كانت الدولة العثمانية عند وفاة السلطان سليمان القانوني قد بلغت أقصى اتساعها وخاضت الحروب في ميادين الشرق والغرب وحققت لها هيبة كبيرة في العالم، وبقدر هذه الهيبة الكبيرة كان لها أعداؤها الأقوياء الذين ينتظرون أي بادرة ضعف حتى ينالوا منها.
وعندما جلس سليم الثاني على العرش خلفا لوالده القانوني في (ربيع 974هـ - سبتمبر 1566م) ظهر بعض التمرد في الدولة، فقامت حركة تمرد في اليمن سنة (975هـ - 1567م) استطاعت حصر العثمانيين في الشريط الساحلي، ولم يستطع العثمانيون إعادة سيطرتهم على اليمن إلا بعد عامين.
وظهرت في تلك الفترة في أروقة الدولة العثمانية كثير من المشاريع الكبيرة التي استهلكت الكثير من الوقت من الدولة دون أن توضع موضع التنفيذ، أو ربما تعرضت للفشل، حيث فكرت الدولة في فتح قناة السويس (بين البحر الأبيض والبحر الأحمر) لإعادة حركة التجارة العالمية من رأس الرجاء الصالح الذي سيطر عليه البرتغال إلى طريق التجارة القديم.
كما شرعت الدولة سنة (977هـ - 1569م) في فتح قناة بين نهري الدون والفولجا وتأمين المرور بين البحر الأسود وبحر الخزر، حيث إن هذه القناة ستربط تركيا بمنطقة تركستان وتحول دون تهديد الروس والإيرانيين لتركستان، ولذا قامت الدولة العثمانية بحملة عسكرية على إمارة "أسترخان" لكن فتح هذه القناة المهمة لم يؤخذ مأخذ الجد نظرا لوجود مصالح لحكام الأقاليم تتعارض مع شق مثل هذه القناة، وأكد ذلك خان القرم بقوله: "عندما تبدأ الجنود العثمانية القدوم إلى الأراضي القبجاقية وشيروان (منطقة أوكرانيا وشمال أذربيجان حاليا) فسوف لا تبقى هناك قيمة للتتر ويحتمل أن تذهب قرم (أوكرانيا) من أيدينا".
كان العثمانيون رغم المشاريع الكبيرة التي أعلنوا عنها في تلك الفترة يركزون اهتمامهم على فتح جزيرة قبرص التي كانت عقبة كبيرة في طريق التجارة المنتعشة بين مصر وإستانبول والتي يسيطر عليها البنادقة ويمارسون من خلالها بعض أعمال القرصنة البحرية، ولذا شرع العثمانيون في فتحها رغم إدراكهم أن فتح هذه الجزيرة سوف يؤدي إلى قيام تحالف مسيحي قوي ضدهم.
فهرس
|
كانت قبرص تمثل أهمية خاصة للعالم المسيحي في صراعه مع الدولة العثمانية، وعندما علمت أوروبا بنوايا العثمانيين تجاه قبرص تحرك البابا "بيوس الخامس" وعقد معاهدة اتفاق ضد الدولة العثمانية في (غرة المحرم 979هـ - 25 من مايو 1571م) مع ملك أسبانيا والبندقية وبعض الدويلات المسيحية، وكان هذا الإتفاق المسيحي هو الإتفاق الثالث عشر الذي تعقده أوروبا ضد الدولة العثمانية منذ تأسيسها.
ونص الكتاب الذي أرسله البابا "بيوس" إلى ملك أسبانيا على "أنه لاتوجد في العالم المسيحي أية دولة مسيحية يمكنها أن تقف بمفردها في مواجهة الدولة العثمانية ولذا فالواجب على كافة الدول المسيحية أن تتحد لكسر الغرور التركي"، وهكذا بدأ يتشكل الإئتلاف المسيحي لحرب الدولة العثمانية.
واستطاعت أجهزة المخابرات العثمانية في البندقية وروما أن ترصد هذا الإتفاق وهو في طور التكوين وأبلغت به إستانبول، وتحرك الأسطول العثماني للبحث عن الأسطول الصليبي وإبادته، وتحرك الوزير العثماني "برتو باشا" قائد الأسطول لتنفيذ تلك المهمة.
كان التحالف المسيحي القوي الذي تغذية مشاعر الكراهية للدولة العثمانية يتمتع بأسطول على قدر كبير من القوة والخبرة في القتال البحري والكثافة في عدد السفن ووجود عدد من كبار قادة البحر، فكان "الأرمادا" (الأسطول) يضم 295 سفينة و30 ألف جندي و16 ألف جداف و208 سفن حربية، وكان القائد العام للأسطول هو "دون جون" وهو ابن غير شرعي للإمبراطور الأسباني "كارلوس الثاني" وهو من كبار قادة البحر.
