→ مقامات الورغي | المقامة الخمرية محمد الورغي |
المقامة الباهية ← |
المقامة الخمرية
رب يسر ولا تعسر تمّم بالخير
| ||
سعد السعود تجلّى | وطالع السعد لاذا | |
فقلت يا سعد خبّر | عمّا وراءك ماذا | |
فقال خيراً تراهُ | واسمع لقوليَ هذا |
يا رواة الأخبار، وحملة القول المختار، شمل الله جمعكم بسلام، وجمع شملكم في دار السلام. خير المكلمين من حدث بما نفع، وخير السامعين من أحرز ما سمع، وخير ما قيل من الكلم ما قيل لقائله سلم، فاسمعوا الآن لحديث حسن، تخيّرته في سالف الزمن، كنت ممن حبّب اليه مصاحبة السفار، وخفف عنه مفارقة الأوكار، ورأى أن من العجز تفضيل دار على دار، وأنّ من الأسر اتخاذ حليلة وجار، وأن يقعد عن كسب يحويه، ليون تظهر فيه مساويه.
| ||
ما للشباب وللإقامَه | والشيب منتظرٌ أمامه | |
والدهر يسمح تارةً | ويضّن أخرى بالقُلامَه | |
والحرّ يقطع ظهره | أن يجتدي أهل الئامَه | |
فليركبِ الأخطار في | تحصيل ما ينفي الملامَه | |
مالٌ يقيه الذل أو | علم يلقّيه الكرامَه | |
فسيحمد المسعى إذا | أرخى معمّرُهُ حزامَه |
فشددت على وسطي أطماري، وشمّرت لقطع المفاوز إزاري، وأنا إذ ذاك على قُفاز، و مستوفز على أوفاز.
| ||
فلا وليد عن الأرقال يعقلُني | ولا غريم إلى قاضٍ يقاضيني | |
وليس لي غير نعل بتّ أخصِفُها | ومحجَنٍ وقليل العيش يكفيني |
وابتدأت الطريق بأول فرض، وأتبعته بقول اللّه تعالى " قل سيروا في الأرض" مجمعا على ترك الراحه، ملاحظا قول الرسول ﷺ "الموت راحة" تاركا كل فضول مكانه، قاطعا ما بين فرغانه وغانه.
| ||
يوما أكون مع الملّاح ممتطِياً | ذات الدسار على قاموس تيّارِ | |
وتارةً في فسيح لا يصاحبُني | سوى ابن آوى وغير الضيغَمِ الضاري | |
وساعةً بين غوغا لا خلاق لهم | ومرّةً بين بيطار وعطّار | |
وتارةً بين أعلام أفاوضُهُم | فيما يقرّبني من رحمة الباري |
وما همّتي إلّا في حكمة أحويها، أو قصة غريبة أرويها، أو موعظة أسمعها، أو فريضة أركعها، فجمعت مما يهذب الأخلاق، ما ترخص به الأعلاق وما لا يكون بعده إملاق، ورأيت من البلاد ألوفا، ولقيت من أهلها صنوفا، وما رأيت صلاحها إلا بصلاح من ملك، وبعدم عدله هلك من هلك، وتبيّنت الناس جيلا بعد جيل، فألفيتهم وحقّكُم كما قيل. خلق الناس أطيافا، وتميّزوا أوصافا، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للباس والهيجاء، ورجرجةٌ في ما بين ذلك يكدرون الماء، ويكسرون الإبريق، ويغلون السعر ويضيقون الطريق، وتعاقبت علي أحيانٌ، لا أستقرّ بمكان.
