الرئيسيةبحث

أحمد بن عبد الله معن الأندلسي


الإمام، الحبر الهمام، العالم بالله، والناصر لسنة رسول الله، ذو السيرة النبوية، والأخلاق المصطفوية، بحر التحقيق والعرفان، ومعدن الكمال والتمكين والإيقان، ذو التعريف والتصريف والكرامات الكثيرة التي لا تحصى ولا تعد، والكشف الصريح والبصيرة النافذة الغزيرة التي لا تتناهى ولا تحد، والهمة الخافضة الرافعة، والقوة الجالبة الدافعة. المربي النفاع، الكريم الأخلاق والطباع، الفتى الذي ما مثله فتى، والرجل الذي ما مثله في وقته أتى، مصباح الزمان، وفريد العصر والأوان، صدر الصدور، الشهير البركة والحكمة والنور، شيخ الطريقة، وفارس الحقيقة، العلم الوحد، الحجة القدوة الأعمد، العارف الله؛ أبو العباس سيدي أحمد ابن عبد الله معن، الأندلسي المحتد، الفاسي الاباء والمولد، القاطن بالمخفية من عدوة فاس الأندلس ، وبها ولد ونشأ.

كان –رحمه الله- من أعيان الطريقة، وأكابر أهل الحقيقة، على قدم السلف الصالح، والمنهج القويم الواضح، آية في السخاء والجود، وكرم الأخلاق، والزهد والعبادة، والتعطف على الضعفاء والمساكين، ومحبة آل البيت والعلماء والصلحاء. وكان على قدم التجريد، صارما في الحق، نصوحا لعباد الله، لا يداهن احدا، وحصل له من الحظوة عند أرباب الدولة وسماع الكلمة ما لم يكن لغيره.

وكان علماء الوقت يقصدون زيارته، ويسلمون له ظاهرا وباطنا، ويجلسون بين يديه كجلوس المتعلم بين يدي معلمه. وانتفع على يديه خلق كثير، وظهر له تصرف عظيم، ومهابة كبرى، فلا تراه إلا رأيت أسدا من أسد الله، قد عوفي من خوف الخلق، وكفي أمرهم الرزق، وأوتي من علم القلوب ما يشهد له بالذوق الواضح، والحال الراجح؛ فلا تخوض معه في فن من فنونه إلا أمتعك فيه، وله من قوة اليقين والدين ما لاحت ثمراته على كل من عاشره أو أوى إلى زاويته.

وله-- كلام في الطريق نفيس، قال في "الصفوة": ((ولم يكن يلقن الأوراد، ولا يسلم لمن يلقنها، ويأنف أن يسمى شيخا، ويرى أن ما يفعله أهل الوقت من التساهل في ذلك باعتبار الملقّن والمقَّن أمر بعيد عن قانون الشرع، ثم هو –مع خروجه عن السنة- لا يجدي ولا يفيد، وإنما غرض المتصدين له ترويج باطلهم، وتكثير سوادهم وأشياعهم، ووقع بينه وبين الشيخ العارف بالله سيدي محمد بن سعيد الطرابلسي في ذلك كلام طويل أضربنا عنه روما للاختصار، وإنما كان حال من أتاه يطلب منه المشيخة: أن يأمره بملازمة الأحزاب والوظائف مع الإخوان بالزاوية، لا يزيد له على ذلك شيئا".هـ.

والزاوية التي كان اجتماعه بها مع أصحابه (الزاوية العبدلاوية): هي زاوية أبيه التي على ضفة وادي الزيتون، بأقصى حومة المخفية ، عدوة فاس الأندلس ، ثم جدد بناءها هو-- فصارت لذلك تنسب إليه، وكان قد سخر الله له أسباب المال، واستفاد منه كثيرا من عمله بالازدراع والغرس والنحل –بالحاء المهملة- فما برح عن طريقة السلف بسببه قدما واحدا، بل تسلط عليه بالإنفاق في جانب الله؛ فلم يبق منه إلا ما به تقوم الأسباب بمقتضى الشرع، ولم يكن فيه موضع ترغيب إلا سلكه.

ومما انفرد به في زمانه: أنه كان لا يدخل بذمته شيء من متاع الغير قل أو جل، على أي وجه كان، وإن قصده أحد بهدية وغلبه الحياء عن ردها له؛ كافاه عليها بأضعاف مضافعة، وصرفها لغيره في الحين.

وكان شديد الاتباع للسنة في نفسه وأهله، ولا يرتكب في داره أمرا لم ترد به، بل قطع عنهم جميع العوائد، والتكلفات والزوائد، في أعراسهم ولباسهم وسائر أيامهم، كما كان عليه والده رحمه الله، وأمره بذلك واضح، وتفصيله يطول.

