كنائس ذات تراث سرياني |
|
الموارنة هم أتباع الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية التي هي كنيسة مسيحية مشرقية اجتمع أتباعها حول القديس مارون الذي سميت بإسمه. وقد أقر المجمع البطريكي الماروني 2006 الملف الأول الفصل الأول ص. 40 الهوية: ”كنيسة أنطاكية سريانية ذات تراث ليتورجي خاص“. ينتسب الموارنة إلى الكنيسة السريانية وهم يتبعون أنفسهم لسلطة البابا في روما. ينسب الموارنة إلى القديس مارونالسوري والذي قضى حياته متنسكا في القرن الخامس الميلادي ليكون من أهم القديسين السوريين وتتخذ الكنيسة المارونية اليوم من دير بكركي في لبنان مقرًا لها. يبلغ عدد الموارنة في العالم حوالي ستة ملايين نسمة، حوالي 900.000 منهم يقطنون في لبنان، ليشكلوا 26% من الشعب اللبناني. و في دول منهم سوريا و العراق و الأردن و مصر و الإمارات و قطر و اسرائيل كما يوجد الكثير من الموارنة من أصول لبنانية هاجروا بعد تأسيس دولة لبنان الكبير إلى عدد من اصقاع العالم و لا سيما إلى فرنسا و كندا.
فهرس |
عند بدء الكلام عن الكنيسة المارونية لا بد من الاشارة إلى القديس السوري مارون الكبير، الذي هو فخر الموارنة، و ابيهم و مرشدهم الروحي، ولد وعاش هذا القديس في القرن الخامس الميلادي في سوريا في منطقة أفاميا (تل مرديخ اليوم) ووصل لناالقليل من المعلومات عن الاعمال التي قام بها في حياته، اما الكنيسة المارونية، و التي هي كما يعرفها المجمع البطريركي الماروني و لا سيما في الفقرة الخامسة من التقرير الذي اصدره عن " هوية الكنيسة المارونية " انها: كنيسة أنطاكية سريانية، ذات طابع ليتورجي خاص، و انها كنيسة خلقيدونية، و ذات طابع نسكي و رهباني، و على شراكة تامة مع الكرسي الرسولي، و بالاضافة إلى تاقلمها مع البيئة اللبنانية التي انتشرت منها إلى العالم، و مع التاكيد على الارتباط بالتاريخ الوثيق بنهر العاصي الذي عليه كان دير مار مارون، و الذي منه نشات نواة الكنيسة المارونية. اما الشعب الماروني فهو تاريخ و حضارة و كنيسة في الوقت ذاته ان تاريخ الكنيسة المارونية عميق، و قديم .
لم يكن تاريخ الموارنة، و لا سيما الشعب الماروني، حافلا ً في الورود، فقد كان شائكـًا، الا ان الايمان المسيحي قد منع هذه الاشواك من الدخول إلى الجسد الماروني، لقد ظل الموارنة دائمـًا متلاحمين، و قد كان الاضطهاد دومـًا رفيقـًا للكنيسة المارونية في كافة تفاصيلها، ففي البداية عانى الموارنة، الخليقدونيين، و المتمسكين بايمانهم الكاثوليكي و صلتهم بالكرسي الرسولي، من قبل "غير الخليقدونيين"، لقد تحولت الالفاظ فيما بعد، لتصبح كلمة خليقدونيين تدل على الكنيسة الكاثوليكية و الغير الخليقدونيين تدل على الكنيسة الارثذكسية، و ان كان خلال القرون اللاحقة اصبحت كنيسة القسطنطينية الارذثذكسية كنيسة خليدوقنية. بعد انتهاء الوجود الصليبي في المشرق، و الذي كان محطة هامة في تاريخ الموارنة، و بعد ان ال الحكم إلى الدولة العثمانية في المشرق، دخل الموارنة في مرحلة جديدة من الاضطهادات العثمانية هذه المرة، و التي دفعت فرنسا إلى اعلان حمايتها " الامة المارونية " في القرن السابع عشر و من الاضطهادات التي تعرض لها الموارنة في الدولة العثمانية، كان الاضطهاد ايام " فخر الدين المعني الثاني " و الاضطهاد الشهير العام 1860 من قبل الدروز و الذي امتد إلى سوريا و سائر انحاء بلاد الشام و قد كانت للحروب التي اندلعت على ارض لبنان
يعد الموارنة مسيحيين لبنانيين تابعين للقديس مار مارون (الذي ولد في سوريا) وهم أهل كنيسة و طائفة مسيحية متحدة و مرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية في روما، و اتباع لها في الإعتراف الإيماني الخلقيدوني تشير الكنيسة، و لا سيما من خلال مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني الذي اختتم اعماله يوم 8 كانون أول 1965 إلى دور القديسين في حياة المسيحين فيقول: " فكما أن الشركة بين المسيحين الذين على الارض تقربنا من المسيح، هكذا توحدنا شركة القديسين بالمسيح الذي تفيض منه القداسة الذي هو ينبوعها ".(( اصدار عدد 50)). ان الطائفة المارونية تعتبر إحدى الطوائف المسيحية المنتشرة في العالم العربي كاالأقباط مثلا، كما أن الطائفة المارونية و الكنيسة المارونية هي فرع من دوحة الكنيسة السريانية الانطاكية. إن اللغة السريانية هي اللغة التي تكلم بها السريان كافة و بعدهم الموارنة، و بعد الإندماج التام في العروبة مع العرب على مر العصور تزاوج الشعب فأصبحوا شعب واحد يتكلم العربية كلغة أم، و بالرغم من الحفاظ على الثقافة المارونية في جبال لبنان، فقد ظهر نوع جديد من الكتابة و هي الكتابة " الكرشونية " ، أي اللغة السريانية مكتوبة بلغة عربية، و قد تم إعتماد هذه اللغة أول مرة بشكل رسمي، في العام 1890 حيث قام رشيد الشرتوني بنشر كتاب بهذه اللغة، فالمارونية مذهب مسيحي مشرقي سرياني أكبر إنتشار له في لبنان. وبحسب المجمع البطريركي الماروني المنعقد عام 2006 الذي دام 3 سنوات من العمل, يقول في اللغة الطقسية ص. 125 ”فالسريانية هي لغة الليتورجيا وعنصر أساسي يقتضي الحفاظ عليه قدر المستطاع. أمّا العربية فهي لا تتعدى كونها لغة محلية لا مفر من استبدالها، خارج حدود النطاق البطريركي، باللغة المحلية التي يمارسها المصلون."
