→ سورة الفرقان | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في بيان أكبر الكبائر ابن تيمية |
فصل في تقسيم الأمم ← |
فصل في بيان أكبر الكبائر
قال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله تعالى:
أكبر الكبائر ثلاث: الكفر، ثم قتل النفس بغير الحق، ثم الزنا، كما رتبها الله في قوله: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } [1]، وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل للّه ندا وهو خلقك»، قلت: ثم أي؟ قال: «ثم أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ معك»، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك».
ولهذا الترتيب وجه معقول، وهو أن قوى الإنسان ثلاث: قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة. فأعلاها القوة العقلية التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب، وتشركه فيها الملائكة، كما قال أبو بكر عبد العزيز من أصحابنا وغيره: خُلق للملائكة عقول بلا شهوة، وخُلق للبهائم شهوة بلا عقل، وخُلق للإنسان عقل وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه. ثم القوة الغضبية التي فيها دفع المضرة، ثم القوة الشهوية التي فيها جلب المنفعة.
ومن الطبائعيين من يقول: القوة الغضبية هي الحيوانية، لاختصاص الحيوان بها دون النبات. والقوة الشهوية هي النباتية لاشتراك الحيوان والنبات فيها. واختصاص النبات بها دون الجماد.
لكن يقال: إن أراد أن نفس الشهوة مشتركة بين النبات والحيوان فليس كذلك، فإن النبات ليس فيه حنين ولا حركة إرادية، ولا شهوة ولا غضب. وإن أراد نفس النمو والاغتذاء فهذا تابع للشهوة وموجبها.
وله نظير في الغضب: وهو أن موجب الغضب وتابعه هو الدفع والمنع، وهذا معنى موجود في سائر الأجسام الصلبة القوية، فذات الشهوة والغضب مختص بالحى. وأما موجبهما من الاعتداء والدفع فمشترك بينهما وبين النبات القوى، فقوة الدفع والمنع موجود في النبات الصلب القوى، دون اللين الرطب، فتكون قوة الدفع مختصة ببعض النبات، لكنه موجود في سائر الأجسام الصلبة، فبين الشهوة والغضب عموم وخصوص.
وسبب ذلك، أن قوى الأفعال في النفس إما جذب وإما دفع، فالقوة الجاذبة الجالبة للملائم هي الشهوة وجنسها من المحبة والإرادة ونحو ذلك، والقوة الدافعة المانعة للمنافى هي الغضب وجنسها من البغض والكراهة، وهذه القوة باعتبار القدر المشترك بين الإنسان والبهائم هي مطلق الشهوة والغضب، وباعتبار ما يختص به الإنسان: العقل والإيمان والقوى الروحانية المعترضة.
فالكفر متعلق بالقوة العقلية الناطقة الإيمانية، ولهذا لا يوصف به من لا تمييز له، والقتل ناشئ عن القوة الغضبية، وعدوان فيها. والزنا عن القوة الشهوانية. فالكفر اعتداء وفساد في القوة العقلية الإنسانية، وقتل النفس اعتداء وفساد في القوة الغضبية. والزنا اعتداء وفساد في القوة الشهوانية.
ومن وجه آخر ظاهر، أن الخلق خلقهم الله لعبادته، وقوام الشخص بجسده، وقوام النوع بالنكاح والنسل، فالكفر فساد المقصود الذي له خلقوا، وقتل النفس فساد النفوس الموجودة، والزنا فساد في المنتظر من النوع. فذاك إفساد الموجود، وذاك إفساد لما لم يوجد بمنزلة من أفسد مالا موجودا، أو منع المنعقد أن يوجد. وإعدام الموجود أعظم فسادا، فلهذا كان الترتيب كذلك.
ومن وجه ثالث، أن الكفر فساد القلب والروح الذي هو ملك الجسد، والقتل إفساد للجسد الحامل له، وإتلاف الموجود. وأما الزنا فهو فساد في صفة الوجود لا في أصله، لكن هذا يختص بالزنا، ومن هنا يتبين أن اللواط أعظم فسادا من الزنا.
هامش
- ↑ [الفرقان: 68]