الفصل السادس | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل السابع. المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل الثامن |
الفصل السابع. قصة الشاعر
عدنا من الطريق الذي أتينا منه، ولكن أبطأ مما جئنا بسبب الأسرى الذين كانوا يركبون وراء الفرسان تارة ويسيرون بينهم تارة أخرى.
أثار مظهر الشاعر منذ أول لحظة فضولي لمعرفة سيرته؛ وبما أنني تعلّمت في زماني شيئاً من الآداب، كنت أشعر بشيء من التفاخر وأنا أفكر أنني أرعى أديباً وأحميه في ساعة الضيق. أخفيت شعوري نحوه واستطعت إقناع التركمان أن يكلفوني بملازمته بحجة أنني سأحمله على تأليف الشعر. وبما أننا كنا نتحادث بلغتنا بكل طلاقة دون أن يفهمنا أحد، فقد أخبرته عن قصتي وأعلمته برغبتي في الفرار، ووعدته أن أفعل كل ما في وسعي لأساعده. بدا الشاعر مسروراً لسماع الكلام اللطيف حيث لم يتوقع إلا المعاملة السيئة، وعندما نلت ثقته حكى لي عن نفسه دونما تردد. وكما توقعت، فقد كان رجلاً ذا شأن، إذ كان شاعر البلاط، وقد كرّمه الشاه بلقب ملك الشعراء. كان في طريق العودة من شيراز (حيث أرسله الشاه بمهمة) إلى طهران، وكان قد وصل إلى إصفهان في اليوم الذي وقع في أيدي التركمان. وبعد أن رويت له قصتي كي نلتهي عن ضجر الطريق عبر الصحراء الملحية، طلبت منه أن يحكي لي قصته، فقال:
«ولدت في مدينة كرمان، واسمي عسكر. بقي أبي فترة طويلة حاكم كرمان في زمان حكم الطواشي آغا محمد شاه؛ ورغم كثرة التآمر عليه والدسائس ضده، حصّنته براعته واحترام الناس له من أن يتغلب أعداؤه عليه، فحافظ على سلامة عينيه، ومن عظيم حظه أنه مات بسلام في فراشه خلال حكم الشاه الحالي الذي سمح لي بوراثة تركة أبي البالغة عشرة آلاف تومان. أوليت اهتماماً بالغاً بالتعلم، وقبل أن أبلغ السادسة عشرة من عمري اشتهرت بأدبي إذ كنت أكتب بخط جميل وأحفظ عن ظهر قلب شعر سعدي وحافظ والفردوسي، وأبرع في كتابة الشعر إلى درجة أنني في شبابي كنت لا أتكلم إلا شعراً، وتطرقت لمواضيع الشعر كافة. كتبت عن حب ليلى ومجنون؛ لم أسمع يوماً تغريد البلابل، لكنني تغنيت بحب البلبل للوردة؛ وأينما ذهبت كنت أنظم الشعر وأنشده للحضور.
في تلك الفترة كان الشاه يحارب صادق خان الذي حاول الاستيلاء على العرش فخاض الشاه معركة قادها بنفسه هزم خلالها خصمه المتمرد، فأنشدت حالاً قصيدة مديح، وفي تصويري للحرب جعلت رستم يقف على سحابة يراقب ميدان المعركة فيشكر نصيبه أنه ينظر إليها من السماء ولا يخوض فيها على الأرض، وإلا لما نجا من بسالة الشاه وبأسه. لم أتردد في المبالغة والتملق وتفوقت على كل الشعراء حين قلت أن صادق خان وجيشه ليس لديهم سبب للتذمر، إذ رفع ملجأ الكون رؤوسهم عالياً حتى السماء، وقد أشرت بذلك إلى برجٍ أمر جلالته ببنائه من رؤوس المغلوبين.
وصل كلامي إلى الشاه فشرفني باستدعائي إلى حضرته وأمر أن يُملأ فمي ذهباً أمام حشد غفير من البلاط وبعد هذا صرت أحضر إلى القصر في أي وقت وأكتب الشعر في كل المناسبات. وإظهاراً لحماسي قلت للشاه أنه كما كتب فردوسي يوماً شاه نامه، أي كتاب الملوك، يليق به، وهو أعظم ملوك بلاد فارس، أن يكون عنده شاعر يصف زمان حكمه، فطلبت منه أن يأذن لي بكتابة شاهنشاه نامه، أي كتاب ملك الملوك، فتكرم صاحب الجلالة بإعطائي إذنه اللطيف.
كان بين أعدائي في البلاط الخازن الذي فرض علي غرامة قدرها 12 ألف تومان دون أدنى سبب، إلا أن الشاه ألغاها قائلاً أنني شاعر زماني. وفي يوم من الأيام دار الحديث عن كرم الشاه محمود غزنوي الذي أعطى للفردوسي مثقال ذهب على كل بيت شعر في الشاهنامه. فقلت على أمل أن يصل كلامي إلى الشاه: «إن كرم الشاه الحاكم مثل كرم الشاه محمود، بل أكثر، لأن الشاه محمود أغدق بالنعم على أعظم شعراء الفرس، بينما صاحب الجلالة أغدق بنعمته على الشاعر المتواضع الذي يقف أمامكم.»
