→ المقامة الخمرية | المقامة الباهية محمد الورغي |
المقامة الختانية ← |
المقامة الباهية
أحمد الله الذي أظهر في كل شيء آياته، وأصلي وأسلم على من البلاغة أعظم معجزاته وعلى آله عيبة الاصطفا، وصحابته إخوان الصفا، وأسترحم الله حشاشة يستهويها النسيب، ويرجعها إلى الشباب من المشيب:
| ||
ذكّرتها العهود نغمةُ حادي | فاستقلّت مشوقةً للمبادي | |
ثم حنت لإلفها فهي نهبٌ | بين ذاك الندا وهذا المنادي | |
ان مضت قدمها تقل يا طريفي | أو لوت خلفها تقل يا نلادي | |
لا عليها إذا صفت من عذول | أن تهيم الغداة في كل وادي | |
يا رعى اللّه جيرة قد اقاموا | وسقى الظاعنين صوب العهاد | |
في سبيل الغرام صبرٌ تداعى | يوم زفت مطيّهم في الهوادي | |
إذ تنادوا إلى الرحيل صباحا | يا صباح الرحيل يوم التنادي | |
ذاك جور الوداع فيه اخترطنا | من عيون الوشاة شوك القتاد | |
واختلسنا فما اشتفينا وكدنا | نخلطُ الدمع لو عدتنا العوادي | |
تلك أشباحهم مضت أتراهم | يمّموا النجد أم بطون الوهاد | |
أن يكونوا تفرّقوا عن عياني | فمحلّ اجتماعهم في فؤادي | |
ليت شعري أعندهم بعض علم | بالذي عند عبدهم من وداد | |
لو يجازى على الوفا بجميل | كان لي عندهم بلوغ المراد | |
سوف أحكي لطيفهم ما جرى لي | أن ألمّوا وذقت طعم الرقاد |
يا فرسان ميادين الكلام، وأرسان أفانين المرام، باكر ربعكم مغدق السحاب فصنّف وبادر سمعكم ريق الخطاب فشنّف هذه أعزّكم الله هزّة ارتياح، ونخبة امتياح، يسفر صبحها عن عيون أعلام ويطلع في أفقها شموس أحلام، فهل تفسحون لها ذرعا، وتفتحون لها قلبا وسمعا، فلا تضجروا بشكواها، فالفنون جنون ولا تتبرموا بنجواها، فالحديث شجون ولعلكم تسمحون بالقبول، فتستمعون لما تقول: إن أبا عذرها، المطلعكم على سرها، ممن نشأ مذ شب، بين أزهار رياض الأدب يستنشق منها نفح الطيب، ويهصر من أغصانها الرطيب، ويسمع من أطيارها الأغاني، ويتعرف من أصواتها البيان والمعاني، ويتتبع مساقط افنشا، كلما تبلج صبح الأعشى فيلتقط منها قلائد العقيان، ويضرب بها المثل السائر في الاستحسان، ويهيم ببديعها ويتطنف، فيأتي منه بالغريب المصنف، حتى نظم منها سلكه، وشحن منها فلكه وساجل عمر في بني مخزوم وقال في المناجزة أقدم حيزوم ولما راجت سوق المليح وطلب، من متاجرها الصفيح، وحضر الناقد والمحك، لئلا يصدر العاقد على شك أبرز ما يترجل له الخميس. ويعترف بنباهته ابن خميس، وتتنافس في اقتنائه الملوك، وتتضاءل له الغزالة عند الدلوك، فما عرجت السماسرة إلا عليه، ولا طمحت النفوس إلا إليه، فهناك تبينت الشيم وتمايزت القيم وأبعد المقصر فكدم وندم حيث لا ينفعه. الندم، وأحل المجيد، محلّ القلادة من الجيد، ولبث على تلك الصفة العجيبة، يجلو كلّ يوم غريبه، إلى أن أظهر الدهر القطوب، وأطبق الغارة ليل الخطوب، فتمزّق ذلك السمط شذر مذر، ولم يبق من درره عينٌ ولا أثر، فإذا هو منبوذ بالعرا، محطوط إلى الحضيض من الذرى والذئاب تعبث بكسبه والكلاب تنبح بسبه، وكأنه لم ينقد له الزمان مواتيا، ولم ينزل على آل المهلب شاتيا، ونظر إلى المعاهد بعين حيران، وقام في تأبينها مقام غيلان، مستوحشا من أسماء لا تتعرف، ومنصرفا عن