→ فصل في بيان مضمون سورة طه | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في طريقتي العلم والعمل ابن تيمية |
فصل في تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران ← |
فصل في طريقتي العلم والعمل
وقال:
فصل في طريقتي العلم والعمل
قال الله تعالى لموسى وهارون: { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [1]، وقال في السورة بعينها: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا } إلى قوله: { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } [2].
فذكر في كل واحدة من الرسالتين العظيمتين رسالة موسى ورسالة محمد أن ذلك لأجل التذكر أو الخشية، ولم يقل: ليتذكر ويخشي، ولا قال: ليتقون ويحدث لهم ذكرا، بل جعل المطلوب أحد الأمرين، وهذا مطابق لقوله: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [3]، ونحو ذلك.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه، وذلك يرجع إلى تحقيق قوله: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [4]، وقوله: { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [5]، وقوله: { أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [6]، وقوله: { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [7]، وقوله: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } [8]، وقوله: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } الآية [9]، ونحو ذلك.
وسبب ذلك أن الخير إما بمعرفة الحق واتباعه في العلم والعمل جميعا صلاح القول والعمل: العلم والإرادة. والعلم أصل العمل وأصل الإرادة والمحبة وغير ذلك، وهو مستلزم له ما لم يحصل معارض مانع. فالعلم بالحق يوجب اتباعه إلا لمعارض راجح: مثل اتباع الهوي بالاستكبار ونحوه، كحال الذين قال الله فيهم: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا } [10]، وقال: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [11]، وقال: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ } [12] ؛ ولهذا قال: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [13]، ونحو ذلك.
فإن أصل الفطرة التي فطر الناس عليها إذا سلمت من الفساد إذا رأت الحق اتبعته وأحبته. إذ الحق نوعان:
حق موجود: فالواجب معرفته والصدق في الإخبار عنه، وضد ذلك الجهل والكذب.
وحق مقصود: وهو النافع للإنسان، فالواجب إرادته والعمل به، وضد ذلك إرادة الباطل واتباعه.
ومن المعلوم أن الله خلق في النفوس محبة العلم دون الجهل، ومحبة الصدق دون الكذب، ومحبة النافع دون الضار، وحيث دخل ضد ذلك فلمعارض من هوي وكبر وحسد ونحو ذلك، كما أنه في صالح الجسد خلق الله فيه محبة الطعام والشراب الملائم له دون الضار، فإذا اشتهي ما يضره أو كره ما ينفعه فلمرض في الجسد، وكذلك أيضا إذا اندفع عن النفس المعارض من الهوى والكبر والحسد وغير ذلك، أحب القلب ما ينفعه من العلم النافع والعمل الصالح، كما أن الجسد إذا اندفع عنه المرض أحب ما ينفعه من الطعام والشراب، فكل واحد من وجود المقتضي وعدم الدافع سبب للآخر، وذلك سبب لصلاح حال الإنسان، وضدهما سبب لضد ذلك، فإذا ضعف العلم غلب الهوى الإنسان، وإن وجد العلم والهوى وهما المقتضي والدافع فالحكم للغالب.
وإذا كان كذلك فصلاح بني آدم، الإيمان والعمل الصالح، ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان:
أحدهما: الجهل المضاد للعلم، فيكونون ضلالا.
والثاني: اتباع الهوي والشهوة اللذين في النفس، فيكونون غواة مغضوبا عليهم؛ ولهذا قال: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [14]، وقال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ». فوصفهم بالرشد الذي هو خلاف الغي، وبالهدي الذي هو خلاف الضلال، وبهما يصلح العلم والعمل جميعا، ويصير الإنسان عالما عادلا، لا جاهلا ولا ظالما.
وهم في الصلاح على ضربين:
تارة يكون العبد إذا عرف الحق وتبين له اتبعه وعمل به، فهذا هو الذي يدْعَي بالحكمة وهو الذي يتذكر، وهو الذي يحدث له القرآن ذكرا.
والثاني: أن يكون له من الهوي والمعارض ما يحتاج معه إلى الخوف الذي ينهي النفس عن الهوي؛ فهذا يدْعَي بالموعظة الحسنة وهذا هو القسم الثاني المذكور في قوله: { أَوْ يَخْشَى }، وفي قوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }. وقد قال في السورة في قصة فرعون: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [15]، فجمع بين التزكي والهدي والخشية، كما جمع بين العلم والخشية في قوله: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [16]،
وفي قوله: { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [17]، وفي قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [18].
وذلك لما ذكرناه من أن كل واحد من العلم بالحق الذي يتضمنه التذكر، والذكر الذي يحدثه القرآن، ومن الخشية المانعة من اتباع الهوي سبب لصلاح حال الإنسان، وهو مستلزم للآخر إذا قوي على ضده، فإذا قوي العلم والتذكر دفع الهوي، وإذا اندفع الهوي بالخشية أبصر القلب وعلم. وهاتان هما الطريقة العلمية والعملية، كل منهما إذا صحت تستلزم ما تحتاج إليه من الأخري، وصلاح العبد ما يحتاج إليه ويجب عليه منهما جميعا؛ ولهذا كان فساده بانتفاء كل منهما. فإذا انتفي العلم الحق كان ضالا غير مهتد، وإذا انتفي اتباعه كان غاويا مغضوبا عليه.
