الرئيسيةبحث

الإصلاح الديني اللوثري ( Reformation )



الإصلاح الديني اللوثري حركة دينية نصرانية ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي في أوروبا وأدت إلى ظهور البروتستانتية. وكان لها أثر كبير على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا. بل لاتزال آثارها ملموسة حتى اليوم. وظهرت على إثرها العديد من الكنائس البروتستانتية الكبرى، وبعض الجماعات التي أصبحت تنافس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في كسب ولاء النصارى.

أسباب حركة الإصلاح

هناك عدة أسباب دينية وثقافية وسياسية واقتصادية أدت إلى ظهور حركة الإصلاح:

الأسباب الدينية:

شهدت القرون الثلاثة التي سبقت حركة الإصلاح صراعًا بين ملوك أوروبا والكنيسة، فبعد أن كانت للكنيسة سلطة مطلقة على الحكام المدنيين، سعى الملوك إلى استرداد سلطتهم المدنية. وبلغ الأمر أن اضطهد بعض الملوك البابا، ولجأ البابا إلى ترك روما لفترة معينة، الأمر الذي أضعف من سلطة الكنيسة.كما شهدت هذه الفترة أيضًا صراعًا داخليًا بين الكرادلة، وتنافسًا فيما بينهم حول منصب البابوية.

إضافة إلى أنه ظهرت في هذه الفترة مفاسد كثيرة داخل الكنيسة وإقبال على الدنيا بين رجال الدين النصارى الذين استغلوا جمع الأموال عن طريق بيع المناصب الكنسية وصكوك الغفران، واستخدام هذه الأموال في بناء القصور الفخمة، والانغماس في ملذات الدنيا. الأمر الذي أضعف سلطة الكنيسة الروحية ومكانتها الدينية. وقد تولى بعض المصلحين مثل جون ويكلف في إنجلترا، وجون هس في بوهيميا وغيرهما انتقاد الممارسات والوقوف ضد تلك المفاسد. ولكنهم لم يستطيعوا إيقافها. وفي الوقت الذي أهملت فيه الكنيسة قيادتها الروحية، بدأ ينمو بين العامة شعور ديني عميق ؛ الأمر الذي ولَّد نوعًا من القلق الشديد بين العامة ورؤسائهم الدينيين خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين.

الأسباب الثقافية:

ظهر في الغرب منذ بداية القرن الرابع عشر الميلادي، مايعرف بحركة النهضة التي دعت إلى الاهتمام بالحضارات القديمة ودراسة آدابها وتاريخها وفلسفتها. وقد كان لذلك أثر كبير على النصرانية، إذ إن الاهتمام باللغات القديمة مثل العبرية واليونانية مكّن العلماء من قراءة النصوص المقدسة في اللغات التي كتبت بها أصلاً، وبدراسة الفترة النصرانية المبكرة عرف العلماء كيف تغيرت الكنيسة خلال القرون.كما أن اختراع الطباعة المتحركة مكّن كثيرًا من الغربيين، من غير رجال الدين، أن ينالوا حظًا من التعليم والثقافة.

الأسباب السياسية:

شهدت الفترة التي سبقت حركة الإصلاح توسيع ملوك أوروبا من سلطاتهم السياسية في مقابل سلطة البابا والإمبراطور. وأصبح الملوك في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا أكثر قوة، ونظموا شؤونهم المالية، وبنوا جيوشهم. وأصبح البابا لديهم مجرد قائد سياسي لدولة أجنبية لاسيطرة له ولا نفوذ على أقطارهم. وبعد بداية حركة الإصلاح انفصل بعض الملوك تمامًا عن سلطة البابا.

الأسباب الاقتصادية:

كان اقتصاد أوروبا خلال القرون الوسطى اقتصادًا زراعيًا. ومعظم الناس كانوا فلاحين يعيشون في قرى صغيرة. وخلال القرن الثاني عشر الميلادي، بدأت تتكون المدن وتكبر ؛ لاسيما في إيطاليا والنرويج. وبدأت حركة تجارية نمت على إثرها ثروة المدن وأصبحت مستقلة، فرفضت إدارة الإقطاعيين المحلية وسيطرة الأساقفة. ولجأ التجار والأثرياء إلى الملوك والإمبراطور للحماية. وهكذا أدت هذه الأسباب مجتمعة، إلى ضعف الكنيسة وفقدان سيطرتها ومكانتها الدينية وأثرها على الجماهير.