أفعال لا تتصرف، فبينما هو يتنفس الصعدا، ويقول: ما لي لا أرى أحدا، إذا شبح من مكان التقريب، فقال: أخوك أم الذيب، فقال: سينكشف همك، فربّ أخ لم تلده أمّك، فهذا سلوان المطاع لا يعدّ ما فيه من سقط المتاع، فاستأنس به في وحشتك، واجعله سمير ليلتك، فربما نفعت المخالطه، ونقه المريض بالمغالطه، فتلقف منه المنشور وما ردد، وصوب النظر في سطوره وصعد، فأبصر حلبة تروق، وجماعة تشوق، تناسبوا في الأقدار، وتباينوا في الأقطار، يجيلون قداح اليراعة، ويديرون أقداح البراعة، بين مقيم لمقامه، رفع بها راية قدّامه، ومعلق لشرح، كوشاح على كشح، ومنشد لقصائد، للقلوب مصائد، لا يتمسكون بالحطيط الواهي، ولا يقصدون غير الوجيه الباهي، وغير الحقيق بالتبجيل، ولده المهذب إسماعيل، معلنين بمناقبها الغرا، منوهين بدارهما الخضرا، فدخل معهم في حديث مؤنس، وقال: دونكم ما قلت في تونس:
| ||
باشر سعودك ليس الوقت بالدون | واجعل صبوحك عند باب سعدون | |
واصحب إلى الأنس جذلان الفؤاد إذا | طغت حميّاك قاد الصعب باللين | |
ماذا التوقّف عن عيش تسرّ به | وقطع آنك في حدس وتخمين | |
فاخلع عذار التوقّي من عواقبه | ما الحزم تركك قطعيّا لمظنون | |
أما ترى الروض قد ألقى السحاب به | على طريق الغوادي أيّ بزيون | |
قد وشحته فنون النور وانبسطت | على خمائله ظلّ الأفاتين | |
كأنما قزح لما تقوّس في | ارجائه رشّه من كل تلوين | |
وقف هنا بأبي فهر المحيل فقد | مضت به دولة الشم العرانين | |
تر الحنايا كسطر النخل مدّ به | بعض لبعض بمحنيّ العراجين | |
أو خرّدٍ نهضت للرقص فاعتنقت | كيلا تجيء برقص غير موزون | |
ولست صاحب ظرف إن مررت على | مرسى الظريف ولم تنزل إلى حين | |
والعبدليّات تحكي في تصنّعها | ضرائراً جئن في غنج وتزيين | |
وما مقيم لدى الأفيا بسكّرة | على القلالية الغنّا بمغبون | |
ولو وقفت بقلمرت التي جمعت | شطوطها بين مرعى الظبي والنون | |
ومل لمنّوبة وقت العشيّ إذا | ماج الأصيلُ بها بين البساتين | |
وانظر إلى القصر والأخرى تناظره | مثل البيادق طافت بالفرازين | |
والطير تصدح في حافاتها زمرا | جموع عجم أتت بعض الدواوين | |
ورح لرادس العليا وقبتّها | بين الفرادس تبدو مثل شاهين | |
حتى إذا ما قضيت البعض من وطر | ورمت إيقاع فرضٍ بعد مسنون | |
فاركض إلى ضحوة المركاض وانس بها | ما كان عندك من وحي الشياطين | |
واحضر عشيّة باب البحر مغتبطا | فربّما نفّست عن نفس محزون | |
أمّا ترنجة فهي البرء لو سلمت | ساحاتها الفسح من لسع الثعابين | |
وادفع إلى البيت من باب المنارة أو | باب الجديد إلى سوق الرياحين | |
وطف من البركة المعمور جامعها | إلى الرباع إلى ركن القرصطون | |
واخش الجمار لدى بئر الحجار إذا | سعيت منها إلى حمام زرقون | |
وإن خرجت إلى روض السعود فقف | كما عرفت وبت في درب زيتون | |
تلك المنازل لا الزهرا وقرطبة | كلا لعمري ولا غيطان جيرون | |
فصد سوانحها إن أمكنتك وإن | تعسرت فاستعن بمثل فركون | |
ولا تصد غير ساجي اللحظ ذا حور | فأنت في غير هذا غير مأذون | |
واستمنح السعد من عند الجواد به | واستغن إن نلته عن كنز قارون | |
