→ الجزءالخامس | الفقيه والمتفقه الجزءالسادس الخطيب البغدادي |
الجزءالسابع ← |
كتاب الفقيه والمتفقه الجزء السادس
ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس
حدثنا الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي قال : أخبرني محمد ابن أحمد بن رزق ، أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم الأحول عن الشعبي ، قال : سئل أبو بكر عن الكلالة ، فقال : إني سأقول فيها برأيي ، فإن يك صواباً فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، أراه ما خلا الولد والوالد ، فلما استخلف عمر قال : إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً قاله أبو بكر .
أخبرنا علي بن أبي البصري ، أخبرنا موسى بن عيسى بن عبد الله السراج ، حدثنا محمد بن سليمان الباغندي ، حدثنا عبد الرحمن بن يونس ، حدثنا عمر بن أيوب ، أخبرنا عيسى بن المسيب عن عامر عن شريح القاضي ، قال : قال لي عمر بن الخطاب أن أقض بما استبان لك من كتاب الله ، فإن لم تعلم كل كتاب الله فأقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين ، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح .
أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق ، أخبرنا دعلج بن أحمد ، حدثنا أبو أحمد بن عبدوس ، حدثنا علي ابن الجعد ، أخبرنا شعبة عن سيار عن الشعبي ، قال : أخذ عمر فرساً من رجل على سوم ، فحمل عليه فعطب ، فخاصمه الرجل ، فقال عمر : إجعل بيني وبينك رجلاً ، فقال الرجل : فإني أرضى بشريح العراقي ، فقال شريح : أخذته صحيحاً مسلماً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً مسلماً ، قال : فكأنه أعجبه فبعثه قاضياً وقال : ما استبان لك في كتاب الله فلا تسأل عنه ، فإن لم يستبن في كتاب الله فمن السنّة ، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك .
أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا الشيباني عن الشعبي ، قال : كتب عمر إلى شريح : إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر ما في كتاب الله فاقض به ، فإن لم يكن فبما قضى به الرسول ، فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون وأئمة العدل ، فإن لم يكن فأنت بالخيار فإن شئت أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك ، وإن شئت أن توامرني فآمرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيراً لك والسلام .
أخبرنا الحسن بن أبي بكر ، أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان ، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا إبراهيم بن بشار ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس ، قال : أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسائل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري ، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة فأخرج إلي كتباً فرأيت في كتاب منها : اما بعد فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، آس بين الاثنين في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس وضيع
وربما قال ضعيف من عدل ، الفهم الفهم فيما ينخلج في صدرك وربما قال في نفسك ويشكل عليك ما لم ينزل به كتاب ولم تجربه سنّة ، واعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور بعضها ببعض وأنظر أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاتبعه .
أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : كثر الناس على عبد الله بن مسعود يسألونه فقال : يا أيها الناس أنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هناك ، وأنه قد قدر أن بلغنا من الأمر ما ترون ، فمن ابتلي منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله ، فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى به النبي ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله فليقض بما قضى به الصالحون ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله ولا فيما قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ، ولا يقولن أحدكم إني أخاف وإني أرى ، فإن الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن ، وشبهات بين ذلك فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
أخبرنا أبو بكر البرقاني ، قال : قرأت على عبد الله بن الحسن بن سليمان النحاس ، أخبركم محمد ابن إسماعيل البصلاني ، حدثنا بندار ، حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان هو الأعمش عن عمارة بن عمير ، قال سليمان عن حريث بن طهير أحسب قال : قال عبد الله : لقد أتى علينا حين وما نحن هناك ، وإن الله قضى أن نبلغ ما ترون فمن عرض له قضاء فليقض بما في كتاب الله ، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنّة رسول الله ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ففيما استنّ الصالحون ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا فيما استنّ الصالحون فليجتهد رأيه ، ولا يقولن أخاف وأخشى ، فإن الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن ، وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي طاهر الدقاق ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير الكوفي ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري ، حدثنا جعفر بن عون عن عبد الرحمن المسعودي .
وأخبرنا أبو نعيم ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان عن المسعودي عن القاسم هو ابن عبد الرحمن قال : قال عبد الله زاد أبو نعيم ابن مسعود ثم إتفقا : إذا حضرك أمر لا بد منه فاقض بما في كتاب الله ، فإن عييت فبما قضى به رسول الله وقال أبو نعيم : الرسول فإن عييت فبما قضى به الصالحون وقال أبو نعيم : أئمة العدل ، ثم اتفقا فإن عييت فاجتهد وقال أبو نعيم : قالا جميعاً : فإن عييت فأقرر زاد أبو نعيم ولا تستح .
أخبرنا ابن الفضل القطان ، أخبرنا دعلج بن أحمد ، أخبرنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ، أن سعيد ابن منصور حدثهم ، قال : حدثنا هشيم ، أخبرنا مغيرة عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود ، انه أتي في رجل تزوج امرأة ولم يفرص لها صداقاً فمات قبل أن يدخل بها فأتوا ابن مسعود فقال : التمسوا فلعلكم أن تجدوا في ذلك أثراً ، فأتوا ابن مسعود فقالوا : قد التمسنا فلم نجد ، فقال ابن مسعود : أقول فيها برأيي ، فإن كان صواباً فمن الله ، أرى لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط . وعليها العدة ، ولها الميراث . فقام أبو سنان الأشجعي فقال : قضى رسول الله في إمرأة منا يقال لها بروع بنت واشق بمثل ما قلت
ففرح عبد الله بموافقته قضاء رسول الله . وقال سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم : أخبرنا سيار وإسماعيل ابن أبي خالد وداود كلهم عن الشعبي عن عبد الله بمثل ذلك ، إلا أنهم قالوا : قام معقل بن سنان الأشجعي فقال : أشهد على النبي الأمي انه قضا بمثل ما قضيت قال هشيم : وبه نأخذ .
أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق ، أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي ، حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ويزيد ، أخبرنا سفيان عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة ، قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين ، فقال : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي ، قال زيد : للأب بقية المال .
فقال ابن عباس : للأم الثلث كاملاً ، قال عبد الرحمن قال : تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك ؟ قال : أقوله برأيي ولا أفضل أماً على أب .
أخبرنا أبو بكر البرقاني ، أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن خميرويه الهروي ، أخبرنا الحسين ابن إدريس ، حدثنا ابن عمار ، حدثنا سفيان ، وحدثنا أبو طالب يحيى بن علي بن الطيب الدسكري بجلوان لفظاً ، أخبرنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن حمويه النيسابوري ، أخبرنا المؤمل بن الحسن بن عيسى ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : كان ابن عباس إذا سئل عن الشيء فإن كان في القرآن أخبر به ، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله أخبر به ، وإن لم يكن عن رسول الله وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به ، وإن لم يكن عن أبي بكر وعمر اجتهد فيه رأيه . هذا لفظ الدسكري والآخر بمعناه .
أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل ، أخبرنا دعلج بن أحمد ، أخبرنا إبراهيم بن صالح الشيرازي ( وأخبرنا ) أبو نعيم الحافظ ، قالا : واللفظ له ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثني عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس إذا سئل عن الشيء فإن كان في كتاب الله قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله وكان عن أبي بكر وعمر قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه .
أخبرنا ابن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا ابن نمير ( وأخبرنا ) أبو بشر محمد بن عمر الوكيل واللفظ لحديثه ، أخبرنا عمر بن أحمد الواعظ ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية ، حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، حدثني الحسن بن عبيد الله النخعي ، قال : قلت لإبراهيم : أكل ما أسمعك تفتي به سمعته ؟ فقال : لا فقلت : تفتي بما لم تسمع ؟ فقال : سمعت الذي سمعت ، وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت .
أخبرنا البرقاني ، أخبرنا أبو الفضل بن خميرويه ، أخبرنا الحسين بن إدريس ، حدثنا ابن عمار حدثنا أبو بكر بن عياش عن حسن بن عبيد الله ، قال : قيل لإبراهيم تفتي بما لم تسمع ؟ قال : نفتي بما سمعنا ، ونقيس ما لم نسمع بما سمعنا .
كتب إلي عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي ، وحدثنا نجيب بن عمار العنوي ، قال : أخبرنا عمي أبو علي محمد بن القاسم بن معروف ، أخبرنا أحمد بن علي بن سعيد المروزي ، حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا أبو عوانة عن رقبة عن حماد ، قال : كنت أسائل إبراهيم عن الشيء فيعرف في وجهي إني لم أعرف فيقيسه لي حتى أفهمه ، وأسأله عن الشيء فيعرف في وجهي إني لم أفهمه فيقول : ليس في كل شيء يجيء القياس .
أخبرنا ابن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، قال : قال ابن شبرمة :
اقض بما في كتاب الله مفترضا........... وبالنظائر فاقض والمقاييس
أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن خلف ، حدثنا عمر بن محمد الجوهري ، حدثنا أبو بكر الأثرم ، قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : إنما هو السنّة والاتباع ، وإنما القياس أن تقيس على أصل ، فأما أن تجيء إلى أصل فتهدمه ثم تقول هذا قياس فعلى أي شيء كان هذا القياس ؟ قيل لأبي عبد الله فلا ينبغي أن يقيس إلا رجل عالم كبير يعرف كيف يشبه الشيء بالشيء ؟ فقال : أجل لا ينبغي .