إن الإيمان الماروني هو ايمان " أرثوذوكسي "، أي هو الايمان الذي حدده مجمع خلقيدونية عام 451، و الذي اصبح ايمان كنيسة روما القائم على اساس الطبيعتين المتحدتين في المسيح الالهية و البشرية، ان الكنيسة المارونية لم تزل متشبثة بهذا الايمان منذ اعلانه و لم تحد عنه ابدًا و قد كان المطران الماروني " جبرائيل القلاعي "، أول من دافع عن الايمان الارثذكسي للكنيسة المارونية، علمـًا بان القلاعي متوفي العام 1516 و كان يشغل منصب رئيس اساقفة قبرص المارونية و هنا لا بد من الاشارة ان لا يوجد صلة بين كلمة " ارثذكسي " الموجودة اعلاه و التي تشير إلى كافة الشعوب التي تؤمن بما اقره مجمع خليدوقنية، و الطائفة الأرثوذوكسية انما معنى كلمة " ارثذكسي" باللغة اليونانية هي " المستقيم " أي " الايمان المتسقيم" فعندما يصف أحد المؤرخين الايمان الماروني بانه ارثذكسي فانه يقصد به انه ايمان مستقيم.
ان من أهم ما يميز الهوية المارونية ايضـًا انها مرتبطة بالتراث المحكي للشعب الماروني، و قد ادى هذا التمازج إلى وجود قصيدة زجلية بعنوان " مديحة كسروان" تروي التاريخ الماروني من القرن الخامس و حتى القرن الخامس عشر، و هي باللغة اللبنانية المحكية، و قد عدت هذه القصيدة سجلا ً تاريخيـًا للكنيسة المارونية محفور بذاكرة الشعب . اما مصطلح " موارنة " كما هو معروف و واضح، فهي نسبة إلى اسم " مارون " الناسك و القديس الذي عاش في القرن الخامس في جبل قوروش على نهر العاصي ضمن سوريا الثانية.
لم ينفصل الموارنة يومـًا عن كنيسة روما، لان الموارنة منذ نشاتهم على الايمان الخلقيدوني هم في اتحاد طبيعي مع كنيسة روما. لقد اخرج الموارنة العديد و الكثير من القديسين من امثال المعلم مارون، و قد يكون من أشهر هؤلاء القديسين " سمعان العمودي " و الذي انتشر على نطاق كافة الطوائف سواء اكانت خلقدونية ام لا ؟ و كاثوليكية ام لا؟ لذلك يطلق الاب بطرس ضو على القديس سمعان العمودي اسم " الماروني الباسل " و " منبع البطولة في الامة المارونية " . يقول المطران يوسف الدبس المتوفي العام 1907، انه لما زاد عدد الهراطقة في سوريا الذين اضطهدوا الكاثوليك أي الخليقدونيين، دافع تلامذة القديس مارون الناسك عن الايمان الخليقدوني الكاثوليكي، و كانت النتيجة من قبل الذين كان غير خليقدونيين ان اطلقوا عليهم اسم " موارنة " تحقيرًا لهم!.
ان القديس مارون، هو من أصل سوري المولد ويعد "أبو الامة المارونية " ، لقد كان ايمان مارون، ايمان شخص كاثوليكي لا يمكننا الجزم في المكان الذي تنسك فيه القديس مارون، لكن العلماء الموارنة اتفقوا على انه ولد وتنسك في شمال غرب سوريا او " سوريا العاصي "، لان نهر العاصي يخترقها من الجنوب إلى الشمال. كما اتفق العلماء على انه كان سريانيـًا و اللغة التي تكلم بها، هي اللغة السريانية المنتشرة في سوريا الثانية. و لا نمتلك الكثير من المعلومات عن مولده، و لكنه من الممكن ان يكون قد ولد في مدينة " نابو " عاصمة تلك الارجاء، و لا نعلم عن صباه، الا انه بالتاكيد ترك الناس و المدينة، و انقطع على جبل " قوروش " القريب من مدينة " نابو " و كان يسمى جبل " نابو " نسبة إلى الاله " نابو " الذي كان يعبده سكان تلك المدينة، قبل المسيحية و لما اعتنقوا الايمان المسيحي تركوا الجبل مقفرًا خاليـًا صحراويـًا و كأن المشيئة الالهية قد رادت ان يقوم مارون باعادة غرسه بطريقة اخرى!.
كلمة مارون في اللغة السريانية، تعني السيد، او السيد الصغير، في النواحي القورشية خرج مارون إلى الجبل، لكي يعبده فيه كان جبل نابو، محجـًا لسكان القرية، و مكان الذي يعبدون فيه الاله نابو و عندما هجر الجبل في القرون الاولى من المسيحية لاعتناق السكان المسيحية، اصبح المعبد خاليـًا و الجبل لم يعد الناس يحجون اليه، و لكن في الايام المقبلة سيعود الناس يحجون إلى ذلك الجبل و لكن من اجل التبرك . ان العلامة و الاسقف الشهير، تيدورتيطس، يذكر الرهبان و النساك في تلك الاصقاع، و على راسهم، مارون او مارون الالهي كما يدعوه الاسقف! " لقد زين مارون " يقول تيدوروتيطس " طغمة الاباء و المتوحدين إلى الله و مارس ضروب التقشفات و الاماتات تحت جو السماء دون سقف سوى خيمة صغيرة لا يستظلها الا نادرًا". " و كان هناك معبد وثني قديم لاله نابو، كرسه مارون " كما يقول المؤرخ للعبادة و الصلاة للرب يسوع المسيح، كان ذلك المعبد الحقير، إلى المكان الذي انطلقت منه المارونية إلى الشرق اولا ً و إلى العالم كله ثانيـًا".