ولا تقل كيف يدنو ما أوملّه | فإن مغزاك بين الكاف والنون | |
هبّ النسيمُ مع العشي عليلا | فارتد ثوب الروض منه بليلا | |
وسقت بنات المزن أخلاف الندا | ودعا لها سرح الرياض كفيلا | |
حتى إذا ما الطل جفّ تنفّضت | فترى لها من نضجها تعليلا | |
يا صاحبيّ وما دعوت مشقّلا | عوجا على تلك الربوع قليلا | |
تريا ابتزاز الأرض حلّة أختها | قبل الظلام وردّها مسدولا | |
والنهر من خلف اليفاع كمعصم | ضمّت به إحدى الحسان سليلا | |
والغصن يعطف من عليه كعاشق | أو ما إلى معشوقة تقبيلا | |
والورق في جلب الهوى بنعيرها | تحكي قساوسة تلت انجيلا | |
والشمس وجه في مؤخر هودج | يهوي به عبل السنام ثقيلا | |
والنور في فيء الأصيل كعوم | لم تبد إلا هامة وتليلا | |
زمن يرنّحه السرور إذا رأى | بسجية الباهي له تمثيلا | |
خلق يزيد الخبر في تسعيره | تسعا وتحسوه العقول شمولا | |
من ماجد تلقاه إن ذكر الوفا | فردا وإن كلح الزمان قبيلا | |
يرتاح للباغي السماح وربما | بدر السؤال ولا يمنّ منيلا | |
ويقوم في حفظ الإخاء بسنة | من محكم لا يقبل التأويلا | |
ويظل في صون الشريعة جادعا | أنف الوساوس بكرة وأصيلا | |
في منبت فصلانه كفحوله | طيبا كما نسل النخيل نخيلا | |
فإذا دعوت بأحمد في خطّة | فكأنّما ناديتَ إسماعيلا | |
ذاك ابنه يرضيك إن جربته | فتضمّه دون الرجال خليلا | |
سبق الذين تراهنوا فتسارعوا | قبل النزاهة واللطافة ميلا | |
تأبى المنابت أن تجور نباله | والأصل إلّا أن يكون نبيلا | |
كالسيف تحمله أخفّ مؤونة | ولدى المخاوف تنتضيه صقيلا | |
ناهيك من من ناس إذا شاهدتهم | ألفيت وقتك للنجاح سبيلا | |
حيّاهمُ البرق المبشّرُ بالحيا | وبقوا على رغم الحسود طويلا |
ثم اشرأبّ إلى صاحب الشرح، وخاطبه من قنّة ذلك الصرّح ملوّحا لصاحب المقامه، إذ لا يدرك التصريح مقامه، وقال تيسّرت لك الأسباب، يا عبد الوهاب، رفعت النقاب عن عروب أعراب طالما قذفت بخطّا بها، وصرفته عن بابها، وصدت الرئيس، ولا قالت زوج من عود، خير من قعود، بل شمخت عن العجفا، ولم ترض إلا الأكفا، حتى سمعت بغروبك عن سمت حلب، وطلوعك في أفق الروم أم الرتب، ونمّ عليك نور النيرين، وشهد لك عدول المصرين، فوافتك من الفسطاط، في الهودج الأطّاط، جاعلة يدها في خصر، قائلة: أنا من يوسف مصر، تلوح بذلك المقال، إلى مثار الصون والجمال، فلو لم تكن لها صفوا، لما قطعت لك البحر رهوا، ولما ظهر لها منك ما ظهر، وشاهدت ما ناف على الخبر، أطلعتك على خفي سرها، وألحقتك بحفي برها، فحدثت عن ليلتها، بما زاد في حليتها فأتيت بالصحيح، في اللفظ الفصيح، وعرفت الحسن، فخلعت فيه الرسن، وشمت الضعيف، من تحت النصيف. فجئت من ذلك العجاب، بما ليس في حساب، فوحقك قسما، ارفع به علما، ما هذا العيش الهي، إلا من مائدة عبد الغني، البدر اللياح، الواضح الفلاح، راسخ المفاخر، محيي الدين الآخر، أبوك في المعارف، وشقيقك في العوارف، فغير بديع، أن تسبق البديع، ولا ببعيد أن أن تكون رب الطالع السعيد، فحق على أبيها أن يزيدك تنويها، وعليك أن تدأب في مواتاته، لما هذب من أخلاق فتاته، وليس واحد منكما بخامل، فيرفعه مجزوء الكامل:
| ||
هذي المخايل تشهد | فلما تروغ وتجحد | |
