الرئيسيةبحث

مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/33

مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل الثالث والثلاثون. حاجي يرافق الشاه إلى معسكره الصيفي ويبدأ بإدراك طبيعة وظيفته الجديدة
المؤلف: جيمس موريير
المترجم: (م)


الفصل الثالث والثلاثون. حاجي يرافق الشاه إلى معسكره الصيفي ويبدأ بإدراك طبيعة وظيفته الجديدة

وأخيراً حدد المنجمون يوم السعد لسفر الشاه إلى السلطانية. غادر الشاه قصره قبل شروق الشمس بنصف ساعة في الحادي والعشرين من ربيع الأول ولم يتوقف حتى وصل إلى قصره في سليمانية الواقعة على ضفتي نهر كرج وعلى مسافة تسعة فراسخ عن طهران. وصدرت أوامر إلى شتى القطعات العسكرية للتجمع هناك في وقت محدد، بينما اقتصر موكب الشاه على حرسه ومدفعية الإبل وكتيبة من الفرسان. وغادر رجال البلاط والوزراء ورؤساء المكاتب الحكومية في الوقت نفسه تقريباً فخسرت العاصمة في غضون يوم نحو ثلثي سكانها. كان الجميع في حركة دائبة، ولو شاهد ذلك أجنبي لظن أن السكان جميعهم، وكأنهم سرب من النحل، قرروا بالإجماع ترك خليتهم الأم والبحث عن مكان آخر للسكن. كانت قوافل من البغال والإبل المحملة بالسجاد والأسرّة وأواني الطبخ والخيام وطقوم الخيل وشتى أنواع المؤن تسير في كل الشوارع والجادات مثيرةً غباراً كثيفاً، وكانت أصوات الجمالين والبغالين تختلط بأصوات الأجراس في رقاب دوابهم.

وكانت مهمتي في صباح المغادرة حفظ النظام عند باب قزوين ومنع حدوث أية عوائق أمام موكب الشاه. والفلاحون الذين ينتظرون أمام أبواب المدينة حتى تفتح ليدخلوا بضائعهم إلى أسواقها أمرناهم بالتوجه إلى باب آخر. وقام جميع سقاة المدينة بترطيب الطريق الذي سيمر الشاه منه، واتخذت كل التدابير الكفيلة بتيسير طريق سفر جلالته بحيث لا تعكره علامات النحس، وتحديداً اتخذت الاحتياطات الكفيلة بعدم ظهور أية عجوز في الطريق خوفاً من أن يلمحها الشاه فيصاب بالعين.

اكتشفت في نفسي مقدرةً وهمّةً لتبديد الناس لم أعتقد يوماً أنهما يختفيان في قلبي، فأنا أتذكر جيداً كم كنت أمقت جميع رجال الدولة عندما كنت واحداً من الغوغاء. أعملت عصاي في ضرب الرؤوس والظهور بنشاط جعل زملائي الجلادين يعجبون بي ويتساءلون عن هذا الشيطان الذي انضم إليهم. وسعيت إلى اكتساب سمعة الشجاعة أملاً بأنها تساعدني في الترقية إلى منصب أعلى.

وأخيراً تحرك الموكب. انطلقت قطعة مدفعية الإبل في المساء السابق لاستقبال الشاه في سليمانية، وسمعنا أصوات مدافع تعلن انطلاق الشاه من قصره في طهران، فسادت الجلبة والانتظار. ومر رئيس الجلادين نفسه يعدو على جواد أصيل في شوارع المدينة مستعجلاً، والفرسان يعدون جيئةً وذهاباً لتحضير الطريق. وكان في رأس الموكب المنادون، ثم الخيل المزينة بالجواهر والشالات وأقشمة ذهبية، ووراءهم يركض المراسلون، ثم الشاه بعينه، ووراءه أولاده يتبعهم الوزراء، وفي ذيل الموكب كتيبة من الفرسان.

وإذا تذكرنا أن كل رجل ذا حظوة كان يرافقه موكبه الخاص، وعند الكثيرين من الأتباع مواكبهم أيضاً، ومر كل هؤلاء السادة والخدم والطباخون والخيامون والمراسلون وساسةُ الخيلِ والخيولُ وغيرهم وعشرة آلاف أخرون من مرافقي الشاه، كلهم مروا أمامي بالتتابع وأنا أقف عند باب قزوين، يمكنكم أن تتصوروا عظمة هذا الموكب الهائل. وعندما اقترب الشاه من البوابة ولحيته الطويلة تصل إلى نطاقه وتتركز كل فظائع الاستبداد في شخصه أحسست بشعور غريب في رقبتي وانحنيت انحناءة عميقة لهذا السلطان الذي يمكنه أن يفصل رأسي عن جسمي بإيماءة خفيفة قبل أن أجد وقتاً للاعتراض.

