→ المقامة الباهية | المقامة الختانية محمد الورغي |
مقامات الورغي ← |
المقامة الختانية
رب يسر ولا تعسر حدثنا بعض الثقات، ممن تحيا بهم القلوب الموات، قال: كنت ممن تعلق بالأدب، وجعل اقتناءه غاية الأرب، فاستسهل في تحصيله الأوعار، واستقرب له بعيد الأسفار، واستعظم منه ما رأيت، واستثبت من بديعه ما رويت، فبينما أنا على كاهل الاغتراب، مستأنسا بالبعد عن الإقتراب، إذ أنا بجماعة في بعض الأركان، قلما يظهر مثلهم في الإمكان، وهم في مخاطبة تستعبد الأحرار، ويسلو بها الغريب عن الأوكار. وملخصها أن هناك قصيدة أنشدت من نبيه، في تهنئة سلطان زمانه بختان بنيه، وكل منهم يكيفها من الحسن بكيف، وكادوا يعلقونها برأس الشريف، وقريب منهم قيد ذراع، مخزنبق لينباع، قال لهم لما استفرغوا من استقرائها قواهم، وصدرت بأعجازها لأهل زمانهم فتواهم، لو اسمعتموني تلك الفريده، حتى أنظر في أمر هذه القصيده، أهي صحيحة فتحمدوا، أم سقيمة فترشدوا، فكأنهم نظروه بعين الاحتقار، فأسقطوه عن درجة الاعتبار، فقال: ما لكم صددتم عني رغبه، وهل عليكم من إنشادها من سبّه، فاعلموا أن الرجال لا تدخل تحت قياس، والمنح الإلاهية لا تقمع بالإياس، فقربوا محله بعد أن أبعدوا، وطمعوا في إنائه عنهم فأنشدوا:
| ||
سرورٌ عم حتى ما عرفنا | مهنّي العالمين من المهنا | |
وأفراحٌ تروّى الدهر منها | وصفّق وانثنى طربا وغنّى | |
وهز الملكُ عطفيه اختيالا | كما هز النسيم الرطب غصنا | |
وأقبلت الخلافةُ وهي تيها | تبخترُ مشيةً وتجُرّ ردنا | |
هنيئاً للمليك بيوم ختن | ملا الآفاق إحسانا وحسنا | |
أقر عيون أهل الأرض فيه | سرور لم يدع في الأرض حزنا | |
لقد رأت الخلافة من بنيها | بحمد اللّه ما كانت تمنّى | |
رأت أشبال ضيغمها لديه | مشابهة له صورا ومعنى | |
ومن يشبه أباه فما تعدّى | وهل للّيثِ إلّا الأسد ابنا | |
لقد نشر الختان الفضل عنهم | وصرّحَ عن شمائلهم وكنّى | |
مشوا نحو الختان بلا اختيال | وقد شحذ الحديد لهم وسنا | |
فما ارتعدت فرائصُهم لديه | ولا نكصوا على الأعقاب جبنا | |
ولكن زاد أوجههم ضياء | وأجزل في طلاقتهم وأسنى | |
فلا تتعجّبوا لمضاه فيهم | فإنّ رضاءهم قد كان إذنا | |
ولو نظروا الحديد بعين سخط | تصدّعَ واكتسى ضعفاً ووهنا |
فاستشرفها استشراف المطل، وتأملها تأمل المشمعل، ثم قال: يا قوم لو لا أن الحسد قد غلب، ومتطلب الإنصاف في تعب، لقلت لكم: إن هذه اليتيمه، لا تستحق هذه القيمة، ولكن إذا رفع المحسن إلى مقامه، ونزل بالمسيء إلى رغامه، زاد المحسن في إحسانه، وربما أناب المسيء عن نقصانه، وجرت الأمور على سداد، وإلا فالفساد الفساد، فإن تضمنتم لي بالإنصاف، أفدتكم غريب الأوصاف، فقالوا لنا شرطك وزياده، فعجل لنا هذه الإفاده، فأخذ القلم في الحال، وخط على الصحيفة فقال:
| ||
وفي لك بالمراد وما تأنّى | ختان عمّ بالحسنى وثنّى | |
وأنعش كل روح منه روحٌ | فما أبقى بها قلبا معنّى | |
وأضحك بالبشاشة كلّ سن | وليس به سوى الشيطان أنّا | |
تقول له القلوب وقد سباها | إلى وطن المسرّة أين كنا | |
فتحسب أن يقظتها منامٌ | وأن يقينها قد عاد ظنّا | |
سقتها الصرف من خمر التهاني | يدا دهر بذلك كان ضنّا | |
ولا لوم على من هزّ عطفا | من الخمر الحلال وان تغنّى | |
فحسبكَ أن قنعت به سرورٌ | مهنّي العالمين به مهنّا | |
تلقّى الملك منه بشير فتح | وقد قرأ النهى إنّا فتحنا | |
وأصبح من بنيه على يقين | بما لهم ترجّى أو تمنّى | |
وأعجبه تسارعهم لحربٍ | تحيل شجاعة البطال جبنا | |
رأوا بذل النفيس إذا تأتّى | لأبلغ في النفاسة ليس غبنا | |
فما اكترثوا بشيء صد عنه | ولا بعثوا إلى الفولاذ أذنا | |