كذبتك نفسك ما الهوى | يخفى على من ينقد | |
أرأيت إن عميَ السرّى | أفلا يدُلّ الفرقد | |
صرح بمن تهوى ودع | ذاك العذول يعربد | |
أو فاستمع منّي فما | أمر العيافة يبعد | |
ألقتك بارعة الدما | في سامر يتوقّد | |
خودٌ وخدّك شاهدٌ | لمّا غدا يتخدّد | |
لو لم تهم بنهودها | لم يبد منك تنهّد | |
زارتك بعد تشّوف | أخطاك فيه الموعد | |
فخطت إليك ودونها | حيٌّ لقاحٌ ايّدُ | |
تدنو وحول قبابها | حرسٌ يقوم ويقعد | |
وتخاف وشيَ شنوفها | فتضمّها أو تفرد | |
وتجيل من خلخالها | بعضا وبعضا تصفد | |
لأيا تخلص سرها | من قائفٍ يترَصّد | |
حتى ظفرت بدولة | منها وغاب الحسّد | |
ونظرت بدر دجُنّة | في بانة يتأوّد | |
ولثمت أشنب كلما | شبّت جمارك يبرد | |
وضممت روحا لم تصل | لولا الوشاح لها اليد | |
تجني عليك بدلّها | وبقلبها تتوَدّد | |
ويكاد فرق جبينها | يومي إليك فتسجد | |
وذهلت في تشبيهها | إذ قلت فيها العسجد | |
ولو اهتديت لقلت في | تشبيهها ما يحمد | |
مددٌ من الوهّاب كا | ن لعبده يتجدّد | |
السيد السند الكريم | الألمعيّ الأوحد | |
يا من توقّدُ ذهنه | ينماعُ فيه الجلمد | |
كيف اقتحمت عميقها | والبحر طاغ مزبدُ | |
أم كيف صدت قصيّها | وهي الظباء الشرّد | |
ولهي بهاما ينقضي | ولهيبا ما يخمُدُ | |
وإذا كنيت بنعتها | فإلى الحقيقة أصمد | |
هذي خزائن مصرفي | أكناف تونس تنفد | |
إن كان يوسف ضمّها | فلأنت منها المرفد | |
ذاك الإمام الجهبذُ ال | أرضى التقي الأرشد | |
فمن المجلّي منكما | وله الجواد الأجود | |
بل جئتما فرسَي رها | نٍ واليدان به اليد | |
فإذا جرى وصفاكما | سبق المثنّى المفرد | |
لا للخصوص وإنّما | أمرٌ قضاهُ المورد | |
فلَهُ البداية خيرها | ولك الختام الأسعدُ |
ثم قعد بالوصيد، لأصحاب القصيد، وأومأ بالرأس والأيدي، لأبي العباس أحمد هويدي، وقال: أبو كبير، خير من أبي كثير، علق نفيس، وطود جلالة رئيس، يعبق لذكره العبير، ويهتز لرؤيته ثبير، لم يطلع بدر الشعر إلا في سمائه، ولم يثمر شجر النثر إلا في فنائه، محله منتدى الأدبا، ومألف الغربا، يبرّ بهم برور الوالد، ويمرحون منه في نعيم خالد، ويفسح لهم في سوحه، ويكاد يسخو لهم بروحه، فيالك من رجل، لم يدن مذ عقل لريثبه، ولا صدرت منه نميمة ولا غيبه، ولا نطق بهجر، ولا رحل لصفقة خسر، ولا أخفر ذمة صاحب، ولا أخل من الصيانة بمسنون ولا واجب، وقد مدح الشيخ المذكور بكل مقال، مع كثرة التكاليف والأشغال، مستمر على ذلك إلى الآن، والله يحفظه بما حفظ به القرآن، ثم ختم كلامه بشقيق منشيء المقامة إذ هو المشير، بذلك الأمر الخطير، وقال هو أستاذ المعارف وإمامها، ومن في يديه زمامها، وحامل لواء الطريقه، المشرف منها على عين الحقيقه، ماذا أقول فيه، والذي ملأ الكون يكفيه:
| ||
يا أهل مصر جادكم | صوب النعيم الدائم | |
أنتم على علاتكم | نغبة صدر الحائم | |
لأنكم دون الورى | فزتم بذاك العالم | |
الحفنويّ الشافعي | محمد بن سالم |
فيا وجهة خطابي، ومفرغي وطابي، هل عرتكم من هذه النغمة هزه، وهل صادف الغريض بها محزّه، فعليكم من مديرها السلام، ولا زلتم تنشقون طيب هذا الختام، والحمد لله.