| ||
من كان يطلبُ رأس العزّ يملكُه | فالجَوّ والدّوّ في مرآه سيّان | |
لا خير في عيشة في دار مسكنةٍ | لو كان صاحبها في رأس غمدان |
إلى أن أعلن روض الشباب بالاندراس، وآذن نجم الصحة بالانعكاس، فأعملت الفكر في اتخاذ السكن، لما يعرض في الكبر من المحن، وفي اختيار منزل للاقامه، وليحفظ به المرء صاحبته وغلامه، وكنت في زمن تطوافي رأيت صقعا لم ألق إليه بالا، ولا أنعمت عليه سؤالا، لما رأيت عليه من الكآبه، لحادث بين ذوي رحم أصابه، ولاشتغالي بما هو أولى، واكتسابي لما هو أوفق وأغلى، غير أنه علق بقلبي وسمه، وإن لم يحفظ حينئذ اسمه، فصرفت نحو جهته العنان، واتعبت صوبه من أقصى مكان، فوافيته والربيع في عنفوانه، والدوح يرفل في أفنانه، فتخللته تخلل المرتاد، وتصفحت منه الأغوار والأوهاد ونظرت منه ما زان، لتبدل حاله عن الذي كان، فبينما أنا أجول في خلاله، وأتأمل في نسائه ورجاله، وإذ أنا بدمية حوراء، جلست من الأرض غورا، فتأملتها تأمل إياس، فإذا هي مغناطيس الأكياس، فقلت أيتها الحرة، من استخبر المليحة ما ضرّه، أفتأذنين بالسؤال، عما خطر بالبال، فقالت: أما الحرية فليس لي فيها نسب، وإنما أنا أمة مملوكة لمن غلب، وأما السؤال فأمره إليك، فاسأل عما شئت فلا عليك، فقلت: من ملك هذه الذات، فإنه لم يغضه من أمر دنياه ما فات، فقالت قد ملكت مرارا، ولاقيت أحلاء وأمرارا، وإذا رأيت من حسني ما هالك، فإنما هو بحسب المالك، فقلت: لوّح هذا البيان، بالثناء على ربك الآن، فقالت بخ بخ، فخر رسخ، ذلك الفحل الذي لا يقذع أنفه، والفيض لا ينقبض كفه، لم يفته من المحاسن أصل ولا فرع، وسأخبرك عنه بمثل حديث أبي زرع، إنه لرفيع العماد، كثير الرماد، خفيف على ظهور الخيل، ثقيل على أعدائه يوم الويل، راضي الأهل والجناب، رائق للعيون والألباب، ليست شملته بالتفاف، ولا شربه باشتفاف، ولا ضجعته بانجعاف، ولا يشبع ليلة يضاف، ولا ينام ليلة يخاف، فقلت لها يا هنتاه، سبحان من خلقك وسواه، ولولا أن سؤال الشخص عن اسمه، من سوؤ الأدب ورسمه، لسألتك عما، هو لكما من الألقاب والأسما، فقالت: ما تركت شيئا من الجفا، غذ جهلت من لم يكن به خفا، ولكن لا أجمع عليك بين الحرمان والعتاب، فافهم إن كنت من أهل الآداب.
| ||
عمّ ما أنت فيه عن كل حاسد ماكر | تلقَ أمنا من اعتراض المكائد المناكر | |
لا تثق بالكذوب واطلب صديقا | واشكر السعيّ إن ظفرت بواحد شاكر | |
يسهل الخطب غير هذا فأني | نلت في كسب من يليق الشدائد الفواقر | |
يا مريداً على الزمان معينا | سدّ واللّه عنك باب المساعد الموازر |
ثم قالت أعرفتَ جوابك من هذا التحبير، فقلت: أي واللّه وصناعة التخيير، فقالت: بين تلك الصناعة، لأعرف ما عندك من البضاعة، فقلت:
| ||
عم ما أنت فيه عن كل ماكر عايق | تلق أمنا من اعتراض المناكر | |
لا تثق بالكذوب واطلب صدوقا | واشكر السعي إن ظفرت بشاكر | |
يسهل الأمر غير هذا فأني | قلت في كسب من يلين الفواقر | |
يا مريدا على الزمان معينا | سد واللّه عنك باب الموازر |
فقالت: أمنت عليك من البلاده: وعرفت حقك في الإجاده، فقلت، لكني أحب التصريح، باللفظ المليح لتأنس أسماعي، بما تعلقت أطماعي، فتأخرت عني قليلا، ثم قالت فأحسنت قيلا:
