الرئيسيةبحث

التنمية ( Development )



التنمية يمكن البحث في جذورها الأولى منذ المحاولات المبكرة التي قام بها الإنسان الأول لمعرفة التغيرات التي تجري من حوله. وقد ارتبط ذلك بالمشاهد الحية والتأمل في التغيرات التي تحدث في الموجودات كفصول السنة والنبات والإنسان والحيوان. حيث أوضحت تلك التغيرات أن هذا الكون في حركة مستمرة وفي تغير دائم. وقد أدت هذه المشاهدات والتأملات إلى بروز جدل فلسفي متواصل حول ماهية الأشياء، وطبيعة المتغيرات التي تحدث فيها.

إرهاصات مبكرة عن التنمية

عند الإغريق:

كان فلاسفة اليونان هم السابقين إلى إثارة هذا الجدل في تاريخ الفكر الأوروبي. ومن بين هؤلاء الفلاسفة كان هرقليطس، الذي اهتم في جانب كبير من فلسفته بقضايا التغير، مشيرًا إلى أن هذا الكون في حركة وتغير دائمين. وقد عرفت عنه مقولته الشهيرة "إنك لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين". وهو بهذا يقرر أن كل شيء في هذا الكون في حركة مستمرة وتغير، وأن كل شيء مؤلف من متضادات (متقابلات)، ولهذا فإنه خاضع للتوتر الداخلي، أي للصراع. وهرقليطس في هذا، يرفض أطروحة الفيلسوف اليوناني بارمنيدس القائلة بأن شيئًا قد يكون، ولا مجال للتغير، كما يتعارض مع فلسفة أفلاطون في اعتباره التغير أمرًا ظاهريًا، وأن الحقيقة لا يمكن معرفتها إلا من خلال الشكل أو الفكرة، وهما غير قابلين للتغيير لأن بهما وحدهما نستطيع أن نميز الجيد والحقيقي من غيره.

أما أرسطو فقد ناقش موضوع التغير من جانب آخر، فأشار في معرض دراسته لطبيعة الدولة في كتاب السياسة بوجود نظام في الكائن العضوي يمكنه من الانتقال من مرحلة إلى أخرى ؛ يبدأ بالولادة، فالنضج، وأخيرا الاضمحلال، وكل مرحلة من مراحل النمو هذه تختزن في باطنها حافز نشوء المرحلة التي تليها.

عند العرب:

في القرن الرابع عشر الميلادي، برز المفكر وعالم الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون ليعطي مفهوم التغيير الاجتماعي بعدا أكثر شمولية وعمقا، مؤكدا أن الظواهر الاجتماعية لا تنشأ من فراغ. فلكي نفهم الظاهرة الاجتماعية يجب أن نعي البيئة التي نشأت فيها. ولذلك عزا ابن خلدون سلوك الناس وطريقة حياتهم إلى نوعية الوظائف التي يشغلونها في المجتمع، والتي تلبي حاجاتهم الأساسية ؛ فتلك الوظائف وتلك الحاجات هي مبعث التحالفات وأوجه التعاون بين فئات المجتمع. وقد أوضح ابن خلدون ذلك بدقة بقوله "واعلم أن اختلاف الأجيال إنما هو باختلاف نحلهم من المعاش، فإن اجتماعهم في أحوالهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري من قبل الحاجي والكمالي ... وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والذخيرة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويحصل بُلْغة العيش من غير مزيد للعجز عمّا وراء ذلك، ثم إذا اتسعت أموال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة".

يتضح من خلال هذه الجمل البسيطة والعميقة في آن واحد استخدام ابن خلدون المبكر للمنهج العلمي في التحليل والاستنتاج ؛ فالطريقة التي يحياها الناس، هي انعكاس للوظائف الاجتماعية التي يمارسونها، ووظيفة كسب القوت تحدد الموقع الاجتماعي للفرد.

أما الدولة فإنها تمر بدورات تاريخية وبمراحل، تشبه إلى حد كبير الدورة العضوية للكائن الحي. فكما أن الكائن الحي يمر بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة، فكذلك الدولة تمر في مراحلها المختلفة بهذه الدورات. وابن خلدون في تحليله هذا لا يكتفي بالوصول إلى هذه النتائج وتقديمها في مصنف نظري بحت، بل يحاول بأسلوب نفاذ ورؤية ثاقبة سبر غور المجتمع وقراءة التاريخ عبر مراحله المختلفة ودراسة القوانين التي تتحكم في حركته، وإخضاع هذه القوانين للبحث العلمي والمعطيات الاجتماعية والتاريخية في عصره، ومن ثم استخلاص النتائج وتقديمها في إطار نظري عام، كأداة من أدوات التحليل ودراسة التاريخ.

تطور مفهوم التنمية في عصر البعث الأوروبي

لم يحدث بعد رحيل ابن خلدون حتى البدايات الأولى لعصر النهضة والبعث في أوروبا أي تطور علمي يذكر فيما يتعلق بمفهوم التنمية والتغير الاجتماعي. إلا أن التطورات والثورات الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية اللاحقة، والتي ارتبطت بذلك العصر، قد أدت إلى حدوث تغيرات جذرية وتطورات واسعة في مجال العلوم الإنسانية ومفاهيم التغير الاجتماعي، ومن خلال الجدل الفلسفي الذي بلغ ذروته في القرن الثامن عشر انبثقت نظريات التطور والتنمية والتقدم، وبرزت فلسفات حديثة شاملة للكون والحياة.

ولأن نظريات التنمية والتطور الحديثة التي تسود عالمنا اليوم قد ارتبطت، إلى حد كبير، بالنظريات والتصورات التي انبثقت عن تلك المرحلة فإن من المهم المرور على أبرز الحوادث والتطورات والأفكار التي ارتبطت بعصر النهضة والتي أدت نتائجها إلى تجذر مفهوم التغير الاجتماعي وتصحيحه.

وعلى الرغم من أن أحدًا لا يستطيع أن يحدد بالدقة نهاية عصور الظلمة أو بداية عصر الانبعاث في أوروبا، إلا أنه يمكن القول إنه بفعل إشعاعات الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، والنتائج التي توصل إليها العلماء والفلاسفة العرب، فإن أوروبا مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي كانت تتململ ببطء في محاولة للاستيقاظ من سبات عميق. فقد سجلت كتب التاريخ أن الإمبراطور فريدريك الثاني قد أقام سوقًا للأدب والعلم والفلسفة في بلاطه في جزيرة صقلية، وأنه كان يدعو إلى هذه السوق المشاهير من الفلاسفة العرب. وقد أسس مدرستين إحداهما للعلوم في نابولي، والثانية للطب في ساليرنو، ثم انبثق عن هاتين المدرستين جامعة في باريس جعلت من هذه المدينة قبلة طلاب العلم في أوروبا، ومن ثم انشق بعض الطلاب الإنجليز عن هذه الجامعة فعادوا إلى بلادهم وأنشأوا جامعة خاصة بهم هي جامعة أكسفورد الشهيرة.

من القرن 13 إلى 17م:

في القرن الثالث عشر شهدت أوروبا تطورًا ملحوظًا في مجال الأدب والفلسفة. فقد برز الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون الذي أنكر العقيدة القائلة بأن الأشياء وجدت كما هي قائمة، موضحًا أن للظواهر الطبيعية أسبابًا يجب التفتيش عنها، فاتهم بالزندقة واضطهدته السلطات الكنسية. وعلى صعيد الانطلاق الأدبي شهد القرن نفسه نشر دانتي ملحمته الشهيرة الكوميديا الإلهية.

أما على الصعيد السياسي، فقد شهدت إنجلترا ثورة على النظام الإقطاعي، ووقع الملك يوحنا في 1215م على الوثيقة العظمى التي ضمنت بعض الحقوق السياسية. وفي نفس العام تم تشكيل مجلس ليشرف على الخزينة الملكية فكان ذلك فاتحة عهد في بروز الأنظمة الدستورية البرلمانية في أوروبا.

كما شهد القرن نفسه قيام الرحالة البندقي (الفينيسي) ماركو بولو برحلة حول الأرض بغية الوصول إلى الصين، وقد دامت تلك الرحلة عشرين عامًا، زار خلالها الصين ومنغوليا، وعاد بعدها إلى بلاده ليسجل ملاحظاته عن تلك الزيارة. وقد فتحت تلك الرحلة المجال للتنافس على البحار بين البرتغال وأسبانيا في محاولات لاكتشاف أجزاء وثروات أخرى من هذا العالم. ففي عام 1492م اتجه كريستوفر كولمبوس نحو الغرب على أمل الوصول إلى الهند، ولكنه بدلاً عن ذلك اكتشف أرضًا جديدة هي أمريكا محققًا بذلك إنجازًا كبيرًا في تاريخ البشرية، أثر بشكل حاسم على التطورات اللاحقة التي حدثت فيما بعد في أوروبا والعالم أجمع.