قرأت على أبي القاسم الأزجي ، عن عبد العزيز بن جعفر الحنبلي ، أنا أبو بكر الخلال ، أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الحميد ، نا بكر بن محمد ، أنه سأل أبا عبد الله : عن الرجل من أهل العلم يحتج بالحديث ، فيرد علينا بالشيء يحتاج فيه إلى القياس ؟ ، قال : ' لا يستغني أحد عن القياس ' .
وأنا القاضي أبو العلاء الواسطي ، نا محمد بن أحمد بن موسى البابسيري ، حدثنا أبو أمية القاضي ، نا أبي نا سعيد بن أبي زنبر ، عن مالك بن أنس قال : سمعت ربيعة يقول : ' أنزل الله كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وترك فيه موضعاً لسنة نبيه ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن وترك فيها موضعاً للرأي ' .
قد أوردنا من الأخبار عن رسول الله وعن أصحابه ما يدل على صحة الحكم بالقياس ، وفساد قول داود بن علي ومن وافقه . فأما احتجاجه بقول الله تعالى : ( { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ) [1] فالجواب عنه أن الحكم بالقياس معلوم ، وهو بمنزلة الحكم بشهادة الشاهدين إذا غلب على ظن الحاكم عدالتهما وصدقهما ، وبمنزلة التوجه إلى الكعبة إذ غلب على ظنه إنها في وجهه فإن وجوب الحكم بها وفعل الصلاة إليها معلوم ، على إن ما ذكرناه من السنّة أخص من ذلك فوجب أن يقضى به عليه .
وأما الجواب عن حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ : «فإذا عملوا بالرأي فقد ضلوا » وحديث ابن عمر عن النبي ﷺ : «من قال في ديننا برأيه فاقتلوه » فهو ان المراد به الرأي المخالف لكتاب الله أو سنّة رسول الله ومن فعل ذلك فقد ضل . وكذلك الجواب عن حديث عوف بن مالك وعائشة أم المؤمنين في القياس فإن المراد به القياس المخالف للكتاب أو السنّة .
اما الجواب عن حديث عمر فهو أن المراد به الرأي المخالف للحديث لأنه قال ﷺ : «أعيتهم السنة أن يحفظوها ، ونسوا الأحاديث أن يعوها » وقال ﷺ : «هم أعداء السنن » وليست هذه صفة من جعل السنن أصلاً يقيس عليها . وكذلك قول علي : «لو كان الدين بالقياس » المراد به مع مخالفة السنّة ومثله قول ابن مسعود وابن عباس ، والدليل على ذلك ما قدمنا روايته عنهم في القول بالرأي والعمل به وعلى هذا يحمل قول مسروق والشعبي وغيرهما ممن ذم الرأي بدليل ما رويناه من إجازته وتصحيح العمل به .
وقول جعفر بن محمد أن أول من قاس إبليس صحيح ، وذلك إن الله تعالى أمره بالسجود لآدم فقاس ليدفع بقياسه ما أمره الله به نصاً فقال : انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . فجعل قوة النار على الطين دليل على أن الأضعف حكمه أن يخضع للأقوى وأن آدم أولى بالسجود له فوضع القياس في غير موضعه فكان ذلك فاسداً لمخالفة النص ومفارقة الدلالة .
وأما قول داود أن المقصود بالقياس إثبات الحكم فيما لا نص فيه ، وكل حكم قد تناوله النص عندنا . فالجواب عنه انا نعلم خطأ هذا القول ضرورة لوجود أحكام كثيرة لا نص فيها . فإن قال أذكر بعضها قيل له ، من ترك الصلاة متعمداً وجب عليه قضاؤها ولا نص فيه وإنما قيس على من نسيها أو نام عنها ، وقتل الزنبور في الحل والحرم ليس فيه نص وإنما قيس على العقرب ، وإذا مات سنور في السمن ليس فيه نص وإنما قيس على الفارة تموت في السمن ، وما أشبه ذلك كثير ، وأما المسائل الغامضة فأكثر من أن تحصى ويطول ذكرها في هذا الكتاب . على أنه ليس من شرط القياس أن يكون النص معدوماً وإنما من شرطه أن يكون مخالفاً للنص فإذا لم يكن مخالفاً للنص صح القياس مع وجود النص ومع عدمه .
باب في سقوط الاجتهاد مع وجود النص
أخبرنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر ، حدثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، قال : أنبأنا هشام بن حسان ، قال : حدثني عكرمة عن ابن عباس ، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي بشريك بن سحماء ، فقال النبي ﷺ : «البينة وإلا فحدٌ في ظهرك » . فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة ؟ فجعل النبي يقول ﷺ : «البينة وإلا فحد في ظهرك » . فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبريء ظهري من الحد فنزلت : ( { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ) فقرأ حتى بلغ : ( { من الصادقين } ) [2] فانصرف النبي ، فأرسل إليهما فجاءا ، فقام هلال بن أمية فشهد والنبي يقول ﷺ : «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ؟ » ثم قامت فشهدت ، فلما كان عند الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقالوا لها إنها موجبة ، قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا انها سترجع ، فقالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت ، فقال النبي : «أبصروها . فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الآليتين ، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء » ، فجاءت به كذلك فقال النبي ﷺ : «لو لا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن » .
قلت : عني رسول الله بما مضى من كتاب الله قوله : ( { ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات }) [3] إلى آخر القصة وأراد بقوله رضي الله عنه : «لكان لي ولها شأن » إقامة الحد عليها لمشابهة ولدها الرجل الذي رميت به والله أعلم .
أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه ، قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من بني زهرة كان يسكن دارنا فذهب معه إلى عمر ، فسأله عن ولاد من أولاد الجاهلية ، فقال أما الفراش فلفلان وأما النطفة فلفلان ، فقال يعني ابن الخطاب : صدقت ولكن رسول الله قضى بالفراش
( وأخبرنا ) الحيري ، حدثنا الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذيب ، قال : أخبرني مخلد بن خفاف ، قال : ابتعت غلاماً فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز فقضا لي برده وقضا علي برد غلته ، فأتيت عروة فأخبرته ، فقال : أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان ، فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن رسول الله ، فقال عمر : فما أيسر علي من قضاء قضيته ، الله يعلم إني لم أرد فيه إلا الحق فبلغتني فيه سنّة عن رسول الله فأرد قضاء عمر ، وأنفذ سنّة رسول الله ، فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له .
أخبرنا محمد بن عيسى الهمذاني ، حدثنا صالح بن أحمد الحافظ ، قال : حدثنا محمد بن حمدان الطرائفي ، حدثنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرني من لا اتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذيب قال : قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به ، فقال سعد لربيعة هذا ابن أبي ذيب وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيت به ، فقال له ربيعة : قد اجتهدت ومضى حكمك . فقال سعد واعجبا أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله ؟ بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله ، ودعا سعد بكتاب القضية فشقه وقضا للمقضي عليه .
أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا الحسن بن مكرم ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد بن راشد عن عبدة بن أبي لبابة عن هشام بن يحيى المخزومي ، أن رجلاً من ثقيف أتى عمر بن الخطاب ، فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ألها أن تنفر قبل أن تطهر ؟ فقال عمر : لا . فقال له الثقفي : فإن رسول الله أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت ، قال فقام إليه عمر يضربه بالدرة ، ويقول : لمم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله .
أخبرنا الحسن بن أبي بكر ، قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن كامل القاضي فيما أجاز لنا ، قال : حدثنا ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا صالح بن عبد الله الترمذي ، حدثنا سفيان بن عامر عن عتاب بن منصور ، قال : قال عمر بن عبد العزيز : لا رأي لأحد مع سنّة سنّها رسول الله .
أخبرنا عبد الله بن يحيى السكري ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي ، حدثنا جعفر بن محمد بن الأزهر ، حدثنا ابن الغلابي ، حدثنا حبان هو ابن هلال حدثنا أبو عوانة عن رقبة بن مصقلة عن حماد ، قال : كنت أسأل إبراهيم عن الشيء أهتم به ، قال : فيقيسه لي ، ويجيء الشيء فلا أعرفه فيقول ليس في كل شيء يجري القياس .
قلت : وهذا صحيح مثاله أن رسول الله قضى في الجنين يجنى على أمه فتسقطه ميتاً أن فيه غرة ، فوّمها أهل العلم خمساً من الإبل سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى ، ولو أسقطت الجنين أمه حياً ثم مات نظر ، فإن كان ذكراً جعل فيه مائة من الإبل ، وإن كان أنثى جعل فيه خمسون فلم يجز أن يقاس على الجنين غيره .
أخبرنا عثمان بن محمد بن يوسف العلاف ، أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي ، حدثنا إسماعيل بن الفضل ، حدثنا يحيى بن السري ، حدثنا عمر بن شبيب ، قال : سمعت خالد بن سلمة يقول لأبي حنيفة : إنما نحتاج إلى قولك إذا لم نجد أثراً ، فإذا وجدنا أثراً ضربنا بقولك الحائط .
قلت : وقد قال أبو حنيفة في عيب القياس قولاً يحمل على انه أراد به القياس المخالف للنص والله أعلم وهو ما :
أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم ، حدثنا أحمد بن علي الأبار ( وأخبرنا ) محمد بن الحسين بن الفضل ، أخبرنا دعلج ، أخبرنا الأبار ، حدثنا أبو عمار المروزي عن وكيع ، قال : قال أبو حنيفة ، وفي حديث ابن الفضل ، حدثنا أبو عمار ، قال : سمعت وكيعاً يقول : سمعت أبا حنيفة يقول : البول في المسجد أحسن من بعض القياس . قال وكيع : هذا عليه زاد ابن رزقويه ، ولا له .