أما الأسطول العثماني في البحر المتوسط والبالغ حوالي 400 سفينة فقد توزعت سفنه عند حلول فصل الخريف إلى عدد من القواعد، وبقيت حوالي 184 سفينة تحت قيادة "برتو باشا" و"مؤذن باشا" وذهبت هذه السفن إلى ميناء "إينبختي" أو "ليبانتو Lepanto (وكان ميناء عثمانيا في اليونان على خليجي باتراس - كورنثوس).
وعندما حل فصل الشتاء على السفن التي يقودها "برتو باشا" بدأ الضباط في التسرب لقضاء الشتاء بعدما رأوا السفن العثمانية ألقت مراسيها في "إينبختي" ظنا منهم أنه لايوجد قتال في هذا الموسم، ولم تظهر من "برتو" أو "مؤذن" قدرة على ضبط الأسطول، إضافة إلى أنه كان يوجد عدد من السفن في حاجة إلى إصلاح، كما أن جدافة الأسطول العثماني كانوا من المسيحيين.
وكانت النقطة المهمة في الأمر أن القائدين "برتو باشا" و"مؤذن-زاده علي باشا" لم يكونا من القادة البحريين ولكنهما من قادة الجيش البري وتوليا مهمة قيادة الأسطول منذ فترة وجيزة، وكان يوجد بعض القادة البحريين في الأسطول العثماني مثل "حسن باشا" الذي يبلغ من العمر 71 عاما، و"أولوج باشا" ويبلغ من العمر 64 عاما لكن لم تكن لهما السيطرة على القرار.
عندما اقترب الأسطول الصليبي من ميناء إينبختي الذي يرسو فيه الأسطول العثماني اجتمع "برتو باشا" مع كبار قادة البحر لبحث الموقف، وانفض هذا الإجتماع دون أن يتوصل القادة إلى خطة لمواجهة المعركة القادمة التي لايفصل بينها وبينهم إلا وقت قصير.
وكانت المؤشرات تؤكد أن هناك ميلا لما يطرحه "برتو باشا" و"مؤذن باشا" لمواجهة الموقف المتأزم على اعتبار أنهما المسؤولين أمام الدولة في إستانبول.
وكان رأي القادة البحريين في الأسطول هو عدم الدخول في هذه المعركة (غير المتكافئة) إلا بعد أن تقصف مدافع القلاع العثمانية سفن العدو وتتلفها، وهو مايعطي فرصة كبيرة لسفن الأسطول العثماني لتتبع ومطاردة الأسطول الصليبي، أو بمعنى آخر إنهاك الأسطول الصليبي قبل بدء المعركة ثم الإنقضاض عليه بعد ذلك. ولكن "برتو باشا" و"مؤذن باشا" أعلنا أنهما تسلما أمرا بالهجوم على الأسطول الصليبي.
ولما رأى قادة البحر في الأسطول العثماني ذلك نصحوهما بأن يخرجا إلى القتال في البحار المفتوحة لأن ذلك يعطي الفرصة للسفن العثمانية بأن تقوم بالمناورة وأن تستخدم مدفعيتها القوية بكفاءة عالية ضد الأسطول الصليبي.
إلا أن "برتو" وغيره من القادة لم يستمعوا إلى هذه النصائح من أهل الخبرة في القتال البحري، وأعلن أنه سيقاتل بالقرب من الساحل، وقال: "أي كلب هو ذلك الكافر حتى نخافه؟" ثم قال: "إنني لا أخشى على منصبي ولا على رأسي، إن الأوامر الواردة تشير بالهجوم، لا ضير من نقص خمسة أو عشرة أشخاص من كل سفينة، ألا توجد غيرة على الإسلام؟ ألا يُصان شرف البادشاه؟!".
وكانت هذه المقولة تعبر عن الجهل بالحقائق ولاتعبر عن شجاعة أو حماسة دينية، إذ إنه من غير المعقول أن تدار حرب بحرية على الساحل، ومن ثم فقد كانت النتيجة في تلك المعركة محسومة لصالح الأسطول الصليبي قبل أن تبدأ.
كانت معركة "ليبانتو" في (17 من جمادى الأولى 979هـ=7 من أكتوبر 1571م) وهي تعد من أكبر الحروب البحرية في التاريخ في ذلك الوقت، واتسمت بالدموية والعنف الشديد، فاستشهد قائد القوة البحرية "مؤذن-علي باشا" وإبنه مع بداية المعركة كما أسر إبنه الثاني، وغرقت سفينة القيادة في الأسطول العثماني التي فيها "برتو باشا" وتم سحبها إلى الشاطئ بتضحيات كبيرة.
أما القائد البحري العثماني "أولوج" الذي كان يقود الجناح الأيمن فإنه لم يخسر أيا من سفنه البالغة 42 سفينة واستطاع أن يقضي على الأسطول المالطي بالكامل الذي يتكون من ست سفن واغتنم رايته، وعندما رأى أن الهزيمة تقع بالأسطول العثماني وأن تدخله لإنقاذه هو انتحار مؤكد، رأى أن من الحكمة الإبتعاد عن الميدان حفاظا على بقية الأسطول والإستعداد لمعركة قادمة.
