→ سورة النور | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في معاني مستنبطة من سورة النور ابن تيمية |
فصل في ضرورة امتحان من يراد الزواج منه وغيره ← |
فصل في معاني مستنبطة من سورة النور
فى معان مستنبطة من سورة النور
قال تعالى: { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَّ } [1]، ففرضها بالبينات والتقدير لحدود الله التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه، ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود، وبيَّن فيها فرض العقوبة للزانيين مائة جلدة، وبيَّن فيها فريضة الشهادة على الزنا، وأنها أربع شهادات، وكذلك فريضة شهادة المتلاعنين كل منهما يشهد أربع شهادات بالله، ونهى فيها عن تعدى حدوده في الفروج والأعراض والعورات، وطاعة ذى السلطان سواء كان في منزله أو في ولايته، ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه، إذ الحقوق نوعان: نوع لله فلا يتعدى حدوده، ونوع للعباد فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك، وليس لأحد أن يفعل شيئًا في حق غيره إلا بإذن الله، وإن لم يأذن المالك فإذن الله هو الأصل، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه.
ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم، والاستئذان في الأمور الجامعة كالصلاة والجهاد ونحوهما، ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء، وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وعن الصبر على ذلك، فإنه ضياء، فإن حفظ الحدود بتقوى الله يجعل الله لصاحبه نورًا، كما قال تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [2].
فضد النور الظلمة؛ ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين فيها بأعمال الكفار وأهل البدع والضلال، فقال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } إلى قوله: { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [3]، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة، وظلم العبد نفسه من الظلم، فإن للسيئة ظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق، كما روى ذلك عن ابن عباس.
يوضح ذلك أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور، ومثل أعمال الكفار بالظلمة.
والإيمان: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. والكفر: اسم جامع لكل ما يبغضه الله وينهى عنه، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصى، كما لا يكون مؤمنًا إذا كان معه أصل الكفر وبعض فروع الإيمان ولغض البصر اختصاص بالنور كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وقد روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «إن العبد إذا أذنب نُكِتَت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى يعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } » رواه الترمذي وصححه [4]. وفى الصحيح أنه قال: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»، والغين: حجاب رقيق أرق من الغيم، فأخبر أنه يستغفر الله استغفارًا يزيل الغين عن القلب، فلا يصير نكتة سوداء كما أن النكتة السوداء إذا أزيلت لا تصير رَيْنًا.
وقال حذيفة: إن الإيمان يبدو في القلب لُمْظَة [5] بيضاء، فكلما ازداد العبد إيمانًا ازداد قلبه بياضًا، فلو كشفتم عن قلب المؤمن لرأيتموه أبيض مشرقًا، وإن النفاق يبدو منه لمظة سوداء، فكلما ازداد العبد نفاقًا ازداد قلبه سوادًا، فلو كشفتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود مربدًا. وقال ﷺ: «إن النور إذا دخل القلب انشرح وانفسح» قيل: فهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: «نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله».
وفى خطبة الإمام أحمد التي كتبها في كتابه في الرد على الجهمية والزنادقة قال: «الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه حيران قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفى الله، وفى كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّال الناس بما يشبهون عليهم، نعوذ بالله من شبه المضلين ».
قلت: وقد قرن الله سبحانه في كتابه في غير موضع بين أهل الهدى والضلال، وبين أهل الطاعة والمعصية بما يشبه هذا، كقوله تعالى { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ } [6]، وقال: { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } الآية [7]، وقال في المنافقين: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا } الآيات [8]، وقال: { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ } الآية [9]، وقال: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [10]، والآيات في ذلك كثيرة.
وهذا النور الذي يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده يظهر في الآخرة، كما قال تعالى: { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } الآية [11]، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة، كما ذكره في سورة النور عقيب أمره بغض البصر، وأمره بالتوبة في قوله: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [12]، وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء؛ وقال في سورة الحديد: { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } الآيات، إلى قوله في المنافقين: { مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [13].
فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به، ويطلبون الاقتباس من نورهم فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم وبين المؤمنين، كما أن المنافقين لما فقدوا النور في الدنيا كان مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات، فقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } الآية [14]، فأمر بعقوبتهما وعذابهما بحضور طائفة من المؤمنين، وذلك بشهادته على نفسه، أو بشهادة المؤمنين عليه؛ لأن المعصية إذا كانت ظاهرة كانت عقوبتها ظاهرة، كما جاء في الأثر: من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية. وليس من الستر الذي يحبه الله تعالى كما في الحديث: «من ستر مسلمًا ستره الله» بل ذلك إذا ستر كان ذلك إقرارًا لمنكر ظاهر، وفى الحديث: «إن الخطيئة إذا خَفِيَت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة»، فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن.
ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة، كما روى ذلك عن الحسن البصرى وغيره؛ لأنه لما أعلن ذلك استحق عقوبة المسلمين له، وأدنى ذلك أن يذم عليه لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته، ولو لم يذم ويذكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لاغتر به الناس، وربما حمل بعضهم على أن يرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضا هو جرأة وفجورًا ومعاصى، فإذا ذكر بما فيه انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته ومخالطته، قال الحسن البصرى: أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه كى يحذره الناس، وقد روى مرفوعًا، والفجور: اسم جامع لكل متجاهر بمعصية، أو كلام قبيح يدل السامع له على فجور قلب قائله.
ولهذا كان مستحقًا للهجر إذا أعلن بدعة أو معصية أو فجورًا أو تهتكًا، أو مخالطة لمن هذا حاله بحيث لا يبالى بطعن الناس عليه، فإن هجره نوع تعزير له، فإذا أعلن السىئات أعلن هجره، وإذا أسر أسر هجره، إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات، وهجرة السيئات هجرة ما نهى الله عنه، كما قال تعالى: { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [15]، وقال تعالى: { وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } [16]، وقال: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } [17].
وقد روى عن عمر بن الخطاب: أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر، وذهب به أخوه إلى أمير مصر عمرو بن العاص ليجلده الحد، جلده الحد سرًا، وكان الناس يجلدون علانية، فبعث عمر بن الخطاب إلى عمرو ينكر عليه ذلك، ولم يعتد عمر بذلك الجلد حتى أرسل إلى ابنه فأقدمه المدينة فجلده الحد علانية، ولم ير الوجوب سقط بالحد الأول، وعاش ابنه بعد ذلك مدة ثم مرض ومات، ولم يمت من ذلك الجلد، ولا ضربه بعد الموت، كما يزعمه الكذَّابون.
قوله تعالى: { وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } الآية [18]، نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عمومًا، وفى أمر الفواحش خصوصًا، فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة والرأفة، التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش والرأفة بهم، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة وقلة الغيرة إذا رأى من يهوى بعض المتصلين به أو يعاشره عِشْرَة منكرة، أو رأى له محبة أو ميلا وصبابة وعشقًا، ولو كان ولده رأف به، وظن أن هذا من رحمة الخلق، ولين الجانب بهم، ومكارم الأخلاق، وإنما ذلك دياثة ومهانة، وعدم دين وضعف إيمان، وإعانة على الإثم والعدوان، وترك للتناهى عن الفحشاء والمنكر.
وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم الدياثة، كما دخلت عجوز السوء مع قومها في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك، وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط، وفى الباطن منافقة على دين قومها، لا تقلى عملهم كما قلاه لوط؛ فإنه أنكره ونهاهم عنه وأبغضه، وكما فعل النسوة اللواتى بمصر مع يوسف، فإنهن أعن امرأة العزيز على ما دعته إليه من فعل الفاحشة معها؛ ولهذا قال: { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [19]، وذلك بعد قولهن: { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [20].
ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب، فإن الشهوة توجب السكر، كما قال تعالى عن قوم لوط: { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [21]، وفى الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث أبى هريرة عن النبي ﷺ قال: «العينان تزنيان وزناهما النظر» الحديث إلى آخره. فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث؛ كالنظر، والاستمتاع، والمخاطبة، ومنهم: من يرتقى إلى اللمس والمباشرة، ومنهم: من يقبل وينظر، وكل ذلك حرام، وقد نهانا الله عز وجل أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهى وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغى شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنا المذكورة في هذا الحديث المتقدم وغيره.
وذلك أن المحب العاشق وإن كان إنما يحب النظر والاستمتاع بصورة ذلك المحبوب وكلامه، فليس دواؤه في أن يعطى نفسه محبوبها وشهوتها من ذلك؛ لأنه مريض، والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه، فأخذتنا رأفة عليه حتى نمنعه شربه فقد أعناه على ما يضره أو يهلكه وعلى ترك ما ينفعه، فيزداد سقمه فيهلك، وهكذا المذنب العاشق ونحوه هو مريض، فليس الرأفة به والرحمة أن يمكن مما يهواه من المحرمات، ولا يعان على ذلك، ولا أن يمكن من ترك ما ينفعه من الطاعات التي تزيل مرضه، قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [22]، أي: فيها الشفاء وأكبر من ذلك.
بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريهًا؛ مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات، وأن يحمى عما يقوى داءه ويزيد علته وإن اشتهاه، ولا يظن الظان أنه إذا حصل له استمتاع بمحرم يسكن بلاؤه، بل ذلك يوجب له انزعاجًا عظيمًا، وزيادة في البلاء والمرض في المآل، فإنه وإن سكن بلاؤه وهدأ ما به عقيب استمتاعه أعقبه ذلك مرضًا عظيمًا عسيرًا لا يتخلص منه، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء الذي ترامى به إلى الهلاك والعطب، ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر وأخف من ألم المرض الباقى.
وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهى من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، الداخلة في قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [23]، فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء والرجال الجُهَّال بمرضاهم، وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر، ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم، وعداوتهم، وهلاكهم.
ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وذوقه ما ذاقوه من قوة الشهوة وبرودة القلب والدياثة، فيترك ما أمر الله به من العقوبة، وهو في ذلك من أظلم الناس وأَدْيَثِهِم في حق نفسه ونظرائه، وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم فوجد كبيرهم مرارته فترك شربه، ونهى عن سقيه للباقين.
ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانيين محبوبًا له، إما أن يكون محبًا لصورته وجماله بعشق أو غيره، أو لقرابة بينهما، أو لمودة أو لإحسانه إليه، أو لما يرجو منه من الدنيا أو غير ذلك، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب. ويتأول: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، ويقول الأحمق: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وغير ذلك، وليس كما قال، بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه، بل قد ورد في الحديث: «لا يدخل الجنة ديوث»، فمن لم يكن مبغضًا للفواحش، كارهًا لها ولأهلها، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها لم يكن مريدًا للعقوبة عليها، فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه، قال تعالى: { وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } الآية [24].
فإن دين الله هو طاعته وطاعة رسوله المبنى على محبته ومحبة رسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله، ما لم تكن مضيعة لدين الله.
وفى الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، وقال: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس»، وقال: «من لا يَرْحَم لا يُرْحَم»، وفى السنن: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». فهذه الرحمة حسنة مأمور بها أمر إيجاب أو استحباب، بخلاف الرأفة في دين الله فإنها منهى عنها.
والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلا إلى الشدة، زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله: فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان وهو مذموم مذنب في ذلك، ويسرف فيما أمر الله به ورسوله من الشدة حتى يتعدى الحدود وهو من إسرافه في أمره. فالأول: مذنب، والثاني: مسرف، والله لا يحب المسرفين، فليقولا جميعًا: { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [25].
وقوله تعالى: { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [26]، فالمؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ما يحبه الله ورسوله، وينهى عما يبغضه الله ورسوله، ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه، فتارة تغلب عليه الرأفة هوى، وتارة تغلب عليه الشدة هوى، فيتبع ما يهواه في الجانبين بغير هدى من الله { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [27]، فإن الزنا من الكبائر، وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصَرَّ على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش، فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به العشق والمعاشرة والمباشرة، قد يكون أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: ألا يأتى كبيرة، ولا يُصِرَّ على صغيرة، وفى الحديث المرفوع: «لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار».
بل قد ينتهى النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ } [28]، ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان، والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين، والعاشق المتيم يصير عبدًا لمعشوقه، منقادًا له، أسير القلب له.
وقد جمع النبي ﷺ ذكر الحدود إن حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله فيما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حُبِسَ في رَدْغَة الخَبَال حتى يخرج مما قال» [29]، فالشافع في تعطيل الحدود مضاد لله في أمره؛ لأن الله أمر بالعقوبة على تعدى الحدود، فلا يجوز أن تأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصى والظلمة.
وجماع ذلك كله فيما وصف الله به المؤمنين حيث قال: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [30] وقال: { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [31]، فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر، ولم يكن المسلم كافرًا بمجرد ارتكاب كبيرة، ولكنه يزول عنه
اسم الإيمان الواجب، كما في الصحاح عنه ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث إلى آخره. ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة والرحمة بهم، واستحقوا بتلك الشعبة من الشدة بقدر ما فيها، ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر، ويثاب من وجه، ويعاقب من وجه، فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران، خلافًا لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة، فإن عندهم أن من استحق العذاب من أهل القبلة لا يخرج من النار، فأوجبوا خلود أهل التوحيد. وقال من استحق العذاب: لا يستحق الثواب.
ولهذا جاء في السنة: أن من أقيم عليه الحد والعقوبات، ولم يأخذ المؤمنين به رأفة أن يرحم من وجه آخر فيحسن إليه ويدعى له، وهذا الجانب أغلب في الشريعة، كما أنه الغالب في صفة الرب سبحانه كما في الصحيحين: «إن الله كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»، وفى رواية: «سبقت غضبي»، وقال: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } [32]، وقال: { اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [33]، فجعل الرحمة صفة له مذكورة في أسمائه الحسنى، وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته غير مذكورين في أسمائه.
ومن هذا الباب ما أمر الله به من الغلظة على الكفار والمنافقين، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [34] وقال: { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } الآيات، إلى قوله في قصة إبراهيم: { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [35]، وكذلك آخر المجادلة، وقد ثبت في صحيح مسلم عن الحسن، عن حِطَّانَ بن عبد الله، عن عبادة بن الصامت: أن النبي ﷺ قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة وزيد بن خالد أنه ﷺ: اختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وهو أفقه منه: يارسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي: إن ابني كان عسيفًا على هذا، وإنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، وإنى سألت أهل العلم فقالوا: على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي ﷺ: «لأقضين بينكما بكتاب الله: أما المائة شاة والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها».