إستنادا على عقيدة الكنيسة كان مارون يمتلك نعمة الشفاء و القيام بالاعاجيب الكثيرة، فذاع صيته و تقاطر البشر اليه لكي يشفو امراضهم الجسدية و النفسية على حد سواء ً حتى أن شهرته وصلت إلى كافة انحاء سوريا . لم يقتصر القديس مارون الكبير على شفاء امراض الجسد بل تعداه إلى شفاء امراض الروح و النفس، يقول المؤوخ " فوسجتر" و هو من ابرز المؤرخين في العالم، متحدثـًا عن القديس مارون فيقول : " أن القديس مارون كان أول من مارس العيش في العراء في سوريا معرضـًا نفسه لقسوة عوامل الطبيعة، و أن بعض النساك في مقاطعة قوروش في سوريا الشمالية قد تبنوا هذا النمط من العيش، و خاصة الرهبان العموديين و على راسهم سمعان العمودي، أن القديس سمعان العمودي ما هو الا تلميذ في مدرسة النسك التي اسسها مارون". لقد كان لدى مارون صداقة حقيقية مع " يوحنا الذهبي الفم " الذي كان اسقف دمشق و من ثم قرر الانتقال إلى ارمينيا حيث كانت تلك البلاد منفاه الاختياري الذي قضى به سنيه الاخيرة، و من الممكن أن الصداقة التي قامت بين مارون و يوحنا الذهبي الفم قد تكونت في انطاكية حيث من الممكن أن كلاهما قبل بدء دعوته قد زارا المدينة التي كانت تعد مركزًا للاهوت في الشرق، و هناك اصبحا صديقين!. و بعد تلك الصداقة، ارسل يوحنا الذهبي الفم من ارمينيا رسالة إلى القديس مارون، و هي رسالة نفيسة جدًا و تظهر بالعدد 36، و فيها تظهر روابط المحبة و الالفة الكبيرة و الشديدة، و الاخوة في المسيح التي تجمع بين القديسين. يقول القديس يوحنا الدمشقي في تلك الرسالة :
" إلى مارون الكاهن و الناسك، أن رباطات المحبة و المودة و الصداقة التي تشدنا اليك تقف نصب اعيننا كانك عندنا و بيينا لان عيون المحبة تخرق في طبعها الابعاد و لا يضعفها طول الزمان و كنا نود أن نكاتبك بكثرة لولا بعد الشقة و قلة المسافرين إلى نواحيكم . اما الان فاننا نهدي اليك اطيب التمنيات و نحب أن تكون على يقين من اننا لا نفتر من ذكرك اينما كنا لما لك في ضميرنا من منزلة رفيعة فلا تضن انت ايضا ً علينا انباء صحتك لان اخبارك تولينا على البعد و تبعث فينا السرور و التعزية في منفانا و عزلتنا و تطيب نفسنا كثيرا ً . اذ اننا نعلم انك في عافية نسالك أن تصلي إلى الله لنا من اجلنا . امين . " و الرسالة ماخوذة عن كتاب " مين " لاباء اليونان مجلد 72 . لقد ارسلت تلك الرسالة في العام 403 او 404 على الاغلب!.
كان وفاة القديس مارون قرابة العام 410، و لما توفي القديس مارون دفن اولا ً في مغارة القديس زابيلا و هو من أحد تلاميذ القديس مارون الا انه توفي قبله، و كان مارون يحبه كثيرا ً و يقتدي به، فطلب أن يدفن عغن وفاته فيه، و من ثم قامت مشاكل بين سكان قرى تلك الانحاء حول الاحتفاظ في الجثمان نظرًا لكونه مصدر خير للجميع، فقام سكان مدينة كفر نابو بسرقته و نقله إلى قريتهم حيث اشادوا كنيسة كبيرة على اسمه، و يقول تيدورتيطس أن الموارنة منذ ذلك الوقت قد عمدوا إلى تكريم القديس مارون، و انه كان يشارك ايضـًا في تذكار ذلك القديس.
و منذ القديم و قد عمد الموارنة إلى تكريم القديس مارون، فقد ورد في احدى الترنيمات المارونية القديمة جدا ً و التي تعود إلى القرون الوسطى عبارة : " أن الطوباوي مارون هيكل الروح القدس الطاهر قد تعب في كرم المسيح من الصباح إلى المساء"، ما أن انتشر خبر وفاة القديس مارون حتى تقاطر الناس لكي يتبركوا بثجمانه، و يرى البطريرك و الباحث الماروني اسطفان الدويهي بان قرية " المعرة " هي التي فازت بجثمان القديس مارون بين كافة القرى التي تنازعت على الاحتفاظ بجثمانه.
في البداية الكلام عن " دير القديس مارون " و الذي كان رئيس الاديار في سوريا، و مركز نشر الخليقدونية في سوريا، لا بد من الاشارة إلى " كهف مارون " الموجود في لبنان في منطقة الهرمل، حيث يعتقد أن أحد تلامذة القديس مارون، قد تنسك في المغارة و اطلق اسم معلمه عليها كما أن المغارة الاخرى الموجودة على مطلع نهر " إبراهيم "، الموجودة في منطقة قريبة من بيروت في لبنان، قد تنسك بها أحد رهبان القديس مارون ايضـًا و اسمه " إبراهيم " من ما ادى إلى اطلاق هذه اسمه ليس فقط على المغارة بل على الكهف ايضـًا. و للدلالة على الاهمية الكبيرة التي كان بها دير القديس مارون، فقد كان اثنين من الرهبان يشاركان في اعمال المجامع المسكونية التي تعقد خلال كل فترة و فترة، و قد كان للرهبان الموارنة دور بارز في المجمع الخامس، حيث وجها رسالة إلى الامبرطور يوسطنيان الاول، و إلى البطريرك مينا، و كانت الرسالة مبدوئة بالعبارة: " من رهبان دير القديس مارون، كبير اديرة سوريا". لقد كان هذا الدير معقلا ً للدفاع عن الخليقدونية!.
بعد وفاة القديس مارون، شكل الرهبان الموارنة الذين كانوا يقطنون معه على ذلك الجبل ديرًا عظيم البنيان اشادوه حسب الطراز المعماري الذي كان سائدًا، في منطقة على نهر العاصي، يعتقد إنها كانت جنوب حلب بين حماة و شيزر، و قد رأس الدير عدد من الرهبان المتتاليين، و اطلقوا اسم معلمهم على هذا الدير لقد شكل هذا الدير، المكان الابرز في تاريخ الكنيسة المشرقية، و شكل نواة الكنيسة المارونية المعروفة اليوم و نظرًا للاهمية الكبيرة للموارنة، فقد امر الامبرطور مرقيان توسيع الدير و تشييده، و قد وصل عدد الرهبان فيه إلى ما يفوق الخمسمائة راهب من كافة اصقاع سوريا و بعد أن تم بناء الدير، سافر " اغابيتس " و هو أحد تلاميذ مار مارون المقربين إلى منطقة " افاميا " و هي بلدة كبيرة إلى حد ما، و اقام ديرًا اخر، هو دير القديس سمعان، و الذي سيتنسك به القديس سمعان خلال السنوات التالية!.