فسألني الحضور ما هي النعم العظيمة التي حصلت عليها، فأجبت: «أولاً، لمّا توفي والدي ترك عشرة آلاف تومان، فسمح الشاه لي أن أرثها؛ كان بإمكانه أن يأخذها لكنه تركها لي، وهذه عشرة آلاف تومان. ثم أراد الخازن أن يغرمني باثني عشر ألف تومان، فألغاها جلالته وهذه اثنا عشر ألف تومان فوق تلك. والباقي ما تكرّم علي الشاه به منذ صرت في خدمته.» ثم هتفت: «يحيا الشاه إلى الأبد! أطال الله ظله ونصره على كل أعدائه!» وكل هذا الكلام وصل إلى صاحب الجلالة، وبعد أيام وهبني حلة تكريم من معطف مزركش وشال لخصري وآخر لرأسي وعباءة مطرزة مبطنة بالفراء، كما كرمني بفرمان يسميني فيه ملك الشعراء ووضعت هذا الفرمان على عمامتي لثلاثة أيام متتالية أتلقى التهانئ من أصدقائي وأشعر أنني ذو شأن أكثر من أي وقت مضى.
كتبت قصيدة تؤدي غرضين في آن واحد: أنتقم بها من الخازن على معاملته الجائرة لي وأسترضيه في نفس الوقت لأنها كانت تحمل معنيين في كل بيت، وما اعتبره الخازن في جهله مديحاً كان في الواقع هجاء، وفكر أن كل تلك الكلمات الغريبة (وأغلبها كلمات عربية لا يفهمها) لا يمكن أن تحمل إلا إطراء، ولم يخطر على باله لحظةً أنها ليست إلا ازدراء. لقد أخفيت معاني القصيدة بحيث يستحيل على أحدٍ فهمها دون أن أشرحها له بنفسي.
إلا أن تفوقي لم يقتصر على الشعر؛ كنت أهوى الميكانيكا، وبعض اختراعاتي لاقت قبولاً في البلاط. لقد اخترعت عجلة دائمة الحركة لا تحتاج سوى إلى بضعة إضافات وتحسينات لتعمل، وصنعت أنواعاً من الورق الملوّن واخترعت محبرة جديدة، وكنت في طريقي إلى صناعة القماش، إلا أن جلالته أوقفني قائلاً: «يا عسكر، اشتغل بالشعر، فعندما أحتاج إلى قماش يحضره التجار لي من بلاد الفرنجة» فأطعته، وفي عيد رأس السنة عندما يقدم كل خدمه الهدايا للشاه قدّمت له عود أسنان ذهبياً في علبة أنيقة وأرفقته بقصيدة شبهت فيها أسنان جلالته باللؤلؤ، وعود الأسنان بصياد اللآلي، ولثتيه بالمرجان الذي يوجد اللؤلؤ بينه، ولحيته وشاربيه بأمواج البحر، فأمر الشاه كل الحضور بتقبيلي على فمي، وهنأني الجميع على فصاحتي وخيالي، وأكّدوا لي بصوت واحد أن أناشيد الفردوسي أمام قصائدي ليست إلا نهيق الحمير.
بهذا اكتسبت الرعاية الكريمة فأراد جلالته أن يعطيني فرصة لأحصل على شيء من المال عدا علامات التكريم فبعثني في مهمة حمل ثوب التكريم الذي يرسله سنوياً إلى ابنه أمير ولاية فارس. استقبلوني في شيراز بكل فخامة وقدموا لي الهدايا الثمينة، هذا عدا ما جمعته من القرى التي مررت بها في طريقي، فصار معي مبلغ كبير من المال. والليلة الماضية فقدت كل شيء، سرقوا مني كل ما أملك، وها أنت ترى أمامك أتعس الخلق. إذا لم تساعدني في النجاة سأموت في الأسر. قد يودّ الشاه أن يخلصني لكنه لن يدفع فلساً ليفديني، والخازن ليس صديقي؛ وبعد أن قلت للوزير أن كل ما لديه من الحكمة غير كافٍ حتى ليربط ساعة، ناهيك عن فهم آليتها أو إدارة شؤون البلد، أخشى أنه أيضاً لن يحزن لغيابي. أخذ هؤلاء الهمج النقود التي كان يمكن أن أفدي نفسي بها، ولا أعرف من أين أحصل على المبلغ المطلوب. هذا ما قدّر الله لي، وأنا أرضى بما كتبه علي بكل تسليم، ولكني أتوسل إليك لأنك مسلم مثلي تكره عمراً وتحب علياً، أتوسل إليك أن تعينني ما استطعت في يومي الأسود.