فهذه المرأة أحد من رجمه النبي ﷺ، ورجم أيضا اليهوديين على باب مسجده، ورجم ماعز بن مالك، ورجم الغامدية، ورجم غير هؤلاء. وهذا الحديث يوافق ما في الآية من بيان السبيل الذي جعله الله لهن: وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر، وفى الثيب الرجم، لكن الذي في هذا الحديث هو الجلد والنفي للبكر من الرجال، وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء خاصة، ومن فقهاء العراق من لا يوجب مع الحد تغريبًا، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة، كما أن أكثرهم لا يوجبون مع رجم جلد مائة، ومنهم من يوجبهما جميعًا، كما فعل على بسراحة الهمدانية حيث جلدها ثم رجمها، وقال: «جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة نبيه» رواه البخاري. وعن أحمد في ذلك روايتان.
وهو سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بالنساء من العقوبة بالإمساك في البيوت إلى الممات، أو إلى جعل السبيل ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال: { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [36]، فإن الأذى يتناول الصنفين، وأما الإمساك فيختص بالنساء، فالنساء يؤذين ويحبسن، بخلاف الرجال فإنه لم يأمر فيهم بالحبس؛ لأن المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله في الرجل؛ ولهذا خصت بالاحتجاب، وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل؛ لأن ظهور النساء سبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن.
وقوله: { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ } [37]، دل على شيئين: على أن نصاب الشهادة على الفاحشة أربعة، وعلى أن الشهداء بها على نسائنا يجب أن يكونوا منا، فلا تقبل شهادة الكفار على المسلمين، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع في قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، وفيه قولان عند أحمد: أشهرهما عنده وعند أصحابه: أنها لا تقبل، كمذهب مالك والشافعى. والثانية: أنها تقبل، اختارها أبو الخطاب من أصحاب أحمد، وهو قول أبى حنيفة، وهو أشبه بالكتاب والسنة وقد قال النبي ﷺ: «لاتجوز شهادة أهل ملة على أهل ملة إلا أمتي فإن شهادتهم تجوز على من سواهم» فإنه لم ينف شهادة أهل الملة الواحدة بعضها على بعض، بل مفهوم ذلك جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضها على بعض، ولكن فيه بيان أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم لقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [38]، وفى آخر الحج مثلها.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبى سعيد الخدرى عن النبي ﷺ قال: «يُدْعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فَيُدْعى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال لنوح: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، فيؤتى بكم فتشهدون أنه بَلَّغَ»، وكذلك في الصحيحين من حديث أنس في شهادتهم على تلك الجنازتين، وأنهم أثنوا على إحداهما خيرًا، وعلى الأخرى شرًا، فقال: «أنتم شهداء الله في أرضه» الحديث.
ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة الذين محضوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة بخلاف أهل البدع والأهواء، كالخوارج والروافض، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن كمال هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة، قال النبي ﷺ فيهم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».
وقد استدل من جوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية التي في المائدة، وهى قوله: { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } الآية [39]، ثم قال من أخذ بظاهر هذه الآية من أهل الكوفة: دلت هذه الآية على قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين، فيكون في ذلك تنبيه ودلالة على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى، ثم نسخ الظاهر لايوجب نسخ الفحوى والتنبيه، وهذه الآية الدالة على نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف في العمل بهذه الآية وما يوافقها من الحديث أوجه وأقوى، فإن مذهبه قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر؛ لأنه موضع ضرورة فإذا جازت شهادتهم لغيرهم فعلى بعضهم أجوز وأجوز.
ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها، كما تقبل شهادة النساء فيما لايَطَّلِعُ عليه الرجال، حتى نص أحمد على قبول شهادتهن في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة، مثل الحمامات، والعرسات، ونحو ذلك. فالكفار الذين لا يختلط بهم المسلمون أولى أن تقبل شهادة بعضهم على بعض إذا حكمنا بينهم، والله أمرنا أن نحكم بينهم، والنبي ﷺ رجم الزانيين من اليهود من غير سماع إقرار منهما، ولا شهادة مسلم عليهما، ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك، والله أعلم.
ثم إن في تولى مال بعضهم بعضَا نزاع، فهل يتولى الكافر العدل في دينه مال ولده الكافر؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، والصواب المقطوع به: أن بعضهم أولى ببعض، وقد مضت سنة النبي ﷺ بذلك وسنة خلفائه، وقوله تعالى: { فَآذُوهُمَا } أمر بالأذى مطلقًا، ولم يذكر كيفيته وصفته ولا قدره، بل ذكر أنه يجب إيذاؤهما ولفظ الأذى يستعمل في الأقوال كثيرًا، كقوله: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [40] وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [41]، { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } [42]، { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ } [43] وقول النبي ﷺ: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله»، ونظائر ذلك كثيرة ذكرناها في كتاب الصارم المسلول. وهذا كما قال ﷺ في شارب الخمر: «عاقبوه وآذوه»، وقال { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } [44] والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء.
فالمذنب لايزال يؤذى وينهى ويوعظ ويوبخ ويغلظ له في الكلام إلى أن يتوب ويطيع الله، وأدنى ذلك هجره فلا يكلم بالكلام الطيب، كما هجر النبي ﷺ والمؤمنون الثلاثة الذين خلفوا حتى ظهرت توبتهم وصلاحهم، وهذه آية محكمة لا نسخ فيها، فمن أتى الفاحشة من الرجال والنساء فإنه يجب إيذاؤه بالكلام الزاجر له عن المعصية إلى أن يتوب، وليس ذلك محدودًا بقدر ولا صفة إلا ما يكون زاجرًا له داعيًا إلى حصول المقصود وهو توبته وصلاحه، وقد علقه تعالى على هذين الأمرين: التوبة، والإصلاح. فإذا لم يوجدا فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجودًا فيؤذى، والآية دلت على وجوب الإيذاء للذين يأتيان الفاحشة منا، ودلت على وجوب الإعراض عن الأذى في حق من تاب وأصلح، فأما من تاب بترك فعل الفاحشة ولم يصلح، فقد تنازع الفقهاء هل يشترط في قبول التوبة صلاح العمل؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
وهذه تشبه قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } إلى قوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [45]، فأمر بقتالهم، ثم علق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح: وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكف عنهم، ثم إن صلوا وزكوا، وإلا عوقبوا بعد ذلك على ترك الفعل؛ لأن الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه، ويكون الأمر فيه موقوفًا على التمام، وكذلك التائب من الفاحشة يشرع الكف عن أذاه إلى أن يصلح، فإن أصلح وجب الإعراض عن أذاه، وإن لم يصلح لم يجب الكف عن أذاه، بل يجوز أو يجب أذاه.
وهذه الآية مما يستدل بها على التعزير بالأذى، والأذى وإن كان يستعمل كثيرًا في الكلام في مرتكب الفاحشة فليس هو مختصًا به، كما قال النبي ﷺ لمن بصق في القبلة: «إنك قد آذيت الله ورسوله» وكذلك قال في حق فاطمة ابنته: «يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها»، وكذلك قال لمن أكل الثوم والبصل: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وقال لصاحب السهام: «خذ بنصالها لئلا تؤذ أحدًا من المسلمين»، وقد قال تعالى: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } [46].