| ||
يا طالبَ التصريح يا كيّسُ | صدقت فالتّلويحُ لا يونسُ | |
بل إنما يحسن كتم الخنا | وكيف يخفى الأحسن الأنفس | |
فاسمع إذاً وانعم بها كلمةً | ربي عليّ وأنا تونس |
فقلت لها في أول الاسمين إجمال، وفي الثاني منهما إشكال، وإني في هذه الديار لغريب، فليس جهلي الحال بعجيب، وفيما بلغنا من الأخبار عن الأحبار، أن تونس اسم لذات أسوار لا سوار، وذات أبواب، إن اشكالك لوارد، وله عندي جواب طارد، إنك لما نزلت هذه المدينة، واخترت ركوبها عن كل سفينة، صورها اللّه لك في هذا المثال، كما تصور يوم القيامة الأعمال، لتأخذ خبرها من شخص، ولا تتعب فيه بطول فحص، فقلت: اللّه أكبر، قد تم لي ما سر، ظفرت بجهينه وفقأت من أبليس عينه، وزدتني نشاطا، وملأت قلبي انبساطا، فأني عزمت على استيطان هذا البلد، وركودي فيه إلى الأبد، فلابد من تعرّف أحوال سلطانه، ومعرفة خراج أوطانه، وسيرته في رعيته، وعمل عماله في دولته وحاله مع من يتاخمه، أيفوته أم يقاومه، فإذا استقامت هذه الأحوال، صلحت الذرية والأموال، وعلم جميعها عندك شهير، ولا ينبئك مثل خبير، فاشرحي الحال، وارفعي الإجمال، ولا تحوجيني للمراجعه، فإنها لحلاوة الترسل قاطعه، فامتثلت مقترحي ومالت، ورفعت عقيرتها فقالت:
| ||
ومالكي ما مالكي | غيثُ الزمان الممحلِ | |
تاهَت به أيّامُه | على الملوك الأول | |
فاسمع كلاما جامعا | عن الهوى بمعزل | |
ما نافعٌ إلّا التقى | ولا فتى إلّا على | |
ابن الحسين المرتَضى | عن غيرهِ لا تسَل |
ملاقاته افراح، ومحادثته انشراح، ومجلسه علم يستفاد، أو طعام مستجاد، أو منحة وإرفاد، لا يغفل عن روايه، ولا يسأم من درايه، وأعلق شيء بقلبه من الأناجيل، صحيح محمد بن إسماعيل، فهو هجّيراه، ومن أوثق عراه ولا يزال يسأل عن دينه، ويباحث أهله عن غثّه وسمينه، ويكرمهم كل حين على ذلك، كما تكرم العزيز من عيالك، وإذا غفلوا عن استدرار إنعامه، أغراهم على ذلك بفعله أو كلامه، فربما نثر الدنانير فوق البسط، وقال لمن حاذته: ما هذا التقط التقط فإذا لمّها من استعداه، عدّ أمثالها لكل من عداه، ولقد رأى بعضهم يلتقط الدراهم، وهو للبحث عنها ملازم، فحصبه بقبضة من الدنانير، وقال التقط مثل هذه يا كبير، وعاد بمثل ما ناله في تلك الساعه، على كل واحد من الجماعه، وإذا رأى في بعض صحبه انقباض، نزعه من غير اعتراض، وربما ملح معهم ومزح، إذا نضب الخاطر ونزح، وخلوته لها أطوار، طويلة الذيل في ذكر واعتبار طرفي النّهار، وزلفى من الليل مادّا لمولاه كفه، نابذا كل شاغل خلفه، مخلصا له فيها النيه، مستشعرا حصول الأمنيه. وأما حاله مع بنيه، الذين هم مبلغ أمانيه، فتربية الربانيين، من تعليم أبواب الدين، والترغيب في الحيا والتحذير من الأشقيا، وتحسين الكرم، والعفو عمن ظلم، والنهي عن الاستعجال، وعن الجبن في كل حال، وهلم جرا، مما يصلح الدنيا والأخرى، وقد ظهرت فيهم النجابه، فلتحمد الله أمة الإجابه، وأما حال حرمه، فهم على قدمه، من مراعاة الصلاح، في المساء والصباح، مع أدعية تملى، وسور تتلى، وعبادة تامه وصدقات عامه، ففقيراتهم