ولهذا قال: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [19]، وقال: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [20]، وقال في ضد ذلك: { ن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } [21]، وقال: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [22]، وقال: { وَإِنَّ كَثِيرا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } [23]، وقال: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } [24]، وقال في ضده: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [25]، وقال: { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [26]، وقال في ضده: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } [27]، قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه، ألا يضل في الدنيا، ولا يشقي في الآخرة.
فهو سبحانه يجمع بين الهدي والسعادة، وبين الضلال والشقاوة، وبين حسنة الدنيا والآخرة، وسيئة الدنيا والآخرة، ويقرن بين العلم النافع والعمل الصالح، بين العلم الطيب والعمل الصالح، كما يقرن بين ضديهما وهو الضلال، والغي: اتباع الظن وما تهوي الأنفس. والقرينان متلازمان عند الصحة والسلامة من المعارض، وقد يتخلف أحدهما عن الآخر عند المعارض الراجح.
فلهذا إذا كان في مقام الذم والنهي، والاستعاذة، كان الذم والنهي لكل منهما: من الضلال، والغي، من الجهل والظلم، من الضلال والغضب؛ ولأن كلا منهما صار مكروها مطلوب العدم، لا سيما وهو مستلزم للآخر، وأما في مقام الحمد والطلب ومنة الله فقد يطلب أحدهما، وقد يطلب كل منهما، وقد يحمد أحدهما، وقد يحمد كل منهما؛ لأن كلا منهما خير مطلوب محمود، وهو سبب لحصول الآخر، لكن كمال الصلاح يكون بوجودهما جميعا، وهذا قد يحصل له إذا حصل أحدهما ولم يعارضه معارض، والداعي للخلق الآمر لهم يسلك بذلك طريق الرفق واللين، فيطلب أحدهما؛ لأنه مطلوب في نفسه، وهو سبب للآخر، فإن ذلك أرفق من أن يأمر العبد بهما جميعا، فقد يثقل ذلك عليه، والأمر بناء والنهي هدم، والأمر هو يحصل العافية بتناول الأدوية، والنهي من باب الحمية، والبناء والعافية تأتي شيئا بعد شيء، وأما الهدم فهو أعجل، والحمية أعم، وإن كان قد يحصل فيهما ترتيب أيضا فكيف إذا كان كل واحد من الأمرين سببا وطريقا إلى حصول المقصود مع حصول الآخر.
فقوله سبحانه: { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [28]، وقوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } [29]، طلب وجود أحد الأمرين بتبليغ الرسالة، وجاء بصيغة: « لعل» تسهيلا للأمر ورفقا وبيانا؛ لأن حصول أحدهما طريق إلى حصول المقصود، فلا يطلبان جميعا في الابتداء؛ ولهذا جاء في الأثر: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها. لا سيما أصول الحسنات التي تستلزم سائرها، مثل الصدق فإنه أصل الخير، كما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحري الكذب حتى يكتب عند الله كذابا».
ولهذا قال سبحانه: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [30]، وقال: { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } [31] ؛ ولهذا يذكر أن بعض المشائخ أراد أن يؤدب بعض أصحابه الذين لهم ذنوب كثيرة فقال: يابني، أنا آمرك بخصلة واحدة فاحفظها لي، ولا آمرك الساعة بغيرها: التزم الصدق وإياك والكذب، وتوعده على الكذب بوعيد شديد، فلما التزم ذلك الصدق دعاه إلى بقية الخير ونهاه عما كان عليه، فإن الفاجر لا حد له في الكذب.
هامش
- ↑ [طه: 44]
- ↑ [طه: 99 113]
- ↑ [النحل: 125]
- ↑ [الفاتحة: 7]
- ↑ [العصر: 3]
- ↑ [ص: 45]
- ↑ [البقرة: 5]
- ↑ [القمر: 47]
- ↑ [طه: 123، 124]
- ↑ [الأعراف: 146]
- ↑ [النمل: 14]
- ↑ [الأنعام: 33]
- ↑ [ص: 26]
- ↑ [النجم: 1، 2]
- ↑ [النازعات: 17 19]
- ↑ [فاطر: 28]
- ↑ [الأعراف: 154]
- ↑ [النساء: 66 68]
- ↑ [الفاتحة: 7]
- ↑ [النجم: 1 4]
- ↑ [النجم: 23]
- ↑ [القصص: 50]
- ↑ [الأنعام: 119]
- ↑ [طه: 123]
- ↑ [طه: 124]
- ↑ [البقرة: 5]
- ↑ [القمر: 47]
- ↑ [طه: 44]
- ↑ [طه: 113]
- ↑ [الشعراء: 221، 222]
- ↑ [الجاثية: 7، 8]