وما بدعٌ جبالٌ من عقولٍ | تناطُ بمشبه الأغصان وزنا | |
وأبله بالمزَيّن حيث أهوى | ليقلم من جنان الحسن غصنا | |
تنزه عالم الأرواح عن أن | يكون بعالم الأجسام مضنى | |
فكم ملك يوازن كفّ رامٍ | فيقضى عند رميِ الأنس شأنا | |
وكم دم جرى من غير جرحٍ | وشمّ الطيب قد أجراهُ منها | |
فما وجدوا من الختّان لمسا | ولا شحذ الحديد لهم وسنا |
فلما وصل إلى هذا الحد، قال: دونكم تمام الوعد، فقد عورضت أبياتكم بضدّها، وإن زدت أربعا على عدها، فقالوا له: مهلا مهلا، ولا تقطع هذا المستجلى، وزينه بذكر السطان، صاحب هذا الختان، فإن التنويه به فرض، وحبه حق على أهل الأرض، فزجر قلمه لطريقه، ولم يمهله إلى ابتلاع ريقه، وقال:
| ||
ومن قاس الملوك على ديوك | يُسَنّ لها الحديد فقد تجنّى | |
وما قلنا الملوك لكي نسوّي | بلفظ الملك بين الكل معنى | |
أولئكَ ما لقوا في الفضل ندا | كوالدهم به لم يلق قرنا | |
ولست بواجد أخرى الليالي | كذاك موفّقين أبا وإبنا | |
على أن العوارف من أبيهم | تعرفهم أوان الخوف أمنا | |
صلاة المرء تصلح من بنيه | وتدخلهم عن الأسواء حصنا | |
كذا فنّ القريض وإن ذكرنا | علي بن الحسين يزده فنا | |
همامٌ همه أقصى المعالي | وهمّ الناس منه ما تسنّى | |
أقلّ تكلفا وأجل حلما | وأضخم همّةً وأدقّ ذهنا | |
بظاهر برّه نفع البرايا | وأضعاف المشاهد قد أجنّا | |
يزيدك كلّما تلقاه أخرى | على الولى من ألإحسان لونا | |
ويحمي كل من وافى حماه | سوى من جاءه ليثير ضغنا | |
فكان له على الدنيا وداد | يقاوم ملأها سهلا وحزنا | |
ولما لم تقم بأداه فورا | وكان لمعسر الغرماء هينا | |
تقاضى بعض واجبه فأغضى | وقد أبقى على الأيّام دينا | |
لهذه والبشاشة في التلاقي | ومهما غبت عن مرآه حنا | |
تودّ لو أن تباع له حياة | ويأخذ سائر الأحياء رهنا | |
فيا ملكا يغار عليك شعري | فإن وافاك أحسن منه جنّا | |
بفضلك لا تلمه إذا رماه | بساحرة من الشعار غنا | |
تمُرّ به فتصرعه سريعا | إلى مثواك ما أرضاك حسنا | |
فإن فاقت فقد هذّبت قبلا | مهذّبها إلى أن صار شفنا | |
وإن ظفرت بعتب منك كانت | به أعنى لتفتح منه عينا | |
لبعدك أن تجيء به جزافا | وأبعد منك أن تبديه طعنا | |
فلا زالت سعودك في ازديادٍ | بها في كل آونةٍ تهنّا |
فلما وقف قلمه عند هذه الغايه، وختم بالحمد لله على النهايه، قالوا له: إن هذا قول يقابل بقول، فأرنا ما تحصل به الطول، قال: أجل عليّ البيان، فاسمعوا، وغذا سمعتم فعوا، وغذا ضربت لكم مثالا فاقنعوا، فإن المثال الواحد للذكي، أنفع من الألف للغبي، فانظروا أسعدكم الله إلى المطالع كيف تباينت، وفيما بعدها من الأبيات كيف تمايزت، فإن الطالع الأول حسن الفتح بالسرور وعمّم، وغيّا عليه وتجاهل فيه وما تمّم، ثم انه أسقط عروضه عن ضربه في الغنّه، وركب بارتكاب الضرورة فيه وخز الأسنه، والثاني حسن المفتح بالوفاء بالمراد، بعد أن ضمنه عدة الأجواد، وخاطب الممدوح فتلذذ بخطابه، وأنجز الوعد ولم يؤخره إلى تطلابه، وعيّن مثار الوعد، وعمّم حسناه، ولم يقتصر على وحدته بل ثناه، مع سلامة لفظه مما غرب به الأول، وإن كان يتمحل له من يتأول، غذ الطالع ليس كغيره في التشديد، لأنه أول ما يقرع الأسماع من الأناشيد، وتأملوا ما تحت لفظ المراد من الأمور، وإلى قصور لفظ السرور المذكور، وتتبعوا بقية الكلام بهذا النمط، فلعلكم تقفون على مواقع السقط، من المعاني المتداخله، والألفاظ المتخاذله، حتى تصلوا إلى مصراع الحديد، فتجدوه في المواجهة غير سديد، فهل تروني في هذا القول تعصبت، فقالوا: كلا وحرمة الأدب لقد أصبت، فاليك يساق الحديث، لمعرفتك بالطيب والخبيث، فجوزيت بالحسنى وزياده، وختم لنا ولك بالسعاده، والسلام.