وبعد ثمانية أعوام كان رحالة آخر هو فاسكو دا جاما يتجه عام 1498م للقيام بمغامرة اكتشاف أخرى مدعومًا من حكومة البرتغال. وفي عام 1519م كان مغامر آخر برتغالي يتجه بدعم من حكومة أسبانيا إلى أمريكا الجنوبية، فيصل إلى البرازيل، ومن ثم يكتشف أرخبيل الفلبين.

ومن جانب آخر، كانت القارة الأوروبية تشهد حركة واسعة للإصلاح الديني قادها راهب كاثوليكي هو مارتن لوثر الذي بلغ من جرأته أن هاجم الكنيسة في بيانه الذي أصدره عام 1517م الذي صور رجالها باللصوص داعيًا إلى ثورة عليهم والعودة إلى تعاليم النصرانية. وكان جون كالفن في فرنسا يقود هو الآخر حركة مماثلة لحركة لوثر.

كما كان العالم الإيطالي جاليليو يؤكد من جديد نظرية كوبرنيكوس في دوران الأرض حول الشمس، ويقدم على صنع أول منظار فلكي، فيتعرض للإرهاب والقمع من قبل المؤسسة اللاهوتية.

وفي عام 1648م كانت البورجوازية الصاعدة تحث خطاها في إنجلترا مسارعة إلى الانقضاض على نظام الإقطاع السائد، فتستولي على السلطة يقودها في ذلك أوليفر كرومول، معبرة عن استيائها البالغ من جراء الضرائب الباهظة التي فرضتها الحكومة على الشعب. وقد شارك في تلك الثورة الأشراف والبارونات وأصحاب الأملاك والتجار الذين كانوا في المقدمة من الحركة البروتستانتية، رافضين فكرة الحق الإلهي للملك، ومعززين روح الوثنية والتمرد. فكانت نتيجة هذه الثورة إعلان الجمهورية عام 1641م. وعلى الرغم من أن الجمهورية قد ألغيت في إنجلترا بعد فترة وجيزة من هذا التاريخ، إلا أن المكتسبات التي حققتها الطبقة البرجوازية لنفسها قد بقيت على ما هي عليه. فقد حددت سلطات الحكومة وأصبحت خاضعة للبرلمان وللدستور.

من القرن 18 إلى 19م:

في عام 1777م اخترع جيمس واط المحرك البخاري فاستبدلت بالمراكب الشراعية المراكب البخارية. فسهلت الأسفار والتجارة عبر البحار. وتحول العلم من الميدان الروحي إلى الميدان العملي والصناعي.

وأثناء ذلك، كانت حركة فكرية واجتماعية واسعة تأخذ في التكون في فرنسا. ففي منتصف القرن السابع عشر الميلادي، برز باسكال وديكارت وهما فيلسوفان مثاليان ربطا الوجود بالفكرة. فقد عرف عن ديكارت عبارته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود" كما جاء في الحقبة ذاتها فرانسيس بيكون ليؤكد من جديد أن الأشياء والظواهر الطبيعية ليست ذات كينونة مقررة ومستقلة، بل هي ناتجة عن أشياء يجب البحث عنها.

وكانت الأوضاع الاجتماعية في معظم أجزاء أوروبا آنذاك تسير على قاعدة الحق الإلهي، حيث كان الشعب ضحية لظلم السلطة الإكليركية وقوة الإقطاع، مما دفع بمفكر مثل مونتسكيو إلى الاهتمام بالبحوث الحقوقية والموضوعية التي تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث جعل من كتابه روح القانون مرجعا مهمًا في أصول التشريع. كما دفع ذلك بمفكر فرنسي آخر هو جان جاك روسو إلى إصدار كتاب العقد الاجتماعي، الذي نادى بضرورة إحداث تغيرات سياسية واجتماعية في النظام القائم، مشيرا إلى أن العلاقات بين الحاكم والمحكوم يجب أن تقوم على أساس تعاقد موضوعي بين المواطن والحاكم، وأن ذلك هو السبيل الوحيد لتحرير الإنسان.

وفي تلك الحقبة أيضا، تألق نجم أديب وفيلسوف آخر هو فولتير (1694 ـ 1788م) الذي لم يكتف بالدعوة للتغير بقلمه، بل ساهم بشكل مباشر في تحريض العامة وتعبئتها، مهاجما الكنيسة، ومعلنًا حربا لا هوادة فيها ضد التصلب والعنصرية.

لقد وجدت فلسفة مونتسكيو وأفكار هوجو وتحريض فولتير في فرنسا أرضا خصبة للتغير، فوضعت بذورها فيها، داعية إلى التمرد والثورة. وكانت الطبقة الصناعية الصاعدة تعزز من قوتها، وتتوسع في مؤسساتها وتنظيماتها رافعة شعار الحرية والإخاء والمساواة، باذلة الوعود بخلق مجتمع سعيد، وغد مشرق لكل البشر، حتى إذا حل الرابع عشر من يوليو 1789م انقضت الآلاف من الجياع والمسحوقين من أبناء الشعب الفرنسي على سجن الباستيل رمز الطغيان والفساد. فكان أن انتصرت الثورة الفرنسية وهزم نظام الإقطاع.

وبانتصار الثورة الفرنسية تحددت بشكل أوسع المفاهيم الليبرالية، فالأمة وحدها مصدر السلطات، والناس يولدون أحرارا متساوين في الحقوق. وقد ضمن الدستور الفرنسي الذي صدر بعد الثورة حرية الاعتقاد الديني وحرية الكلام والتعبير. كما أكد أن الملكية الفردية مقدسة لا يجوز انتزاعها إلا إذا قضت المصلحة العامة بذلك ولقاء تعويضات مالية.

وهكذا فقد وصلت طبقة أرباب المال إلى الحكم في كل من بريطانيا وفرنسا. وكانت أمريكا الشمالية قد استطاعت انتزاع استقلالها من إنجلترا مكونة دولة حديثة هي الولايات المتحدة الأمريكية قبل اندلاع الثورة الفرنسية بفترة وجيزة (1776م)، مؤكدة على نفس المبادئ التي بشّر بها روسو وفولتير ومونتسكيو. وقد أكدت البنود الرئيسية للدستور الأمريكي في معظمها على المبادئ والأهداف التي حملتها وعبرت عنها الثورة الفرنسية فيما بعد.

وكما طرحت المتغيرات الرئيسية التي حدثت أثناء الحضارة اليونانية تساؤلات وجدَلاً فلسفيًا حول كنه الوجود، وتفسير الظواهر والمتغيرات التي تجري في هذا الكون، فإن الانتصارات العلمية، والاكتشافات الجغرافية، والثورات الاجتماعية قد ساهمت هي الأخرى مجتمعة في طرح موضوع التغير الاجتماعي بجدة أكثر، وبطروحات متباينة ومتناقضة.

فقد وجد الفيلسوف الألماني لايبنيز أن التقدم الإنساني يتم وفق مراحل ضرورية، وأن الطبيعة لا تقفز فوق المراحل أبدا. وجاء بعده إيمانويل كانط فاعتبر أن التاريخ الإنساني يسير بثبات ولكن ببطء إلى الأمام.

كانت المهمة الأساسية لطبقة أرباب المال الصاعدة بعد وصولها إلى الحكم هي إحكام قبضتها على المجتمع الجديد الذي ربط مصيره بها، وتعميم مناهجها وعقائدها الفلسفية والاقتصادية، وجاء آدم سميث (1723 ـ 1790م) بكتابه ثروة الشعوب ليحدد الإطار الفلسفي الاقتصادي لمنهج هذه الطبقة، معتبرا أن الوسيلة الأساسية لزيادة الإنتاج تكمن في تقسيم العمل واستخدام الآلات الميكانيكية. إلا أن تحقيق درجة عليا من التخصص هي رهن باتساع السوق، وذلك لأن المقادير الكبيرة من مادة منتجة لا يمكن بيعها في مجتمع صغير أو ذي صبغة محلية محدودة.

وجاء كتاب أصل الأنواع (1856) لتشارلز داروين ليشكل قفزة نوعية في المفهوم الغربي للتطور. فقد ارتأت نظرية النشوء والارتقاء أن التغيرات التي تحدث في الكائن العضوي هي جزء من هذا الكون، وأنها موجهة نحو غائية محددة ومتأصلة. بمعنى أنها موجودة في رحم المرحلة السابقة عليها، ومتواصلة، ومستمرة، وأنها تحمل في ذاتها نقيضها الخاص. ★ تَصَفح: النشوء والارتقاء.