مكسوّه، ويتيماتهم مجلوّه، وزلّات إمائهم معفوه، وجميع أحوالهم في الغاية، كما تخبرك به الدايه، وأما مدينته، التي هي زينته، فمحط الرحال، ومطمح الآمال، تجارتها نافقه، ومبانيها رائقه، وسلعها ثمينه، ومياهها التي عمها بها معينه، ومساجدها معموره، وبركاتها منشوره، ومرتباته لمدرسيها جاريه، ولا تخلو عن صدقاته الطاريه، وأما خراج بلاده، فقد زاد على معتاده، لكثرة العمارة، بحسن سياسة الإماره، وأما سيرته في الرعايا، وحاله في فصل القضايا، فإن حجابه رقيق، ومخاطبه رفيق، ولا يصدر عن قضية حتى يفهم، ولا يفصلها قبل أن يعلم، وكثيرا ما يندب إلى الصلح، الذي هو خير، ويدفع لإتمامه من ماله إن عجز الغير، لا يمنع الحق ممن استحق، ويستعظم قتل النفس ولو في حق، وكل وقت يتصفح ديوان رعاياه، فيحط عن كل مثقل ما أعياه وزلتهم عنده لغو وقد تمم طاعتهم بالعفو، ومما أصلته الفرس والترك، عفو الملك أبقى للملك وعند جميع الملل، ممن وفق للحق أو ضل، الدين بالملك يقوى، والملك بالدين يبقى. وأما حاله مع تاخمه، فإن حوزته من عدواه سالمه، وأما حال العمال، في هذه الأيام، فاستخبر عنه غيري والسلام. فقلت: أيتها الكريمة، قد أسمعتني مزايا عظيمه، فليس بعدها إلا المقام، تحت إيالة هذا الهمام، وإني عزمت على ملاقاته، لأتيمن بمشاهدة ذاته، وآمن بمعرفته من تسلط الأوباش، فأسلم من إفساد العبادة وتكدير المعاش، أما سمعت يا كريمه، ما حفظ من الأقوال القديمه:
| ||
ولن تبصري شخصا يسمّى محمّدا | من الناس إلا مبتلى بأبي جهل |
أفأقدّم بين يدي ذلك، قصيدة تسهل المسالك، فإنه من سنن سيد المرسلين، ومنهج خلفائه الراشدين، فقالت: بدار بدار، فما بعد العشية من عرار، واذكر فيها فعلته الجديده، التي هي من أفعاله الحميده، وهي قطعة لداعية الخمور، الباقي ذكره بها إلى يوم النشور، فيالها منقبة لم يسبق إليها، ولا وقف في الآثار القديمة عليها لما أنه عجز عنها من قبله، وضرب الله على أيديهم حتى وصلت له، والظن بالله أن يجازيه باللطف به، وأن يجعلها كلمة باقية في عقبه، وجود المطالع، وتأنق في المقاطع، ولا تجعل كل الكلام شريفا عاليا، ولا وضيعا واهيا، بل فصله تفصيل العقود، ولا تكلفه بالخاطر فإن العقد إذا كان كله نفيسا، لم يظهر منه ما كان رئيسا، ولا يتبين كمال وساطته، ولا أعلاه من قاعدته، واقصد القوافي السهلة المستحسنة، دون الصعبة المستهجنة، ولتكن ألفاظ مبانيك، على مقدار معانيك، فالثوب إذا زاد على الجسم كد، وإن نقص عنه فسد، وإياك وثقل الألفاظ، فتنصرف عن بابك الحفاظ، وإنما قدمت لك هذه الوصية، الضامنة لمن عمل بها بلوغ الأمنية، لأن الذي قصدته بمديحك، وأردت أن توقفه على صريحك، أحق بالمدح من كعب بن مامه، وأعرف بجيد الكلام من قدامه، وليس ممن يخدع بالأباطيل، أو يغير الحكم بالبراطيل، فلا تقدم عليه بما يسمع ساعه، ثم يطرح من خزانة الإضاعه، بل بما تتخذه الحور للنحور، وينطبع على صفحات غرر الأيام سطور، وتتأبطه الركبان، لقصى مكان في كل زمان فبادر به قبل رجوع الفي، ولا يسمعه منك حي، حتى تعرضه علي، فقلت: قد حضر ما غاب، فابسريه هل طاب، واسمعي وعي، وليكن قلبك معي.