كتب إلي عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي ، وحدثني عبد العزيز بن أبي طاهر عنه ، قال : أخبرنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ، حدثنا أبو زرعة ، قال : حدثني يزيد ابن عبد ربه ، قال : سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي : يا أبا زكريا احذر الرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول : البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسن بن أحمد الأهوازي ، أخبرنا أبو الفرج محمد بن الطيب البلوطي بالأهواز ، أخبرنا أبو الحسن علي بن الفضل بن طاهر البلخي ، حدثنا عبد الله بن عبد الصمد أبو يحيى البلخي ، حدثنا شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل ، قال : إنما نأخذ بالرأي ما لم يجيء الأثر ، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وأخذنا بالأثر .
ذكر القياس المحمود والقياس المذموم
القياس على ضربين : ضرب منه في التوحيد ، وضرب في أحكام الشريعة ، فالقياس في التوحيد على ضربين : ضرب هو القياس الصحيح : وهو ما استدل به على معرفة الصانع تعالى وتوحيده ، والإيمان بالغيب ، والكتب وتصديق الرسل ، فهذا قياس محمود فاعله مذموم تاركه ، والضرب الثاني من القياس في التوحيد : هو القياس المذموم الذي يؤدي إلى البدعة والالحاد نحو تشبيه الخالق بالخلق ، وتشبيه صفاته بصفات المخلوقين ، ودفع قايسه ما أثبت الله تعالى لنفسه ووصفته به رسله مما ينفيه القياس بفعله .
وأما الضرب الثاني من الأصل وهو المتعلق بأحكام الشريعة فهو على وجهين أيضاً : أحدهما : قياس الشيء على نظيره وشبيهه فذلك محمود ، والآخر : قياس على غير نظيره وشبيهه فذلك مذموم .
باب الكلام في ذكر ما يشتمل القياس عليه
القياس يشتمل على أربعة أشياء : على الفرع ، والأصل ، والعلة ، والحكم . فأما الفرع : فهو ما ثبت حكمه بغيره ، وأما الأصل : فهو ما عرف حكمه بلفظ تناوله أو ما عرف حكمه بنفسه ، ويستعمل الفقهاء هذا الاسم ، أعني الأصل ، في أمرين : أحدهما : في أصول الأدلة التي هي الكتاب والسنة والإجماع فيقولون هي الأصل ، وما سوى ذلك من القياس ودليل الخطاب وفحوى الخطاب فهو معقول الأصل ، ويستعملونه في الشيء الذي يقاس عليه كالخمر أصل للنبيذ في التحريم ، والبر أصل للأرز في الربا . وأما العلة : فهي المعنى الذي يقتضي الحكم فيوجد الحكم بوجوده ويزول بزواله . وأما الحكم : فهو الذي يعلق على العلة من التحليل ، والتحريم ، والإيجاب ، والإسقاط .
باب بيان ما يدل على صحة العلة
إعلم إن العلة الشرعية إمارة على الحكم ودلالة عليه ، ولا بد في رد الفرع إلى الأصل من علة تجمع بينهما ويلزم أن يدل على صحتها لأن العلة شرعية كما أن الحكم شرعي ، فكما لا بد من الدلالة على الحكم فكذلك لا بد من الدلالة على العلة . والذي يدل على صحة العلة شيئان أصل واستنباط فأما الأصل فهو قول الله تعالى ، وقول رسوله ، وأفعاله وإجماع الأمة .
فأما قول الله وقول رسوله فدلالتهما من وجهين : أحدهما : من جهة النطق ، والثاني : من جهة الفحوى والمفهوم ، فأما دلالتهما من جهة النطق فمن وجوه بعضها أجلى من بعض . فأجلاها ما صرح فيه بلفظ التعليل كقول الله تعالى : ( { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل انه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ) [4] .
ومن السنّة ، ما أخبرنا أبو الصهباء ولاد بن علي الكوفي ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، حدثنا أحمد بن حازم ، أخبرنا الفضل بن دكين ، حدثنا مالك بن أنس ، حدثنا عبد الله بن يزيد عن زيد أبي عياش ، قال : سألنا سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت فكرهه ، وزعم أن رسول الله سئل عن الرطب بالتمر فقال ﷺ : «أينقص إذا جف » قالوا : نعم ، فنهى عنه .
قد علم رسول الله أن الرطب ينقص إذ أجف وليس في ذلك اشكال عليه ولا على غيره وإنما أراد بالسؤال عنه تنبيههم على المعنى في التحريم ليعلموا إن كل مأكول رطب يجف فلا خير فيه بشيء من جنسه رطباً ولا يابساً .
ومثل ذلك ، ما أخبرنا عبد الله بن يحيى السكري ، أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي ، حدثنا إسحاق ابن الحسن ، قال : حدثنا القعنبي ، قال الشافعي ، وحدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه ، انه أهدى لرسول الله وهو بودان أو بالأبواء حماراً وحشياً فرده عليه رسول الله قال فلما رأى رسول الله ما بوجهه قال : «إنا لم نرده عليك إلا اننا حرم » .
بين النبي للصعب بهذا القول المعنى الذي لأجله رده ليعلم إن إصطياد المحرم وما صيد له وأهدي إليه بمنزلة واحدة .
ومثله ، ما أخبرنا القاضي أبو عمر الهاشمي ، حدثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا بشر بن عمر حدثنا مالك يعني ابن أنس عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله قال ﷺ : «أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لأنه أعطى عطاءًا وقعت فيه المواريث » .
في هذا اللفظ بيان المعنى الذي من أجله ليس للمعمر الرجوع فيما أعمره .
ومثله ، ما أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي ، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن محمد بن معقل المدائني ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن سهل ابن سعد الساعدي رضي الله عنه ، أن رجلاً اطلع على النبي من ستر الحجرة ، وفي يد النبي مدرى ، فقال ﷺ : «لو أعلم أن هذا ينتظرني حتى آتيه لطعنت بالمدرى في عينيه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر » .
فهذه الألفاظ كلها صريحة في التعليل .
ويليها في البيان أن يعلق الحكم على عين موصوفة بصفة وقد يكون هذا بلفظ الشرط ، كقول الله تعالى : ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ) [5] .
ومن السنة ، كما أخبرنا عبد الله بن يحيى السكري ، أخبرنا أبو محمد جعفر بن محمد بن أحمد بن الحكم الواسطي ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا بن نمير ، حدثنا أبي ، حدثنا عبيد الله هو ابن عمر قال حدثني نافع عن ابن عمر ، أن رسول الله قال ﷺ : «من اشترى نخلاً قد أبرت فثمرتها للذي أبرّها إلا أن يشترط الذي اشترى » .
فالظاهر أن حمل المرأة علة لوجوب النفقة وأن تأبير النخلة علة لكون الثمرة للبائع .
وقد يكون بغير لفظ الشرط كقول الله تعالى : ( { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ) [6] ظاهره أن السرقة علة لوجوب القطع .
وأما دلالتهما من جهة الفحوى والمفهوم فمن وجوه بعضها أجلى من بعض أيضاً فأوضحها ما دل عليه بالتنبيه كقول الله تعالى : ( { ولا تقل لهما أفٍ } ) [7] ومن السنّة نحو ما أخبرنا علي بن أحمد بن عمر المقرىء ، أخبرنا علي بن أحمد بن أبي قيس ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن سليمان بن عبد الرحمن مولى بني أسد ، قال : سمعت عبيد بن فيروز مولى بني شيبان ، قال : سألت البراء بن عازب ما كره رسول الله أو قال ما نهى عنه من الأضاحي ، قال : قال رسول الله ويدي أقصر من يده ﷺ : «أربع لا تجزي ، العوراء البيِّن عورها ، والعرجاء البيِّن ضلعها ، والمريضة البيِّن مرضها ، والكسيرة التي لا تنقي » ، فقلت : فإني أكره أن يكون في الأذن نقص أو في السن نقص ، أو في القرن نقص . قال : إن كرهت شيئاً فدعه ولا تحرمه على أحد . لفظ الآية يدل بالتنبيه عند سماعه على أن الضرب أولى بالمنع من التأفيف ، ولفظ الحديث يدل على أن العمى في الأضحية أولى بالمنع من العجوز ، ويلي ما ذكرناه في البيان أن يذكر صفة فيفهم من ذكرها المعنى الذي تتضمنه تلك الصفة من غير وجه التنبيه كما .
أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البزاز بعكبرا وأبو الحسن علي بن أحمد بن هارون المعدل بالنهروان ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن حرب الطائي ، حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة رضي الله عنه ، عن النبي قال : «لا ينبغي للقاضي يقضي بين إثنين وهو غضبان » .
وكما أخبرنا القاضي أبو عمر الهاشمي ، حدثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن صالح والحسن بن علي واللفظ للحسن ، قالا : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ﷺ : «إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه » .
المفهوم بضرب من الفكر في هذين الحديثين أن النبي إنما منع الغضبان من القضاء لاشتغال قلبه في تلك وإن حكم الجائع والعطشان مثله ، وأنه إنما أمر بالقاء ما حول الفارة من السمن إن كان جامداً لينتفع بما سواه إذا لم تخالطه النجاسة ، ومنع من ذلك إذا كان السمن مائعاً لئلا ينتفع بشيء منه إذ النجاسة قد خالطته ، وان الشبرج والزيت مثله في الحكم .