وهكذا فقد أدى انتصار طبقة أرباب المال إلى حدوث تطورات مهمة على صعيد العلوم والفلسفة، وقد أكدت تلك التطورات بما لا يقبل الشك، أن التطور الإنساني إذا ما أتيح له عمل منظم فإنه يستطيع الكشف بقوة عن القناع الذي يحجب قوانين الكون. كما كشفت أيضًا، أن المعرفة هي سبيل الإنسان للتحرر من التخلف والخوف. وقد عجلت هذه الإنجازات في بلورة فكر عام اهتم بدراسة تطور المجتمعات والقوانين والعوامل التي تحكم مسيرة التطور. وقد برز فلاسفة تمكنوا من خلال دراستهم للتاريخ، واستعانتهم بمنجزات العصر العلمية، وعلى الأخص تلك التي ارتبطت بعصرهم، والتي يأتي في المقدمة منها اكتشاف الخلية الحية، وتولد الطاقة وقانون الجاذبية، أن يقدموا نظريات متكاملة لا زالت حتى يومنا هذا مثار خلاف وجدل عنيفين. وقد مثلت تلك النظريات، ولا تزال، الغطاء الأيديولوجي ودليل العمل للنظامين الرأسمالي والاشتراكي السائدين في المجتمعات الصناعية.

ومن هؤلاء الفلاسفة الذين تناولوا موضوع التغير ولازالت نظرياتهم محركًا لتغيرات سياسية واجتماعية في أرجاء الكرة الأرضية، جورج هيجل وكارل ماركس وماكس فيبر.

نظرية هيجل. قال هيجل بالفكرة المطلقة التي تتميز بالطابع الجدلي الذي يجعلها دائمًا في صراع داخل ذاتها، ويدفعها ذلك الصراع إلى التحرك والتغير والانتقال الدائم من مرحلة إلى أخرى.

وقد اعتبر هيجل العقل والروح المصدرين الرئيسيين لأي تغير في التاريخ. وبأن اتجاه الحضارات الإنسانية يسير دائمًا وبشكل مستمر إلى تحقيق إنجازات أعلى، بتلاحم عقلي وروحي. على أن هذا التلاحم والتفاعل إلى الأعلى يمر بثلاث مراحل هي: الفكرة (الطريحة) وهي المرحلة الأولى من مراحل الجدلية الهيجلية، والنقيض والتركيب الناتج عن الفكرة ونقيضها.

ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني تسيطر فكرة معينة تمثل المرحلة الأولى من مراحل الجدلية الهيجلية ومن خلال تطور هذه الفكرة، فإنها توجد ما يتعارض معها، أو نقيضها ؛ فتتكون رؤية جديدة مناقضة كليًا للرؤية السائدة من قبل. وتقوى هذه الفكرة وتتطور لتحل محل (الطريحة)، وهكذا تقوم المرحلة الثانية من مراحل الجدلية الهيجلية بأخذ مكانها، وتأدية دورها في مسار التاريخ الإنساني. لكن التناقض السائد بين المرحلتين الأولى والثانية من مراحل الجدلية الهيجلية يبقى قائما ومتفاعلاً ومتناقضًا. ومن خلال تناقضه وتفاعله تبرز مرحلة أخرى ثالثة ليست انتقاء لأفضل ما في الفكرة ونقيضها من عوامل، ولكنها رؤية جديدة بكل ما تحمل كلمة الجدّة من معنى. وهكذا تصبح هذه النتيجة بدورها لاحقًا طريحة، مفسحة المجال للتطور الإنساني لكي يواصل سيرته في دورات تاريخية متعاقبة.

غير أن الانتقال من مرحلة جدلية هيجلية إلى أخرى في المراحل الثلاث المشار إليها لا يتم بشكل سلمي، بل يكون عادة من خلال الحروب والتمرد والتغيرات الاجتماعية، وهو أيضًا، لا يتم بتدرج وإنما هو تحول اجتماعي نوعي حاسم يتم من خلال الحروب والعنف. على أن ذلك وحده، مع كل ما يصاحبه من مآس وكوراث، هو السبيل لإيجاد حياة مثلى يتم من خلالها كمال الروح والعقل الإنساني.

نظرية ماركس. تأثر كارل ماركس في بداية حياته بفلسفة هيجل وتفسيره للتاريخ، ولكنه في الفترة بين 1836-1838م، أعاد النظر في قناعته بهذه الفلسفة. فقد اعتقد أن هذه الفلسفة ستكون في وضع أفضل حين تتخلى عن الفكرة المطلقة.

وقد هاجم ماركس رؤية هيجل في أن التطور التاريخي هو نتاج حركة السير من فكرة ونقيضها إلى نتيجة تعلوها مقررًا أن الأوضاع المادية لا تنبع من الفكر ومنطقه، بل إن الفكر ومنطقه منشؤهما الدماغ. فهما لذلك ينبعان من الأوضاع المادية. ولذلك فالتناقض لا يكون ابتداء بين فكرتين، وإنما في واقع مادي. وعلى هذا فالتغيرات التي تحدث في الفكرة ليست إلا انعكاسًا لتغيرات مادية تجري من حولها.

وفي عام 1847م، ارتقت رؤية ماركس الفلسفية إلى تحليل طبيعة الاستغلال في المجتمع الصناعي حيث رفض القول الشائع في عصره بأن مصدر الاستغلال هو ارتفاع أسعار البضائع التي يشتريها الجمهور من السوق، مشيرًا إلى أن تراكم الثروة يبدأ منذ اللحظة الأولى للعملية الإنتاجية، حيث يحرم العامل من الجزء الأكبر من أجره. ومن هذه الرؤية انطلق ماركس في بنائه للنظرية الاقتصادية المعروفة فائض القيمة، ومنها أيضًا تحددت الخطوط العامة لنهجه الفلسفي بشكل عام.

فليست علاقات الإنتاج مؤشرًا على وجود النمط الاستغلالي من عدمه في النظام الاقتصادي القائم فحسب، وإنما هي أيضًا، مؤشر على طبيعة المرحلة التاريخية التي يجتازها مجتمع إنساني ما. فمن خلال علاقات الإنتاج عرف التاريخ الإنساني عهودًا وأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة، يحددها ماركس في تحليله المادي للتاريخ على التوالي بالعبودية فالإقطاع، فالبرجوازية فالاشتراكية. والانتقال الاجتماعي من مرحلة تاريخية إلى أخرى هو النتيجة الطبيعية للصراع بين الطبقات، وهو دائمآً يسير إلى الأمام.

إن كل مرحلة تحمل في رحمها جنينية (بذور) المرحلة القادمة، كما في المنهج الهيجلي، ولذلك كانت وحدة نضال المتضادات هي الجدلية الأولى في فكر ماركس. ولكي يحدث الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى، فلابد من حدوث مجموعة من التراكمات التي تتعارض مبدئيًا مع المرحلة القائمة. تلك هي بذور التقدم والتغير، فثورات العبيد المتكررة قد أدت إلى إلغاء عهد العبودية وسيادة نظام الإقطاع. كما أن الاكتشافات العلمية والجغرافية والدور الذي قام به الحرفيون في المدن، قد أدى إلى إيجاد طبقة رأسمالية وعمالية أدت إلى قيام ثورات أرباب المصانع والقضاء على نظام الإقطاع. كذلك، فإن التقدم في وسائل الإنتاج، واتساع السوق أدى إلى إيجاد طبقة عمالية قوية تنبأ ماركس أن يكون لها، بفعل التراكم الرأسمالي، وأزمات التضخم والعجز، وبفعل وحدتها، الدور الأساس في نقل المجتمع إلى مرحلة أعلى، واندحار النظام القديم.

نظرية فيبر. اتسمت المراحل المبكرة من حياة ماكس فيبر (1864- 1920م) بإعجاب كبير بشخصية المستشار الألماني بسمارك، وبدوره في تحقيق الوحدة الألمانية. ومع أن بسمارك قد أتيحت له القوة اللازمة للهيمنة السياسية على أوروبا في عصره، إلا أنه لم يستطع نقل المجتمع الألماني، كما خطط، إلى حالة أكثر رخاء وحرية، ولذلك يجد له فيبر عذرًا في ذلك بحجة أن أكثر البرامج دقة في التخطيط قد ينتج عنها أشياء غير متوقعة.

لقد لخص فيبر جوهر فلسفته في كتابه الشهير الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية ؛ حيث اعتبر البروتستانتية طريق الطبقات البرجوازية، وأن حركة الإصلاح الديني اللوثرية، والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في أوروبا ما هي إلا المتطلبات الضرورية لانطلاقة الرأسمالية الحديثة.

لقد أدت البروتستانتية إلى إيجاد نظام مدني قام على أساس فصل الدين عن الدولة، ولهذا فقد وجهت صفعة قوية للإقطاع، وفتحت الباب على مصراعيه للطبقة البرجوازية لبناء مؤسساتها وهيئاتها الخاصة، كما ساهمت في إيجاد وتعزيز البيئة الاجتماعية والاقتصادية لنمو هذه الطبقة.

وقد وجد فيبر في الطبقة البرجوازية ونظامها ذروة نضج التاريخ الأوروبي، معتبرًا مرحلة الرأسمالية الحضارة الوحيدة في هذا القرن، ومعتبرًا نظامها النظام الأمثل للإنسانية في العصر الحديث. فالعقلانية البروتستانتية هي وحدها، إذا ما استطاعت أن تحقق الهيمنة الفعلية على العالم، القادرة على تعميم المدنية والحضارة.