وبعد أن اجتاز الموكب كاملاً باب المدينة تلكأت لأدخن مع الحرس المعسكرين عند الباب، وفي هذه اللحظة كانت حريم أحد الوزراء المرافقين للشاه تمر أمامنا فخطرت على بالي زينب مرة أخرى، فتنهدتُ وأنا أفكر بمصيرها البائس. سمعت من نور جهان في اليوم السابق لرحلتنا أنها أُرسِلت إلى بيت صيفي صغير يملكه الشاه يقع على سفح جبل من الجبال الشاهقة التي تحيط بطهران حيث كان عليها أن تتدرب على الغناء والرقص والموسيقا هي والكثيرات من الجواري الأخريات، وأمر الشاه أن تلم بكل هذه الأمور قبل عودته في الخريف، وعندها ستتشرف باستعراض ما تعلمته أمام جلالته. التفتُّ وأنا أمشي بحصاني في الطريق نحو ذلك البيت الذي كان يبدو نقطة سوداء على سفح الجبل. أعتقد أنني كنت في أي وقت آخر سأفعل كل ما بوسعي لألقي نظرة عليها، ولكن الآن كان علي أن أنطلق إلى رأس الموكب لأكون جاهزاً أنا وزملائي لاستقبال الشاه في سليمانية عندما يترجل عن جواده.

وبعد أن انقضى يوم المسير ومهمتي في موقعي ذهبت إلى مخيم رئيس الجلادين حيث وجدت خيمة صغيرة معدّة لي ولخمسة آخرين من زملائي النسقجية الذين قدر لهم أن يكونوا أصحابي طوال مكث الشاه في سليمانية. كنت قد تعرفت عليهم في العاصمة، ولكننا الآن حُصِرنا في مجال ضيق، إذ لم يكن طول خيمتنا يتجاوز ستة أذرع وعرضها أربعة أذرع، أي أننا كدنا نتكدس فوق بعضنا، وبطبيعة الحال كان من نصيبي أسوأ مكان في هذه الخيمة نظراً لحداثة عهدي. ولكنني لم أنزعج من ذلك وفضلت أن أتجاهل مصاعب الحاضر أملاً بمحاسن المستقبل إذ كنت واثقاً أنها ستأتي ولن أفشل في استغلالها.

وعدا نائب الرئيس كان هناك نائب آخر له دور في حكايتي، إذ بفضله لاحظني ذوو السلطة. كان اسمه شير علي، ويحمل لقب البيك، وأصله من شيراز. ورغم أننا كنا من مدينتين متنافستين تاريخياً في بلاد فارس، لم يمنع ذلك من توطد أواصر الصداقة بيننا نتيجة خدمات صغيرة تبادلناها من حين إلى آخر، ما يساهم عادةً في ظهور الصداقة وترسيخها. مرةً أعطاني قطعة بطيخ حين كنت عطشاناً، وفي مناسبة أخرى جهزت له نركيلة؛ فصدني بسكينه حين أتخمت معدتي بالرز، وشفيت حصانه من مغص بإعطائه ماء غليت فيه شيئاً من التنباك. كان أكبر مني عمراً بثلاث سنوات، طويلاً، عريض المنكبين رفيع الخصر وله أجمل لحية تحيط بذقنه وخصلتا شعر تنزلان وراء أذنيه مثل دالية عنب تنزل من على سياج الحديقة.

وكان قديماً في الخدمة فأحاط بكل تفاصيلها وحيلها، وعندما تحدثنا عن هذا الأمر فوجئت أنه ما كان يخفي شيئاً من خبرته عني وكشف أمامي ميداناً واسعاً لإعمال موهبة العقل فيه.