وقوله تعالى: { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا } هل يكون من توبته اعترافه بالذنب؟ فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد إقراره وكذب الشهود على إقراره، أو ثبت بشهادة شهود، هل يُعَدُّ بذلك تائبًا؟ فيه نزاع، فذكر الإمام أحمد أنه لا توبة لمن جحد، وإنما التوبة لمن أقر وتاب، واستدل بقصة على بن أبى طالب أنه أتى بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة فاعترف منهم ناس فتابوا فقبل توبتهم، وجحد منهم جماعة فقتلهم، وقد قال النبي ﷺ لعائشة: «إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» رواه البخاري.
فمن أذنب سرًا فليتب سرًا، وليس عليه أن يظهر ذنبه، كما في الحديث: «من ابتلى بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»، وفى الصحيح: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله عليه فيكشف ستر الله عنه». فإذا ظهر من العبد الذنب فلابد من ظهور التوبة، ومع الجحود لا تظهر التوبة، فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب؛ ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورًا، فإن هذا أظهر حال الضالين، وهذا أظهر حال المغضوب عليهم، ومن أذاه منعه مع القدرة من الإمامة، والحكم، والفتيا، والرواية، والشهادة، وأما بدون القدرة فليفعل المقدور عليه.
وقوله: { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [47] فأمر بإيذائهما ولم يعلق ذلك على استشهاد أربعة، كما علق ذلك في حق النساء وإمساكهن في البيوت، ولم يأمر به هنا كما أمر به هناك، وليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد؛ لأن ذلك لابد أن يكون الحكم واحدًا مثل الإعتاق، فإذا كان الحكم متفقًا في الجنس دون النوع كإطلاق الأيدى في التيمم وتقييدها في الوضوء إلى المرافق، وإطلاق ستين مسكينًا في الإطعام وتقييد الإعتاق بالإيمان، مع أن كلاهما عبادة مالية يراد بها نفع الخلق، وفى ذلك نزاع بين العلماء.
ولم يحمل المسلمون من الصحابة والتابعين المطلق على المقيد في قوله: { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ } الآية [48] وقوله تعالى: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [49] قال الصحابة والتابعون وسائر أئمة الدين: الشرط في الربائب خاصة، وقالوا: أبهموا ما أبهم الله، والمبهم هو المطلق، والمشروط فيه هو المؤقت المقيد، فأمهات النساء، وحلائل الآباء والأبناء يحرمن بالعقد، والربائب لا يحرمن إلا إذا دخل بأمهاتهن، لكن تنازعوا هل الموت كالدخول؟ على قولين في مذهب أحمد؛ وذلك لأن الحكم مختلف، والقيد ليس متساويًا في الأعيان، فإن تحريم جنس ليس مثل تحريم جنس آخر يخالفه، كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير لما كان أجناسًا، فليس تقييد الدم بكونه مسفوحًا يوجب تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحًا، وهنا القيد كون الربيبة مدخولا بأمها، والدخول بالأم لايوجد مثله في الحليلتين وأم المرأة، إذ الدخول في الحليلة بها نفسها، وفى أم المرأة ببنتها.
وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصب الشهادة، بل لما ذكر الله في آية الدين: رجلين أو رجلا وامرأتين، وفى الرجعة: رجلين، أقروا كلا منهما على حاله؛ لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع، واختلاف السبب يؤثر في نصاب الشهادة، وكما في إقامة الحد في الفاحشة وفى القذف بها اعتبر فيه أربعة شهداء، فلا يقاس بذلك عقود الإيمان والإبضاع، وذكر في حد القذف ثلاثة أحكام: جلد ثمانين، وترك قبول شهادتهم أبدًا، وأنهم فاسقون { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [50]، وأن التوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف، وترفع الفسق بلا تردد، وهل ترفع المنع من قبول الشهادة؟ فأكثر العلماء قالوا: ترفعه.
وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة بين الناس لم يُرْجَم؛ لما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه لما ذكر حديث الملاعنة وقول النبي ﷺ: «إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها، وإن جاءت به يشبه الرجل الذي رماها فقد صدق عليها»، فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي ﷺ: «لولا الإيمان لكان لي ولها شأن»، فقيل لابن عباس: أهذه التي قال فيها رسول الله ﷺ: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها؟ » فقال: لا، تلك امرأة كانت تعلن السوء في الإسلام. فقد أخبر أنه لا يرجم أحدًا إلا ببينة ولو ظهر عن الشخص السوء.
ودل هذا الحديث على أن الشبه له تأثير في ذلك، وإن لم يكن بينة، وكذلك ثبت عنه أنه لما مر عليه بتلك الجنازة فأثنوا عليها خيرًا إلى آخره قال: «أنتم شهداء الله في أرضه»، وفى المسند عنه أنه قال: «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار»، قيل: يا رسول الله، وبم ذلك؟ قال: «بالثناء الحسن، والثناء السيء». فقد جعل الاستفاضة حجة وبينة في هذه الأحكام ولم يجعلها حجة في الرجم. وكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر عند أحمد، وكذلك شهادة الصبيان في الجراح إذا أدوها قبل التفرق في إحدى الروايتين، وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة والصبى في لحاف أو في بيت مرحاض، أو رآهما مجردين، أو محلولى السراويل، ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك من وجود اللحاف قد خرج عن العادة إلى مكانهما، أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد أظهره فرآه فأطفأه، فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل، فإذا لم يكن ما يستخفى به إلا ما شهد به الشاهد كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به.
فهذا الباب باب عظيم النفع في الدين، وهو مما جاءت به الشريعة التي أهملها كثير من القضاة والمتفقهة، زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا، أو إقرار مسموع، وهذا خلاف ما تواترت به السنة وسنة الخلفاء الراشدين، وخلاف ما فطرت عليه القلوب التي تعرف المعروف وتنكر المنكر، ويعلم العقلاء أن مثل هذا لا تأباه سياسة عادلة: فضلا عن الشريعة الكاملة، ويدل عليه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } [51] ففى الآية دلالات:
أحدها: قوله: { إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فأمر بالتبين عند مجىء كل فاسق بكل نبأ، بل من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين، ومنها: ما يباح فيه ترك التبين، ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس؛ لأنه علل الأمر بأنه إذا جاءنا فاسق بنبأ خشية أن نصيب قوما بجهالة، فلو كان كل من أصيب بنبأ كذلك لم يحصل الفرق بين العدل والفاسق، بل هذه دلالة واضحة على أن الإصابة بنبأ العدل الواحد لا ينهى عنها مطلقًا، وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد في جنس العقوبات، فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك، فإنها نزلت في إخبار واحد بأن قومًا قد حاربوا بالردة أو نقض العهد.
وفيه أيضا أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه، فقد استبان الأمر وزال الأمر بالتثبت، فتجوز إصابة القوم وعقوبتهم بخبر الفاسق مع قرينة إذا تبين بهما الأمور، فكيف خبر الواحد العدل مع دلالة أخرى؛ ولهذا كان أصح القولين أن مثل هذا لوث في باب القسامة، فإذا انضاف أيمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم المقسم عليه وقوله: { أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } فجعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم، فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور، وهذا هو المناط الذي دل عليه القرآن، كما قال: { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [52] وقال: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [53].
وأيضا، فإنه علل ذلك بخوف الندم، والندم إنما يحصل على عقوبة البرىء من الذنب، كما في سنن أبى داود: «ادرؤوا الحدود بالشبهات، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»، فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئًا، أو يخطئ فيعفو عن مذنب، كان هذا الخطأ خير الخطأين. أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبًا فإنه لا يندم، ولا يكون فيه خطأ، والله أعلم.