كما اهتم فيبر بالطريقة الغربية التي يتم من خلالها بناء المؤسسات الحديثة، وانتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى، معبرًا عن اهتمامه بضرورة متابعة قادة المؤسسات للمتغيرات التي تجري في المجتمع، والاستمرار في تحقيق تغيرات متتالية في القوانين والأنظمة والرموز التي تسيِّر هذه المؤسسات لكي تكون قادرة على الانسجام مع المتغيرات التي تجري من حولها.

وهكذا يمكن رد نظرية ماكس فيبر إلى عاملين رئيسيين ؛ الأول: العقلانية البروتستانتية وضرورة هيمنتها العقلية على العالم، أما العامل الثاني فهو: التركيز على التخصص، وتقسيم العمل الوظيفي بما يضمن مستوى أعلى من الفعالية.

ولا ينسى فيبر أن يتعرض إلى حق الفرد في الهيمنة علي هذا الكون. أما أفراد المجتمع فيجب أن يجمعهم نشاط مشترك وأن يرتبطوا بمصالح مادية ومعنوية. ويرى أن التضارب في المصالح وما ينتج عنها من إشكالات قد تعصف بوحدة المجتمع واستقراره فيمكن أن تعالج من خلال سلطة قانونية، تستمد قوتها من نظام قانوني عقلاني. كما نظر إلى التغير الاجتماعي على أنه تطور التاريخ، إذ لابد من أجل الارتقاء والتقدم، من حدوث تغيرات رئيسية في كل مجتمع. على أن هذه التغيرات، من وجهة نظر فيبر، يجب أن تتم سلميًا وأن لا تكون على حساب استقرار المجتمع.

فالحرية والإبداع والمسؤوليات الفردية ليست خارج مجال المجتمع، أو خارج إطار العلاقة والنشاط الاجتماعي المشترك، وإنما تأخذ مكانها عن طريق التنظيم والمؤسسات والعلاقات الشخصية، بحيث تصبح جزءًا من فعالية المجتمع ونشاطه. ولذلك خالف فيبر رأي ماركس في الاعتقاد بأن الاغتراب الإنساني إنما يحدث في المجال الاقتصادي وفي علاقات الإنتاج، فقال بأن الاغتراب يمكن أن يحدث في كل المجالات الاجتماعية. ولذلك أيضًا رفض الصراع الطبقي، معتقدًا أن الفرد في ظل النظام الرأسمالي الغربي، من خلال ذكائه وطموحه وحماسته وكفاءته، ومهما يكن موقعه الاجتماعي، فإنه يمكن أن يشق طريقه ويحقق رغباته، فيحتل موقعًا اجتماعيًا وظيفيًا متقدمًا.

كما رأى فيبر أن مشروعية الحكم عبر التاريخ قد مرت بثلاث مراحل ؛ الأولى: الحكم التقليدي، وهو الذي يسود فيه نظام القبيلة أو العشيرة أو نظام الملكية الوراثية. وفي هذه المرحلة تحل الأعراف والتقاليد القبلية الموروثة مكان القوانين والأنظمة والدساتير المتقدمة. أما المرحلة الثانية من مشروعية الحكم فترتبط بدور القائد الفذ الذي يستطيع أن يقود المجتمع بخبرته وقوة تأثيره، ويستمد مشروعيته من إعجاب الجمهور وتعلقهم بشخصيته. وقد اعتبر فيبر أن المرحلة الثالثة من مشروعية الحكم هي الأنظمة الديمقراطية الحديثة، أو ما أطلق عليها القانونية العقلانية التي تستمد قوتها من وجود نظام ديمقراطي ودساتير ومؤسسات تحجب عن الحاكم حق اتخاذ القرارات دون الرجوع إلى الشعب.

إن فيبر يرى أنه بتعميم النموذج الأخير، القانونية العقلانية في الحكم والمتمثل في تطبيق النمط الليبرالي الغربي، فإن المجتمعات تصل إلى درجة الكمال الإنساني، وتواصل بخطى سريعة إبداعاتها وعطاءاتها.

انشطار العالم الصناعي:

كان من النتائج المباشرة للثورة العلمية والاكتشافات الجغرافية وتطور المفاهيم الفلسفية الغربية وقيام الثورات الاجتماعية في أوروبا، انقسام العالم إلى شطرين: شطر صناعي متقدم بما يملكه من قدرات علمية هائلة وثروات اقتصادية كبيرة، وفتوة حضارية، وقسم آخر تقليدي متخلف في كافة مجالات الحياة، وهو ما عرف لاحقًا بالعالم الثالث. وقد انقسم الشطر الأول، الصناعي المتقدم، بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917 بشكل حاد إلى نظامين اجتماعيين، الأول رأسمالي يلتزم بالحرية الاقتصادية، والمزاحمة الحرة، ويقدس الملكية الخاصة، ويسترشد بآراء آدم سميث وماكس فيبر كدليلين للمناهج الاقتصادية والسياسية التي يسير عليها. ووفقًا لفلسفة هذا النظام الاجتماعي، فإن التنمية والتطور إنما يتحققان عن طريق التنافس بين الأفراد والمؤسسات وإطلاق المبادرات والحوافز المادية، فذلك هو السبيل، من وجهة النظر الرأسمالية للحصول على نتائج تنموية أفضل.

أما النظام الاجتماعي الآخر فيؤمن بسيطرة العمال بقيادة الحزب الشيوعي على كافة وسائل الإنتاج، ويرى أن التنمية الاقتصادية يجب أن تتم عن طريق التخطيط الاشتراكي الملتزم بتنفيذ الأولويات من المشاريع التي تستجيب لتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، ويرفض أن تكون التنمية في المجتمع نتيجة فوضى ومضاربات الحرية الاقتصادية، وأن تكون القيمة النقدية للسلعة المنتجة خاضعة لقانون العرض والطلب، وهو يسترشد بالنظرية الماركسية كدليل عملي في قيادة الدولة والمجتمع.

وعلى الرغم من التباين الحاد بين المنهجين الرأسمالي والاشتراكي، فقد اتفقا على أن الطريق الرأسمالي هو خطوة متقدمة على طريق الارتقاء بالحضارة الإنسانية، وبأنها مرحلة حتمية وضرورية لتجاوز نظام الإقطاع. ففي حين اعتقد الرأسماليون بأن نموذجهم في الحكم سيكون هو النموذج العالمي الأمثل الذي سيتم عن طريقه انتقال المجتمع الإقطاعي في العالم بأسره إلى مجتمع التصنيع والتقدم، فإن ماركس قد اعتبر المرور بالمرحلة الرأسمالية، ونقل النموذج الغربي مرحلة حتمية من مراحل التاريخ الإنساني، وأنها خطوة متقدمة على المراحل التاريخية التي سبقتها. وعلى هذا الأساس لم يعارض ماركس في ارتباط العالم الثالث بالمعسكر الرأسمالي، وإن كان بصيغ الاستعمار والاحتلال. بل نظر إليه على أنه خطوة إلى الأمام على طريق الانتقال من المجتمع الإقطاعي إلى عصر الصناعة والتقنية. ونتيجة لهذا التحليل، التقى التصور الماركسي بالتصور الرأسمالي في أن الاحتلال البريطاني للهند سيختزل المرحلة الإقطاعية، وينقل الهند إلى عالم الصناعة والتقدم.

وقد وجد ستالين (1879- 1953م) سكرتير الحزب الشيوعي السوفييتي فيما بعد، في هذا التنظير مبررًا أيديولوجيًا للاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني في فلسطين. فالاستطيان الصهيوني، تبعًا لهذا التنظير، هو الآخر اختزال لمرحلة تاريخية، وتعجيل في إيجاد مجتمع صناعي متطور تنبثق عنه طبقة عمالية قوية تهيء الظروف لإيجاد النظام الاشتراكي.

وقد وقف بعض الشيوعيين العرب في سوريا ولبنان والجزائر موقفًا مشابهًا من ذلك حيال استقلال سوريا ولبنان وكفاح التحرير الجزائري، فأشارو إلى أن انتصار الجبهة الوطنية في فرنسا على النازية سيوصل الشيوعيين بزعامة موريس توريز إلى سدة الحكم في فرنسا، وعندها ستكون سوريا ولبنان والجزائر أجزاء من الدولة الاشتراكية الفرنسية، وستتحول علاقات الإنتاج إلى علاقات اشتراكية، وسيختزل هذا الحدث مرحلتين تاريخيتين هما مرحلة الإقطاع والرأسمالية بشكل آلي.. هكذا.

