الفصل الخامس والثلاثون | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني حاجي بابا يتعرف على رجل وامرأة في ضائقة فيعطف عليهما المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل السابع والثلاثون |
الفصل السادس والثلاثون. حاجي بابا يتعرف على رجل وامرأة في ضائقة فيعطف عليهما
كان الشاه في ذلك الحين في حرب مع الموسكوفيين الذين تغلغلوا في جورجيا وباتوا يهددون المقاطعات الحدودية الفارسية بين نهري كورا وآراس. وكان حاكم يريفان الذي يحمل لقب السردار، أي اللواء، ومن أفضل القادة العسكريين لدى الشاه، قد افتتح الحملة من زمان بهجمات متفرقة على المواقع الأمامية للعدو وبتدمير القرى والأرياف على طول الطرق التي يرجح أن يسلكها العدو في حال قرر التقدم نحو بلاد فارس. كما تجمّع الجيش قرب تبريز بقيادة ولي العهد وحاكم مقاطعة أذربيجان الكبرى، وكان من المفترض أن يدخل في الحرب مباشرة ويحمل العدو على التقهقر إلى تفليس إن أمكن، ووفق لهجة البلاط أن يحمل سلاحه ولو حتى أسوار موسكو.
وكان المعسكر الملكي في سليمانية باتنظار الأخبار من السردار عن الهجوم الذي أعلن نيته بشنه على القاعدة الروسية في غومشلو، وأعطيت الأوامر للتحضير للاستقبال المناسب لرؤوس العدو كما جرت العادة عند إعلان الانتصار إذ لم يكن هناك شك بأن الهجوم لا يمكن إلا أن يظفر بالنصر. وأخيراً شوهد مراسل يعدو بحصانه نحو المعسكر بالسرعة القصوى. وأحضر معه خمسة خيول محملة بالرؤوس، وهذه وُضِعت أكواماً أمام المدخل الرئيسي إلى خيم الشاه في احتفال مهيب، ولكن اتضح حدوث ظرف ما تطلّب إرسال تعزيزات عسكرية، لأن في صباح اليوم التالي تم تعيين رئيسنا نامرد خان قائداً لعشرة آلاف فارس وتلقى الأوامر بالانطلاق على الفور نحو ضفاف آراس.
شوهدت في الحال حركة في كل أرجاء المعسكر حيث كان رؤساء الآلاف ورؤساء المئات ورؤساء العشرات يستعجلون في شتى الاتجاهات ويجتمعون مع رؤسائهم ويتلقون أوامرهم. امتلأت خيمة نامرد خان بقادة الحملة يوزع عليهم توجيهاته ويعطيهم الأوامر حول ترتيب المسير ويحدد لكل قطعة محطات إقامة في القرى على طريق المسير. وكانت مهمتي أن أسبق الجيش بمسير يوم واحد ومعي تشكيل من النسقجية لترتيب إقامة العسكر في القرى، وهي مهمة تحتاج إلى جهد وهمّة ونشاط، وفي الوقت نفسه تحمل منافع من شأنها أن تملأ كيسي لو استغللتها كما يجب. ولكن المثال الحي لمصير شير علي بيك ما زال ماثلاً أمام عيني، فأخمدت الرغبات التي كادت تملأ صدري بجمع الأتاوات والرشاوى، فصممت على أن أحافظ على نظافة يدي وأن أخمد نيران الطمع بمياه رجاحة العقل.
انطلقت مع رجالي ووصلت إلى يريفان قبل الجيش ببضعة أيام، ووجدنا فيها السردار الذي انسحب بعد هجومه على غومشلو بانتظار تعزيزات الفرسان بقيادة رئيسنا. تابع الجيش بقيادة ولي العهد إلى موقع حدودي آخر ينوي مهاجمة قلعة كنجة التي استولى العدو عليها مؤخراً، فلم يستطع التخلي عن أي قوات للسرداد مما اضطره لطلب التعزيزات من الشاه.
وحالما التقى نامرد خان والسردار وتشاورا تقرر إرسال الجواسيس فوراً لاستطلاع مواقع الروس وتحركاتهم، وتعينت على رأس فصيلة من عشرين رجلاً أرسلهم نسقجي باشي، وعدد مماثلاً أرسلهم السردار ليدلونا في هذا الجزء من البلاد الذي كنت أجهله تماماً.
تجمعنا في آخر النهار وانطلقنا مع أذان المغرب، سالكين طريقنا إلى قرية آشتاراك تاركين دير إتشميادزين، وهو مقر البطريرك الأرمني، إلى يسارنا. وعند الفجر وصلنا إلى جسر آشتاراك، وكان لا يزال غارقاً في الظلام الحالك بسبب ضفاف النهر المرتفعة التي كانت تشكل جدارين على جانبيه. أما القرية الواقعة على حافة الهاوية وصلها ضوء الفجر ليمكن تمييز بيوتها عن الصخور التي شيدت بينها. وأضفى خراب مبنى شامخ ذي عمران بديع لمسة بديعة على هذا المنظر المهيب. وأخبرني رفقائي أن هذا المبنى بقايا واحدة من الكنائس الأرمنية التي تنتشر في هذا الجزء من فارس. كان النهر يتدفق في مجراه المظلم ورأينا في هذا الظلام الزبد فوق أمواجه ونحن نجتاز الجسر. أيقظ وقع حوافر خيلنا على حجارة الجسر كلاب القرية فشرعت تنبح، وتوجهت عيوننا نحو بيوت القرية، حين صاح أحدنا: «يا علي! ما هذا؟» وأشار بيده إلى الكنيسة: «ألا ترون شيئاً أبيض هناك؟»
فقال آخر: «نعم، أراه، إنه غول! لا شك أنه غول! ففي مثل هذه الساعة تخرج الغيلان بحثاً عن جثة تلتهمها. انظروا، بل أنه يأكل جثةً الآن!»