| ||
طالِعُ اليمنِ مقبلٌ في ازدياد | سالم الكون من كمون الفساد | |
فتحَ الوقت منه للأنس بابا | ياّ باب عليه سعدٌ ينادي | |
فاطو عن جانب التوقي بساطا | وامض طلق العنان نحو المنادي | |
واطرح النصح من ثقيل تعنّى | ربّما كان واحدَ الحسّاد | |
ما صوابٌ قعود من قد هداه | لاغتنامِ النعيم والبسط هادي | |
إنّ من صدّ عن جميل أتاه | كان أحرى بهجره والبعادِ | |
هذه جنّة التهاني تجلّت | بين ممسٍ من الربابِ وغاد | |
في شباب الزمان والأرض حاكت | من غزيل السماء برد الوهاد | |
فانظر الزهر طالعا في بياض | وانظر الزهر صوبّت في سواد | |
يكشف الليل هذه عكس هذا | فالجديدان منهما في عناد | |
وانظر الودقَ كيف يقطب خطواً | بين خاف من الربوع وبادي | |
كلّما لاح في مواطيه خطّ | صوّرَ الوهمُ قبله شكل صاد | |
فالبطاح استبان منها مثالٌ | من قطيف موطّإ في مهاد | |
والربى هودجٌ تحمّل عرساً | أو كبيرٌ مزمّلٌ في بجاد | |
أطلع الوشيُ فيه للعين نوراً | يطلعُ النور في صميم الفؤاد | |
من بياض وزرقة واحمرارٍ | واصفرارٍ وشقرةٍ واسوداد | |
صبغةُ الحق لو تأمّلت فيها | كيف كانت من وحدة من مراد | |
واصغ للطّير واعجبن كيف عادت | تنشط النفس بالحديث المعاد | |
راقها الجو فهي في كل وجه | تسرع المرّ في النواحي براد | |
ما لها تملأ المسامع سجعا | وهي من عظم ما بها في طراد | |
تلك هي التي تعرّفت لكن | زاد ما عندها على المعتاد | |
أتراهُ لحادثٍ حلّ فيها | أم تنادت لحادث في العباد | |
بل تغنّت بابن الحسين علي | عندما سدّ باب كل الفساد | |
حيّهل بالحديث فيه وعبّر | عنه في كل قولة بسعاد | |
ذلك الفجر أجفل الدجن منه | واستوى فيه حاضرٌ والبادي | |
أم هو البدر بل له الفضل لمّا | كان في الأرض طالعاً في الرآدي | |
أعجزَ اللاحقين بعد فخافوا | وهو للسابقين أنف الهوادي | |
واقتنى الشكر والمثوبة لمّا | أبصر العيش صائراً للنفاد | |
صبّح الخلق بعد ضيق بعيش | لم يكن قبل عندهم في اعتياد | |
أشرك الكل فيه من غير فرق | بين عجمي وناطق والجماد | |
أصلهُ الغيث والذنوب عداه | وهو من أجل قطعها في جهاد | |
كم عيوب على الملوك تعايت | وهو يمحي عظيمها في اتّئاد | |
قال للخمرِ مرّة خبّريني | عنك حقّا في المنتهى والمبادي | |
قالت الخمر سترُ ما شان خيرٌ | لو سها عنه باحثٌ ذو انتقاد | |
أنا ما قد علمت قطرةُ ماء | طيّب الأصل جئت من أرض عاد | |
كنت في غربة بأرضك مالي | من مواليك غير خصم معادي | |
لا ليني من الأنام خليلٌ | غير رهط صحبتهم من بلادي | |
عشت فيهم على المذلة دهرا | في احتراسٍ من أمّة لي أعادي | |
ثمّ أجمعتُ بعد ذلك رأياً | أن أوالي جماعة الأوغاد | |
فاستملتُ النفوس منهم بلهو | يوهمُ الغرّ يقظة في الرقاد | |
واستحال القريب منّي بعيداً | هكذا كان أمرهم في تمادي | |
فإذا الهزل عندهم صار جدا | وإذا الناس كلهُم في قيادي | |
يداب المرء لي ويترك أهلاً | من وليداتهِ وذات الولاد | |
فأنا اليوم أكثرُ الخلق جيشا | مهطعين لدعوتي في احتشاد | |
أسلبُ المال حيثما كان منهم | بعد سلبي عقولهُم واقتيادي | |
لم يفتني سوى القليل وأني | لاحتواشي جميعهم في اجتهاد | |
