الرئيسيةبحث

مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/31

مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل الحادي والثلاثون. أفكار الحاجي عن خسارة زينب. الطلب المفاجئ على مهنته بصفته طبيباً
المؤلف: جيمس موريير
المترجم: (م)


الفصل الحادي والثلاثون. أفكار الحاجي عن خسارة زينب. الطلب المفاجئ على مهنته بصفته طبيباً

حالما تركتني زينب جلست في البقعة نفسها التي كنا واقفين فيها كي أفكر في أمري. فقلت لنفسي: «إذن، أهاتان هما نواتا لوز في قلفة واحدة؟ إن كانت هذه هي الدنيا، فما أسرني في آخر شهرين لم يكن إلا حلماً. اعتقدت أنني المجنون وهي ليلى، وأن حبنا باقٍ ما بقيت الشمس والقمر، حتى تسلّ أجسامنا، نحترق كالجمر ونشوي الكباب من قلبينا. لكنني أرى الآن أنها ضحكت على لحيتي: جاء الشاه وقال كلمتين وانتهى الأمر، وفي غمضة عين نسيت زينب حاجي بابا وتحول انتماؤها نحو قصر ملك الملوك.»

قضيت ليلة عصيبة ونهضت في الصباح الباكر وفي قلبي مشاريع جديدة، فقررت أن أتمشى خارج أسوار المدينة كي أفكر في أموري على راحتي، ولكن حالما خرجت من البيت صادفت زينب تركب حصاناً يقوده واحد من خصيان الشاه برفقة حشد من الخدم يفتحون لها الطريق. تمنيت لو أنها ترفع طرف ستارها عندما تراني، ولكنها لم تحرك ساكناً فمضيت في طريقي وأنا مصمم أكثر من أي وقت مضى على محوها من قلبي. ومع أنني كنت أتوجه إلى بوابة المدينة، لم أشعر كيف تبعت الموكب حتى وجدت نفسي أمام قصر الشاه.

وعندما دخلت إلى الساحة الواسعة أمام باب القصر الرئيسي وجدتها مليئة بالفرسان في استعراض عسكري أمام الشاه بعينه، والذي كان جالساً في غرفة تعلو الشرفة فوق بوابة القصر. ضاع أثر زينب وموكبها بين الناس، إذ مرّرهم الحرس بينما منعوني من التقدم. وقطع المشهد أمامي سيل أفكاري. كان الاستعراض العسكري لسرية من الفرسان بقيادة نمارد خان[1]، وهو نسقچي باشي، أي رئيس الجلادين، وكان حاضراً يرتدي ملابس من قماش ذهبي اللون والزينة على رأسه مصقولة تلمع في أشعة الشمس يركب جواداً أصيلاً. كان منظر الاستعراض جديداً علي، وخطرت على بالي وأنا أنظر إلى الخيل والفرسان والرماح والبنادق أيامي التي قضيتها بين التركمان، فشعرت بالحنين إلى حياة الحركة والنشاط. وكان وزير الحرب جالساً في وسط الساحة معه ستة كتبة أمامهم سجلات مختلفة. وكان برفقتهم مناديان، يصيح أحدهما باسم الجندي، فينطلق الفارس المنادى حالاً من الصف، فيصيح المنادي الآخر: «حاضر!» ويقطع الفارس الساحة بكامل سرعته وينحني للشاه عندما يمر أمامه، ثم ينضم إلى الصف في الجانب الآخر من الساحة. كانت أشكال الفرسان متباينة، فبعضهم كان مجهزاً باللباس والسلاح ليبدو وكأنه رستم الجبار، بينما بعضهم الآخر يظهرون وكأنهم استعاروا مطاياهم من أجل الاستعراض، ودوابهم تعرج وكأنها راجعة من معركة. عرفت عدداً من أصحابي بين الفرسان ولفت انتباهي شاب وسيم ببراعته في الفروسية نخس جواده فاندفع إلى الأمام نحو عمود منصوب في وسط الساحة، وصدف أن جواده تعثر ووقع وهوى الفارس على الأرض عند العمود وبقي هامداً. رفعه الناس فوراً وحملوه عبر الحشد. وعرفني أحد الموجودين بأنني من بيت طبيب الشاه فطلب مني أن أفحص المصاب، فلم أتردد في تلبية الطلب دونما خوف من جهلي في الموضوع واتخذت دور طبيب. وجدت الشاب المسكين ممدداً على الأرض ولا تبدو عليه علامات الحياة، وكان الرجال الذين يحيطونه يحاولون إنعاشه، أحدهم يسكب الماء في حلقه «باسم الحسين عليه السلام»، وأخر ينفث دخان الغليون إلى أنفه والثالث يعجن أطرافه وبدنه لتحريك الدم. وحالما اقتربت منهم توقفت كل هذه العمليات وأفسحوا المجال لي، فجسست نبضه بكل وقار، ثم أبلغت من أحاطوا بي وعلى وجوههم أمارات الاهتمام والفضول أن الرجل أصابه القدر، وأن الحياة والموت يتصارعان الآن في بدنه على حيازته. وهكذا، وحسب ما رأيته من معلمي، حضّرت الموجودين حولي للأسوأ، وأمرت قبل كل الإجراءات الأخرى بهز بدن المريض للتحقق ما إذا كان فيه حياة. لم أر في حياتي أمراً ينفذ بهذا النشاط، إذ هزه الحضور حتى كادوا يمزقونه إرباً، ولكن هذا الإجراء لم يُجْدِ نفعاً. وكنت سآمر بإجراء آخر أقوى من الأول حين سمعنا صرخةً «افتحوا الطريق!»، ثم «أبعدوا رؤوسكم!» وظهر الطبيب الفرنجي الذي استدعاه السفير، وكان حاضراً وشهد الحادث. وصاح قبل أن يرى المريض: «افصدوه! افصدوه فوراً! لا تضيعوا لحظةً!»