و من ابرز رهبان مار مارون، و الذين وصلت الينا معلومات عنهم: يعقوب القورشي و هو كبير التلامذة، و إبراهيم القورشي، و كورا و مورا الشريفتان من مدينة حلب، و موسى الحلبي، و غيرهم، لقد كان هؤلاء مثالا ً حقيقيـًا للقداسة و التقشف و الاماتة خلال السنوات الاولى من المسيحية!. يقول اسطفان الدويهي : " أن البناء الجيد البناء يعرف من بناءه و كذلك مارون، فاذا وجدت الرهبان الموارنة عرفت انهم لباني حقيقي ذو خبرة كبيرة في البناء الروحي، و ذلك من الثمار الروحية الخاصة من ابنائه".
بدأت الخلافات اللاهوتية في الكنيسة، اولا ً في مجمع افسس العام 449، و من ثم في مجمع خليقدونية العام 451!. مجمع خليقدونية, يعترف به الكاثوليك في العالم، و كذلك طائفة الروم الارثذكس، اما الكنائس التي لا تعترف به فهي : الارمن الارثذكس، و الاقباط، و السريان الارثذكس!. و قد كان النقاش في المجمع المذكور حول طبيعة المسيح الجسدية و الالهية، و قد انتهى الامر إلى التوصل إلى صيغة مفادها: " المسيح الاله الكامل و الإنسان الكامل، دون اللغط بين اللاهوت و الناسوت، و مع عدم الفصل بين اللاهوت و الناسوت". لكن عددًا من البطاركة و الاساقفة رفضوا التعريف و انسحبوا من المجمع و على رأسهم بطريرك الاسكندرية القبطي، الذي كان ينادي بان لاهوت المسيح و ناسوته يتلاشيان بعد الاتحاد في طبيعة واحدة، و بدأ الشقاق الكنسي حول الطبيعة الواحدة و الطبيعتين!. في البداية كان البيزنطيون (( الروم الارثذكس))، مناؤئين للمجمع، و ذلك حتى البطريرك هرقل العام 628، حيث اعلن اتباع الجماعة الخليقدونية و ذلك بعد حادث جرى معه في مدينة الرها! منذ تلك الفترة، و الموارنة مع كنيسة روما يؤمنون بأن الرب يسوع له طبيعتان و مشيئتان، مقتدين بذلك بكنيسة روما.
تقلب على البطريركية قبل الانقسام النهائي عدة بطاركة بعضهم مؤيدين لمجمع خليدوقنية و بعضهم الاخر غير مؤيدين للمجمع. و للتاكيد بان الموارنة كانوا منذ البداية على ايمان كنيسة روما الخليقدوني و انهم لم يحيدوا عنه يومـًا نرى عدة مراسلات ممهورة بتوقيع الاخ " بولس " رئيس دير " المبارك مار مارون "، إلى الاباطرة في القسطنيطينة و البطاركة في انطاكية و البابوات إلى روما، و من هذه المراسلات الهامة جدًا في التاريخ، الرسالة إلى الامبرطور يوسطنيان الاول، و البطريرك مينا، و البابا اغابيتس الاول. و لما وصل سويرس إلى كرسي انطاكية و هو من اشد المناوئين للمجمع، في العام 517، أي قبل اهتداء كنيسة القسطنطينية إلى العقيدة الكاثوليكية و التي هي الارثذكسية اليوم، اراد القضاء على كافة المؤيدين للمجمع، ضمن بطريركية انطاكية في المشرق، كان الموارنة هم الوحيدين الذين يرون ذلك، حيث انهم فهمهم العميق للكتاب المقدس، و اتحادهم الكامل بكنيسة روما، منعهم سوى الاعتراف بذلك، يصف الاسقف الماروني جرمانوس فرحات، ذلك الحادث فيقول:
" اليوم هو الحادي و الثلاثين من شهر تموز، و هو ذكرى احياء 350 راهب ماروني من تلاميذ القديس مارون، الذين قتلهم سويرس الاسقف الدخيل، و تلميذ اوطاخي الهرطوقي، في عهد الامبرطور الهرطوقي اتناسيوس لانهم كانوا من رهبان القديس البار مارون الناسك و يتمسكون بايمان مجمع خليقدونية المقدس، لقد حصلت هذه المجزرة العام 517".
لقد قتل الرهبان الموارنة اثناء سفرهم، او استعدادهم للسفر من دير القديس مارون مقرهم إلى دير القديس سمعان في مهمة كنسية، و قد احرق الدير، و شتت الرهبان الذين التجأ بعضهم إلى لبنان!. أرسل الرهبان الموارنة رسالة إلى الحبر الاعظم في روما البابا هرمزدا، يصفون به حال المؤمنين في الشرق، ويطلبون العون و الصلاة، و يؤكدون الاتحاد الكلي مع كرسي روما، و قد وقع على الرسالة كافة الرهبان الذين نجوا من الاضطهاد و على راسهم رئيس الدير، الراهب اسكندر، حيث يختم الرسالة بتوقيعه و بالقرب منه هذه العبارة : " انا الراهب اسكندر رئيس دير القديس مارون وقعت هذال الالتماس". ارسل البابا رسالة إلى الرهبان يحثهم فيها على الصمود، و البقاء على الاعتراف بكنيسة روما و الايمان القوي، و يعزيهم، و يقوي من ارداتهم، وصلت الرسالة يوم 10 شباط 518!.
