→ سورة النحل | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في منافع اللباس ابن تيمية |
تفسير قوله تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق ← |
فصل في منافع اللباس
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
اللباس له منفعتان:
إحداهما: الزينة بستر السوءة.
والثانية: الوقاية لما يضر من حر أو برد أو عدو.
فذكر اللباس في سورة الأعراف لفائدة الزينة، وهي المعتبرة في الصلاة والطواف، كما دل عليه قوله: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [1]، وقال: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا } [2]، وقال: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } [3]، ردًا علي ما كانوا عليه في الجاهلية من تحريم الطواف في الثياب الذي قدم بها غير الحُمْسِ [4]، ومن أكل ما سلوه من الأدهان.
وذكره في النحل لفائدة الوقاية في قوله: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [5]، ولما كانت هذه الفائدة حيوانية طبيعية لا قوَامَ للإنسان إلا بها جعلها من النعم، ولما كانت تلك فائدة كمالية قرنها بالأمر الشرعي، وتلك الفائدة من باب جلب المنفعة بالتزين، وهذه من باب دفع المضرة، فالناس إلي هذه أحوج.
فأما قوله: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، ولم يذكر: البرد، فقد قيل: لأن التنزيل كان بالأرض الحارة فهم يتخوفونه، وقيل: حذف الآخر للعلم به، ويقال: هذا من باب التنبيه؛ فإنه إذا امتن عليهم بما يقي الحر فالامتنان بما يقي البرد أعظم؛ لأن الحر أذى، والبرد بؤس، والبرد الشديد يقتل، والحر قَلَّ أن يقع فيه هكذا، فإن باب التنبيه والقياس كما يكون في خطاب الأحكام يكون في خطاب الآلاء وخطاب الوعد والوعيد، كما قلته في قوله: { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا } [6] مثله من يقول: لا تنفروا في البرد فإن جهنم أشد زمهريرًا، «ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله علي النار»، فالوحل والثلج أعظم ونحو ذلك.
وفي الآية شرع لباس جنن الحرب؛ ولهذا قرن من قرن باب اللباس والتحلي بالصلاة؛ لأن للحرب لباسا مختصا مع اللباس المشترك، وطابق قولهم اللباس والتحلي قوله: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [7]. وأحسن من هذا أنه قد تقدم ذكر وقاية البرد في أول السورة بقوله: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [8]، فيقال: لم فرق هذا؟ فيقال والله أعلم: المذكور في أول السورة النعم الضرورية التي لا يقومون بدونها من الأكل، وشرب الماء القَرَاح [9]، ودفع البرد، والركوب الذي لا بد منه في النقلة، وفي آخرها ذكر كمال النعم: من الأشربة الطيبة، والسكون في البيوت وبيوت الأدم، والاستظلال بالظلال، ودفع الحر والبأس بالسرابيل، فإن هذا يستغني عنه في الجملة. ففي الأول الأصول، وفي الآخر الكمال؛ ولهذا قال: { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [10].
وأيضا، فالمساكن لها منفعتان: إحداهما: السكون فيها لأجل الاستتار، فهي كلباس الزينة من هذا الوجه. والثاني: وقاية الأذي من الشمس والمطر والريح ونحو ذلك، فجمع الله الامتنان بهذين فقال: { وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } هذه بيوت المدر [11] { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } [12] هذه بيوت العمود { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [13]، يدخل فيه أُهبة البيت من البسط والأوعية والأغطية ونحوها، وقال: { مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } ، ولم يقل: من المدر بيوتًا كما قال: { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا } ؛ لأن السكن بيان منفعة البيت، فبه تظهر النعمة، واتخاذ البيوت من المدر معتاد، فالنعمة بظهور أثرها؛ بخلاف الأنعام، فإن الهداية إلي اتخاذ البيوت من جلودها أظهر من الهداية إلي نفس اتخاذ البيوت.
وأما فائدة الوقاية فقال: { وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ } [14]، فالظلال يعم جميع ما يظل من العرش والفساطيط والسقوف مما يصطنعه الآدميون، وقوله: { مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ؛ لأن الجبل يكن الإنسان من فوقه ويمينه ويساره وأسفل منه، ليس مقصوده الاستظلال؛ بخلاف الظلال فإن مقصودها الاستظلال؛ ولهذا قرن بهذه ما في السرابيل من منفعة الوقاية، فجمع في هذه الآية بين وقاية اللباس المنتقل مع البدن، ووقاية الظلال الثابتة علي الأرض؛ ولهذا كانوا في الجاهلية يسوون بينهما في حق المحرم، فكما نهي عن تغطية الرأس، نهوه عن الدخول تحت سقف حتي أنزل الله: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } [15]. وجاز للمحرم أن يستظل بالثابت من الخيام والشجر، وأما الشيء المنتقل معه المتصل كالمحمل، ففيه ما فيه لتردده بين السرابيل وبين المستقر من الظلال والأكنة.
كما أنه قبل هذه الآيات ذكر أصناف الأشربة من اللبن والخمر والعسل، وذكر في أول السورة المراكب والأطعمة، وهذه مجامع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب.
هامش
- ↑ [الأعراف: 31]
- ↑ [الأعراف: 62]
- ↑ [الأعراف: 32]
- ↑ [الحُمْسُ: قريش؛ لأنهم كانوا يتشددون في دينهم وشجاعتهم، وقيل: كانوا لا يستظلون أيام مني ولا يدخلون البيوت من أبوابها]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [التوبة: 81]
- ↑ [الحج: 23]
- ↑ [النحل: 5]
- ↑ [القَرَاح: الخالص من الماء الذي لم يخالطه كافور ولا حنوط]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [المدر: القرى]
- ↑ [النحل: 80]
- ↑ [النحل: 80]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [البقرة: 189]