فهرس
|
ولد سعيد النورسي في عام1293هـ،الموافق عام1876م، وفي قرية نورس الواقعة في جنوب شرقي تركيا، وولد في أسرة دينية لأبوين أشتهرا في القرية بورعهما، وكتب له أن يكون أحد أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي في العصر الراهن.
أسم والده ميرزا بن علي بن خضر بن ميرزا خالد بن ميرزا رشان من عشيرة أسباريت، أما والدته فإسمها نورية بنت ملا طاهر من قرية بلكان، وهي من عشيرة خاكيف، والعشيرتان من عشائر قبائل الأكراد الهكارية في تركيا.
ولم تكن حياة سعيد النورسي إلا ملحمة من الوقائع والأحداث التي وضع جميعها في خدمة القرآن العظيم وتفسير نصوصه، وبيان مرامي آياته البينات، ضمن رؤية تبلورت مع الزمن ومع أطوار رحلة العمر، وكانت غايتها النهائية بث اليقظة، وإعادة الحياة والفعل للأمة الإسلامية بعد طول رقاد.
وما برح سعيد أن ألتحق بمجموعة من الكتاتيب والمرافق التعليمية المبثوثة في تلك النواحي من حول قريته نورس. وكان يستوعب كل ما يقدم له من علم، وسرعان ما أضحى لا يجد ما يستجيب لنهمه التحصيلي في المراكز التي يقصدها. ومن هنا كانت إقامته في تلك المراكز ظرفية، إذ كان يتوق إلى الاستزادة المعرفية الحقَّة. وظل يرتحل من مركز إلى مركز، ومن عالم إلى آخر حتى حفظ ما يقرب من تسعين كتابًا من أمهات الكتب.
وتهيأ بعد ذلك وبفضل المحصول العلمي الجم الذي أكتسبه في طفولته المبكرة تلك، أن يجلس إلى المناظرة ومناقشة العلماء، وأنعقدت له عدة مجالس تناظر فيها مع أبرز الشيوخ والعلماء في تلك المناطق، وظهر عليهم جميعًا. وأنتشرت شهرته في الآفاق. وفي سنة 1314هـ(1897م) ذهب إلى مدينة وان التركية، وأنكبّ فيها بعمق على دراسة كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ؛ حتى تعمَّق فيها إلى درجة التأليف في بعضها فسمّي بـ بديع الزمان اعترافًا من أهل العلم بذكائه الحاد، وعلمه الغزير، وأطلاعه الواسع.
في هذه الأثناء نُشر في الصحف المحلية أن وزير المستعمرات البريطاني "غلادستون" قد صرّح في مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلاً: "ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به". زلزل هذا الخبر كيانه وأقضّ مضجعه فأعلن لمن حوله: "لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها". فشد الرحال إلى استانبول عام 1325هـ (1907 م)، وقدّم مشروعًا إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرقي الأناضول، أطلق عليها اسم "مدرسة الزهراء" -على غرار جامع الأزهر - تنهض بمهمة نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية الحديثة على وفق مقولته: "ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلّى الحقيقة، فتتربّى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية".
في سنة 1329هـ ( 1911 م) سافر إلى دمشق، وألتقى برجالاتها وعلمائها، وبسبب ما لمسوا فيه من علم ونجابة، أستمعوا إليه في الجامع الأموي الشهير بدمشق وهو يخطب في الآلاف من المصلين خطبة حفظها لنا الزمن وأشتهرت في تراثه بـ"الخطبة الشامية ". ولقد كانت تلك الخطبة برنامجًا سياسيًا واجتماعيًا متكاملاً للأمة الإسلامية.