عن قريب ترى الصريخ ينادي | باحتكام الكميت في كل نادي | |
قال أفصحت عن حديث ممض | يمنع العين من لذيذ السهاد | |
لا أرى العيش بعد ذلك يصفو | أو أبكّي عليك صمّ الصلادِ | |
إنّ من كان يحسمُ الشرّ مثلي | ثمّ أبقاهُ فهو بالشر بادي | |
لا وحَقّ البريّ من كلّ ذنبٍ | لا كوتني ذنوبهُم في معادِ | |
لا ولا عقتُ أمّة لحبيب | هو في الخطب ملجأي واعتمادي | |
قالت الخمرُ أظهرَ الغيبُ عيباً | دون ما تبتغيه خرطُ القتاد | |
ليس في الوهم ما تظُنّ وأنّي | لا أهيّي لما توهّمت زادي | |
كم رآنيَ قبل كونكَ صيدٌ | من ملوك زحمتهم في البلاد | |
ما سمعنا بمثل ما قلت منهم | بل لنا عقد ذمّة من مراد | |
غير أنّ القليل قد همّ همّاً | فإذا هو نافخٌ في رمادِ | |
بل أبوك الجليل غيّر رسمي | ثمّ لو عاش كان أعدى العوادي | |
إنّ لي شيعةً من الإنس تبدو | ثم أخرى خميسها غير بادي | |
فإذا رام لطم وجهي زعيمٌ | أعملوا الجهدَ كلّهُ في مرادي | |
ثمّ إني حميتُ ثغري بوفري | فإذا ما استزدت خذ من تِلادي | |
ما تراه فإنّ أحمدَ رأي | أن تؤُمَّ طريقةَ الأجداد | |
قال أخطأت ما حديثُكِ هذا | غيرَ ضربٍ على حديد براد | |
لم يغادر من الحماقةِ شيئاً | من رأى العقل إسوةً في العباد | |
ومن الرد أن يقَلّدَ شخصٌ | ذو اجتهادٍ في حكمهٍ ذا اجتهاد | |
بل من الغيظ أن يخادع كيسٌ | بافتلاذ من كيسه مستفاد | |
وإذا ما دفعت للّه قرضا | ضاعفته يد الكريم الجواد | |
يا لكاع أئن خسفتك خسفا | ينتطح في الوجودِ قرنا جرادِ | |
فاندبي شيعتيك إن شئت حربا | يركبوا للهياج عوجَ الجياد | |
واكتبي لليسوعِ يبعَث شفيعاً | أو برقيا تقال عند الجلادِ | |
ما يميني كما سمعت بصدق | إن رأتك العيون من بعد ساد | |
فانتهى القول عند هذا وتاقت | كل أذن لصدمة الميعاد | |
وامتطى الناس متن عشوا وخاضوا | من زوال الكميت في كل وادي | |
جلّهم يمنع الوقوع ونزرٌ | قال يرجى والبعض في ترداد | |
ثم ما دار دائر السبع حتّى | عاينوا فلّها ببرك الغماد | |
تلك حاناتها أيامى كأن لم | تغن بالأمس أصبحت في حداد | |
ليت شعري أرنّ إبليس منها | مثل ما رنّ للدواهي الشداد | |
فاختبر بعدها اللياليَ تسمع | من حديث مع طوله مستعاد | |
عزمة من أتمّ أكمل حزما | علّمته الخطوب علم الطراد | |
يا أميراً أتى الزمان أخيراً | وهو في الفخر أوّل الأعداد | |
لا غضاضة إنما أنت سرّ | بيّنُ الصدق في حديث العهاد | |
إن يك البر يكسب البرّ عمرا | عشت كالخضر آخر الآباد |
ولما أتممت إنشادي، وأعجبني إيرادي، قالت قد قاربت: يا سكيت أن تجلّيَ بالكميت، فقلت: أذمّ هذا أم مدح؟ وهل أنت في جد أم مزح؟ فما ظننت أن تجبهيني بهذا، ولا أن تتركني قلبي أفلاذا، فقالت: ها أنا أعترف بذنبي، لترجع عن مؤاخذتي وعتبي، إني طبعت على الغيرة من الأفاضل، فلا أعترف بفضيلة لفاضل، وربما فضلت البليد على الحديد، ورجعت من اجتهادي إلى التقليد، وقلت لمن أتى بالأغلى، لو كان كذا لكان أولى، وأخذت في التعديل والتجريح لغير أصل صحيح، وكل ذلك مزاح وطريقه، والا فالحقيقة الحقيقه، على أن اعترافي لك بالإجادة لا يعود عليك بالإفاده، وإنما