شعرت أن من واجبي حماية كرامة العلم الفارسي وإثبات تفوق حكمتنا، فقلت: «الفصادة! ما هذه الحكمة؟ ألا تعلم أن الموت بارد والدم حار، وأن أول مبادئ المهنة هي علاج الأمراض الباردة بالأدوية الحارة؟ هذا ما أمر به بقراط، وهو أبو الأطباء جميعاً، ولا يجوز أن تزعم أنه يأكل التراب. لو فصدت دماً من هذا البدن قتلته. اذهب وقل للعالم أنني قلت هذا!»

فقال الفرنجي وقد فحص البدن: «لا يهم، فلا داعي لنتعب أنفسنا بشيء، إذ أنه قد مات، ولا فرق لديه بين البارد والحار.» ثم غادر المكان وتركني أنا وبقراط مرفوعي الرأس.

فأعلنت: «إذن، غلب الموت، وما قدره الخالق لا يرده مخلوق، ولا طاقة لحكمة حكيم على ما كتبه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.»

وأمر شيخ كان بين الحضور بأن تدار قدما الميت نحو القبلة وأن تربطا ببعضهما وأن يلف منديل حول ذقنه ويثبت فوق رأسه، ثم كرر الجميع وراءه أدعية الميت. وفي هذه الأثناء تجمّع أقرباء الفقيد حوله وشرعوا بالمراثي المعتادة، ثم جاء بعضهم بنعش، وسُلِّم الجثمان إلى الأهل.

سألت عن الميت فعرفت أنه كان نسقجياً، أي واحداً من العناصر التابعين لرئيس الجلادين الذي كان تحت يده مئة وخمسون من أمثاله، وتتألف مهامهم من السير في مقدمة موكب الشاه في تنقلاته وتشتيت الحشود وحفظ النظام والمسؤولية عن سجناء الدولة، أي ما يناط بمأموري الشرطة. وخطر على بالي على الفور كم يناسبني الموقع الذي كان يشغله الميت، وأن أطباعي وميولي تتماشى مع هذه الوظيفة أكثر بكثير من خلط العقاقير وعيادة المرضى. وتذكرت وأنا أفكر في الأمر أن رئيس الشرطة من أصدقاء ميرزا أحمق ويدين له بمعروف، إذ أقنع الحكيمَ بأن يحلف أمام الشاه أن الخمر، وهو ممنوع في البلاط منعاً باتاً، ضروري لصحته، ومن ثم حصل على إعفاء من المفتي يسمح له بشربه فاستفاد من هذه الميزة إلى أبعد حد ممكن. فرأيت أن أطلب من الميرزا التوسط لي، عسى أن ينقلب ماء المرارة الذي يصبه نبع القضاء في كأس الميت إلى سواقي الشرابات الحلوة بالنسبة لي.


الهوامش

  1. نمارد (بالفارسية): جبان (ملاحظة المترجم).