني من الحق شيئا وأن بعضه إثم وهذه الأدلة الكلية توجب على الإنسان أن لا يعمل بظنه في شئ كائنا ما كان إلا ما خصصه الشرع فكيف بظن غيره فيا معشر المقلدة اسمعوا وعوا فإنكم إنما تتبعون ظنونا خطرت لقوم الحجة من الله بما في كتابه وسنة نبيه قائمة عليهم كما هي قائمة عليكم وهم متعبدون بها كتعبدكم بها فما لكم ولهم وماذا عليكم من ظنونهم فقد أسفر الصبح لذي عينين وارتفع ما على قلوب قوم من الرين إن بقي للهداية مجال ولاستماع الصواب احتمال وقد كررت الكلام في المقام بما لا يحتاج معه إلى التطويل هنا