المعول عليه، من ترفّ هذه الخريدة إليه، فإن جوّزك فأنت النابغه، وإن عجزك فتلك الدامغه، فقلت: قد عرفت مغزاك، وما صاحت به معزاك، فلا يصدني ذلك التغرير، عن بذل الجهد في التحرير، فإنما يسعى العاقل لما يبقى، ولا يتجنب ذلك إلا الأشقى، ثم قالت: عد إلى مؤانسة المجالس، واسمع ما تتحدث به المجالس، إنه لما ماتت أم الخبائث، وعبثت بأهلها الرياح العوابث، اجتمعت أرواح الأدباء للأفراح، وأخذت في مطارحات واقتراح فسمعتُ أحد الجماعه، يقول خذوها بنت الساعه:
| ||
سقاك الغيث يا باب الجزيره | فكم جازتك من حورا عطيره | |
تميل إذا مشت كالسروِ مرّت | عليه الريح في أرض مطيره | |
ويرجع كلّ ذي عين رآها | بكف عن تناولها قصيره | |
إذا ما قال ذو طمع لمن ذا | تقول لمن دراهمهُ كثيره |
فاستظرفه كل من حضر، ثم بدر آخر فذكر:
| ||
ومختصرُ الكلام فهمت منه | قليلا والكثير من الاشاره | |
تملّك سائري وطلبت رفقا | فقال اسكت ففي هذا جساره | |
وأبعد نيله وأودّ أنّي | أعاتبه فتغلبني العباره | |
ولما لم أجد منه اتصالاً | صبحت عشيرهُ وقصدت داره | |
وقلت له أما للخشف مأوى | فقال اطلبه من باب المناره | |
فقلت فتحت من أمري عويصا | فضمّ الميم أعجل بالبشاره |
فطربوا لهذه الأبيات، وحسوا منها ماء الحياة، وأعجبهم مرماها، بعد أن فتحوا معمّاها، ثم استخفهم الطرب، فما منهم إلا من اضطراب، وقام كل منهم على حياله يرقص، ويأتي بمصراع لا يزيد ولا ينقص، حتى تمت الأبيات، وتجمعت بعد الشتات:
| ||
قم بليل يا نديم | واشكر البرّ الرحيم | |
واشكُرِ الباشا عليا | صاحب الخلق الوسيم | |
عالج الخمر فزالت | وهي من داء قديم | |
علّةٌ أحجمَ عنها | كلّ عرّافٍ حكيم | |
صانه اللّه وأبقى | للصراط المستقيم | |
وأرانا في بنيه | كلّ أنواع النعيم | |
وجزاهم بعظيم | وفق ذا الأمر العظيم | |
فعلةٌ يعنو إليها | من له قلب سليم | |
صدقوا إذ أرّخوها | أبطل الخمرَ كريم |
ثم لما قضت نهمتها، وبلغت من الحديث، أمنيتها، قالت: إلى متى قعودك عن الغرض، وتأخيرك لأمر مفترض، فاجمع عليك الأثواب، وبكر بكور الغراب، وئق الأمر من بابه، واستعن على كل صعب بأربابه، واترك في طريقك المرا، ولا تلتفت إلى ورا، فابتدرت الطريق الجاده، واستسهلت فيها العوارض الحاده، حتى وقفت على السطان السعيد، فإذا هو فوق ما نريد ورأت منه العينان، فوق ما سمعت منه الأذنان، فألقيت له ما في جرابي، حتى استفرغت ما في وطابي، فلما وعى قصتي، وأساغ من حينه غصّتي، قال: ما اسمك أيها الودود، فقلت له: سعد السعود، فقال: باسمك الفال: وعلى الله الاتكال، فرحم الله صاحب فتح الباري، إذ أنشد في شرح البخاري:
| ||
تفاءل بمن تهوى يكن فلقلّما | يقال لشيء كان إلا تحقّقا |
فقلت: الحمد لله على الموافقه، فقال: ولك مني المرافقه، فها أنا أمرح في ظلاله، لا يطرقني طارق بمجاله، سائلا من المولى المتعالى، بقاءه لي ولأمثالي، فهل سمعتم يا اولى الأبصار، بمثل هذا في الأخبار، قلنا ومكوّر الليل على النهار، فقال: اقتدوا بي في قصدي لهذا السعيد فاقصدوه، فلعلكم إن شاء الله تحمدوه، وتنهلوا من فواضله وتعلّوا، وعليكم السلام والرحمة أينما تولّوا.