وقد بقي هذا التلاقي في النظرة إلى المرحلة الرأسمالية بين الفكر الماركسي والفكر الرأسمالي سائدًا لمرحلة طويلة إلى أن جاء بعض مفكري دول العالم الثالث، فرفضوا الفكرة القائلة بأن الاستعمار يمكن أن ينقل المجتمعات المتخلفة التي يحتلها من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية والتصنيع عن طريق استثماره للأموال في البلدان المستعمرة. وأوضحوا أن الاستعمار في سعيه لاحتلال البلدان المتخلفة لا يهتم مطلقًا باستثمار أمواله في بناء وتعزيز القوة الإنتاجية للبلد المستعمر، وأن ما يهمه هو الحصول على المواد الخام، وبخاصة الحديد والفحم الحجري، والمواد الأخرى التي غالبًا ما يكون التنافس في الحصول عليها شديدًا في البلدان الصناعية المتقدمة. ولذلك فإن الاستعمار باحتلاله لبلدان العالم الثالث التي تتوافر فيها المواد الأولية يكون أكثر قدرة على حسم التنافس الاقتصادي لصالحه.

ونتيجة لذلك، فقد انتهى هؤلاء المفكرون إلى التقرير بأن الاستعمار بكل جوانبه ليس عاملاً معجلاً بالتطور، كما أنه ليس عاملاً مسرعًا بتحقيق التكافؤ الاجتماعي ؛ فهو أولاً يقوم على أساس غير إنساني وغير عادل بممارسته للإرهاب والنهب والاستغلال وبعدم إيمانه بحق الشعوب في الحرية وتقرير المصير، وتخريبه المنظم للعملية الإنتاجية البدائية القائمة في البلد المستعمَر عن طريق جعل هذه البلدان سوقًا مفتوحة لمنتجات المستعمِر، بحيث تبقى منتجات البلد المحتل مكشوفة ودونما حماية. وهو ثانيًا يحقق حالة من الرخاء والانتعاش الاقتصادي في المجتمع يؤدي إلى إيجاد بيئة ملائمة للنزعات الانتهازية المساومة والعنصرية داخل المجتمع الرأسمالي.

التنمية ونظريات التقابل:

أدى انشطار العالم الحاد إلى: غربي متمدن، وعالم ثالث متخلف، بالعديد من المفكرين الغربيين إلى استنباط نظريات واستنتاجات عنصرية ترجع أسباب التخلف في العالم الثالث إلى عوامل عرقية أحيانًا، وعوامل جغرافية أو دينية في أحيان أخرى. فبرز الحديث عن التفوق العقلي للجنس الآري، وعن جينات (مورثات) متخلفة ترتبط باللون الأسود، وعن اتصاف السكان الذين يعيشون قريبًا من خط الاستواء بالخمول والكسل، وأن الدين الإسلامي هو دين محافظ يرفض التطور ويؤمن بالعنف، وأنه نقيض النصرانية التي تدعو إلى العمل والتعاون والحب وتحترم حقوق المرأة. وقد شجع على بروز هذه النظريات والتصورات العنصرية الغربية أن أوروبا قد أصبحت بحق، بعد عصر البعث والنهضة، مركز الثقل الحضاري في العالم.

ومن جهة أخرى اهتمت دراسات هؤلاء المفكرين الغربيين بمحاولة تحديد خصائص معينة يميز عن طريقها بين المجتمع الغربي المتمدن، ومجتمع العالم الثالث المتخلف. ووفقًا لهذه الدراسات نظر إلى المجتمع التقليدي على أنه يقوم على أساس الاعتقاد بتقاليد اجتماعية موروثة، كدور شيخ القبيلة الذي يرث سلطته عن آبائه وأجداده دونما اعتبار لكفاءاته ومقدرته، وأشير بشكل محدد إلى دور العلاقات العشائرية والدينية والطائفية في المجتمع، وإلى هيمنة أفكار متخلفة تعتمد على السحر والشعوذة والدجل. كما نظر إلى المجتمع المتقدم على أنه قانوني عقلاني قائم على أساس الخضوع لقوانين ودساتير مدنية محددة يتفق عليها الجميع من خلال المؤسسات الديمقراطية الممثلة للشعب.

ولذا، وصف هؤلاء المفكرون المجتمع المتخلف بأنه مجتمع بدائي، بدوي، أو ريفي زراعي، ساكن، تقليدي، يسوده حكم الفرد، يقابله مجتمع صناعي، متحضر، متحرك، عقلاني، متمدن، يمارس فيه الحكم الديمقراطي، ويفصل فيه بين الدين والدولة.

وفي مقدمة هؤلاء المفكرين الغربيين الذين اهتموا بدراسة خصوصية المجتمعات الحديثة السير هنري ماين الذي قسم المجتمعات إلى نوعين: ساكن وتعاقدي، وقال إن التطور يعني الانتقال من الساكن إلى التعاقدي، ومن مجتمع تقليدي جامد إلى مجتمع مدني عقلاني تربط بين أبنائه علاقة تعاقدية قائمة على اعتبارات خاصة.

بينما قال مفكر غربي آخر هو إميل دوركايم بوجود نوعين من العلاقات الاجتماعية: ميكانيكي وهو المجتمع التقليدي حيث يتبادل الناس فيه عواطف عامة، ومجتمع أصلي يجري فيه تقسيم خاص حاد للعمل تحكمه المصالح لا العواطف. وقد خالف دوركايم أقرانه في وصفه للمجتمع التقليدي بالميكانيكية بينما تركز معظم النظريات الغربية على وصف هذا المجتمع بالسكون.

ويلاحظ أن معظم النظريات الغربية التي اهتمت بالتمييز بين المجتمع القديم (التقليدي) والمجتمع الحديث (المتقدم) قد قالت بالتقابل. فوفقًا لمعظم هذه النظريات تجد أن مجتمع المدينة يقابله مجتمع الريف أو البداوة، والمجتمع الصناعي يقابله المجتمع الزراعي، والمجتمع المتحضر يقابله المجتمع البدائي، والمجتمع الديناميكي يقابله مجتمع ساكن، والمجتمع العقلاني يقابله مجتمع تقليدي، والحكم الديمقراطي يقابله الحكم الدكتاتوري.

ومن هنا، فإن كل الصفات الإيجابية قد ارتبطت عند مفكري الغرب، بحضارتهم، فالحضارة الغربية هي وحدها المتحضرة، المتمدنة، الصناعية، الديناميكية، العقلانية والديمقراطية ... ولهذا فإن هذه الحضارة مهيئة بإمكاناتها الهائلة أن تنقذ البشرية، وأن تنقلها إلى وضع أفضل، وفقًا للمقاييس الأخلاقية والحضارية التي اصطنعها فلاسفة الغرب. ومن هنا أيضًا فقد قدمت هذه النظريات المبرر الأخلاقي للغرب ليبدأ عصر الإمبريالية، حين أوحت بأن خارطة التطور الإنساني إنما تبدأ من أوروبا لنشر المدنية في ربوع العالم وتجاوز المجتمعات التقليدية.

وقد كانت الاكتشافات الجغرافية التي قام بها البحارة والمغامرون الغربيون للعديد من بلدان العالم الثالث، وما نتج عن تلك الاكتشافات من معلومات دقيقة عن مدى ما تختزنه تلك البلدان من ثروات طبيعية كبيرة، وطاقات بشرية هائلة عوامل مشجعة للدول الاستعمارية الفتية لكي تقتحم بجيوشها وأساطيلها هذا العالم تحت أغطية إنسانية وأخلاقية، سرعان ما كشرت عن أنيابها، فإذا هي في حقيقتها احتلال أجنبي ونهب وتخريب منظم لمجتمعات ينظر إليها الأوروبي العنصري المتفوق على أنها مجتمعات أقل ما توصف به أنها بربرية غير متحضرة.

وهكذا، فتحْت شعار نقل النموذج الغربي الأمثل، تمت الهجمة الاستعمارية على شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وبدلاً من أن يقدم المستعمرون، كما تبشر فلسفتهم ؛ لهذه الشعوب حاصل تجربتهم العلمية وحضارتهم، أقاموا علاقات غير متكافئة مع هذه الشعوب تمثل دورهم فيها بالسلب والنهب لخيرات هذه البلدان، وجعلها أسواقًا كبرى لبضائعهم ولمنتجات مصانعهم المتقدمة.

وكانت النتيجة الطبيعية لذلك الاحتلال تكريس حالة التخلف وترسيخه، وحرمان شعوب العالم الثالث من ثرواتها وخيراتها التي ربما شكلت مستقبلاً قواعد اقتصادية متينة، وركائز أساسية في إسناد أي مشروع تنموي طموح قد تتبناه هذه البلدان فيما بعد.

وقد أدت تلك السياسات والممارسات الاستعمارية إلى مقاومة شعوب قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية للاحتلال والهيمنة الأجنبية، والمطالبة بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير. فقد شهد القرن العشرون انتفاضات هذه الشعوب وثوراتها للتحرر من القبضة الاستعمارية. وكانت الأحداث التي رافقت الحرب العالمية الثانية، والتي أدت إلى هزيمة الفرنسيين في المراحل الأولى للحرب وانشغال القوات البريطانية بمحاولات الغزو العسكرية النازية، فرصة مؤاتية لهذه الشعوب لتصعّد من نضالها ومقاومتها، ولكي ينتزع عدد كبير من هذه البلدان الاستقلال السياسي، ويتخلص من الهيمنة الاستعمارية المباشرة.