ومما قاله لي: «لا تفكر أن الراتب الذي يعطيه الشاه لخدمه يهمهم كثيراً، فقيمة مناصبهم تتوقف على مدى الابتزاز الذي يمكنهم ممارسته على شطارتهم في الاستفادة من ذلك. لنأخذ رئيسنا مثالاً: راتبه ألف تومان في السنة قد يتقاضاها بانتظام وقد تتأخر، ولكن هذا لا يهمه إلا قليلاً، فهو ينفق ما لا يقل عن خمسة أو ستة أمثال هذا المبلغ، ومن أين يحصل على المال ما دام لا يأتي من مساهمات مرؤوسيه؟ فرضاً، غضب الشاه من خان، فوجب عليه أكل فلقة ودفع غرامة؛ وشدة الفلقة وحجم الغرامة يتناسب عكساً مع حجم الهدية التي يقدمها المغضوب عليه لرئيسنا. أو لنقل يجب أن تفقأ عينا متمرد، وبناء على ما يتلقاه رئيسنا تتوقف طريقة تنفيذ العقوبة، أي ما إذا ستكون عملية فقء العينين خشنة باستعمال خنجر كليل أو ناعمة بمبضع صغير حاد. أو يبعثونه على رأس حملة في الجيش، وأينما ذهب تتدفق الهدايا عليه من البلدات والقرى في طريقه كيلا يحل جيشه نزلاء عليهم، وبناء على حجم الهدية يتخذ القرارات حول موقع مضارب الجيش. وأغلب أصحاب المناصب العليا يقدمون له الهدايا سنوياً تحسباً ليوم ينزل على رؤوسهم فيه غضب الشاه وأملاً بأنه سيتعامل معهم برفق حينذاك. وباختصار، أينما حصل تلويح بالعصي أو تنفيذ عقوبة يجمع النسقجي باشي أتاواته، ويفعل كل مرؤوسوه الشيء نفسه نزولاً إلى العناصر العاديين. قبل أن أصبح نائباً، وعندما يستدعونني لضرب الفلقة لمذنب ما، كثيراً ما كان ينجح في إثارة الشفقة عليه في قلبي بوعوده أن يملأ كيسي بالنقود، وعندها كنت أرحم قدميه من الضرب فأوجه ضرباتي إلى الأرض قربهما. وحدث في السنة الماضية أن حاجب الشاه أثار غضب جلالته، فأمر له بالفلقة وإكراماً له نشروا على الأرض سجادة صغيرة ليوضع عليها، وكنت أنا وزميلي مكلفين بتنفيذ العقوبة، بينما أمسك زميلان آخران الفلق. وعندما كنا ننزع عن رأسه الشال والقبعة ونطاقه وعباءته عن جسمه (فهي غنائمنا المشروعة) همس إلينا بحيث لا يسمعه الشاه (فالعقوبة كانت تجرى أمام عينيه): «بأمهاتكم اللاتي حملنكم وولدنكم، لا تقتلوني! سأعطي عشرة تومانات لكل واحد منكم إن لم تضربوني!» فطرحناه أرضاً وثبّتنا قدميه بالفلق ووضعنا ظهره على السجادة ثم بدأنا بالعمل. بطبيعة الحال، بدأنا بالضرب المبرح كيلا ينكشف أمرنا حتى يصرخ المعاقب بما يكفي، وبدأ يزيد المبلغ؛ وكانت وعوده تتناوب مع صرخاته على الشكل التالي: «آه، أمان، أمان! الرحمة وروح النبي! اثنا عشر توماناً. وعمر آبائكم وأمهاتكم! خمسة عشر توماناً. ولحية الشاه! عشرون توماناً. وحياة الأئمة والأنبياء أجمعين! ثلاثون، أربعون، خمسون، ستون، مئة، ألف تومان، حذوا كل ما تريدون!» وبقينا نضربه حتى رفعه إلى ما رأيناه مقبولاً، فتوقفنا تدريجياً عن ضرب قدميه وكسّرنا العصي بفلق الخشب الذي يمسك القدمين، ومثلنا نحن والحاجب دورنا ببراعة بحيث لم يلحظ الشاه شيئاً مريباً ولم يكتشف أن بيننا اتفاق. وعندما انتهى الأمر اكتشفنا أن سخاءه تناقص بسرعة مثلما تزايد خلال العقاب، فحاول أن يعطينا عشرة تومانات، ولكنه في النهاية دفع المبلغ الذي طلبناه منه كاملاً خوفاً من الوقوع في أيدينا مرة أخرى لو تكرر غضب الشاه عليه، إذ ما كنا لنرحمه وقتذاك لو خدعنا في هذه المرة.»

فتحت هذه الأحاديث التي سمعتها من شير علي عيني على منافع منصبي، فلم أعد أحلم بشيء سوى أن أضرب الفلقة وأحصد النقود. صرت أقضي أيامي كلها وأنا أمشي في البرية وألوح بعصاي فوق رأسي وأنزل به ضرباً على كل شيء يحمل أدنى شبه بقدم ابن آدم، ودربت يدي حتى صرت أعتقد أنني أستطيع أن أضرب كل إصبع من أصابع القدم على حدة لو أمرت بذلك. كنت أعرف أن طبعي ليس قاسياً، فالشجاعة والوحشية ليستا من صفاتي، ولذلك تساءلت كيف تحولت إلى رجل لا رحمة في قلبه. إنما مثال غيري كان له دائماً أقوى تأثير على فكري وأفعالي، وكنت أعيش الآن في جو من القسوة والعنف، وكل الأحاديث حولي تدور عن قطع الأنوف والآذان وفقء العيون والإعدام بالمدفع وشطر البدن إلى نصفين وشوي الناس في الأفران، وأنا واثق لو أن أمامي مثال مناسب لكدت أصبح مستعداً أن أخوزق أبي الذي أنجبني.