→ سورة مريم | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في بيان مضمون سورة مريم ابن تيمية |
سئل عن تفسير قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف ← |
فصل في بيان مضمون سورة مريم
قال شيخ الإسلام رَحِمَهَُُ الله:
سورة مريم مضمونها: تحقيق عبادة الله وحده، وأن خواص الخلق هم عباده، فكل كرامة ودرجة رفيعة في هذه الإضافة، وتضمنت الرد علي الغالين الذين زادوا في النسبة إلي الله حتي نسبوا إليه عيسى بطريق الولادة، والرد علي المفرطين في تحقيق العبادة وما فيها من الكرامة، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها علي عباده المصطفين.
افتتحها بقوله: { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } [1]، وندائه ربه نداء خفيا، وموهبته له يحيي، ثم قصة مريم وابنها، وقوله: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } ... إلخ [2]، بين فيها الرد علي الغلاة في المسيح، وعلي الجفاة النافين عنه ما أنعم الله به عليه، ثم أمر نبيه بذكر إبراهيم وما دعا إليه من عبادة الله وحده، ونهيه أباه عن عبادة الشيطان، وموهبته له إسحاق ويعقوب، وأنه جعل له لسان صدق عليا، وهو الثناء الحسن، وأخبر عن يحيي وعيسى وإبراهيم ببر الوالدين مع التوحيد، وذكر موسى ومن هبته له أخاه هارون نبيا، كما وهب يحيي لزكريا وعيسى لمريم وإسحاق لإبراهيم.
فهذه السورة سورة المواهب، وهي ما وهبه الله لأنبيائه من الذرية الطيبة، والعمل الصالح، والعلم النافع، ثم ذكر ذرية آدم لأجل إدريس، { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } [3] وهو إبراهيم، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل إلي آخر القصة.
ثم قال: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } الآية [4]. فهذه حال المفرطين في عبادة الله، ثم استثني التائبين وبَينَ أن الجنة لمن تاب، وأن جنات عدن وعدها الرحمن عباده بالغيب، وهم أهل تحقيق العبادة، ثم قال: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا } [5]، ثم قال: { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } [6].
ثم ذكر حال منكري المعاد وحال من جعل له الأولاد، وقرن بينهما فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة: «كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك»، الحديث. { وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } [7]، ثم ذكر إقسامه علي حشدهم والشياطين، وإحضارهم حول جهنم جثيا، وفيها دلالة علي أن المخبر عن خبر يحصل في المستقبل لا يكون إلا بطريقين: إما اطلاعه علي الغيب، وهو العلم بما سيكون، وإما أن يكون قد اتخذ عند الرحمن عهدًا، والله موف بعهده، فالأول علم بالخبر، والثاني علم بالأمر. الأول علم بالكلمات الكونية، والثاني علم بالكلمات الدينية، وهذا الذي أقسم أنه يأتي يوم المعاد ما ذكر كاذب في قسمه، فإنه ليس له اطلاع علي الغيب، ولا اتخذ عند الرحمن عهدًا.
وهذا كما قيل في إجابة الدعاء: إنه تارة يكون لصحة الاعتقاد، وهو مطابقة الخبر، وتارة لكمال الطاعة وهو موافقة الأمر، كقوله: { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } [8]، فذكر حال من تمني علي الله الباطل بلا علم بالواقع، ولا اتخاذ عهد بالمشروع.
ثم ذكر حال الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، فنفي الولادة عن نفسه، ورد علي من أثبتها، وأثبت المودة ردًا علي من أنكرها، فقال: { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [9] أي: يحبهم، ويحببهم إلي عباده، وقد وافق ذلك ما في الصحيحين: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض»، وقال في البغض عكس ذلك.
وفي قول إبراهيم: { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [10]، وقوله في موسى: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [11]، وماذكره للمؤمنين من المودة: إثبات لما ينكره الجاحدون من محبة الله وتكليمه، كما في الأول نفي لما يثبته المفترون من اتخاذ الولد.
هامش
- ↑ [مريم: 2]
- ↑ [مريم: 30]
- ↑ [مريم: 58]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [مريم: 36]
- ↑ [مريم: 56]
- ↑ [مريم: 66]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [مريم: 96]
- ↑ [مريم: 47]
- ↑ [مريم: 52]