وأما دلالة أفعال رسول الله فهو أن يفعل شيئاً عند وقوع معنى من جهته أو من جهة غيره فيعلم انه لم يفعل ذلك إلا لما ظهر من المعنى فيصير علة فيه . وهذا مثل ما روي أن رسول الله سهى فسجد ، فيعلم أن السهو علة للسجود ، وإن اعرابياً جامع في نهار رمضان فأوجب عليه عتق رقبة فيعلم إن الجماع علة لإيجاب الكفارة .
وأما دلالة الإجماع فهو أن تجمع الأمة على التعليل به كما أخبرنا البرقاني ، قال : قرأت على أبي بكر الإسماعيلي ، أخبرك الحسن بن سفيان ، حدثنا محمد بن المنهال ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي جلد في الخمر بالجريد والنعال ، فلما قام عمر بن الخطاب دنا الناس من الريف والقرى فاستشار عمر الناس في حد الخمر ، فقال عبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين من شربها يهجر ، ومتى ما هجر يقذف فنرى أن تجعله كأخف الحدود ، قال : وكان أول من جلد في الخمر ثمانين .
وهذا التعليل أجمع الناس على صحته فلم يخالف قائله فيه أحد .
وأما الضرب الثاني من الدليل على صحة العلة فهو : الاستنباط ، وذلك من وجهين : أحدهما : التأثير ، والثاني : شهادة الأصول . فأما التأثير : فهو أن يوجد الحكم لوجود معنى فيغلب على الظن أنه لأجله ثبت الحكم ، وذلك مثل قولنا في تعليل الخمر انه شراب فيه شدة مطربة فإنه قبل حدوث الشدة فيه وهو عصير كان حلالاً ثم حدثت الشدة فيه فحرم ثم زادت الشدة فحل فعلم أن الشدة هي العلة في تحريمه .
وأما شهادة الوصول : فتختص بقياس الدلالة مثل أن يقول في أن القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء ، ما لا ينقض الطهر خارج الصلاة لا ينقضه داخل الصلاة كالكلام فيدل عليها بأن الأصول تشهد بالتسوية بين داخل الصلاة وخارجها في هذا المعنى ، ألا ترى أن ما نقض الوضوء داخل الصلاة نقضه خارجها كالأحداث كلها ؟ وما لا ينقض الوضوء خارج الصلاة لا ينقضه داخلها فيجب أن تكون القهقهة مثلها .
بيان ما يفسد العلة
يفسد العلة أشياء منها أن لا يكون على صحتها دليل فيدل ذلك على فسادها لأنا قد بينا فيما تقدم أن العلة شرعية ، فإذا لم يكن على صحتها دليل من قبل الشرع دل على أنها ليست بعلة ووجب الحكم بفسادها ، ومنها أن تكون منتزعة من أصل لا يجوز انتزاع العلة منه مثل أن يقيس القايس على أصل غير ثابت اما لأنه منسوخ أو لعدم ثبوت الحكم فيه ، لأن الفرع لا يثبت إلا بأصل فإذا لم يثبت الأصل لم يجز اثبات الفرع من جهته .
وهكذا لو كان الأصل قد ورد الشرع بتخصيصه منع القياس من جهته ، مثل قياس أصحاب أبي حنيفة غير رسول الله على رسول الله في جواز النكاح بلفظ الهبة ، وقد ورد الشرع بأنه مخصوص بذلك ، فهذا لا يجوز القياس عليه لأن القياس إنما يجوز على ما لم يرد الشرع بالمنع منه ، فأما إذا ورد الشرع بالمنع منه فلا يجوز ، ولهذا لا يجوز القياس إذا منع منه نص أو اجماع . ومنها أن تكون العلة منتقضة وهو أن توجد ولا حكم معها . الدليل على ذلك إنها علة مستنبطة فإذا وجدت من غير حكم ، حكم بفسادها . أصل ذلك العلل العقلية ، ومنها أن يعارضها ما هو أقوى منها من نص كتاب ، أو سنّة ، أو إجماع فيدل ذلك على فسادها لأن هذه الأدلة مقطوع بصحتها فلا يثبت القياس معها .
باب القول في تعرض العلتين وترجيح إحداهما على الأخرى
إعلم أن الترجيح لا يقع بين دليلين موجبين للعلم لأن العلم لا يتزايد وإن كان بعضه أقوى من بعض ، وكذلك لا يقع الترجيح بين دليل موجب للعلم أو علة موجبة له ، وبين دليل أو علة يوجب كل واحد منهما الظن لما ذكرناه ولأن المقتضي للظن لا يبلغ رتبة الموجب للعلم ولو رجح بما رجح لكان الموجب للعلم مقدماً عليه فلا معنى للترجيح . فمتى تعارضت علتان واحتيج فيهما إلى الترجيح رجحت إحداهما على الأخرى بوجه من الترجيح .
فمن ذلك أن تكون إحداهما منتزعة من أصل مقطوع به والأخرى من أصل غير مقطوع به ، فالمنتزعة من المقطوع به أولى لأن أصلها أقوى .
ومنها أن يكون أصل إحداهما مع الإجماع عليه قد عرف دليله على التفصيل لأن ما عرف دليله يمكن النظر في معناه وترجيحه على غيره ، ومنها أن يكون أصل إحداهما قد عرف بنطق وأصل الأخرى
قد عرف بمفهوم أو استنباط ، فما عرف بالنطق أولى والمنتزع منه يكون أقوى .
ومنها أن يكون أصل إحداهما من جنس الفرع فقياسه عليه أولى من قياسه على ما ليس من جنسه .
ومنها أن تكون إحداهما مردودة إلى أصل والأخرى مردودة إلى أصول ، فالمردودة إلى أصول أولى لأن ما كثرت أصوله أقوى . و منها أن تكون إحداهما منصوصاً عليها والأخرى غير منصوص عليها فالعلة المنصوص عليها أولى لأن النص أقوى من الاستنباط . ومنها أن تكون إحداهما تقتضي احتياطاً في فرض والأخرى ليست كذلك فالتي تقتضي الاحتياط أولى لأنها أسلم في الموجب . ومنها أن يكون مع إحداهما قول صحابي فهي أولى لأن قول الصحابي حجة في مذهب بعض العلماء فإذا انضم إلى القياس قواه .
باب الكلام في استصحاب الحال
استصحاب الحال ضربان : أحدهما : استصحاب حال العقل ، والثاني : استصحاب حال الاجماع . فأما استصحاب حال العقل فهو : الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل وذلك طريق يفزع المجتهد إليه عند عدم أدلة الشرع . مثاله أن يسأل شافعي عن الوتر فيقول ليس بواجب ، فإذا طولب بدليل يقول لأن طريق وجوبه الشرع وقد طلبت الدليل الموجب من جهة الشرع فلم أجد فوجب أن لا يكون واجباً وأن تكون ذمته بريئة منه كما كانت قبل . فإن قال السائل : ما ننكر أن يكون الدليل موجوداً وأنت مخطيء في الطلب وتارك للدليل الموجب ، قال له : لا يجب علي أكثر من الطلب وإذا لم أجد لزمني تبقية الذمة على البراءة كما كانت .
وهذا كلام صحيح ليس يلزمه الانتقال عن استصحاب الحال إلا بدليل شرعي ينقله عنه فإن وجد دليلاً من أدلة الشرع انتقل عنه سواء كان ذلك الدليل نطقاً أو مفهوم نص أو ظاهراً ، لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليل شرعي فأي دليل ظهر من جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال بعده .
والضرب الثاني : استصحاب حال الإجماع ، مثل أن يقول الشافعي في المتيمم إذا رأى الماء في اثناء صلاته انه يمضي فيها لأنهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد صلاته فيجب أن تستصحب هذه الحال بعد رؤية الماء حتى يقوم دليل ينتقل عنه لأجله . وقد اختلف أهل العلم في هذا فمنهم من قال هو دليل كما أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث ، أو تيقن الحدث ثم شك في الطهارة ، أو تيقن النكاح وشك في الطلاق ، أو تيقن الملك وشك في العتق أن اليقين لا يزول بالشك ويكون حكم السابق مستداماً في حال الشك فكذلك هاهنا ، ومنهم من قال ليس بدليل لأن الدليل هو الإجماع والإجماع إنما حصل قبل رؤية الماء فإذا رأى الماء فقد زال الإجماع فلا يجوز أن يستصحب حكم الإجماع في موضع الخلاف من غير علة تجمع بينهما .
باب القول في حكم الأشياء قبل الشرع
اختلف أهل العلم في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع ، فمنهم من قال : هي على الحظر فلا يحل الانتفاع بها ولا التصرف فيها ، ومنهم من قال : هي على الإباحة فمن رأى شيئاً جاز له تناوله وتملكه . ومنهم من قال : إنها على الوقف لا يقضي فيها بحظر ولا إباحة .