كانت الخسائر في تلك المعركة ضخمة للغاية لكلا الطرفين فقد خسر العثمانيون 142 سفينة بين غارقة وجانحة وأسر الصليبيون 60 سفينة عثمانية، واستولوا كذلك على 117 مدفعا كبيرا، و256 مدفعا صغيرا، كما تم تخليص 30 ألف جداف مسيحي كانوا في الأسر، وسقط من العثمانيين حوالي 20 ألف قتيل وأسير، من بينهم 3460 أسيرا، ومن بين الأسرى 3 برتبة لواء بحري، وحاز الصليبيون راية "مؤذن باشا" الحريرية المطرزة بالذهب، وقد أعادها بابا روما إلى تركيا سنة (1385هـ - 1965م) كتعبير عن الصداقة بين الجانبين.
وقتل من الصليبيين حوالي 8 آلاف وسقط 20 ألف جريح، وأصيبت غالبية السفن المسيحية، وكان من بين الأسرى المسيحيين "سيروفانتوس" الذي فقد ذراعه الأيسر وعاش أسيرا في الجزائر وألف روايته المشهورة "دون كيشوت".
والواقع أن خسائر العثمانيين المعنوية كانت أشد فداحة من خسائرهم المادية، حيث كانت تلك المعركة الكبيرة ذات مردود سلبي في علاقة الدولة العثمانية بالأوروبيين فزال من نفوس الأوروبيين أن الدولة العثمانية دولة لاتقهر، وهو ماشجع التحالفات الأوروبية ضدها بعد ذلك، وظهرت المراهنات على هزيمتها.
ورغم هذا الإنتصار الباهر للأوروبيين في معركة "ليبانتو" البحرية فإن الأوروبيين لم يستطيعوا استغلال هذا الانتصار الكبير من الناحية الإستراتيجية، فقد استطاع العثمانيون بعد أقل من عام واحد على هذه الهزيمة بناء أسطول جديد كان أكثر قوة وعددا من الأسطول الذي تحطم في تلك المعركة، وهو ما أثبت أن الدولة العثمانية مازالت تحتفظ بقوتها وأنها تستطيع في الوقت القليل تعويض الفاقد من قوتها وخسائرها نظرا لما تتمتع به الدولة من موارد وطاقات ضخمة.
ومن المفارقة أنه بينما كانت البندقية وغيرها من الدول التي شاركت في ليبانتو يشربون كؤوس الإنتصار وينحتون التماثيل تخليدا لذلك الإنتصار الكبير، كان العثمانيون يعملون على قدم وساق في بناء أسطولهم الجديد، حتى إن السلطان العثماني نفسه خصص جزءا من حديقته الخاصة لإنشاء مصنع لبناء 8 سفن جديدة، واستطاع العثمانيون خلال الشتاء الذي أعقب "ليبانتو" أن يشيدوا مايقرب من 153 سفينة حربية.
ولم ينس العثمانيون تقوية الروح المعنوية لشعبهم، وتذكيرهم بأن خسارة معركة لاتعني بحال من الأحوال خسارة الصراع، ولذا قام "أولوج علي باشا" القائد البحري بالدخول إلى إستانبول بعد الهزيمة بحوالي شهرين في أسطول كبير مكون من 87 سفينة وتمت ترقيته إلى قائد القوات البحرية.
ولم يلبث "أولوج علي باشا" أن غادر إستانبول مع 245 سفينة في (صفر 980هـ - يونيو 1572) للدفاع عن قبرص بعدما علم أن الأسطول الصليبي يسعى للإستيلاء عليها، وعندما رأى "دون جون" الأسطول العثماني متجها نحوه أدرك أنه ليس في استطاعته مقاتلته بعدما تمكن العثمانيون من تعويض خسائرهم. أما البابا "بيوس الخامس" فكتب إلى الشاه الصفوي وإلى إمام اليمن يطلب منهما التحالف لقتال الدولة العثمانية.
ولم تنس الدولة العثمانية القصاص لهزيمتها في ليبانتو فعقدت معاهدة مع البندقية في (7 من مارس 1573م) تكونت من سبعة بنود، منها: أن تسدد البندقية إلى الدولة العثمانية 300 ألف ليرة ذهبية كغرامة حرب، وأن تعترف بالسيادة العثمانية على قبرص، وبعد أقل من عام قامت 220 سفينة عثمانية بتدمير سواحل إيطاليا الجنوبية.
معارك الدولة العثمانية | ||
---|---|---|
معركة ماريتزا | معركة قوصوة | معركة أنقرة | معركة فارنا | فتح القسطنطينية | معركة ديو | معركة جالديران| معركة مرج دابق | معركة الريدانية | حصار فيينا | معركة موهاكس | معركة بروزة | معركة ليبانتو | معركة فيينا | مذبحة الإنكشارية | معركة نافارين | حرب القرم | حملة ترعة السويس الأولى | معركة جاليبولي | حملة ترعة السويس الثانية | معركة رمانة |