وأخذ عن والده تبركا وتأدبا واستفادة، ثم بعد وفاته عن الشيخ سيدي قاسم الخصاصي وسلب له الإرادة، ولازمه من سنة أربع وستين وألف 1064هـ إلى موته سنة ثلاث وثمانين 1083هـ، وخدمه خدمة لم يسمع بمثلها، وهو عمدته في الطريق، وغليه ينتسب على التحقيق. وكان شيخه سيدي قاسم يشهد بخصوصيته، ويشير إلى أنه الوارث له، وقال له يوما: "تعال خذ متاعك عني"، يشير إلى وراثته لحاله، وأنه هو الذي يأخذ ما عنده. وقال يوما: "إن هذا الذي بهذه الزاوية لا يوجد في بلاد"، كأنه يعنيه، وأشار إلى أنه المقصود من الناس المجتمعين عليه، وقال: "لولا سيدي أحمد؛ لم يجد أحد إلي سبيلا".

وبعد وفاة شيخه المذكور؛ صحب العارف بالله سيدي أحمد بن محمد اليمني، وكان بينهما قرب أكيد، واتصال قوي شديد، وكان صاحب الترجمة يصله بأنواع المواصلات، ويواسيه أعظم المواساة. وذكر أبو العباس ابن عجيبة في فهرسته أن صاحب الترجمة أخذ عنه؛ لكون شيخه سيدي قاسم الخصاصي تركه لم يرشد، وقال له: "يأتيك من يكملك"، فكمل به صاحب الترجمة، وأنفق عليه نفقة كبيرة في حكاية طويلة.

وقال في "التقاط الدرر": ((لم يدر المحققون الخادم منهما من المخدوم، ولا الشيخ من التلميذ، وكل من أقدم على ذلك فبمجرد التخمين والظن)).هـ.

وكانت له- - فراسة تامة وكشف عظيم، وظهرت على يديه كرامات، وأخبر بمغيبات يطول شرحها، ويؤدي إلى الملل تتبعها، وأوتي مقام الخلافة الباطنية وخطة التصريف؛ فكان يجلب ويدفع، ويضر وينفع، وينقص ويوفي، ويعزل ويولي على حسب ما صرفه فيه مولاه، ومكنه منه وأولاده، وقد صرح الشيخ سيدي أحمد اليمني بأنه – أعني: صاحب الترجمة – أعظم من شيخه ووالده، قد فاقهما وزاد عليهما. قال في "الإلماع": ((ولم يكن رأى واحدا منهما في عالم الحس، وإنما قال ذلك عما شهده ببصيرته وكشفه ونور ربه)). هـ. قال في "المقصد": ((وناهيك بها من مثل هذا العارف شهادة، وبهذا الوصف العظيم والقدر الجسيم كرامة وسعادة)). هـ.

وكان سيدي أحمد المذكور إذا صاحب الترجمة، أو ذكر بحضرته؛ أثنى عليه أحسن الثناء، وشهد له بالخصوصية التامة، وأعظم شأنه، وعرف بحقه، وكان كثيرا ما يصفه بالمجذوب، ويقول فيه: ((غنه أبو يزيد البسطامي)).

وذكر في "نسمة الآس" إن صاحب الترجمة: لما قفل من الحج والزيارة، ومر طرابلس؛ لقي بحوزها رجلاً من الصالحين شهد له صاحب الترجمة بأنه من الأكابر ومن الأقوياء الفحول، وجعل يتعجب من قوته؛ قال: ((ولما وقع بصر هذا الرجل على سيدنا أحمد – يعني: صاحب الترجمة – استعظمه جدا، وقال: لا إله إلا الله؛ ما أعظم صلحاء هذه الأمة!. وقال بعد ذلك: لما أبصرته أولا؛ رأيته كأنه الشمس طالعة ... قال صاحب "نسمة الآس": وشهد هذا الشيخ –أيضا- لسيدنا أحمد، بعد ما انفصل عنه، بأنه: من أهل الخصوصية الكبرى، وأنه من الأقوياء الفحول، ومن الأكابر، وأخبر بمقامه الخاص به بما لم نعرف نحن التعبير عنه، وقال: إن مقامه [.........].

وقال: إن أصحاب سيدنا ينتفعون به أكثر مما ينتفع به أصحاب غيره بغيره. وجعل يقول لبعض الفقهاء من أصحاب سيدنا بعدما شهد له بما تقدم، وكان أمامه: عليك به، عليك به!. وقال فيه آخر مرة: أرجو الله أن يكون قطب زماننا. وأثنى على سيدي أحمد اليمني أيضا، وشهد له بالخصوصية الكبرى، وذكر مقامه الخاص به، وقال: إن مقامه عيسوي؛ حكيم يضع الأشياء مواضعها. ثم قال فيهما – أي: فيه وفي سيدنا أحمد – إنه ليس في المغرب مثلهما!)).هـ.