أن سبب هذه المجزرة و كما يؤكد المؤرخ " هونيغمان ": " انه بعد مجمع خليقدونية انقسمت الكنيسة إلى قسمين معارض له و مؤيد له، في الشرق لم يكن هناك من مؤيد له سوى الموارنة، الذين لاقوا مجزرة كبيرة من جراء معارضتهم ايمان سويرس". و من الجدير ذكره أن سويرس هذا قديس، عند السريان الارثذكس، بينما يحتقره الموارنة و الكاثوليك لان يديه ملطخين بدماء القديسين!. كما اشرف على العملية ايضـًا، اسقف " افاميا "، و الذي يدعى بطرس!. م يكن الصراع بين الخليقدونيين و الغير الخليقدونيين مقتصرًا على هذا الحد بل تعداه إلى أكبر من ذلك، لقد كان ذلك الانقسام الاول ضمن الكنيسة!. و من رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا نقتبس:
" لقد اقامك المسيح الهنا رئيسا ً على الرعاة و معلما ً طبيا ً للنفوس، فمن الواجب أن نشكو اليك من الذئاب التي تبدد قطيع المسيح لكي تستطيع بعصا سلطانك تبديد هذا الحقد البيزنطي. انتم تعلمون ايها الاب الاقدس أن ساوريسرس بطريرك البيزنطين لم يحصي الكاثوليك بين عداد المسيحين، و قام بتدمير كافة كنائسنا الكاثوليكية و قتل من رهباننا و يجبرونا على احتقار المجمع المقدس لقد مات الكثير منها بحد السيف و نحن مشتتون البعض هرب إلى دير القديس سمعان في نواحي حلب، و القسم الاخر إلى جبال لبنان العالية."
في العام 536، و بحضور العديد من الرهبان و المبعوثين الموارنة، و بعد حوالي ثلاثين عامـًا من المجزرة، عقد مجمع القسطنطينية و الذي ادان " المونوفيزية " أي الذين رفضوا مجمع خليقدونية و امر بفرض الايمان الخليقدوني على كنائسهم!. وجه الموارنة إلى البابا في روما خلال المجمع رسالة وصفوه بها بانه " بطريرك المسكونة "، و صحيح أن الحبر الاعظم لم يستسيغ اللقب الذي اطلقه عليه الرهبان الا انه يشير إلى اعتراف الموارنة بتفوق كرسي روما على سائر البطريركيات!. و بتاريخ 6 آب 536 صدر عن الامبرطور مرسومـًا بادانة سوريرس بالهرطقة و قتله، و قتل كل اتباعه، و كل من يقتني كتبه، فهرب إلى الاسكندرية، هكذا يعاقب الله من يقف بوجه قديسيه!. و في ختام حديثنا عن دير القديس مارون و الرهبان الموارنة الاوائل، لا بد من الاشارة إلى ما قاله المؤرخ " جيبون " عن سويروس، اذ يقول: " أن طاغية سوريا (( أي سويروس)) قد فرض عقيدته بالقوة و كان حكمه ملطخـًا بالدم، فقد قتل ثلاثمائة و خمسين راهب قتلوا من دون مقاومة على اسوار افاميا". كما عمد البابا بيندكتوس الرابع عشر في 12 آب 1744 إلى اصدار غفران كامل إلى الكنيسة الكاثوليكية جمعاء و منها الكنيسة المارونية المتحدة بها تحت بركة هؤلاء الرهبان، لقد كانت هذه الاشارة من البابا للدلالة على اهميتهم، و منذ ذلك التاريخ و قد عمدت الكنيسة المارونية إلى اقامة اعياد خاصة في تذكار المجزرة لهؤلاء القديسين.
خلال القروت التالية، و خاصة خلال القرنين السادس و السابع، انتقل النشاط الماروني من منطقة نهر العاصي إلى منطقة لبنان، حيث انتشرت المارونية إلى حد كبير في ارز الرب، و قد يكون هذا الانتشار لان تلك المناطق كان من الصعب على الجنود القادمين من القسطنيطينية او انطاكية في الشمال من اختراقه بسهولة!. خلال تلك الفترات برزت الهوية المارونية و تبلورت من خلال ظهور عدد من الصلوات الخاصة بالموارنة و منها هذه الصلاة: « ردّ يا رب بشفاعة أمك، عن الأرض وسكانها ويلات الغضب، لاشِ الأخطار والفتن، امنع الحرب والمجاعة والوباء، تحنن على ضعفنا، داوِ سقمنا، قوِّ وهننا، فكّ أسرنا. وأرح الموتى المؤمنين الذين انتقلوا من بيننا وامنحنا آخرة صالحة فنرفع لك المجد إلى الأبد». أن هذه السطور القليلة تلخص ايمان الموارنة في الحياة!. كما كانت التقديسات الثلاث، من ابرز الصلوات المارونية و التي ما زالت ترتل إلى اليوم في القدّاس الالهي الماروني، و هي موجهة إلى ربنا يسوع مسيح، حيث نصفه بانه القوي القدوس و الذي لايموت، و في الشطر التالي نطلب منه الرحمة، و في بعض الازمنة نقوم باضافة جمل إلى المقطع الثاني بحيث يكون " يا من ولدت من ابنة داوود . ارحمنا ", و في زمن القيامة : " يا من قمت من بين الاموات ارحمنا".
و هذه العبارات نسبقها بكلمة " مشيحو " أي أن المسيح الشخص الثاني من الاقنوم الالهي هو الذي صلب و قبر و قام، لقد اتهم الموارنة بالهرطقة من قبل بطريرك القسطنينية بطرس قصار، و ذلك على اساس أن الموارنة من خلال هذه الصلاة ينسبون الموت إلى الثالوث كله، علمـًا أن المسيح وحده من الثالوث تألم و مات، و قد برأت كنيسة روما الموارنة من هذه التهمة الباطلة!. خلال هذه الفترة انتشرت الاديار الماورنية في العديد من المناطق، و خاصة تلك الاديار التي تحمل اسم القديس مارون، فبالاضافة إلى الدير الكبير الذي يقع على العاصي، كان هناك دير اخر لمار مارون يقع قرب مدينة دمشق ، و ثالث قرب البترون، و هذا ما يدل على انتشار المارونية الواسع في المشرق!. و قد أبدى " اسطفان الدويهي " سعادة بالغة لكثرة عدد الرعايا الكاثوليك بجهود الموارنة في المشرق!.