وقد شهدت مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين انتصار حركات التحرر في القارّات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهزيمة الاستعمار القديم. إلا أن عددًا من هذه البلدان التي استطاعت انتزاع استقلالها قد حصلت على نوع من الاستقلال المشروط. فقد تم ربط تلك الدول بمعاهدات اقتصادية وعسكرية وسياسية ضمنت تبعيتها للدول التي كانت تمارس احتلالاً مباشرًا عليها. فبرزت مجموعة دول الكومنولث البريطاني، وحلف المعاهدة المركزية (السنتو) وحلف جنوب شرقي آسيا. وفي بعض البلدان، قامت سلطات الاحتلال الاستعماري قبل رحيلها بتسليم السلطة إلى قوى اجتماعية موالية للمحتل، بحيث يسهل عليها ضمان استمرار تبعية هذه البلدان لسياساتها ومناهجها، مفسحة المجال لبروز نمط جديد من الهيمنة والاستغلال هو ما عرف لاحقًا بالاستعمار الجديد.

وكانت المهمة الرئيسية التي واجهتها شعوب العالم الثالث عشية حصولها على الاستقلال هي التخلص من التركة الثقيلة التي خلفها الاستعمار وراءه، وتحقيق النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والبدء فورًا بتنفيذ خطط التنمية الشاملة واللحاق بعجلة التطور. وكان زعماء هذه البلدان متأثرين إلى حدكبير بنماذج التنمية الأوروبية تحكمهم في ذلك مواقعهم الاجتماعية وثقافاتهم وتوجهاتهم السياسية.

العالم الثالث وخيارات التنمية

وكما أشير سابقًا، فقد كان في أوروبا نموذجان للتنمية، أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي، وكان على الدول المستقلة حديثًا أن تختار أحدهما.

وهكذا انقسمت دول العالم الثالث في اختيار نظمها الاقتصادية، وتوجهاتها وتحالفاتها السياسية والاجتماعية تبعًا لاختيارها لأحد النموذجين. ورغم مضي حقبة طويلة، منذ حصلت هذه الدول على الاستقلال وبدأت في تحديد خياراتها في التنمية، إلا أنها لم تستطع إلى يومنا هذا تجاوز واقع التخلف الذي تركه الاحتلال الأجنبي وراءه، فقد بقي الحال كما هو عليه من قبل. فالمجاعات والأمراض لا زالت تجثم على صدور الملايين من البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ونسبة الأمية لا زالت مرتفعة جدًا في الكثير من هذه البلدان، والسياسات الاقتصادية لا زالت خاضعة لسياسات أصحاب المصارف الأجنبية والدائنين من الدول الكبرى. والحلم الكبير الذي راود شعوب هذا العالم، وهي تقارع الاستعمار، في وطن حر كريم ومجتمع سعيد تهاوى تحت مأساوية هذا الواقع. فقد اكتشفت هذه الشعوب، بعد وقت طويل من التحمل والصبر، أن طريق التنمية الذي سلكوه لم يقدم لهم الأجوبة المطلوبة للخروج بهم من مأزق التخلف.

الخيار الرأسمالي:

إن الذين انتهجوا طريق التنمية الرأسمالي، كانوا محكومين من جهة بارتباطاتهم وعلاقاتهم بالدول الرأسمالية، كما كانوا متأثرين من جهة أخرى، بالتنظيرات الرأسمالية حول مفهوم التنمية في البلدان المتخلفة، والتي برزت في الغرب الرأسمالي خلال ستينيات القرن العشرين. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى تنظيرات والت رنستو في موضوع التنمية في البلدان المتخلفة في كتابه مراحل النمو الاقتصادي. وقد عرض فيه فلسفته القائلة بأن الدول المتخلفة ستتغلب عن طريق علاقة التكامل مع الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، وعن طريق المساعدات والقروض ونقل التكنولوجيا الغربية، وتبني النموذج الرأسمالي، على حالة التخلف وستصل إلى مرحلة الانطلاق فتصبح دولا صناعية متقدمة.

لقد اعتقد كثير من قادة بلدان العالم الثالث أنهم بتبنيهم للنموذج الغربي في التنمية فإنهم سيتغلبون على حالة التخلف الراهنة التي تعانيها بلدانهم وبأنهم سيستطيعون نقل مجتمعاتهم التقليدية إلى مرحلة أكثر تطورًا وتقدمًا. ولربما تبادر إلى أذهانهم أنهم بذلك سيكونون قادرين على أن يصبحوا في فترة قياسية قصيرة جدًا في عداد الدول الصناعية المتقدمة، وأنهم بعد ذلك سيكونون قادرين على المنافسة في الأسواق العالمية بمنتجاتهم.

وفات أولئك القادة، الذين اندفعوا إلى تقليد النموذج الغربي في التنمية أن يدركوا أن مرحلتهم مغايرة كلية من حيث طبيعتها وطريقة تكوينها عن تلك المرحلة التي تكون فيها النظام الرأسمالي الأوروبي. ذلك أن طبقة الصناع الأوروبية في مراحلها الأولى كانت تتنافس مع الإقطاع من جهة، والحرفية البدائية من جهة أخرى. وكان مسار الحركة التاريخية ينبئ بأفول نجم مرحلة الإقطاع. فالانتصارات العلمية التي حققها الإنسان، وفي مقدمتها اكتشاف الخلية الحية وتولد الطاقة وقانون الجاذبية ونظريات النشوء، وقيام حركة الإصلاح الديني البروتستانتية، وانتصار الثورتين الإنجليزية والفرنسية، واشتعال الثورات في جميع أنحاء أوروبا، كانت جميعها إيذانًا بأن فجرًا جديدًا للإنسانية قد بزغ، وأن مرحلة الإقطاع في أوروبا قد تهاوت مفسحة المجال لطبقة فتية أخرى لكي تأخذ مكانها في مسيرة التاريخ الإنساني، تلك هي طبقة أرباب الصناعة وأصحاب المال.

أما في العالم الثالث، فإن دعائم النظام الاجتماعي القديم لازالت قائمة، فالعلاقات الطبقية لازالت هي السائدة في عموم البلدان المتخلفة. والطبقة البرجوازية التي نشأت في أحضان الاحتلال الغربي لم تؤثر إيجابًا في تطوير العملية الإنتاجية، بل اقتصر فعلها على دور الوسيط بين أصحاب المصانع في أوروبا والمستهلكين في بلدان العالم الثالث.

وفي وضع كهذا، فإنه إذا جرى التسليم بوجود نيات خالصة لدى أصحاب القرار في الدول النامية للعمل من أجل تحقيق التنمية والتطور في بلدانهم، فإن التنافس بين المنتجات الصناعية لهذه البلدان ومنتجات الدول الصناعية المتقدمة هو تنافس غير متكافئ من حيث الكم أو النوع، وبخاصة إذا علمنا أن دول العالم الثالث ستبقى لمراحل طويلة بحاجة إلى استيراد المعدات التكنولوجية من الدول الصناعية المتقدمة، مما يعني أن الدول الصناعية ستبقى مالكة لزمام المبادرة بما يضمن تبعية اقتصاد دول العالم الثالث لمصالحها وسياساتها.

إن وضع الدول المتخلفة الرامية إلى تقليد النموذج الغربي في هذه الحالة هو أشبه بوضع لاعب شطرنج مبتدئ ينازل لاعبًا محترفًا بتقليده لحركاته، ناسيا أن اللاعب المحترف يملك أولاً حق النقلة الأولى، وهو ثانيًا يملك الخبرة التي تمكنه من تحريك البيادق وتوجيه ساحة اللعب بالطريقة التي تضمن انتصاره، وهو ثالثًا البادئ بضربة "الكش" ولهذا فإن النتيجة المحتمة هي خسارة اللاعب المبتدئ.

الخيار الاشتراكي:

كان ذلك هو حال الدول المتخلفة التي حاولت نقل النموذج الاقتصادي الغربي وتنفيذه في مجتمعاتها المتخلفة. أما دول العالم الثالث الأخرى، التي انتهجت الطريق الاشتراكي فهي بحكم انتماءات قادتها الاجتماعية والاقتصادية، لم تستطع بناء قوة اقتصادية وتنمية حقيقية، واقتصرت عملياتها في هذا الاتجاه على التأميم ونقل ملكية وسائل الإنتاج للدولة، بحيث تحول الاقتصاد من ملكية الأفراد إلى رأسمالية الدولة. وبقيت علاقات الإنتاج قائمة كما كانت من قبل، مع فارق أن الدولة هي التي تقوم في ظل هذا النموذج بدور السيد مالك المصنع.

ونتيجة طبيعية لعجز مؤسسات الدولة، وهيمنة كابوس البيروقراطية الثقيل على دوائرها، فقد انعكس هذا العجز على القدرة الإنتاجية والنوعية للقطاع العام، مما أدى إلى شل فاعليته وعجزه، ومن ثم إلى سيادة حالة من الركود والجمود في كل الفعاليات الاقتصادية التي تشرف الدولة على تسييرها.