فأما من قال هي على الحظر فاحتج بأن جميع المخلوقات ملك لله عز وجل لأنه خلقها وأنشأها ولا يجوز الانتفاع بملك الغير من غير إذنه ، والذي يدل على ذلك أن أملاك الآدميين لا يجوز لأحد منهم أن ينتفع بملك غيره بغير إذنه . واحتج من قال هي على الإباحة بأن الله تعالى خلقها وأوجدها فلا يخلو من أن يكون خلقها لغرض أو لغير غرض ، فلا يجوز أن يكون لغير غرض لأنه يكون عبثاً والله لا يجوز أن يكون عابثاً في أفعاله فوجب أن يكون خلقها لغرض . ولا يخلو من أن يكون ليضر بها أو لينفع ، ولا يجوز أن يكون ليضر بها لأنه حكيم لا يبتدي بالضرر فوجب أن يكون للنفع . ولا يخلو أن يكون لنفع نفسه أو لنفع عباده فلا يجوز أن يكون لنفع نفسه لأنه غني غير محتاج إلى الانتفاع فوجب أن يكون خلقها لينفع بها عبادة ووجب أن يكون تصرفهم فيها مباحاً وأن يكون خلقها اذناً لهم في الانتفاع بها .
وأما من قال إنها على الوقف وهو القول الصحيح فاحتج بقول الله تعالى : ( { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم على الله تفترون } ) [8] فأوقع جل ذكره اللائمة على المحلل منهم والمحرم لها وسوى بينهما في تحليل ما لم يأذن الله فيه وتحريم ما لم ينه الله عنه فوجب بذلك المساواة بين الزاعمين إنها في الأصل على الإباحة وبين القائلين إنها في الأصل على التحريم ، ولهذا قال الربيع بن خثيم ما :
أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن محمد بن زاميق الاستاراباذي ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن أبي توبة الصوفي بشيراز ، حدثنا علي بن الحسين بن معدان ، حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عطاء بن السائب ، قال : قال الربيع بن خثيم : أيها المفتون أنظروا كيف تفتون لا يقل أحدكم ان الله أحل كذا وكذا وأمر به فيقول الله كذبت لم أحلله ولم آمر به ، ولا يقل أحدكم ان الله حرم كذا وكذا ونهى عنه فيقول الله كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه .
قلت : ولأن المباح ما أعلم صاحب الشرع انه لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه ، والمحظور ما أعلم ان في فعله عقاباً ، فإذا لم يرد الشرع بواحد منهما وجب أن لا يكون محظوراً ولا مباحاً ، ويكون حكمه موقوفاً على ورود الشرع فيحكم بما يرد الشرع فيه .
وأما الجواب عن قول من حظرها بأنها ملك لله ، فهو انه إن أراد انه لا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه من طريق العقل لم يسلم له ذلك ، وهل وقعت المنازعة إلا فيه . وإن أراد به من طريق الشرع فهو صحيح ولهذا قلنا ولهذا قلنا إنه موقوف على مجيئ الشرع ، وأما أملاك الأدميين فإنما حرم التصرف فيها من غير إذن مالكها بالشرع دون العقل ، ولم يكن له فيما ذكره حجة .
وأما الجواب : عما احتج به من أباحها فهو أنه غير صحيح ، لأنا لا نعلل أفعال الله ، وعلى أن ما ذكروه ينقلب عليهم فيما خلقه الله وحرمه على عباده مثل الخمر والخنزير ، ويقسم عليهم مثل تقسيمهم حرفا بحرف ، مع أنا نقول يجوز أن يكون الله تعالى خلقها ليمتحنهم بالكف عنها ، ويثيبهم على ذلك ، أو ليستدلوا بها على خالقها ، وهذا وجه يخرجه من حد العبث فسقط ما قالوه .
وفائدة هذه المسألة أن من حرم شيئاً أو أباحه فسئل عن حجته ، فقال : طلبت دليل الشرع فلم أجد فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة . هل يصح ذلك أم لا ؟
وهل يلزم خصمه احتجاجه بهذا القول أم لا ؟ وهذا مما يحتاج الفقيه إلى معرفته والوقوف على حقيقته .
باب ترتيب استعمال الأدلة واستخراجها
أخبرنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي ، حدثنا أبو الحسن علي بن إسحاق المادارايي ، أخبرنا الحسن بن علي المعمري ، وأخبرنا عبد الملك بن محمد بن عبد الله الواعظ أخبرنا أبو سهل أحمد بن عبد الله القطان ، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني روح بن جناح عن منصور عن أبي وائل ، انه أخبره عن عبد الله انه خرج عليهم وهو عامل لعمر على الكوفة وقد حضر أناس كثير فمنهم المستفتي ومنهم المخاصم ، فلما رأى كثرة من حضره حمد الله وأثنى عليه ثم قال قد كنا : وفي حديث القطان : إنا كنا ولسنا بشيء ثم بلغ الله بنا ما ترون مما يحتاج إلينا فيه ، فمن عرض له منكم قضاء فليعرضه على كتاب الله ، فإن كان مما أحكم الكتاب فليمضه ، وإن لم يكن مما أحكم الكتاب فليعرضه وقال المادرايي : فليعرض القضاء على سنّة نبي الله فإن كان مما أحكمته السنّة فليمضه ، وإن لم يكن من محكم الكتاب ولا مضت فيه سنة نبي الله فما اجتمع عليه الرجال وقال القطان : فما أجمع عليه الرضا من أصحاب رسول الله ، فإن كان مما اجتمعوا عليه فليمضه ، وإن لم يكن مما اجتمعوا عليه فليقل برأيه تيمماً للكتاب والسنة ، ولا يقولن أحدكم : أخاف ولا أدري ، إن الحلال بَيِّن ، والحرام بَيِّن ، وشبهات بين ذلك من توقاهن كان أقرب وقال القطان : كان أوقر لدينه وعرضه .
أخبرنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي وعلي بن أبي علي البصري ، قالا : أخبرنا علي بن عبد العزيز البرذعي ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، قال : سمعت يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : قال محمد بن إدريس الشافعي : الأصل قرآن أو سنّة فإن لم يكن فقياس عليهما ، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله وصح الإسناد به فهو سنة ، والإجماع أكثر من الخبر المنفرد ، والحديث على ظاهره ، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به ، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسناداً أولاها ، وليس المنقطع بشيء ما عدى منقطع ابن المسيب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى المصري نفسه ، قال سمعت الشافعي يقول : لا يقاس أصل على أصل ، ولا يقاس على خاص ، ولا يقال لأصل لم ؟ وكيف ؟
زاد أبي في حديثه عن يونس عن الشافي ، إنما يقال للفرع : لم ؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة .
أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن خلف الدقاق ، حدثنا عمر بن محمد ابن عيسى الجوهري ، حدثنا أبو بكر الأثرم ، قال : رأيت أباعبد الله أحمد بن حنبل فيما سمعنا منه من المسائل إذا كان في المسألة عن النبي حديث لم يأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا من بعده خلافه ، وإذا كان في المسألة عن أصحاب النبي قول مختلف تخير من أقاويلهم ولم يخرج من أقاويلهم إلى قول من بعدهم ، وإذا لم يكن فيها عن النبي ولا عن أصحابه قول تخير من أقاويل التابعين وربما كان الحديث عن النبي وفي إسناده شيء فيأخذ به إذا لم يجيء خلافه أثبت منه مثل حديث عمرو بن شعيب ومثل حديث إبراهيم الهجري ، وربما أخذ بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه .
قلت : الذي ذكره الشافعي أصل جامع لاستعمال أدلة الشريعة ، وكيف ترتب طرقها وتستنبط أحكامها ، فيجب على العالم إذا نزلت به نازلة أن يطلب حكمها في كتاب الله وسنة نبيه ، فينظر في منطوق النصوص والظواهر ومفهومها ، وفي أفعال الرسول واقراره ، وليس في نص القرآن ولا نص الحديث عن رسول الله تعارض ، قال الله تعالى : ( { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } ) [9] وقال مخبراً عن نبيه : ( { وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى } ) [10] فأخبر أنه لا اختلاف في شيء من القرآن وأن كلام نبيه وحي من عنده فدل ذلك على أنه كله متفق وان جميعه مضاف بعضه إلى بعض ، ومبني بعضه على بعض اما بعطف أو استثناء ، أو غير ذلك مما قدمناه .
وقد بيّن ذلك رسول الله في الحديث الذي أخبرناه الحسن بن علي الجوهري ، أخبرنا عمر ابن محمد بن علي الناقد ، أخبرنا جعفر بن محمد الفيريابي ، حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر قال : وجد عمر حلة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله ، فقال يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد ، فقال رسول الله ﷺ : «إنما يلبس هذه من لا خلاق له » . أو قال ﷺ : «إنما هذه لباس من لا خلاق له قال فلبث عمر ما شاء الله ثم أرسل إليه رسول الله بجبة ديباج فأقبل بها عمر حتى أتى بها رسول الله فقال : يا رسول الله ، قلت رضي الله عنه : «إنما هذه لباس من لا خلاق له » . ( ثم أرسلت إلي بهذه ؟ فقال رسول الله: «تبيعها أو تصيب بها حاجتك أو نحو هذا » .
ففي هذا الحديث تعليم لاستعمال السنن والأخذ بها كلها لأنه عليه السلام أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها للنساء ، وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط ولا يتعداه إلى غيره .
قرأت على أبي القاسم الأزجي ، عن عبد العزيز بن جعفر ، قال : أنا أبو بكر الخلال ، قال : حدثني يوسف بن موسى ، قال : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد بن حنبل - ما تقول في الخبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، تستعمله قال : ' نعم ؛ إذا صح الخبر ولم يخالفه أحد غيره ' .