خلال تلك الفترة ظهر مصطلح " ملكيين " و هي الطوائف المعترفة بمجمع خليقدونية، و ذلك نسبة إلى الامبرطور " مرقيان " و هو أول امبرطور اعترف بالمجمع و دعا إلى عقده، أما المعسكر الثاني المناوئ للخليقدونية فقد كان دعي " سويرين " نسبة إلى سويرس، أو " يعاقبة " نسبة إلى أحد أهم اساقفتهم و يدعى يعقوب البرادعي المتوفي العام 578!. كان الانقسام كبيرًا، في سوريا تحديدًا، و لم يكن هناك أي موقف للحياد بين الطرفين!. حاولت الدولة البيزنطية فيما بعد محاولة تخفيف حدة الصرع بين الطرفين من خلال ايجاد صيغة مشتركة للايمان، لقد ظهرت هذه الفكرة على عهد الامبرطور هرقل، الذي دعا إلى المونوثيلية، حيث يصل إلى الوسط بين كلا الطرفين، لقد كان ذلك لانه علم، أن بقاء الدولة مرتبط بوحدة الكنيسة!. كانت سوريا في ذلك الوقت، تعاني من الحروب بين الروم و الفرس، و قد استطاع الفرس خلال فترة زمنية معينة الوصول و اخذ الصليب المقدس، فما كان من الامبرطور هرقل الا أن اعد جيشـًا قويـًا زحف بها إلى عاصمة كسرى الثاني الملك الفارسي و استرجع الخشبة المقدسة، و بعد هذا النصر الديني السياسي اراد تحقيق نصر اخر من خلال توحيد الكنيسة!.
كانت الصيغة المونوثيلية تقول : " أن طبيعتي المسيح اتحدتا في مشيئة واحدة و طبيعة واحدة و قدرة واحدة". رفض الكاثوليك و على رأسهم الموارنة التعريف الجديد، بالرغم من قبول اساقفة الغير الخليقدونيين في ارمينيا و سوريا و مصر الصيغة المتوسطة، الا أن الكاثوليك الغيورين على الايمان و منهم الموارنة رفضوا هذه الصيغة و اعتبروها هرطقة، كما اكد على ذلك البابا مارتينوس الاول العام 649!. و للدلالة على الانقسام و العداء الماروني – الارثذكسي (( بالمعنى النهائي)) منذ القدم نسرد الحادثة التالية: لما انقسمت رعية حلب إلى قسمين الاول ماروني مؤيد للخليقدونية و الثاني مناوئ لها، و انقسم المؤمنون إلى فريقين الفريق الثاني كان يتبع للامبرطور مكسيموس، و قد توسع الخلاف ليشمل السيطرة على الكنيسة الكبرى في المدينة، و قد ادت الخلافات الدامية بين الطرفين، إلى اللجوء إلى الحاكم المسلم للمدينة، و الذي امر أن تفصل الكنيسة في الوسط بواسطة حاجز خشبي بحيث يكون لكل فريق مكانه الايماني الخاص، الا أن الاشتباكات استمرت بين الطرفين، و تدخلت النساء في المعارك، حتى خجلوا من انفسهم و تصالحوا داخل بناء الكنيسة بأن ينضم غير الخليقدونيين ((الروم)) إلى الخليقدونيين (( الموارنة))"!. دخلت منطقة سوريا خلال تلك الايام ضمن الحكم العربي الاسلامي، على عهد معاوية بن ابي سفيان الذي اسس الدولة الأموية!.
إن الدور الرئاسي الكبير الذي كان يمتكله دير القديس مارون، حتى بعد المجازر و الخراب الذي لحق به، أدى إلى إضعاف سلطة بطريرك إنطاكية على تلك المنطقة، لذلك نستطيع القول أن الموارنة كانوا يديرون تلك المنطقة بدلا ً من البطريرك البيزنطي في القسطنطينية. و تقول بعض الروايات أن رئيس دير القديس مارون، قد اصبح من القرن السابع أو نهاية القرن السادس، يحمل لقب " جاثليق " أو " مرفان " و هي الرتبة الكنسية، المتوسطة بين المطران و البطريرك، فالجاثليق هو أعلى من المطران و أدنى من البطريرك!. في القرن السابع الميلادي ايضـًا، شهدت سوريا خروجها عن الإمرة البيزنطية إلى الأبد بعد أن اجتاحت القوات الإسلامية كافة المناطق الواقعة في سوريا و العراق، و أصبحت دمشق مركزًا للدولة الجديدة و التي هي الدولة الجديدة، و خليفتها و ملكها " معاوية بن أبي سفيان "، و نتيجة لذلك أصبحت إنطاكية خارج السلطة البيزنطية و بالتالي أصبحت المدينة بدون كرسي بطريركي، و قد عمد الأساقفة في القسطنطينية إلى إنتخاب بطريرك فخري لأنطاكية يقيم في القسطنطينية و ما كان يمارس من مهامه شيئـًا!.
في العام 745، أصبح عدد الموارنة كبيرًا جدًا و خاصة ً في مناطق حمص و حلب و حماه، و أصبح لدى الموارنة جاثليق و ثلاثة مطارنة، و حسب التقليد الكنسي، يحق للجاثليق و المطارنة الثلاث إنتخاب بطريرك عند الحاجة، شريطة أن يكون هؤلاء من وضع البطريرك بطريقة شرعية، و لما كان الخليفة معاوية لما دخل إلى دمشق سمح للخليقدونيين الملكيين رسامة بطريرك خاص لهم، فرسموا بطريركـًا لانطاكية أقام في دمشق، و كان شرعيـًا كنسيـًا، و قد دعي هذا البطريرك بإسم " ثيوكلفت "، و لما جاء إلى الحكم الخليفة مروان و من ثم ابنه عبد الملك، منع هذا اللقب، كان البيزنطيون قد توقفوا عن رسامة البطاركة الفخريين لإنطاكية و كانت أحوال المؤمنين ضائعة بدون بطريرك، فقد عمد رهبان القديس مارون إلى انتخاب بطريرك عليهم، كان هذا البطريرك هو يوحنا, و الذي دعي بإسم معلمه مارون فسمي " يوحنا مارون "، كان أول بطاركتنا على المشرق، و الثالث و الستون بعد القديس بطرس، وقد أقام لدى انتخابه في دير القديس مارون، ثم انتقل إلى لبنان حيث بنى هناك ديرًا و سكن فيه!.