وفي فهرسه سيدي إدريس المنجرة في ترجمة الشيخ الصوفي، الفقيه الرباني المكاشف؛ أبي عبد الله سيدي محمد بن سعيد الطرابلسي؛ أنه قال لبعض أصحاب صاحب الترجمة؛ وهو: الفقيه الصوفي سيدي محمد بن الطرابلسي؛ أنه قال لبعض أصحاب صاحب الترجمة؛ وهو: الفقيه الصوفي سيدي محمد بن عبد الرحمن الصومعي الهروي، حين لقيه ببلده بقصد زيارته: ((أحمد ابن عبد الله في مقام موسى، وأحمد اليمني في مقام عيسى، وأحمد ابن ناصر كان من الأبدال)).هـ.

ولصاحب "نسمة الآس" المتقدم قصيدة تعرض فيها لمدح صاحب الترجمة، ووصفه فيها بـ غوث الزمان، وكهف الأنام وكعبة القصاد، وعرفات جميع الفضائل كلها، وشمس المعارف والمعاني بأسرها. وذكر فيها أنه: مجدد الدين بعد ذهابه على رأس القرن الحادي، وبأنه حاز سير الأكابر والأفاضل، وشمائل الأبدال والأوتاد وعلومهم. فانظرها فيه إن شئت. ووصفه –أيضا- بعضهم بالقطب الواضح، والإمام الناصح.

وأخباره وأحواله ومعارفه وكراماته وتصرفاته كثيرة جدا، استوفى بعضها تلامذته وغيرهم في تصانيفهم، وألف فيه بالخصوص جماعة؛ كالشيخ أبي محمد مولاي عبدالسلام بن الطيب القادري الحسني ؛ فإنه ألف في مناقبه مؤلفا في مجلد سماه: "المقصد الأحمد في التعريف بسيدنا ابن عبد الله أحمد" -المقصد الأحمدي- ، وقد أتى فيه مما يتعلق بصاحب الترجمة بما لا مزيد عليه، مع فصاحة اللفظ، ونهاية التحقيق في العبارة. وفرغ منه قبل موت المؤلف فيه بأزيد من عشرين عاما. وكالفقيه الصوفي أبي العباس أحمد ابن عبد الوهاب الوزير الغساني الأندلسي؛ فإنه ألف فيه مؤلفا سماه: "المقباس، في فضائل أبي العباس". وله –أيضا- مقصورة في مدحه وشرحها في سفرين، وكالشيخ الإمام العلامة الصوفي أبي عبد الله سيدي محمد المهدي الفاسي؛ فإنه ألف فيه تأليفا سماه: "الإلماع، بمن لم يذكر في ممتع الأسماع"، وقيل في مدحه أشعار كثيرة، ولسيدي عبد السلام القادري ديوان مستقل في مدحه.

ولد –رحمه الله- سنة 1042هـ ، وتوفي ضحوة يوم الاثنين ثالث جمادى الثانية سنة 1120هـ ، وارتجت المدينة لموته ارتجاجا، ودفن بقبة والده؛ رأسه عند رجليه، وجعل عليه دربوز كدربوزه، وهو مشهور إلى الآن يزار ويتبرك به.

وممن ترجمه: الشيخ أبو العباس الولالي في "مباحث الأنوار"؛ أورده فيمن لقي، وصاحب "الصفوة"، و"النشر"، و"التقاط الدرر"، و"الزهر الباسم"، ولم يترجمه في "الروضة"؛ لكونه كان حيا في وقته. وإليه وإلى والده قبله وشيخه الخصاصي أشار الشيخ المدرع في منظومة بقوله:

والعارف الشيخ الجليل الواصـل **** محـــي الطريقة الإمـام الكامـل

محـــــمـد هــو ابــن عبــد الله **** شيخ المشــــايـخ عظيـم الجـاه

ولـــده الشـــيـخ أبـو العبـاس **** الطيـب الأخـلاق والأنفــــــاس

أحــــمد البحـر الهمـام الحجـة **** مجــدد الســـــنـة والمحـــجــة

العـارف المحـــقـق المجـــذوب **** الواـصـــــل المقـرب المحبـوب

بيت الـولايـة وبيـت الســــــر **** منشـــــــــأ كـل مــدد وخيــر

وشـيخه : أعني الإمـام قاســم **** يكنى الخصاصي المحب الهائم