أخبرني القاضي أبو العلاء الواسطي وأبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الواحد المروروذي ، قال أحمد : نا ، وقال أبو العلاء : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري ، قال : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول : ليس لأحد مع رسول الله قول إذا صح الخبر عنه .
( وسمعت ) أبا هشام الرفاعي يقول : سمعت يحيى بن آدم يقول : لا يحتاج مع قول النبي إلى قول أحد ، وإنما كان يقال : سنة النبي وأبي بكر وعمر ليعلم أن النبي مات عليها .
ويجب أن يحمل حديث رسول الله على عمومه وظاهره إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير ذلك فيعدل إلى ما دل الدليل عليه .
أخبرنا الجوهري ، أخبرنا محمد بن العباس الخزاز ، نا أحمد بن عبد الله بن سيف ، حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : قال الشافعي : ولو جاز في الحديث أن يحال شيء منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عدداً من المعاني ، فلا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره ، ولكن الحق فيها واحد انها على ظاهرها وعمومها إلا بدلالة عن رسول الله ، أو قول عامة أهل العلم بأنها على خاص دون عام ، أو باطن دون ظاهر إذا كانت إذا صرفت إليه عن ظاهرها محتملة للدخول في معناه .
وسمعت عدداً من مقدمي أصحابنا وبلغني عن عدد من مقدمي أهل البلدان في الفقه معنى هذا القول ولا يخالفه .
قال الشافعي : وكلما احتمل حديثان أن يستعملا معاً استعملا معاً ولم يعطل واحد منهما الآخر .
قلت : وهذا القول صحيح وأنا أذكر بعض الأحاديث التي يظن إنها متضادة لتعارضها في الظاهر وليست متضادة وأبين كيف وجه استعمال جميعها ليستدل به على ما عداه من هذا الفن ان شاء الله .
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الحذاء المقريء وأبو القاسم عبيد الله بن عمر بن أحمد الواعظ ، قال : أخبرنا أبو بحر محمد بن الحسن بن كوثر البربهاري ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ، أن النبي سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والأنس
وأخبرنا القاضي أبو بكر الحيري ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أخبرنا الربيع بن سلميان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ديب عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، انه قرأ عند رسول الله بالنجم فلم يسجد فيها .
ليس في هذين الحديثين تضاد ، ولا أحدهما ناسخ للآخر ، وفيهما دليل على أن سجود التلاوة ليس بحتم لأن النبي سجد في النجم تارة وترك السجود فيها تارة أخرى والمستحب أن لا يترك وهذا اختلاف من جهة المباح .
ومن ذلك : حديث أخبرناه أبو بكر الحيري ، حدثنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب الأنصاري ، أن النبي نهى أن تستقبل القبلة بغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا ، قال أبو أيوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل .
ثم أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي ، قال : حدثني جدي لأمي القاضي أبو الحسن علي ابن أحمد بن محمد بن يوسف السامري بسامراء ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو مصعب الزهري عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر ، انه كان يقول : إن ناساً يقولون إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس ، فقال عبد الله بن عمر : لقد ارتقيت على ظهر بيتنا فرأيت رسول الله مستقبلاً بيت المقدس لحاجته .
وليس في هذين الحديثين خلاف ولا نسخ .
أما حديث أبي أيوب فإنه محمول على النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء ، وكان القوم عرباً يخرجون لقضاء الحاجة إلى الصحاري ولم يكن عليهم ضرورة في أن ينحرفوا عن جهة القبلة شرقاً أو غرباً وحديث ابن عمر خاص في المنازل لأنها متضايقة لا يمكن من التحرف فيها ما يمكن في الصحراء ، فلما ذكر ابن عمر انه رأى رسول الله مستقبلاً بيت المقدس وهو حينئذ مستدبر الكعبة دل ذلك على أن النهي منصرف إلى استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء دون المنازل ، وسمع أبو أيوب النهي من رسول الله ولم يعلم ما علمه ابن عمر فخاف المأثم في أن يجلس لقضاء حاجته مستقبل الكعبة فتحرف عن جهتها ، وهكذا يجب على كل من سمع شيئاً أن يعمل به إذا لم يعرف غيره .
أخبرنا البرقاني ، قال : قرأت على أبي الفضل بن خميرويه ، أخبركم أحمد بن نجدة ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، أن أبا حصين قال : كنت عند سعيد بن جبير ، قال : أيكم رأى الكوكب الذي انقص البارحة ؟ قلت : أنا اما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ، قال : فما فعلت ؟ قلت : أسترقيت ، قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي قال : وما حدثكم الشعبي ، قلت : حدثنا الشعبي ، عن بريدة بن حصيب الأسلمي انه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة . قال سعيد : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع .
وقد كان عبد الله بن عمر علم نهي رسول الله عن استقبال القبلة أو استدبارها لقضاء الحاجة ، فحمل ذلك على انه قصد به في الفضاء دون المنازل عندما رأى من رسول الله .
أخبرنا القاضي أبو عمر الهاشمي ، حدثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا صفوان بن عيسى عن الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر ، قال : رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها ، فقلت : أبا عبد الرحمن أليس قد نهى عن هذا ؟ قال : بلى ، إنما نهى عن ذلك في الفضاء ، فإذا كان بينك وبين القبل شيء يسترك فلا بأس . ومن ذلك حديث أخبرناه عبد الرحمن بن عبيد الله الحربي ، أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي ، حدثنا إسحاق بن الحسن حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي ، انه أهدى لرسول الله وهو بودان أو بالأبواء حماراً وحشياً ، فرده عليه رسول الله قال فلما رأى رسول الله ما في وجهي قال ﷺ : «إنا لم نرده عليك إلا انا حرم » .
وأخبرنا القاضي أبو عمر الهاشمي ، حدثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عبد الله ابن مسلمة عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري عن أبي قتادة رضي الله عنه ، انه كان مع رسول الله حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم ، فرأى حماراً وحشياً فاستوى على فرسه قال : فسأل أصحابه أن يناولوه سوله فأبوا ، فسألهم رمحه فأبوا ، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله وأبى بعضهم ، فلما أدركوا رسول الله سألوه عن ذلك فقال ﷺ : «إنما هي طعمة أطعمكموها الله عز وجل » .
وليس يخالف أحد هذين الحديثين الآخر . أما الأول فعلم رسول الله ان الحمار صيد من أجله وأهدي إليه وليس للمحرم ذبح حمار وحشي حي فلذلك رده . وأما الحديث الثاني فإن النبي أمر أصحاب أبي قتادة أن يأكلوا مما صاده وهو رفيقهم لعلمه انه لم يصده لهم ولا بأمرهم فحل لهم أكله . وقد روي عن جابر بن عبد الله عن النبي نص في هذا :
أخبرناه القاضي أبو بكر الحيري ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، قال : أخبرنا الربيع بن سليمان قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد عن عمر بن أبي عمر مولى المطلب عن المطلب عن جابر رضي الله عنه ، أن رسول الله قال ﷺ : «لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم » .
وأما قول الشافعي : وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسناداً أولاها ، فمثال ذلك ما .
أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن رسول الله قال ﷺ : «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب » .
( وأخبرنا ) أبو سعيد الحسن بن محمد بن عبد الله بن حسنويه الأصبهاني بها ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عيسى بن مزيد الخشاب ، حدثنا أحمد بن مهدي ، حدثنا محمد بن سماعة ، أخبرنا محمد يعني ابن الحسن أخبرنا أبو حنيفة ، حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله ، قال : صلى رسول الله ورجل خلفه ، فجعل رجل من أصحاب النبي ينهاه عن القراءة في الصلاة ، قال فقال : اتنهاني عن القراءة خلف نبي الله فتنازعا حتى ذكر ذلك للنبي فقال ﷺ : «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة » .
فإن حديث عبادة هو الصحيح واما حديث جابر فتفرد بوصل إسناده عن موسى بن أبي عائشة أبو حنيفة وقيل عن الحسن بن عمارة كذلك ، والحسن ضعيف جداً والمحفوظ ان أبا حنيفة تفرد بوصله وخالفه الثقات الحفاظ منهم سفيان الثوري ، وشعبة بن الحجاح ، وزائدة بن قدامة ، وأبو عوانة الوضاح ، وأبو الأحوص سلام بن سليم ، وشريك بن عبد الله ، وسفيان بن عيينة ، وجرير بن عبد الحميد وأبو إسحاق الفزاري ، ووكيع بن الجراح فرووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي لم يذكروا فيه جابراً والقول قولهم فلا تثبت بالحديث حجة لأنه مرسل . أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الواحد المنكدري ، حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد الحافظ بنيسابور ، أخبرنا عبد الله بن محمد الكعبي ، حدثنا إسماعيل بن قتيبة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسحاق بن منصور عن هريم بن سفيان عن مطرف عن سوادة بن أبي الجعد عن أبي جعفر وهو محمد بن علي قال : من فقه الرجل بصره بالحديث .
وأما قول الشافعي : وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن الميب ، فقد ذكر بعض الفقهاء أن الشافعي جعل مرسل ابن المسيب حجة لأن مراسيله كلها اعتبرت فوجدت متصلات من غير حديثه . وهذا القول ليس بشيء لأن من مراسيل سعيد ما لم يوجد متصلاً من وجه بتة ، والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه جعل لسعيد مزية في الترجيح لمراسيله خاصة لأن أكثرها وجد متصلاً من غير حديثه لا انه جعلها أصلاً يحتج به والله أعلم .