وأنا أيضاً رأيت أن هناك شيئاً، ولكني لم أتمكن من تمييز التفاصيل.
توقفنا على الجسر ونحن ننظر، وجميعنا مقتنع أننا نرى مخلوقاً غيبياً، وأحدنا يدعو علياً وآخر حسيناً وثالثنا النبي ﷺ والأئمة الاثني عشر. لم يجرؤ أحد على الاقتراب من الكائن، ولكن كل واحد اقترح طريقةً ما للوقاية منه؛ فقال عراقي عجوز: «حلوا سراويلكم، فهذا ما نفعله في الصحراء قرب إصفهان فتختفي الغيلان فوراً.»
فأجابه شاب: «هذا لا يجدي نفعاً: يجب أن تحمل معك ذيل ثعلب وألا تبدي الخوف من الغول، فلن يقدر عليك.»
وبينما نحن نتحادث بجد تارةً ونمزح تارة أخرى انبثق الصبح فرأينا أن الشبح كان في الغالب وهماً من صنع خيالنا. وبعد أن اجتزنا الجسر قال الشاب نفسه وهو يرتجف: «سأذهب لأرى الغول»، ونخس حصانه صاعداً الضفة القاسية نحو الكنيسة المتهدمة. رأيناه يعود بسرعة فأخبرنا أن ما تخيلناه غولاً كان امرأة أثار حجابها الأبيض انتباهنا، وأنها تختبئ مع رجل بين ظلال الجدران المتهدمة.
فشعرت أن الحدث يمكن أن يساعدني في جمع المعلومات المتعلقة بمهمتي وانطلقت في الحال إلى بقايا الكنيسة للتحقيق في أسباب اختباء هذين الشخصين بين أحجارها وأمرت خمسة رجال أن يتبعوني على أن يبقى الآخرون قرب الجسر.
لم نر أحداً حتى انعطفنا حول زاوية حادة في الجدار، وهناك اكتشفنا من كنا نبحث عنهم يجلسان تحت قوس. كانت الامرأة متمددة على الأرض يبدو عليها المرض ورجل يجلس إلى جنبها ويده تحت رأسها. تبين في ضوء الصباح أنهما في ريعان الشباب، وكان وجه الامرأة المغطى جزئياً بحجاب جميلاً للغاية رغم شحوبه الشديد، أما الشاب فقد اجتمعت فيه مظاهر القوة والنشاط والرجولة أكثر من أي شخص رأيته في حياتي. كان يرتدي زياً جورجياً وفوق فخذه خنجر طويل وبندقيته مسنودة إلى الجدار. وكان حجاب الامرأة الأبيض ملطخاً بالدماء ومتمزقاً في عدة مواضع. ومع أنني عشت بين رجال معتادين على مناظر البؤس والشقاء لا تدخل قلوبهم الشفقة ولا العطف، ألا أننا في هذا الظرف شعرنا بالرأفة فتوقفنا أمام أسى هذين الغريبين بوقار واحترام قبل أن نكسر الصمت السائد على لقائنا.
فسألتهم: «ماذا تفعلان هنا؟ إن كنتم مسافرين غرباء فلماذا لم تذهبوا إلى القرية؟»
فأجاب الشاب: «ساعدني، أرجوك، إن كان فيك حب الله! إذا كان السردار قد أرسلكم للقبض علي فساعدني على إنقاذ هذه الإنسانة المسكينة التي تموت بين يدي. لن أقاومكم، ولكن ساعدني على إنقاذها!»
فقلت: «من أنت؟ لم يعطنا السردار أية أوامر بخصوصك. من أين أنت وإلى أين أنت ذاهب؟»
فقال الشاب: «قصتنا طويلة وحزينة. لو ساعدتني في نقل هذه الفتاة المتألمة المسكينة إلى مكان تجد فيه من يرعاها ويعتني بها فسأحكي لك كل ما وقع لنا. قد تتعافى لو تلقت العناية اللازمة، فهي جريحة، ولكني آمل أن جراحها غير مميتة وستستعيد صحتها بالراحة. أشكر ربي أنك لست من رجال السردار. أرجو أن تصدقني، وعسى أن تحملك قصة شقائنا على حمايتنا.»
لم يكن هناك ضرورة أن يتوسل إلي ويستعطفني، فقد أثار مظهره في صدري عطفاً ومحبةً فاستجبت لطلبه في الحال وأكدت له أننا سنساعده بلا تلكؤ في نقل صديقته المصابة إلى القرية، وبعد ذلك نقرر ماذا نفعل به بعد أن نعرف قصته.
لم تلفظ المخلوقة أية كلمة واكتفت بتغطية وجهها بعناية وهي تئن من حين إلى أخر من الألم وتتنهد من شقائها وبؤسها. أمرت أحد رجالي بأن يترجل عن حصانه وأركبناها عليه وتوجهنا على الفور نحو القرية حيث فحصت عدة بيوت واخترت أفضلها ترتيباً، وقد بدت على صاحبه علامات الرفق والمسؤولية، فأنزلناها عنده وأعطيناه توجيهات بتمريضها على أكمل وجه. فأرسلوا في طلب امرأة عجوز اشتهرت في القرية بمهارتها في تطبيب الجروح والرضوح فتولت العناية بها. عرفت من الشاب أنه أرمني، وكذلك صاحبته، وبما أن سكان آشتاراك كانوا من الجنس نفسه تفاهموا بسرعة وشعرت المسكينة أنها في أيدٍ أمينة.