لقد وافق البابا في روما على رسامة " يوحنا مارون " بطريركـًا لانطاكية و اغدق عليه التاج الاسقفية!. و من كل ما تقدم نستطيع أن نعرف أن البطريرك الماروني وحده هو الخليفة الشرعي للقديس بطرس في رئاسة السدة البطرسية!، و الموارنة لهم وحدهم الحق في اعتلاء هذه السدة، و لذلك يضيف البطاركة الموارنة إلى اسمائهم اسم القديس بطرس للتأكيد على هذه الحقيقة!. لقد ذكرت العديد من المصادر حياة القديس يوحنا مارون و أبرز هذه المصادر هو البطريرك اسطفان الدويهي، الذي كتب مخطوطـًا بالكرشونية سماه " حياة البطريرك يوحنا مارون". و يعتقد أن يوحنا مارون كان من بلدة " سرمين "، القريبة من انطاكية، و انه من اصول فرنجية و سريانية في الوقت ذاته، و أنه لما دخل إلى الدير اتخذ اسم مارون، و في عهده كان هناك العديد من المشاكل و الموجهات بين الموارنة من جهة و اليعاقبة من جهة ثانية. إن الموارنة – كما أكدوا في المجمع اللبناني المنعقد في العام 1736- لم يأسسوا بطريركيتهم من أجل الانفصال عن كرسي روما، و لا لأي سبب ديني آخر، إنما تأسيس البطريركية المارونية جاء لأسباب دنيوية بحتة أبرزها تسريع حل شؤون المؤمنين لأن روما بعيدة جدًا عن المشرق، و لما كان الموارنة لا يودون العودة إلى البطريرك في القسطنيطية حتى بعد اعتناق هؤلاء الخليقدونية لأسباب عديدة من أبرزها عدم تعيين بطريرك لإنطاكية في كثير من الأوقات و النزاع الدائم مع اليعاقبة، أدى ذلك إلى تسريع إنتخاب البطريرك الماروني و تأسيس البطريركية التي ما زالت قائمة إلى اليوم!.
و يؤكد البابا بيندكتوس الرابع عشر على أن كل بطريرك ماروني كان يرسم من قبل الكرسي الرسولي بعد انتخابه و هذا ما تم تأكيده لكردالة العالم يوم 13 تموز 1744!. لقد تطور النزاع بين الموارنة واليعاقبة من جهة و مع البيزنطيين من جهة إلى أخرى حيث أدى ذلك إلى معارك مسلحة في منطقة أميون قرب انطاكية، لقد كانت الجيوش البيزنطية تحاول استعادة السيطرة على انطاكية احتجاجـًا على تنصيب البطريرك الماروني، و قد استطاع الجيش الماروني التصدي للجيش البيزنطي و قهره بمساعدة جيش الدولة الأموية!. لقد كان من أهم أعمال يوحنا مارون تقسيم البلاد إلى أبرشيات و رسامة المطارنة على كل أبرشية، و قد تولى رئاسة اسقفية البترون حيث يقيم في دير كفر حي بالاضافة إلى البطريركية المارونية!. لقد كان الدير الكبير الذي أشاده البطريرك يوحنا مارون في منطقة " كفر حي "، اسمه " ريش مورو " أي " هامة مارون " لأن هامة القديس العظيم مارون قد نقلت إلى هناك و صمدت في الدير تيمنـًا و تبركـًا.
توالى الموارنة قي القرون الوسطى في تلك البلاد، و قد عمد البطريرك يوحنا الاول إلى نقل البطريركية إلى أنطاكية بدلا ً من كفر حي، و لكنه لما رأى فلتان الوضع الامني للمؤمنين في لبنان اعاد البطريركية اليها!. وخلال الفترة الواقعة بين القرنين الثامن والحادي عشر توالى على البطريركية المارونية في كفر حي، اثنين وعشرين بطريركـًا وجدت القليل من المستندات عنهم ضمن الوثائق المحفوظة في المكتبات المارونية في لبنان!. ولم تخلو الفترة الواقعة بين هذين القرنين من الاضطهادات التي وقعت على عاتق الموارنة، و لم تستقر البطريركية المارونية في موقع واحد طوال تلك الفترة، فقد انتقلت من دير كفر حي، نتيجة لاضطهاد حكام طرابلس إلى دير كفيفان ومن ثم إلى دير سيدة يانوح، وعند الدخول الصليبي إلى المشرق كان مركز البطريركية المارونية في دير سيدة ميفوق!.
دعا البابا اوربانوس الثاني عام 1095 إلى إنقاذ " بيت المقدس "، وقبر المسيح، من الحكم السلجوقي الذي اتهموه بإضطهاد المسيحين، كما كانت الدعوة من أجل انقاذ المسيحين الكاثوليك في المشرق ايضـًا، من ظلم واضطهاد ديني كان يدعى وجوده. بناءً على ذلك توجهت الحملة الصليبية الأولى عام 1096 بقيادة بطرس الناسك إلى المشرق، ودخلت بقوة السيف إلى تركيا وبلاد أرمينيا. أما دخولها إلى منطقة سوريا فلم يكن الا بقيادة ملوك أوروبا في الحملة الرسمية التي دخلت إلى مدينة القدس عام 1099، ومدينة بيروت قبلها العام 1098، و لما دخل الصليبيون إلى أنطاكية ساعدهم في استمرار الاحتلال وديمومة الاعتداء الديني، حوالي أربعين الف جندي ماروني عملوا بناء على انتمائهم الديني بدلاً عن الحضاري القومي. وساعدهم على المد أنهم كانوا عالمين بطبيعة الجبال القاسية في تلك المنطقة، وكما أن القوات الصليبية لم تلقَ أية مقاومة في كافة المناطق المارونية والواقعة من جنوب أنطاكية وحتى حيفا و عكا، و جبل لبنان! وذلك بحكم سيطرة الدافع الديني المحض، والرغبة الجامحة عند مسيحيي الشرق عامة بالانتقام مما كان يسمى الاضطهاد الإسلامي.
يوم دخل الصليبيون إلى القدس العام 1099، لم يسمحوا إلا للكاثوليك فقط سكنى المدينة المقدسة، بعد أن طردوا أهلها المسلمين والمسيحيين واليهود من غير الكاثوليك عنوة، وأثخنوا التنكيل والقتل والتذبيح بالمسلمين الذين قاوموا الغزو الصليبي. لقد كان الكاثوليك في ذلك الوقت طائفتان، اللاتين، و المارونية!. عاد المقر البطريركي في ذلك الوقت إلى دير هامة مارون في كفر حي!. في عام 1291 دعي البطريرك الماروني إرميا العمشتي إلى روما من أجل حضور أعمال المؤتمر للاتراني الثاني الذي صادف انعقاده في ذلك الوقت، و بتالي ساهمت هذه الحادثة في زيادة الوعي لدى الموارنة عن انتمائهم الديني و العقائدي!. في روما و خلال القداس الاحتفالي الذي شارك به البطريرك إرميا، رفع القربان المقدس في الهواء فوق الكأس، و لما انزل الكأس إلى المذبح ظل القربان في الهواؤ معلقـًا بقدرة عجائبية! أمر البابا إنوسنت الثالث بأن تنحت هذه الاعجوبة على شكل صورة في تلك الكنيسة، و ما زالت هذه الصورة شاهدة إلى اليوم في روما على العظمة المارونية!.