وقول الشافعي : ولا يقاس أصل على أصل مثاله ، ان فرض الزكاة في الإبل في كل خمس منها شاة إلى أن تبلغ أربعاً وعشرين ، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمساً وثلاثين ، فإن لم تكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر ، وإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين ، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة .
وفرض زكاة البقر بخلاف ذلك فإن النصاب الذي تجب فيها الزكاة ببلوغه ثلاثون ، فإذا بلغته وجب فيها تبيع منها ، ولا شيء فيما زاد على ذلك حتى تبلغ أربعين ، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة منها وعلى هذا الحساب أبداً في كل ثلاثين منها تبيع وفي كل أربعين مسنة . فلا يقاس الإبل على البقر لأن كل واحد منهما أصل بنفسه .
وقول الشافعي : ولا يقاس على خاص ، مثاله ما .
أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله : «لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، أن رضيها أمسكها ، وأن سخطها ردها وصاعاً من تمر » .
المصراة من الإبل والغنم هي التي قد جمع لبنها في خلفها وضرعها فمن ابتاعها فهو مبتاع لناقة أو شاة فيها لبن ظاهر ، وهو غيرها كالثمرة في النخلة التي إذا شاء قطعها ، وكذلك اللبن إذا شاء حلبه فإذا أراد رد المصراة بعيب التصرية ردها ورد معها صاعاً من تمر كثر اللبن أو قل ، وسواء كان الصاع قيمة اللبن أو أكثر من قيمته أو أقل ، والعلم محيط بأن ألبان الإبل والغنم مختلفة المقادير والقيم فلم يكن فيها غير الصاع لنص رسول الله عليه ، وهذا الأصل خاص فلا يقاس عليه .
أخبرنا أبو محمد الجوهري ، أخبرنا محمد بن العباس ، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سيف ، حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : قال الشافعي : حاكياً عمن سأله فقال : كيف يرد صاعاً من تمر ولا يرد ثمن اللبن ؟ قلت : أثبت هذا عن النبي ؟ قال : نعم ، قلت ما ثبت عنه فليس فيه إلا التسليم ، وقولك وقول غيرك فيه لم ؟ وكيف خطأ ؟ وكيف إنما يكون لأقاويل الآدميين الذين قولهم تبع لا متبوع ، ولو جاز في القول اللازم : «كيف » حتى يحمل على قياس أو فطرة عقل لم يكن للقول غاية ينتهي إليها ، وإذا لم يكن له غاية ينتهي سقط القياس .
قلت : التعبد من الله تعالى لعباده على معنيين : أحدهما : التعبد في الشيء بعينه لا لعلة معقولة فما كان من هذا النوع لم يجز أن يقاس عليه . والمعنى الثاني : التعبد لعلل مقرونة به وهي الأصول التي جعلها الله تعالى اعلاماً للفقهاء فردوا إليها ما حدث من أمر دينهم مما ليس فيه نص بالتشبيه والتمثيل عند تساوي العلل من الفروع بالأصول ، وليس يجب أن يشارك الفرع الأصل في جميع المعاني ، ولو كان ذلك واجباً لكان الأصل هو الفرع ، ولما كان يتهيأ قياس شيء على غيره وإنما القياس تشبيه الشيء بأقرب الأصول به شبهاً ، ألا ترى أن الله تعالى حكم في الصيد بالمثل من النعم ؟ وحكموا في النعامة بالبدنة ؟ وإنما يتفقان في بعض المعاني ، وكذلك الحكم بالقيم والأمثال في الأشياء المتلفة والله أعلم .
وإذا ورد عن النبي خطاب يتضمن كلمتين معناهما في ا لظاهر واحد وأمكن حمل كل كلمة على فائدة فعل ذلك .
مثاله : ما أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عيسى بن عبد الرحمن عن طلحة اليامي عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء رضي الله عنه ، قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ قال : «لئن قصرت في الخطبة لقد عوصت المسألة ، أعتق النسمة ، وفك الرقبة » ، قال : يا رسول الله أو ما هما سُوىً ؟ قال ﷺ : «لا . عتق النسمة أن تفرد ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها » .
في هذا الحديث من الفقه أن الكلمة من صاحب الشريعة إذا أمكن حملها على الإفادة لم تحمل على التكرار والإعادة وكذلك طالبه الأعرابي بالفرق بينهما وراجعه الكلام فيهما . فينبغي أنعام النظر في الآثار والسنن ، والتفتيش عن معانيها ، والفكر في غوامضها ، واستنباط ما خفي منها ، فمن فعل ذلك كان جديراً بلحاق من سبقه من العلماء والتبريز على المعاصرين له من الفقهاء .
أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الواحد المروروذي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد الحافظ بنيسابور ، قال : سمعت أبا الطيب الكرابيسي يقول : سمعت إبراهيم بن محمد المروزي يقول : سمعت علي بن خشرم يقول : كنا في مجلس سفيان بن عيينة فقال : يا أصحاب الحديث تعلموا فقه الحديث لا يقهركم أهل الرأي ، ما قال أبو حنيفة شيئاً إلا ونحن نروي فيه حديثاً أو حديثين ، قال فتركوه وقالوا : عمرو بن دينار عن من ؟ .
ذكر الكلام في النظر والجدل
النظر ضربان : ضرب : هو النظر بالعين فهذا حده الإدراك بالبصر . والثاني : النظر بالقلب ، فهذا حده الفكر في حال المنظور فيه ، والمنظور فيه : هو الأدلة والإمارات الموصلة إلى المطلوب ، والمنظور له هو : الحكم لأنه ينظر لطلب الحكم ، والناظر هو : الفاعل للفكر .
وأما الجدل فهو : تردد الكلام بين الخصمين إذا قصد كل واحد منهما أحكام قوله ليدفع به قول صاحبه ، فهو مأخوذ من الإحكام . يقال : درع مجدولة إذا كانت محكمة النسج ، وحبل مجدول إذا كان محكم الفتل ، والجدالة : وجه الأرض إذا كان صلباً .
ولا يصح الجدال إلا من اثنين ويصح النظر من واحد . والجدل كله سؤال وجواب ، فالسؤال هو : الاستخبار ، والجواب هو : الأخبار . وأما الرأي فهو : استخراج صواب العاقبة ، فمن وضع الرأي في حقه واستعمل النظر في موضعه سدد إلى الحق المطلوب ، كمن قصد المسجد الجامع فسلك طريقه ولم يعدل عنه أداه إليه وأورده عليه . وقد ذهب قوم قصرت علومهم وبعدت أفهامهم إلى إنكار المناظرة وابطال المجادلة وتعلقوا في ذلك بما سنذكره ونجيب عنه ان شاء الله .
باب ذكر ما تعلق به من أنكر المجادلة وابطاله
احتج من ذهب إلى ابطال الجدال بقول الله تعالى : ( { الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } ) [11] وبقوله تعالى : ( { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني } ) [12] ومن السنّة ، بما أخبرنا عبد الله بن يحيى السكري ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي ، حدثنا محمد بن الجهم ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا حجاج بن دينار ( وأخبرنا ) الحسن بن أبو بكر أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم المقري ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن القاضي ، قال : حدثنا إسحاق ابن راهويه ، أخبرنا عيسى بن يونس ، حدثنا الحجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي إمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ، وفي حديث ابن راهويه عن النبي قال ﷺ : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل » ثم قرأ : ( { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } ) [13] .
أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي ، حدثنا بقية ، حدثنا قيس بن الربيع عن الحجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة قال قال رسول الله ﷺ : «ما ضل قوم بعد هداهم إلا أوتوا الجدال » ثم قرأ هذه الآية : ( { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } ) .
( وأخبرنا ) القاضي أبو بكر الحيري وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله السراج ، قالا : حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو عتبة ، حدثنا بقية ، حدثنا الصباح بن مجالد عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري ، قال قال رسول الله ﷺ : «إذا كان سنة خمس وثلاثين ومائة خرج مردة الشياطين ، كان حبسهم سليمان بن داود في جزائر البحور فذهب منهم تسعة أعشارهم إلى العراق يجادلونهم وعشر بالشام » .
أخبرنا علي بن أحمد بن عمر المقريء والحسن بن أبي بكر ، قالا : أخبرنا أبو بكر أحمد بن كامل القاضي ، حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا مسلمة بن علي ، قال : سمعت الأوزاعي يحدث عن حسان بن عطية ، قال : إذا أراد الله بقوم شراً ألقى بينهم الجدل وخزن العلم .
أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن المهتدي بالله الخطيب أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون ، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا نصر بن علي ، أخبرنا الأصمعي ، حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : ما كان جدل قط إلا أتى بعده جدل يبطله .
أخبرنا أخبرنا علي بن أحمد بن عمر المقري ، أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن علي الخطبي ، حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع ، قال : رأيت مالك ابن أنس يعيب الجدال والمراء في الدين ، قال : أفكلّما كان رجل أجدل من رجل أردنا أن يرد ما جاء به جبريل إلى النبي .
( وقال ) عبد الله حدثني أبي ، قال : حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع ، قال : رأيت رجلاً من أهل المغرب جاء مالكاً فقال : إن الأهواء كثرت قبلنا فجعلت على نفسي ان أنا رأيتك أن آخذ بما تأمرني ، فوصف له مالك شرائع الإسلام الزكاة والصلاة والصوم والحج ، ثم قال : خذ بهذا ولا تخاصم أحداً في شيء .