وقد أدت تلك الحالة بكثير من قادة هذه الدول إلى القيام بمراجعة سياساتها ومناهجها الاقتصادية، والعودة إلى تشجيع القطاع الخاص، وفتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية، لتقضي على البقية الباقية من نشاط القطاع الاقتصادي العام، الذي تم وضعه بعد الانفتاح في تنافس غير متكافئ مع قطاع خاص واستثمارات أجنبية أكثر خبرة وحيوية وأدق تنظيمًا. فكانت النتيجة سقوط هذه البلدان التدريجي في شرك التبعية للنظام الاقتصادي العالمي، والتراجع عن نهج التحرر والاستقلال.

إضافة إلى ذلك، فإن اختيار بعض الدول النامية الطريق الاشتراكي، قد وضعها في مواجهة مباشرة غير متكافئة مع النظام الرأسمالي العالمي. ذلك لأن هذه الدول بحكم ضعف مواردها الاقتصادية والبشرية فإنها تفتقد الأساس الاقتصادي والمادي لإدارة القطاع العام. ومن جهة أخرى، فإنها باختيارها للنظام الاشتراكي قد وضعت نفسها في صراع مع نظام اقتصادي عالمي يملك من الخبرة والثروة ما يجعله قادرًا باستمرار على تخريب هذه الأنظمة، إما عن طريق الغزو الخارجي، أو عن طريق تفتيت تلاحم النظام من الداخل.

نظريتا التبعية والتطور اللامتكافئ

دفع الواقع المأساوي بعديد من المفكرين الذين اهتموا بموضوع التنمية في بلدان العالم الثالث إلى دراسة وتحليل معوقات التنمية في هذه البلدان، والخروج ببعض الطروحات النظرية التي تعالج طبيعة علاقة البلدان المتخلفة بالنظام الاقتصادي العالمي، ومحاولة طرح بعض التصورات للخروج بهذه البلدان من مأزق التخلف الراهن.

تصور بوب سانكليف:

ناقش الكاتب بوب سانكليف موضوع التنمية في دراسة كتبها تحت عنوان الإمبريالية والتصنيع في العالم الثالث مؤكدًا على أهمية استقلال عملية التصنيع في البلدان النامية، بحيث لا تصبح فرعًا لصناعة اقتصاد آخر، وإنما يجب أن تنطلق فكرة استقلال التصنيع من أصوله وقواه المحركة، وأن تنبع وتصان من قوى اجتماعية واقتصادية في داخل البلد المصنع. ويحدد سانكليف خصائص التصنيع المستقل فيقول: "وللتصنيع المستقل خصائص بارزة إضافة إلى الأسواق، منها ما يتعلق ببيئة الإنتاج الصناعي، فالصناعة لا يمكن اعتبارها مستقلة تمامًا ما لم يحتو البلد المعني داخل حدوده على مجموعة متنوعة من الصناعات، من بينها صناعات السلع الرأسمالية الاستراتيجية اقتصاديًا. وتتعلق السمة الأخرى للاستقلال بمصدر تمويل الصناعة المحلية، فرأس المال الأجنبي يتوقع منه عادة تقويض الاستقلال".

أما العنصر الآخر في مفهوم الاستقلال الاقتصادي فإنه يرتبط بالتكنولوجيا. فالتقدم التكنولوجي المستقل المتمثل في القدرة على نسخ وتطوير وتكييف التكنولوجيا المتلائمة مع موارد البلد هو أحد الشروط الرئيسية للتصنيع. أما الشرط الآخر فيتمثل في القدرة على تطوير التكنولوجيا بشكل تتمكن فيه الصناعة المحلية من تلبية طلب السوق الداخلية، وهذا بدوره يتطلب زيادة في رؤوس الأموال، ومقدرة على منافسة المنتجات الأجنبية.

ويقارن سانكليف بين الظروف التي حدثت فيها عملية التصنيع في الدول الغربية وبين تلك التي حدثت في العالم الثالث، فيشير إلى أن أوروبا قد استطاعت بناء وتعزيز صناعاتها من خلال نهبها للجزء المتخلف من العالم، بتحويل رأس المال الكامن مستخدمة إياه في تمويل الصناعة الأوروبية، وفي نفس الوقت قامت الإمبريالية الأوروبية بالاستيلاء على الأسواق. أما في البلدان المتخلفة فقد كان على رأس المال أن يتنافس على الأسواق ليس مع الإنتاج الحرفي التقليدي وغير الكفؤ فحسب، بل أيضًا مع إنتاج أكثر المشاريع الصناعية تطورًا في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ولذلك، فإن الصناعة في البلدان المتخلفة تواجه صعوبة بالغة ليس في اقتحام الأسواق المحلية فحسب، حيث لا تتوفر وسائل حماية كافية، بل تواجه صعوبة أكثر من ذلك في اقتحام الأسواق الأجنبية، وبخاصة أسواق الدول الرأسمالية المتطورة التي من البديهي الافتراض أن يكون تركيب أنظمة التعرفة فيها مصممًا لصالح الرأسماليين أنفسهم. يضاف إلى ذلك أن من الضرورة إدراك أن جانبًا كبيرًا من تجارة البلدان المتخلفة ليس سوى تحويل للسلع بين فروع متكاملة عموديًا لمنشآت دولية، وبذلك فإنها، والحالة هذه، هو مجرد معاملة في داخل المنشأة، ولذلك فإن ضررها أكثر من نفعها، لكونها تؤدي إلى تقليص الفائض الإجمالي للبلد المتخلف، إذ إنها تتم بأسعار تحويلية لا يكون في الغالب بينها وبين أسعار السوق القائمة للمنتجات أية صلة.

تصور أندريه فرانك:

عالجت أطروحات الكاتب أندريه جندر فرانك في نظريته عن التخلف علاقة المركز الذي هو النظام الغربي الرأسمالي بالتوابع التي هي دول العالم الثالث، فأشار إلى أن واقع التخلف الراهن لبلد ما، ما هو إلا النتيجة التاريخية للعلاقات الاقتصادية وغير الاقتصادية المستمرة بين هذا البلد وبين البلدان الصناعية المتقدمة حاليًا. كما أشار إلى أن هذه العلاقات تشكل جزءًا جوهريا من بنية وتطور النظام الرأسمالي على صعيد العالم كله، فالنمو السريع الذي تم في الدول الغربية حصل على حساب نهب ثروات شعوب البلدان المتخلفة.

وهكذا ربط فرانك موضوعيًا بين سيطرة الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية في البلدان المتقدمة، وبين التخلف الاجتماعي والاقتصادي في البلدان النامية، داحضًا الفكرة الخاطئة القائلة بأن تنمية البلدان والمناطق الأكثر تخلفًا لن تتم أو تحفز دون أن تتسرب إليها رؤوس الأموال والمؤسسات والقيم... من المتروبولات (مراكز) الرأسمالية الدولية والوطنية. موضحًا أن الآفاق التاريخية المستندة إلى تجارب البلدان المتخلفة توحي بعكس ذلك، إذ لا يمكن حدوث التنمية الاقتصادية للبلدان المتخلفة إلا بفك ارتباطاتها بالقوى الإمبريالية، والحيلولة دون تمكين رؤوس الأموال الأجنبية ومؤسساتها وقيمها من التسرب.

والحقيقة أن فرانك في تحليله هذا قد رفض النهجين الماركسي "الأرثوذكسي" والرأسمالي "الروستوي" في مفهوم التنمية في البلدان المتخلفة، حين اعتبر العلاقة مع النظام الرأسمالي العالمي عاملاً رئيسيًا من معوقاتها.

تصور سمير أمين:

ناقش الكاتب سمير أمين هذه القضية من زاوية أخرى، فقد لاحظ أن جميع الدول على اختلاف اتجاهاتها، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية فإنها مرتبطة بدرجات مختلفة بنظام تجاري ومالي عالمي، فالجميع يخضع لسوق عالمي واحد، هو السوق الرأسمالي العالمي بما في ذلك الاتحاد السوفييتي (سابقًا) ودول أوروبا الشرقية الاشتراكية، على الرغم من أنها ليست جزءًا من النظام الرأسمالي العالمي. فالنظام الاقتصادي العالمي يعتمد على التراكم، وتمديد العملية الإنتاجية التي هي ركيزة أساسية في علاقات نظام الإنتاج الرأسمالي، وربما ينطبق ذلك أيضًا على طبيعة الإنتاج الاشتراكي السائد الآن.

ولهذا ر فض النظر إلى وضع التخلف السائد في العالم الثالث على أنه مشابه للتخلف الذي كان سائدًا في العالم المتقدم قبل مرحلة التصنيع، فالتخلف السائد الآن، كما يراه أمين، يرتبط تاريخيًا بعلاقة بلدان العالم الثالث بالنظام الاقتصادي العالمي، فهو إذن ليس مجرد حالة اعتيادية، ولكنه النتيجة المباشرة للعلاقة التجارية غير المتوازنة بين البلدان المتخلفة والدول الصناعية المتقدمة.