وقد ذكر الشافعى وأحمد أن التغريب جاء في السنة في موضعين أحدهما: أن النبي ﷺ قال في الزاني إذا لم يحصن: «جلد مائة وتغريب عام» والثاني: نفي المخنثين فيما روته أم سلمة: أن النبي ﷺ دخل عليها وعندها مخنث، وهو يقول لعبد الله أخيها: إن فتح الله لك الطائف غدًا أدلك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي ﷺ: «أخرجوهم من بيوتكم» رواه الجماعة إلا الترمذي، وفى رواية في الصحيح: «لا يدخلن هؤلاء عليكم »، وفى رواية: «أرى هذا يعرف مثل هذا لا يدخلن عليكم بعد اليوم».
قال ابن جُرَيْج: المخنث هو هيت، وهكذا ذكره غيره وقد قيل: إنه هِنْب، وزعم بعضهم أنه ماتع [54]، وقيل: هوان. وروى الجماعة إلا مسلمًا أن النبي ﷺ لعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: «أخرجوهم من بيوتكم، وأخرجوا فلانًا وفلانًا، يعني المخنثين»، وقد ذكر بعضهم أنهم كانوا ثلاثة: بهم وهيت وماتع على عهد رسول الله ﷺ، ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى إنما كان تخنيثهم وتأنيثهم لينًا في القول، وخضابًا في الأيدى والأرجل، كخضاب النساء ولعبًا كلعبهن.
وفى سنن أبي داود عن أبى يسار القرشي عن أبى هاشم عن أبى هريرة: أن النبي ﷺ أُتى بمخنث وقد خضب رجليه ويديه بالحنّاء، فقال: «ما بال هذا؟ » فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله ألا نقتله. فقال: «إنى نهيت عن قتل المصلين»، قال أبو أسامة حماد بن أسامة: والنقيع: ناحية عن المدينة، وليس بالبقيع، وقيل: إنه الذي حماه النبي ﷺ لإبل الصدقة، ثم حماه عمر، وهو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقيل: عشرين ميلا. ونقيع الخضمات موضع آخر قرب المدينة، وقيل: هو الذي حماه عمر. والنقيع: موضع يستنقع فيه الماء، كما في الحديث: «أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الْخَضَماتِ».
فإذا كان النبي ﷺ قد أمر بإخراج مثل هؤلاء من البيوت، فمعلوم أن الذي يمكن الرجال من نفسه والاستمتاع به، وبما يشاهدونه من محاسنه، وفعل الفاحشة الكبرى به شر من هؤلاء، وهو أحق بالنفي من بين أظهر المسلمين وإخراجه عنهم؛ فإن المخنث فيه إفساد للرجال والنساء؛ لأنه إذا تَشبَّه بالنساء فقد تعاشره النساء، ويتعلمن منه وهو رجل فيفسدهن؛ ولأن الرجال إذا مالوا إليه فقد يعرضون عن النساء؛ ولأن المرأة إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل هي وتتشبه بالرجال فتعاشر الصنفين، وقد تختار هي مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال.
وأما إفساده للرجال: فهو أن يمكنهم من الفعل به كما يفعل بالنساء بمشاهدته ومباشرته وعشقه، فإذا أخرج من بين الناس وسافر إلى بلد آخر ساكن فيه الناس، ووجد هناك من يفعل به الفاحشة، فهنا يكون نفيه بحبسه في مكان واحد ليس معه فيه غيره، وإن خيف خروجه فإنه يقيد إذ هذا هو معنى نفيه وإخراجه من بين الناس.
ولهذا تنازع العلماء في نفى المحارب من الأرض، هل هو طرده بحيث لا يأوى في بلد، أو حبسه، أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا، ففى مذهب أحمد ثلاث روايات الثالثة أعدل وأحسن، فإن نفيه بحيث لا يأوى في بلد لا يمكن لتفرق الرعية واختلاف هممهم، بل قد يكون بطرده يقطع الطريق، وحبسه قد لا يمكن؛ لأنه يحتاج إلى مؤنة؛ إلى طعام وشراب وحارس؛ ولا ريب أن النفى أسهل إن أمكن. وقد روي أن هِيْتًا لما اشتكى الجوع أمره النبي ﷺ أن يدخل المدينة من الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته إلى الجمعة الأخرى، ومعلوم أن قوله: { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } [55] لا يتضمن نفيه من جميع الأرض، وإنما هو نفيه من بين الناس، وهذا حاصل بطرده وحبسه.
وهذا الذي جاءت به الشريعة من النفى هو نوع من الهجرة أي هجره، وليس هذا كنفى الثلاثة الذين خُلِّفُوا، ولا هجره كهجرهم، فإنه منع الناس من مخالطتهم ومخاطبتهم حتى أزواجهم، ولم يمنعهم من مشاهدة الناس وحضور مجامعهم في الصلاة وغيرها، وهذا دون النفى المشروع، فإن النفى المشروع مجموع من الأمرين، وذلك أن الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضًَا على مصلحة دينهم ودنياهم، فمن كان بمخالطته للناس لا يحصل منه عون على الدين، بل يفسدهم ويضرهم في دينهم ودنياهم استحق الإخراج من بينهم، وذلك أنه مضرة بلا مصلحة؛ فإن مخالطته لهم فيها فسادهم وفساد أولادهم، فإن الصبى إذا رأى صبيا مثله يفعل شيئًا تَشَبَّه به، وسار بسيرته مع الفُسَّاق، فإن الاجتماع بالزناة واللوطيين فيه أعظم الفساد، والضرر على النساء والصبيان والرجال، فيجب أن يعاقب اللوطى والزانى بما فيه تفريقه وإبعاده.
وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها، وكذلك هجران الدعاة إلى البدع، وهُجْرَان الفُسَّاق، وهجران من يخالط هؤلاء كلهم أو يعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى، فالزناة واللوطية، وتارك الجهاد، وأهل البدع، وَشَرَبَةُ الخمر، هؤلاء كلهم ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام، وليس فيهم معاونة لا على بر ولا تقوى، فمن لم يهجرهم كان تاركا للمأمور فاعلا للمحظور، فهذا ترك المأمور من الاجتماع، وذلك فعل المحظور منه، فعوقب كل منهما بما يناسب جُرْمَه ُ، فإن العقوبة إنما تكون على ترك مأمور أو فعل محظور، كما قال الفقهاء: إنما يُشْرَع التعزير في معصية ليس فيها حد، فإن كان فيها كفارة فعلى قولين في مذهب أحمد وغيره.
قال: وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك فإنه يفعل منه بحسب الاستطاعة، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين، فإنه يجاهد من يقدر على جهاده. وكذلك إذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين، فإنه يعاقب من يقدر على عقوبته، فإذا لم يمكن النفى والحبس عن جميع الناس؛ كان النفى والحبس على حسب القدرة، مثل أن يحبس بدار لا يباشر إلا أهلها لا يخرج منها، أو ألا يباشر إلا شخصًا أو شخصين، فهذا هو الممكن، فيكون هو المأمور به، وإن أمكن أن يجعل في مكان قد قل فيه القبيح ولا يعدم بالكلية كان ذلك هو المأمور به، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله، وكذلك المرأة المتشبهة بالرجال تحبس شبيها بحالها إذا زنت، سواء كانت بكرًا أو ثيبًا، فإن جنس الحبس مما شرع في جنس الفاحشة.