لقد كان للتواجد الصليبي في المشرق الاثر الكبير في انفتاح الموارنة على الغرب، نتيجة العزلة التي كانوا يعانون منها في المشرق نتيجة ايمانهم الكاثوليكي، الوحيد، في تلك البقاع!. عاد الصليبيون إلى بلادهم، و غادر معهم العديد من الموارنة استقر معظمهم في جزيرة قبرص، و البعض الاخر في جنوب فرنسا!. عاد الصليبيون إلى بلادهم، تاركين الموارنة لموجات الانتقام المعاكس للحملات الصليبية من قبل المسلمين، فقد شهد العام 1267 وهو العام الذي سقطت به مدينة طرابلس بيد المماليك مذبحة رهيبة حيث أمر الناصر قلاوون، أن تهدم المدينة فوق رؤوس سكانها الموارنة واللاتين المقيمين فيها! وذلك رداً على خيانتهم المزعومة للدولة التي كانوا ينتمون إليها ديموغرافياً وللجيرة الإسلامية التي لم يرعوا لها حرمة أثناء الغزو الصليبي. وفي القرن الرابع عشر، قاد جرجس السبيعلي البطريرك الماروني ثورة ضد المماليك واستطاع السيطرة على اهدن عددًا من السنوات قبل أن يلقي المماليك القبض عليه ويحرقوه، ويعتقد ان رماده مازال موجودا إلى الان في إهدن و قد جرت بموجب شفاعته عددًَ كبيرًا من العجائب.
وقد تم توجيه العديد من الرسائل إلى البطاركة الموارنة من قبل الكرسي الرسولي خلال فترات متعافبة من الزمن، خلال تلك الفترة، كان مركز البطريركية المارونية في منطقة " قنوبين "، أو " وادي قاديشا "، و معناه بالعربية الوادي المقدس، لا شك أن تلك الفترة العصيبة شهدت العديد من الخلافات بين الموارنة و سائر المسيحين و خاصة اليعاقبة حيث شهد عام 1300 حدثـًا خطيرًا في هذا السياق و قد انتهى إلى انتخاب " إرميا الدملصاوي "، بطريركـًا و الذي سافر إلى روما و من نال التثبيت من الحبر الاعظم. و من البطاركة الموارنة الهامين في العلاقة مع روما كان البطريرك يوحنا الجاجي الثاني الذي دعي إلى حضور المؤتمر اللاتراني الرابع لكنه اعتذر لصعوبة السفر و قام بارسال موفد من الرهبنة الفرنسيسكانية منه، و قد انعم عليه الحبر الاعظم بدرع التثبيت!. و بعد الثورة الدينية المعادية، عقد المجمع التريندي، و الذي استمر على فترات متقطعة على ثلاثة عقود من الزمن، و كان له العدد الكبير من القررات الهامة على الكنيسة جمعاء و منها الكنيسة المارونية حيث سُمح بافتتاح المدرسة المارونية في روما عام 1585، على عهد البابا إنوسنت الثالث عشر، و الذي كان دور هذه الكنيسة تثقيف الموارنة و تخريج الكهنة إلى الشعب الماروني!.
و على عهد البطريركان الرزيان، في قنوبين، أرسلت كرسي روما بعثتان إلى الموارنة الاولى من غريفون الراهب الفرنسيسكاني و الثاني من إليانو المتبحر في الأمور المشرقية أيضـًا!. و مع نهاية العهد المملوكي و دخول الدولة العثمانية إلى سوريا، استقر الوضع العام بين المسيحين خاصة بعد الاندماج بين الكاثوليك و البيزنطيين و ذلك بعد اجتماع يوم 10 كانون ثاني 1483 في فلورنسا حول الوحدة المسيحية و انتهت إلى الاتحاد كرسي القسطنطينية بروما على عهد الامبرطور يوحنا الثامن!. في نهاية العصور الوسيطة دخل الموارنة في حماية فرنسا بواسطة نظام الامتيازات الاجنبية في العصور الوسطى، و بواسطة جهود الملك لويس الرابع عشر الفرنسي، و الذي وصف الامة المارونية بانها جزء لا يتجزأ من الامة الفرنسية!.
كان للموارنة دور كبير في عمادة الشعب الدرزي فيما بعد أيام فخر الدين المعني، و منذ عام 1860 و الموارنة يتمتعون بحكم مستقل خاص في ظل الدولة العثمانية وفق نظام القائممقاميتين، و في العام 1920 كان للبطريرك إلياس الحويك دور هام في اعلان دولة لبنان التي هي الشجرة التي احتمت المارونية فيها من ظلم تاريخي مدعى ولا تزال صحته من عدمها مثاراً للجدل. أما الموارنة في سوريا فيتواجدون في حلب و حماه بالاضافة إلى مناطق اخرى، و يعتبر جرمانوس فرحات المطران الماروني في حلب الضالع باللغة العربية من ابرز الشخصيات التي كرمتها الحكومة السورية فوضعت نصبـًا تذكاريـًا له و أطلقت ساحة خاصة باسمه. و قد اعلن البابا كليمنتوس الثاني عشر الغفران الكامل كل عام من يوم 9 شباط لم يتناول و يكون شفيعه القديس مارون، كما عمد البابا بيندكتوس الرابع عشر إلى اصدار الغفران الكامل أيضـًا للكنيسة و منها الموارنة. يترأس الكنيسة المارونية منذ العام 1986 غبطة الكردينال الماروني مار نصرالله بطرس صفير.
الكنائس الكاثوليكية الشرقية | |
---|---|
الكنيسة الإنطاكية السريانية المارونية - كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك - كنيسة الأقباط الكاثوليك - كنيسة السريان الكاثوليك - كنيسة بابل للكلدان - كنيسة الأرمن الكاثوليك - كنيسة اللاتين في القدس |