وقد توافقت تحليلات أرغيري إيمانويل مع آراء سمير أمين في وجود علاقة غير متكافئة بين المركز والمحيط، معتبرًا أن التخلف السائد في بلدان العالم الثالث هو النتيجة الطبيعية لتأثير أشكال الإنتاج الرأسمالية، وأسلوب هذه الطبقة في التعامل التجاري القائم على تحطيم الصناعات الحرفية في البلدان المتخلفة، وعدم تمكينها من بناء بدائل عنها، بحيث يتم الاعتماد كليًا على استيراد البضائع من المركز الذي هو العالم الصناعي المتقدم. وفي أحسن الحالات فإن محاولات التصنيع في بلدان المحيط التي هي الدول المتخلفة لا يسمح لها أن تتجاوز بعض الصناعات الاستهلاكية الخفيفة، بحيث تكون النتيجة المنطقية لهذا السلوك هي ربط هذه البلدان بالنظام الاقتصادي الرأسمالي.

أما المفكر البرازيلي دوس فقد عرَّف التخلف الراهن على أنه الحالة التي يكون فيها اقتصاد بلد ما متأثرًا وتابعًا لحالة اقتصاد بلد آخر بحيث يكون الأول ضحية للنمو الاقتصادي في الثاني، وتكون العلاقة بينهما غير متكافئة، فيستطيع القوي التأثير على الضعيف.

تلك كانت خلاصة سريعة جدًا لآراء أهم المدارس التي اهتمت بدراسة موضوع التنمية في العالم الثالث، المعروفة الآن في العلوم السياسية والاجتماعية بنظرية التبعية ونظرية التطور اللامتكافئ.

وبالإمكان، من خلال هذه القراءة السريعة أن نسجل أن هذه المدارس قد استطاعت أن تقدم تصورًا أعمق وأكثر دراية لطبيعة المشاكل التي تواجه العملية التنموية في البلدان المتخلفة، يمكن تلخيصه في أن هذه المدارس عالجت موضوع الاقتصاد في البلدان المتخلفة ليس كوحدة مستقلة وإنما عن طريق ربطه بالنظام العالمي، داحضة النظرية القديمة للعلاقات الدولية القائلة بتجانس وتكافؤ العلاقات بين الدول، وأن الصراع بينها هو أشبه بصراع بين فريقي كرة قدم، حيث يمتلك كل فريق أدواته واستراتيجيته الخاصة، دون النظر بعمق إلى أن هذا التنافس هو منذ البدء تنافسًا غير متكافئ.

كما غيرت هذه النظريات من طبيعة الفهم السائد سابقًا عن العلاقة بين البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان المتخلفة من علاقة توافق وانسجام وتكامل، إلى اضطهاد وصراع وقسر، كمحركات أساسية في الاقتصاد السياسي، مشيرة إلى الإمبريالية كمرحلة عصيبة ومقيدة لانطلاق التنمية في بلدان العالم الثالث.

ومن جهة أخرى أثبتت نظريتا التبعية والتطور اللامتكافئ بالتحليل وعن طريق الدراسة العلمية أن ثبوت نظرية اقتصادية أو برنامج عمل تنموي في بلد ما ولحقبة تاريخية محددة، لا يعني بالضرورة إمكانية نقل هذه النظرية أو هذا البرنامج إلى بلد آخر أو مرحلة مغايرة. فما هو صالح الآن قد لا يصلح للغد، وما يمكن تطبيقه في هذا البلد قد لا يمكن تطبيقه في البلد الآخر.

إضافة إلى ذلك دحضت هاتان النظريتان التصور الماركسي القديم للتغيرات التاريخية والاجتماعية، حيث أثبتت عدم إمكانية نشوء طبقة عمالية منتجة في بلدان العالم الثالث نتيجة للعلاقات غير المتكافئة مع النظام الرأسمالي العالمي، ولذلك اعتبرت انتظار نشوء هذه الطبقة أمرًا غير منطقي وغير صحيح، وأن الخيار الوحيد أمام شعوب العالم الثالث لتحقيق تقدمها وتطورها هو في فك ارتباطاتها بالنظام الاقتصادي العالمي، وانتهاج سياسة اقتصادية مستقلة.

وأخيرًا، فقد دحضت هاتان النظريتان أيضًا الأفكار العنصرية التي تمسك بها بعض المفكرين الغربيين والقائلة بأن مصدر فقر دول العالم الثالث هو اتصاف شعوبه بالكسل والخمول، والتزام هذه الشعوب بقيم ومعتقدات خاطئة. فقد ربطت هذه النظريات، كما رأينا، بين علاقة التخلف في بلدان العالم الثالث وبين النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي السائد.

العالم العربي والتنمية

كما هو الحال في العالم الثالث كان العالم العربي منقسمًا أيضًا بين النموذج الرأسمالي والنموذج الاشتراكي للتنمية.

وقد بدأ النموذج الاشتراكي حين طبقت مصر بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر النهج الاشتراكي كخيار للتنمية بدأ بقانون الإصلاح الزراعي الذي ألغى الإقطاع وجزأ الحيازات الزراعية الكبرى إلى حيازات صغيرة تم توزيعها على المواطنين الراغبين العمل في الزراعة، وما لحق ذلك من تأميم المنشآت الخاصة ووضعها تحت إدارة الدولة وإشرافها. وحذا حذو مصر عدد آخر من الدول العربية كسوريا والعراق والجزائر. وفي هذا الأثناء أخذت بعض الدول العربية الأخرى بتطبيق نموذج قريب من النموذج الرأسمالي للتنمية كالمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي ولبنان والمغرب. ومع الفرق الكبير بين النموذجين إلا أن غالبية الدول العربية سواء القريبة من الرأسمالية أو الاشتراكية بدأت وضع خطط مركزية للتنمية سواء الخطط الخمسية أو العشرية. ومع هذا بقيت الإنجازات التنموية محدودة في البلدان العربية إلى ما بعد 1973م، متأثرة بقيمة الموارد المالية والصرف الكثير على المجهود الحربي الذي تطلبته تلك المرحلة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. فبعد عام 1973م وقطع إمدادات البترول عن الغرب بسبب حرب أكتوبر قفزت أسعار البترول إلى معدلات غير مسبوقة، وتكون لدى العديد من الدول العربية عائدات مالية ضخمة مكنتها من تحقيق إنجازات كبيرة خلال العقدين الماضيين تمثلت في تحسين مستويات المعيشة لمواطنيها، فزاد نصيب الفرد من الدخل وكذلك من الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية. إضافة إلى التحسين الكبير في البنية التحتية لهذه الدول.

ومن ناحية أخرى، أدت الفوائض في موازين مدفوعات الدول البترولية إلى تراكم احتياطات رسمية وأصول أجنبية كبيرة جعلت على عاتق هذه الدول مسؤوليات كبيرة تجاه الدول العربية الأخرى الأمر الذي أدى إلى قيام هذه الدول بإنشاء مؤسسات جديدة لتمويل عملية التنمية في الدول العربية الشقيقة والدول النامية بشكل عام (صناديق التنمية). كما عمدت بلدان الفائض العربية إلى زيادة مساهمتها في العديد من المؤسسات الإقليمية والدولية بالإضافة إلى استقبال أعداد كبيرة من العمال الوافدين من الدول العربية والبلدان النامية الأخرى مما أدى إلى تدفق تحويلات هؤلاء الوافدين بالعملات الصعبة إلى بلدانهم مما ساهم بدوره في دعم موازين مدفوعاتها الخارجية.

وفي الوقت نفسه سعت الدول العربية غير البترولية إلى تطوير مواردها الاقتصادية الذاتية من الصناعة والزراعة والتجارة الخارجية والسياحة، وجعلتها موردًا أساسيًا لخططها التنموية التي حققت الكثير من النتائج الإيجابية، والتي كان يمكن أن تكون أفضل مما هي لولا التقلبات السياسية التي شكلت عائقًا في كثير من الأحيان. وحاليًا تسعى كثير من الدول العربية، حتى ذات المنحنى الاشتراكي تقليديًا، وتحت ضغط متطلبات التنمية من ناحية، والعولمة الاقتصادية من ناحية أخرى، إلى خصخصة قطاع الاستثمار، وقطعت شوطًا بعيدًا في ذلك، مما أدى إلى تحول التنمية إلى مشروع مشترك بين القطاعين العام والخاص في كثير من تلك الدول.

إختبر معلوماتك :

  1. إلى أي شيء عزا ابن خلدون سلوك الناس وطريقة حياتهم؟
  2. كيف تتحقق التنمية والتطور وفقًا لفلسفة النظام الرأسمالي؟
  3. الاستعمار بكل جوانبه ليس عاملاً معجلاً بالتنمية ولا يحقق التكافؤ الاجتماعي. ناقش.
  4. ما النموذجان التنمويان اللذان كان على بلدان العالم الثالث اختيار أحدهما؟
  5. ما تأثير الطبقة البرجوازية التي نشأت في دول

المصدر: الموسوعة العربية العالمية