ومما يدخل في هذا أن عمر بن الخطاب نفى نصر بن حجاج من المدينة، ومن وطنه إلى البصرة، لما سمع تشبيب النساء به وتشبهه بهن، وكان أولا قد أمر بأخذ شَعْرِهِ؛ ليزيل جماله الذي كان يفتن به النساء فلما رآه بعد ذلك من أحسن الناس وجنتين غَمَّه ذلك فنفاه إلى البصرة، فهذا لم يصدر منه ذنب ولا فاحشة يعاقب عليها؛ لكن كان في النساء من يفتتن به فأمر بإزالة جماله الفاتن، فإن انتقاله عن وطنه مما يضعف همته وبدنه، ويعلم أنه معاقب، وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم الفاحشة والعشق قبل وقوعه، وليس من باب المعاقبة، وقد كان عمر ينفى في الخمر إلى خيبر زيادة في عقوبة شاربها.
ومن أقوى ما يهيج الفاحشة، إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق، ومحبة الفواحش، ومقدماتها بالأصوات المطربة، فإن المغنى إذا غنى بذلك حرك القلوب المريضة إلى محبة الفواحش، فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه، وإن كان القلب في عافية من ذلك جعل فيه مرضًا، كما قال بعض السلف: الغناء رُقْيَةُ الزنا.
ورقية الحية هي ما تستخرج بها الحية من جحرها، ورقية العين والحمة هي ما تستخرج به العافية، ورقية الزنا هو ما يدعو إلى الزنا، ويخرج من الرجل هذا الأمر القبيح، والفعل الخبيث، كما أن الخمر أم الخبائث، قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وقال تعالى لإبليس: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } [56] واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء كما قال من قال من السلف وبغيره من الأصوات؛ كالنياحة وغير ذلك، فإن هذه الأصوات كلها توجب انزعاج القلب والنفس الخبيثة إلى ذلك، وتوجب حركتها السريعة، واضطرابها حتى يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة، والنفس متحركة، فإن سكنت فبإذن الله، وإلا فهى لا تزال متحركة.
وشبهها بعضهم بكرة على مستوى أملس لا تزال تتحرك عليه، وفى الحديث المرفوع: «القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا»، وفى الحديث الآخر: «مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض تحركها الريح»، وفى صحيح البخاري عن سالم عن ابن عمر قال: كانت يمين رسول الله ﷺ: «لا ومقلب القلوب»، وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي ﷺ يقول: «اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك»، وفى الترمذي عن أبى سفيان قال: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء».
وقوله تعالى: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَو مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [57]، لما أمر الله تعالى بعقوبة الزانيين حرم مناكحتهما على المؤمنين هجرًا لهما، ولما معهما من الذنوب والسيئات. كما قال تعالى: { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [58]، وجعل مجالس فاعل ذلك المنكر مثله بقوله تعالى: { إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } [59]، وهو زوج له، وقد قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [60] أي: عشراءهم وقرناءهم وأشباههم ونظراءهم؛ ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب.
ورفع إلى عمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، وكان فيهم جليس لهم صائم فقال: ابدؤوا به في الجلد، ألم تسمع الله يقول: { فَلا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ } [61]، فإذا كان هذا في المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم للمنكر يكون مجالسهم مثلا لهم، فكيف بالعشرة الدائمة؟
والزوج يقال له: العشير، كما في الحديث من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن»، قيل: يكفرن بالله؟ قال: «يَكْفرْنَ العشير ويَكْفُرْنَ الإحسان» فأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زانٍ أو مشرك.
أما المشرك: فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها، وأما الزانى: ففجوره يدعوه إلى ذلك وإن لم يكن مشركا.
وفى الآية دليل على أن الزانى ليس بمؤمن مطلق الإيمان، وإن لم يكن كافرًا مشركًا، كما في الصحيح: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، وذلك أنه أخبر أنه لا ينكح إلا زانية أو مشركة، ثم قال تعالى: { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فعلم أن الإيمان يمنع من ذلك ويزجر، وأن فاعله إما مشرك وإما زان ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك، وذلك أن الزانية فيها إفساد فراش الرجل، وفى مناكحتها معاشرة الفاجرة دائمًا، ومصاحبتها، والله قد أمر بهجر السوء وأهله ما داموا عليه، وهذا المعنى موجود في الزانى، فإن الزانى إن لم يفسد فراش امرأته كان قرين سوء لها، كما قال الشُّعَبِىُّ: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها.
وهذا مما يدخل به على المرأة ضرر في دينها ودنياها، فنكاح الزانية أشد من جهة الفراش، ونكاح الزانى أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم على المرأة، فتبقى المرأة الحرة العفيفة في أسر الفاجر الزانى الذي يقصر في حقوقها ويتعدى عليها.
ولهذا اتفق الفقهاء على اعتبار الكفاءة في الدين، وعلى ثبوت الفسخ بفوات هذه الكفاءة، واختلفوا في صحة النكاح بدون ذلك، وهما قولان مشهوران في مذهب أحمد وغيره، فإن من نكح زانية مع أنها تزنى فقد رضى بأن يشترك هو وغيره فيها، ورضى لنفسه بالقيادة والدياثة، ومن نكحت زان وهو يزنى بغيرها فهو لا يصون ماءه حتى يضعه فيها؛ بل يرميه فيها وفى غيرها من البغايا، فهى بمنزلة الزانية المتخذة خِدْنًا، فإن مقصود النكاح حفظ الماء في المرأة، وهذا الرجل لا يحفظ ماءه، والله سبحانه شرط في الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين، فقال: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [62] وهذا المعنى مما لا ينبغى إغفاله؛ فإن القرآن قد نصه وبينه بيانًا مفروضًا، كما قال تعالى: { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [63].
فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وفيه آثار عن السلف، وإن كان الفقهاء قد تنازعوا فيه، وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه.
وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بقوله: { والْمُحْصَنَات }، وزعموا أن البغى من المحصنات، وتلك الآيات حجة عليهم، فإن أقل ما في الإحصان العفة، وإذا اشترط فيه الحرية فذاك تكميل للعفة والإحصان، ومن حرم نكاح الأَمَةِ لئلا يرق ولده، كيف يبيح البغى التي تلحق به من ليس بولده، وأين فساد فراشه من رق ولده؟ وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء، والمعنى أن الزانى لا يطأ إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يطؤها إلا زان أو مشرك، وهذا أبلغ في الحجة عليهم، فمن وطئ زانية أو مشركة بنكاح فهو زان، وكذلك من وطئها زان، فإن ذم الزانى بفعله الذي هو الزنا حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره، وهو نائم كانت العقوبة للزانى دون قرينه، وهذه المسألة مبسوطة في كتب الفقه.
والمقصود قوله: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [64]، فإن هذا يدل على أن الزانى لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، وأن ذلك حرام على المؤمنين، وليس هذا لمجرد كونه فاجرًا، بل لخصوص كونه زانيًا، وكذلك في المرأة ليس لمجرد فجورها، بل لخصوص زناها، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانيًا، كما جعل الزوج زانيًا إذا تزوج زانية، هذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنا، وإذا كانا مشركين، فينبغى أن يعلم ذلك. ومضمونه أن الرجل الزانى لا يجوز نكاحه حتى يتوب، وذلك بأن يوافق اشتراطه الإحصان، والمرأة إذا كانت زانية لا تحصن فرجها عن غير زوجها، بل يأتيها هو وغيره، كان الزوج زانيًا هو وغيره يشتركون في وطئها، كما تشترك الزناة في وطء المرأة الواحدة، ولهذا يجب عليه نفى الولد الذي ليس منه.