وباندلاع الحرب العالمية الأولى كان طبيعيًا أن يهب بديع الزمان في طليعة المجاهدين، فشكل فرقًا فدائية من طلابه، واستمات معهم في الدفاع عن حمى الوطن في جبهة القفقاس، وجرح في المعارك مع الروس وأسر (1334 هـ) واقتيد شبه ميت إلى " قوصتورما" من مناطق سيبيريا في روسيا حيث قضى سنتين وأربعة أشهر، هيأ له الله أثناء "الثورة البلشفية" الانفلات، فعاد إلى بلاده في (19 رمضان 1336هـ، الموافق 8 يوليو 1918م) وأستقبل أستقبالاً رائعًا من قبل الخليفة وشيخ الإسلام والقائد العام وطلبة العلوم الشرعية، ومنح وسام الحرب. وكلَّفته الدولة بتسلّم بعض الوظـائف، رفضها جميعًا إلاّ ما عينته له القيادة العسكرية من عضوية في "دار الحكمة الإسلامية"، التي كانت لا توجه إلاّ لكبار العلماء، فنشر في هذه الفترة أغلب مؤلفاته باللغة العربية منها: تفسيره القيّم "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"، الذي ألفّه في خِضَمّ المعارك، و"المثنوي العربي النوري".
وبعد دخول الغزاة إلى استانبول (13/11/1919) أحس سعيد النورسي أن طعنة كبيرة وجهت إلى العالم الإسلامي، فكان حتما أن يقف في طليعة من يتصدى للقهر والهزيمة، فسارع إلى تحرير كتيب" الخطوات الست" حرك به همة مواطنيه، ووضع تصوره لرفع المهانة وإزالة عوامل القنوط التي ألحقتها الهزيمة بالدولة العثمانية والمسلمين عامة.
وفي هذه الفترة (أي منذ 1922م) وُضعت قوانين واُتخذت القرارات لقلع الإسلام من جذوره في تركيا، وإخماد جذوة الإيمان في قلب الأمة التي رفعت راية الإسلام طيلة ستة قرون من الزمن. فأُلغيت السلطنة العثمانية في (1/11/1922م)، وأعقبه إلغاء الخلافة الإسلامية في (3/3/1924م).
وقام الشيخ سعيد بيران (البالوي) النقشبندي (13/2/1925) بالثورة ضد السلطة آنذاك، وطلب قائد الثورة من بديع الزمان أستغلال نفوذه لإمداد الثورة إلا أنه رفض المشاركة وكتب رسالة إليه جاء فيها:
"إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة، فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام، وضحّت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء، فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء، لذا لا يُستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام، الأمة التركية، وأنا أيضًا لا أستلُّه عليهم" .
ورغم ذلك لم ينجُ بديع الزمان من شرارة الفتن والاضطرابات؛ فنفي مع الكثيرين إلى "بوردو" ، ووصل إليها في شتاء سنة 1926م. ثم نفي وحده إلى ناحية نائية وهي "بارلا" جنوب غربي الأناضول. ويقول عن نفسه في هذه الفترة: "… صرفت كل همي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة " سعيد الجديد"، أخذتني الأقدار نفيًا من مدينة إلى أخرى، وفي هذه الأثناء تولَّدت من صميم قلبي معاني جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم، أمليتها على مَن حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها "رسائل النور"، وهكذا أستمر الأستاذ النورسي على تأليف رسائل النور حتى سنة 1950م، وهو يُنقل من سجن إلى آخر ومن محكمة إلى أخرى، وهكذا طوال ربع قرن من الزمن لم يتوقف خلاله من التأليف والتبليغ حتى أصبحت أكثر من (130) رسالة، جمعت تحت عنوان "كليات رسائل النور" ولم يتيسر لها الطبع في المطابع إلا بعد سنة 1954م. وكان الأستاذ النورسي يشرف بنفسه على الطبع حتى أكمل طبع الرسائل جميعها. وكانت تدور مواضيعها حول تفسير آيات القرآن بأسلوب علمي عصري وكان من أقواله:(ان الدين هو ضياء القلوب، اما العلوم الحديثة فهي نور العقول). وهو من رواد التفسير العلمي للقرآن.
وتوفي سعيد النورسي في الخامس والعشرين من رمضان المبارك سنة 1379هـ الموافق 23 آذار 1960م، فدفن في مدينة "أورفة". ولكن السلطات العسكرية الحاكمة لتركيا لم تدعه يرتاح حتى في قبره؛ إذ قاموا بعد أربعة أشهر من وفاته بهدم القبر، ونقل رفاته بالطائرة إلى جهة مجهولة، وبعد أن أعلنوا منع التجول في مدينة "أورفة". فأصبح قبره مجهولا حتى الآن لا يعرفه الناس.