نمو حركة الإصلاح اللوثري

بيع صكوك الغفران أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت مارتن لوثر أن يهاجم الكنيسة. توضح الصورة مندوبي الكنيسة وهم يبيعون صكوك الغفران. عُلِّق تعميد البابا الخاص بالبيع على الصليب.
مارتن لوثر (1483-1546م). بدأت حركة الإصلاح داخل الكنيسة الكاثوليكية نفسها. وفي 31 أكتوبر 1517م، قام أستاذ اللاهوت الراهب مارتن لوثر بالإعلان عن مبادئه التي هاجم بها صكوك الغفران، وفضح فيها مفاسد الكنيسة. وأعلن أن الإنسان يمكن أن ينال الخلاص من خلال الإيمان بالمسيح. وهو اعتقاد يناقض تعاليم الكنيسة بشأن الفضل الإلهي، والعمل الصالح طريقًا للنجاة والخلاص.

ونتيجة لذلك أعلن البابا ليو العاشر، طرد لوثر وعدَّه مارقًا. وتبعـًـا لذلك أمر الإمبراطور شارل الخامس وأعضاء مجلسه لوثر بالرجوع عن آرائه، فأجاب لوثر في خطاب شهير قائلا ¸مالم اقتنع بالنصوص المقدسة أو العقل الصريح، فأنا ملتزم بالنصوص المقدسة التي أوردتها وبما يمليه عليّ ضميري الذي هو أسير لكلمة الله لأني لا أثق فـي البـابا أو المجالس وحدها، فهؤلاء غالبًا ما يخطئون ويناقضـون أنفسهم. أنا لا أستطيع ولن أستطيع أن أرجع عن أي شيء، لأنه ليس صحيحًا ولا صدقًا أن يخالف الإنسان ضميره، أنا لا أستطيع أن أفعل غير ذلك·.

اعتراف أوجسبيرج يلخص تعاليم مارتِن لوثر الدينية. تعكس هذه الصورة لحظة قراءة الاعتراف على تشارلز الخامس، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدّسة أثناء انعقاد المجلس التشريعي عام 1530م.
فما كان من الإمبراطور إلا أن وقع وثيقة تعلن خروج لوثر عن القانون، وتبيح لأي شخص قتله من غير أن ينال عقوبة. ولكن أميرًا سكسونيًا، هو فريدريك الحكيم، بسط له حمايته، فاستمر لوثر في قيادة حركته حتى وفاته عام 1546م.

ولكن الحركة اللوثرية انتشرت، ونالت اعترافًا من الإمبراطورية المقدسة عام 1555م. لقد دخلت الحركة السويد عام 1520 م، وأصبحت الدين الرسمي للدولة في الدنمارك عام 1536م.

زوينجلي والقائلون بتجديد العماد:

قاد هولدريتش زوينجلي (1484 - 1532م) حركة الإصلاح الديني في سويسرا. وكانت أفكاره مصدر إلهام للكنائس السويسرية البروتستانتية. وفي عام 1529م تقابل زوينجلي ولوثر في ماربورغ في ألمانيا ليناقشا اختلافهما حول تفسير وجود المسيح في العشاء الرباني!! وقد عدَّ لوثر هذا القربان المقدس وسيلة يظهر من خلاله كرم الرب على الناس. وهو يعتقد حضور المسيح حقيقة في الخبز والنبيذ. بينما يعد زوينجلي هذا القربان صلاة شكر لله على نعم سبقت، لاسيما من خلال الإنجيل. وهو يعد الخبز والنبيذ مجرد رمز لجسد المسيح ودمه. وقد قاد هذا الخلاف بينهما إلى أول انشقاق كبير في صفوف البروتستانت.