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل البزاز بالبصرة ، حدثنا أبو بكر يزيد بن إسماعيل الخلال ، حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي ، حدثني أبو عبد الله الأزدي ، قال : حدثني عبد العزيز ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون بهذه الرسالة وقرأها علي : أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله ، والاختصار في أمره ، واتباع سنة رسول الله ، وترك ما أحدث المحدثون في دينهم مما قد كفوا مؤونته وجرت فيهم سنته ، ثم اعلم انه لم تكن بدعة قط إلا وقد مضى قبلها دليل عليها ، فعليك بتقوى الله ، ولزوم السنّة فإنها لك بإذن الله عصمة ، وإنما جعلت السنة ليستن بها ويعتمد عليها ، وإنما سنّها من علم ما في خلافها من الزلل والخلاف والتعمق فارض لنفسك ما رضوا لأنفسهم ، فإنهم بعلم وقفوا ، وببصر ما كفوا ، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى ، وبفضل لو كان فيها أحرى ، وإنهم لهم السابقون ، فإن كان الهدى ما أحدثتم وما أنتم فيه لقد سبقتموهم ، ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيله ورغب بنفسه عنهم ، ولقد وضعوا ما يكفي ، وتكلموا بما يشفي ، فما دونهم مقصر ، ولا فوقهم محسن ، وإنهم لذلك لعلى هدى مستقيم ، فارجعوا إلى معالم الهدى وقولوا كما قالوا ، ولا تفرقوا بينما جمعوا ، ولا تجمعوا بينما فرقوا ، فإنهم جعلوا لكم أئمة وقادة ، هم حملوا إليكم كتاب الله وسنّة نبيه ، فهم على ما حملوا إليكم من ذلك أمناء وعليكم فيه شهداء ، واحذروا الجدل فإنه يقربكم إلى كل مؤبقة ولا يسلمكم إلى ثقة .
فنظرنا في كتاب الله تعالى وإذا فيه ما يدل على الجدال والحجاج فمن ذلك قوله تبارك وتعالى : ( { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ) [14] فأمر الله رسوله في هذه الآية بالجدال وعلمه منها جميع آدابه من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة . وقال تعالى : ( { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } ) [15] وقال تعالى : ( { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } ) [16] الآية وقال تعالى : ( { ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم } ) وكتاب الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف فتضمن الكتاب ذم الجدال والأمر به فعلمنا علماً يقيناً أن الذي ذمه غير الذي أمر به ، وإن من الجدال ما هو محمود مأمور به ومنه ما هو مذموم منهي عنه ، فطلبنا البيان لكل واحد من الأمرين فوجدناه تعالى قد قال : ( { وجادلوا الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } ) [17] وقال : ( { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا } ) فبين الله في هاتين الآيتين الجدال المذموم وأعلمنا انه الجدال بغير حجة ، والجدال في الباطل .
فالجدال المذموم وجهان : أحدهما : الجدال بغير علم ، والثاني : الجدال بالشغب والتمويه نصرة للباطل بعد ظهور الحق وبيانه قال الله تعالى : ( { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } ) [18] وأما جدال المحقين فمن النصيحة في الدين ، ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا : ( { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } ) [19] وجوابه لهم : ( { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } ) [20] .
وعلى هذا جرت سنة رسول الله ، فقال ما أخبرنا القاضي أبو عمر الهاشمي ، حدثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن حميد عن أنس ، أن النبي قال ﷺ : «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم » .
فأوجب المناظرة للمشركين . كما أوجب النفقة والجهاد في سبيل الله .
وعلمنا رسول الله وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر فيه محاجة آدم موسى عليهما السلام .
أخبرنا أبو بكر ، حدثنا عمر بن محمد بن علي بن الزيات لفظاً ، أخبرنا هارون بن يوسف بن أبي عبيد ، حدثنا سفيان عن عمرو عن طاووس ، قال : سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي ﷺ : «احتج آدم وموسى فقال موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ، فقال له آدم : يا موسى اصطفاك الله برسالته ، وكتب لك التوراة بيده ، لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول الله فحج آدم موسى » . يعني أن آدم هو حج موسى .
قلت : وضع موسى الملامة في غير موضعها فصار محجوجا ، وذلك انه لام آدم على أمر لم يفعله وهو خروج الناس من الجنة وإنما هو فعل الله تعالى ، ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعاً الملامة موضعها ، ولكان آدم محجوجا ، وليس أحذ ملوماً إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله مما فعله غيره ، والكافر إنما يلام على فعل الكفر لا على دخول النار ، والقاتل إنما يلام على فعله لا على موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه .
فعلمنا رسول الله في هذا الحديث كيف نسأل عند المحاجة ، وبين لنا أن المحاجة جائزة وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجاً ، وظهر بذلك قول الله تعالى : ( { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } ) [21] وليس هذا الحديث الذي ذكرناه من باب اثبات القدر في شيء وإنما هو وارد فيما وصفناه من محاجة آدم وموسى وإثبات القدر إنما صح في آيات وأحاديث أخر .
أخبرنا أبو الحسن علي بن طلحة المقريء ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم ابن أيوب بن ماسي ، حدثنا يحيى بن محمد الحنائي ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن سليمان عن الشعبي ، قال : قال عمر لزياد ابن حدير : أتدري ما يهدم الإسلام ؟ فلا أدري ما أجابه ، قال فقال عمر : زلة عالم ، وجدال منافق ، وأئمة مضلون .
أخبرنا الحسن بن أبي بكر ، أخبرنا محمد بن الحسن بن مقسم المقريء ، حدثنا أبو بكر محمد ابن يحيى المروزي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا ليث بن سعد عن يزيد عن عمر بن عبد الله بن الأشج ان عمر بن الخطاب قال : إنه سيأتي قوم يجادلونكم أحسبه قال : بالمشتبه من القرآن فجادلوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى .
أنا القاضي أبو القاسم : علي بن محسن التنوخي ، أنا أبو سعيد : الحسن بن جعفر السمسار ، نا أبو شعيب الحراني ، حدثني يحيى بن عبد الله البابلتي ، نا الأوزاعي ، قال : خاصم نفر من أهل الأهواء علي بن أبي طالب ، فقال له ابن عباس : ' يا أبا الحسن : إن القرآن ذلول حمول ذو وجوه ، تقول ويقولون ، خاصمهم بالسنة ، فإنهم لا يستطيعون أن يكذبوا على السنة ' .
حدثني محمد بن علي الصوري ، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر المصري ، حدثنا علي بن أبي مطر القاضي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الكثيري ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدثنا مالك ، انه بلغه ان الزبير بن العوام رضي الله عنه قال لابنه : لا تجادل الناس بالقرآن فإنك لا تستطيعهم ولكن عليك بالسنة .
وقد تحاج المهاجرون والأنصار ، وحاج عبد الله بن عباس الخوارج بأمر علي بن أبي طالب ، وما أنكر أحد من الصحابة قط الجدال في طلب الحق . وأما التابعون ومن بعدهم فتوسعوا في ذلك وثبت أن الجدال المحمود هو طلب الحق ونصره ، واظهار الباطل وبيان فساده ، وإن الخصام بالباطل هو اللدد الذي قال النبي ﷺ : «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم » .
أخبرنا ذلك أحمد بن محمد بن غالب الفقيه ، قال : قرأت على أبي بكر الإسماعيلي ، أخبركم هارون بن يوسف ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عبد الله بن عبيد الله ابن أبي ملكية عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي قال ﷺ : «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم » .
وجميع ما حكينا أنه تعلق به من أنكر المجادلة ، محمول على انه أريد به الجدال المذموم الذي وصفناه على أن مالك بن أنس قد بينه وأنه الجدل يقصد به رد ما جاء به جبريل إلى النبي ، وكذلك قول الخليل ( ما كان جدل قط إلا أتى بعده جدل يبطله ) أراد به الجدال الذي ينصر به الباطل لأن ما تقدم وكان حقاً لا يأتي بعده شيء يبطله ، وهو في معنى قول عمر بن عبد العزيز الذي أخبرناه علي بن محمد بن عبد الله المعدل ، أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد ، قال : قال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل .
انتهى الجزء السادس من كتاب الفقيه والمتفقه ويتلوه إن شاء الله الجزء السابع وأوله ( ويقال لمن أنكر ما ذكرناه ) والحمد لله وحده والصلاة على نبيه وصفيه محمد وآله وسلم تسليماً .
هامش
- ↑ [ البقرة ]
- ↑ [ النور : 6 ]
- ↑ [النور : 8 ]
- ↑ [ المائدة : 23 ]
- ↑ [ الطلاق : 6 ]
- ↑ [ المائدة : 83 ]
- ↑ [ الاسراء : 32 ]
- ↑ [ يونس : 95 ]
- ↑ [ النساء : 28 ]
- ↑ [النجم : 3 ]
- ↑ [ الشورى : 53 ]
- ↑ [ آل عمران : 02 ]
- ↑ [ الزخرف : 85 ]
- ↑ [ النحل : 125 ]
- ↑ [ العنكبوت : 64 ]
- ↑ [ البقرة : 258 ]
- ↑ [ غافر : 5 ]
- ↑ [ غافر : 5 ]
- ↑ [ هود : 23 ]
- ↑ [ هود : 43 ]
- ↑ [ البقرة : 151 ]