فمن نكح زانية فهو زان أي تزوجها، ومن نكحت زانيًا فهى زانية أي تزوجته؛ فإن كثيرًا من الزناة قصروا أنفسهم على الزوانى فتكون المرأة خِدْنًا وخليلا له لا يأتى غيرها، فإن الرجل إذا كان زانيًا لا يعف امرأته، وإذا لم يعفها تشوقت هي إلى غيره فزنت به، كما هو الغالب على نساء الزوانى أو من يلوط بالصبيان، فإن نساءه يزنين ليقضين إربهن ووطرهن، ويراغمن أزواجهن بذلك حيث لم يعفوا أنفسهم عن غير أزواجهن، فهن أيضا لم يعففن أنفسهن عن غير أزواجهن؛ ولهذا يقال: عفوا تعف نساؤكم وأبناؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها؛ فإن الرجل إذا رضى أن ينكح زانية رضى بأن تزنى امرأته، والله تعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر، فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيًا فقد رضيت عمله، وكذلك إن رضى الرجل أن ينكح زانية فقد رضى عملها، ومن رضى الزنا كان بمنزلة الزانى. فإن أصل الفعل هو الإرادة؛ ولهذا جاء في الأثر: من غاب عن معصية فرضيها كان كمن شهدها أو فعلها، وفى الحديث: «المرء على دين خليله» وأعظم الخلة خلة الزوجين.
وأيضا، فإن الله قد جعل في نفوس بنى آدم من الغيرة ما هو معروف، فيستعظم الرجل أن يطأ الرجل امرأته أعظم من غيرته على نفسه أن يزنى، فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغيا وهو ديوث كيف يكره أن يكون هو زان؟ ولهذا لم يوجد من هو ديوث أو قواد يعف عن الزنا، فإن الزانى له شهوة في نفسه، والديوث ليس له شهوة في زنا غيره، فإذا لم يكن معه إيمان يكره به زنا غيره بزوجته كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزنا؟ فمن استحل أن يترك امرأته تزنى استحل أعظم الزنا، ومن أعان على ذلك فهو كالزانى، ومن أقر على ذلك مع إمكان تغييره فقد رضيه، ومن تزوج غير تائبة فقد رضى أن تزنى إذ لا يمكنه منعها من ذلك، فإن كيد النساء عظيم.
ولهذا جاز للرجل إذا أتت امرأته بفاحشة مبينة أن يعضلها [65] ؛ لتفتدى نفسها منه، وهو نص أحمد وغيره؛ لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت لإفساد نكاحه، فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب، ولا يسقط المهر بمجرد زناها، كما دل عليه قول النبي ﷺ للملاعن لما قال: مالى، قال: «لا مال لك عندها، إن كنت صادقًا عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذبا عليها فهو أبعد لك»؛ لأنها إذا زنت قد تتوب لكن زناها يبيح له إعضالها حتى تفتدى منه نفسها إن اختارت فراقه أو تتوب.
وفى الغالب أن الرجل لا يزنى بغير امرأته إلا إذا أعجبه ذلك الغير، فلا يزال يزنى بما يعجبه فتبقى امرأته بمنزلة المعُلَّقة التي لا هي أيم ولا ذات زوج، فيدعوها ذلك إلى الزنا، ويكون الباعث لها على ذلك مقابلة زوجها على وجه القصاص مكايدة له ومغايظة؛ فإنه ما لم يحفظ غيبها لم تحفظ غيبه، ولها في بضعه حق كما له في بضعها حق، فإذا كان من العادين لخروجه عما أباح الله له لم يكن قد أحصن نفسه، وأيضا، فإن داعية الزانى تشتغل بما يختاره من البغايا، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة، ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة، فتكون عنده كالزانية المتخذة خِدْنًا. وهذه معان شريفة لا ينبغى إهمالها.
وعلى هذا، فالمرأة المساحقة زانية كما جاء في الحديث: «زنا النساء سحاقهن». والرجل الذي يعمل عمل قوم لوط بمملوك أو غيره هو زان، والمرأة الناكحة له زانية، فلا تنكحه إلا زانية أو مشركة؛ ولهذا يكثر في نساء اللوطية من تزنى بغير زوجها، وربما زنت بمن يتلوط هو به مراغمة له وقضاء لوطرها، وكذلك المرأة المزوجة بمُخَنَّث ينكح كما تنكح هي متزوجة بزان، بل هو أسوأ الشخصين حالا، فإنه مع الزنا صار مخنثًا ملعونًا على نفسه للتخنيث غير اللعنة التي تصيبه بعمل قوم لوط، فإن النبي ﷺ لعن من يعمل عمل قوم لوط، وثبت عنه في الصحيح أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: «أخرجوهم من بيوتكم».
وكيف يجوز للمرأة أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة، وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزانى بغير امرأته عنها، فإذا لم تكن له غيرة على نفسه ضعفت غيرته على امرأته وغيرها، ولهذا يوجد من كان مخنثًا ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله، والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطى كانت على دينه فتكون زانية وأبلغ، فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه، فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها.
ولفظ هذه الآية وهو قوله تعالى: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً } الآية [66]، يتناول هذا كله إما بطريق عموم اللفظ، أو بطريق التنبيه وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ، وأدنى ذلك أن يكون بطريق القياس، كما قد بيناه في حد اللوطى ونحوه. والله أعلم.
وقوله تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } [67] فأخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، فلا تكون خبيثة لطيب، فإن ذلك خلاف الحصر، فلا تنكح الزانية الخبيثة إلا زانيًا خبيثًا، وأخبر أن الطيبين للطيبات، فلا يكون الطيب لامرأة خبيثة، فإن ذلك خلاف الحصر ؛ إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين، فلا تبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة. وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين فلا تبقى طيبة لخبيث، فجاء الحصر من الجانبين موافقًا لقوله: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [68] ؛ ولهذا قال من قال من السلف: ما بغت امرأة نبي قط، فإن هذه السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك وما قالوه في عائشة ؛ ولهذا لما قيل فيها ما قيل، وصارت شبهة، استشار النبي ﷺ من استشاره في طلاقها قبل أن تنزل براءتها، إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة. وقد روى أنه: «لا يدخل الجنة ديوث» والديوث: الذي يقر السوء في أهله.
ولهذا كانت الغيرة على الزنا مما يحبها الله وأمر بها، حتى قال النبي ﷺ: «أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن»؛ ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجها أن يلاعن؛ فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، وجعل ذلك يدفع عنه حد القذف، كما لو أقام على ذلك أربعة شهود؛ لأنه محتاج إلى قذفها لأجل ما أمر الله به من الغيرة؛ ولأنها ظلمته بإفساد فراشه، وإن كانت قد حبلت من الزنا فعليه اللعان لينفى عنه النسب الباطل؛ لئلا يلحق به ما ليس منه.
وقد مضت سنة النبي ﷺ بالتفريق بين المتلاعنين، سواء حصلت الفرقة بتلاعنهما أو احتاجت إلى تفريق الحاكم، أو حصلت عند انقضاء لعان الزوج؛ لأن أحدهما ملعون أو خبيث، فاقترانهما بعد ذلك يقتضى مقارنة الخبيث الملعون للطيب، وفى صحيح مسلم عن عمران بن حصين حديث المرأة التي لعنت ناقة لها فأمر النبي ﷺ فأخذ ما عليها وأرسلت، وقال: «لا تصحبنا ناقة ملعونة»، وفى الصحيحين عنه أنه لما اجتاز بديار ثمود قال: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لئلا يصيبكم ما أصابهم»، فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب.
وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة، وأهل البدع والفجور وسائر المعاصى، لا ينبغى لأحد أن يقارنهم ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل وأقل ذلك أن يكون منكرًا لظلمهم، ماقتا لهم، شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان، كما في الحديث: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وقال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } الآية [69]، وكذلك ما ذكره عن يوسف الصديق وعمله على خزائن الأرض لصاحب مصر لقوم كفار.
وذلك أن مقارنة الفجار إنما يفعلها المؤمن في موضعين: أحدهما: أن يكون مكرهًا عليها، والثاني: أن يكون ذلك في مصلحة دينية راجحة على مفسدة المقارنة، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه، فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة، وفى الحقيقة فالمكره هو من يدفع الفساد الحاصل باحتمال أدناهما، وهو الأمر الذي أُكْرِهَ عليه، قال تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [70]، وقال تعالى: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء } [71]، ثم قال: { وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [72] وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا } [73]، وقال: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ } الآية [74].
فقد دلت هذه الآية على النهى عن مناكحة الزانى، والمناكحة نوع خاص من المعاشرة والمزاوجة والمقارنة والمصاحبة؛ ولهذا سمى كل منهما زوجًا وصاحبًا وقرينًا وعشيرًا للآخر، والمناكحة في أصل اللغة: المجامعة، والمضامة، فقلوبهما تجتمع إذا عقد العقد بينهما، ويصير بينهما من التعاطف والتراحم ما لم يكن قبل ذلك، حتى تثبت بذلك حرمة المصاهرة في غير الربيبة لمجرد ذلك، والتوارث وعدة الوفاة وغير ذلك، وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين في مكان واحد، وهو المعاشرة المقررة للصداق، كما قضى به الخلفاء، وآخر ذلك اجتماع المباضعة، وهذا وإن اجتمع بدون عقد نكاح فهو اجتماع ضعيف، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح.
ودل قوله: { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } على ذلك من جهة المعنى، ومن جهة اللفظ، ودل أيضا على النهى عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم، كما دل على هذا غير ذلك من النصوص؛ مثل قوله: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [75]، أي: وأشباههم ونظراءهم، والزوج أعم من النكاح المعروف، قال تعالى: { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } [76]، وقال: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [77]، وقال: { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [78]، و { كَرِيمٌ } [79]، وقال: { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [80]، وقال: { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [81]، وقال: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } [82]، وقال: { احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [83]، وقال: { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ } [84].
وإن كان في الآية نص في الزوجة التي هي الصاحبة وفى الولد منها، فمعنى ذلك في كل مشابه ومقارن ومشارك، وفى كل فرع وتابع ف { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ } [85]، و { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [86].
فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع أهل طاعة الله تعالى على مراد الله، ويدل على ذلك الحديث الذي في السنن: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقى»، وفيها: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»، وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير». و الضفير: الحبل، وشك الراوى هل أمر ببيعها في الثالثة أو الرابعة. وهذا أمر من النبي ﷺ ببيع الأمة بعد إقامة الحد عليها مرتين أو ثلاثًا ولو بأدنى مال، قال الإمام أحمد: إن لم يبعها كان تاركًا لأمر النبي ﷺ.
والإماء اللاتى يفعلن هذا تكون عامتهن للخدمة لا للتمتع، فكيف بأمة التمتع؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه فكيف بالزوجة الزانية؟ والعبد المملوك نظير الأمة، ويدل على ذلك كله ما رواه مسلم في صحيحه عن على بن أبى طالب عن النبي ﷺ: «أنه لعن من أحدث حدثا أو آوى محدثا». فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثًا سواء كان إحداثه بالزنا أو السرقة أو غير ذلك، وسواء كان الإيواء بملك يمين أو نكاح أو غير ذلك؛ لأن أقل ما في ذلك تركه إنكار المنكر.
هامش
- ↑ [النور: 1]
- ↑ [الحديد: 28]
- ↑ [النور: 39، 40]
- ↑ [الران: الطبع والتغطية والختم]
- ↑ [أي نكتة]
- ↑ [فاطر: 19 22]
- ↑ [هود: 24]
- ↑ [البقرة: 17]
- ↑ [البقرة: 257]
- ↑ [إبراهيم: 1]
- ↑ [التحريم: 8]
- ↑ [النور: 31]
- ↑ [الحديد: 12 15]
- ↑ [النور: 2]
- ↑ [المدثر: 5]
- ↑ [المزمل: 10]
- ↑ [النساء: 140]
- ↑ [النور: 2]
- ↑ [يوسف: 33]
- ↑ [يوسف: 30]
- ↑ [الحجر: 72]
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [الأنبياء: 107]
- ↑ [النور: 2]
- ↑ [آل عمران: 147]
- ↑ [النور: 2]
- ↑ [القصص: 50]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [ردْغة الخبال: جاء تفسيرها في الحديث أنها عصارة أهل النار، والردْغة بسكون الدال وفتحها: طين ووحل كثير]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [الفتح: 29]
- ↑ [الحجر: 49، 50]
- ↑ [المائدة: 98]
- ↑ [التوبة: 73، والتحريم: 9]
- ↑ [الممتحنة: 14]
- ↑ [النساء: 16]
- ↑ [النساء: 15]
- ↑ [البقرة: 143]
- ↑ [المائدة: 106]
- ↑ [آل عمران: 111]
- ↑ [الأحزاب: 57]
- ↑ [الأحزاب: 58]
- ↑ [التوبة: 61]
- ↑ [النساء: 16]
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [الأحزاب: 53]
- ↑ [النساء: 16]
- ↑ [النساء: 23]
- ↑ [النساء: 22]
- ↑ [النور: 5]
- ↑ [الحجرات: 6]
- ↑ [الزخرف: 86]
- ↑ [الإسراء: 36]
- ↑ [ماتع: اسم]
- ↑ [المائدة: 33]
- ↑ [الإسراء: 64]
- ↑ [النور: 3]
- ↑ [المدثر: 5]
- ↑ [النساء: 140]
- ↑ [الصافات: 22]
- ↑ [النساء: 140]
- ↑ [النساء: 24]
- ↑ [النور: 1]
- ↑ [النور: 3]
- ↑ [يعضلها: العضل هو أن يضارها ولا يحسن عشرتها؛ ليضطرها ذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذي أمهرها]
- ↑ [النور: 3]
- ↑ [النور: 26]
- ↑ [النور: 3]
- ↑ [التحريم: 11]
- ↑ [النحل: 106]
- ↑ [النور: 33]
- ↑ [النور: 33]
- ↑ [النساء: 97 99]
- ↑ [النساء: 75]
- ↑ [الصافات: 22]
- ↑ [الشورى: 49، 50]
- ↑ [التكوير: 7]
- ↑ [الحج: 5]
- ↑ [الشعراء: 7]
- ↑ [الذاريات: 49]
- ↑ [الرعد: 3]
- ↑ [النبأ: 8]
- ↑ [هود: 40]
- ↑ [التغابن: 14]
- ↑ [الإسراء: 111]
- ↑ [الفرقان: 1، 2]