جون كَالْفِن:

(1509 - 1564م) ساعد على تأسيس البروتستانتية في جنيف وسويسرا، ووجه جهوده لتحويل الفرنسيين ومواطني الدول الأخرى في أوروبا الغربية إلى البروتستانتية. وقد وضعت تعاليم كالفن الأسس للكنيسة المشيخية التي يقوم مجلس من الشيوخ بإدارة كنائسها، وقدم كالفن بطريقة منظمة تعاليم البروتستانتية في كتابه مبادئ الدين النصراني الذي نشر لأول مرة عام 1536م، وقد سُمي أتباع كالفن في فرنسا الهجنوت. وقد حاول ملوك فرنسا الكاثوليك بدعم من أسبانيا قمع الهوغنيين في سلسلة من الحروب الدينية بين عامي 1562- 1598م، وقتل الآلاف منهم، ولكن البروتستانتية استمرت أقلية دينية حتى في فرنسا.

حركة الإصلاح في إنجلترا:

أُسست حركة الإصلاح في إنجلترا عن طريق الدولة. وقد كان السبب المباشر في انشقاق إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية رفض البابا كلمنت السابع، زواج الملك هنري الثامن من زوجته الأولى كاثرين الأرجوانية التي لم تلد له ابنًا. وقد أراد الملك الزواج من آن بولين على أمل أن تنجب له وريثاً للعرش.

في عام 1534م أجاز البرلمان الإنجليزي قانون سيادة أصبح بموجبه الملك رئيس الكنيسة في إنجلترا. وقد ظل الملك هنري الثامن كاثوليكياً في الأساس. ولكن البروتستانتية تقدمت كثيرًا في عهد ابنه إدوارد السادس. وأسست الملكة اليزابيث الأولى (1558 - 1603 م) شكلاً معتدلاً من البروتستانتية عرفت فيما بعد بالأنجليكانية. وقد سمي أتباع جون كالفن بالتطهيريين. عادى التطهيريون الإنجيلية لأنها أسقفية يديرها الأساقفة، بينما يفضل التطهيري الشكل المشيخي لإدارة الكنيسة (من جانب كبار الشيوخ النصارى).

وفي أسكتلندا قدم جون نوكس تعاليم كَالْفِن ونظام الكنيسة المشيخية. وفي عام 1560 م اتخذ الأسكتلنديون البروتستانتية دينًا للدولة وقد أجبرت إنجلترا أيرلندا على تبني البروتستانتية دينًا للدولة. ولكن الأيرلنديين ظلوا مخلصين للكاثوليكية. استعمر البروتستانت أيرلندا الشمالية المعروفة بألستر، ولايزال الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت دائرًا فيها حتى اليوم.

نتائج حركة الإصلاح الديني اللوثري

الآثار الدينية:

انقسمت أوروبا نتيجة لحركة الإصلاح بين الأقطار الكاثوليكية في الجنوب، والأقطار البروتستانتية في الشمال. نشأت طوائف بروتستانتية كثيرة في مناطق عديدة من أوروبا. وقد أوجدت تلك الحياة الدينية المتنوعة روحًا من التسامح الديني واحترامًا لأهمية ضمير الفرد.كما أثارت حركة الإصلاح المضادة. ★ تَصَفح: الإصلاح المضاد.

الآثار السياسية والاجتماعية:

أسهم تأسيس كنائس الدولة،كما حصل في إنجلترا، في نمو القوميات. وبينما كانت مناطق اللوثريين تميل إلى المحافظة ودعم الحكومات المركزية، فإن مناطق الكالفنيين التي كان البروتستانت أقلية فيها، تميل إلى دعم الديمقراطية وتجادل من أجل حق المواطنين في معارضة ديكتاتورية الملك.

وقد عدّ لوثر، وغيره من البروتستانت، الحياة في العالم مجالاً لعمل العقيدة،كما عدُّوا الحياة الأسرية والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية عملاً مثاليًا. أكد البروتستانت على تقديس دور الإنسان في الحياة اليومية. وشجعوا الجد والكفاح والحياة المزدهرة. وقد عُرفت هذه النظرة بأخلاق البروتستانت.

أكد البروتستانت على التعليم، وطوَّروا المعرفة ومناهج التعليم المؤسسة على الآداب الإغريقية والرومانية القديمة، والاحترام الكبير للمعلمين والتعليم، ولكن التقدم في العلوم تطوّر بسرعة أكبر في بلاد البروتستانت نحو عام 1640م.

المصدر: الموسوعة العربية العالمية