الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة السادسة والثمانون

مسائل التعزير وما لا حد فيه


2299 - مسألة : قال أبو محمد رحمه الله : فقد قلنا : إنه لا حد لله تعالى محدود ، ولا لرسوله ﷺ إلا في سبعة أشياء , وهي : الردة , والحرابة قبل أن يقدر عليه , والزنى , والقذف بالزنى , وشرب المسكر سكر أو لم يسكر والسرقة , وجحد العارية.

وأما سائر المعاصي فإن فيها التعزير فقط وهو الأدب ومن جملة ذلك أشياء , رأى فيها قوم من المتقدمين حدا واجبا نذكرها إن شاء الله تعالى ونذكر حجة من رأى فيها الحد وحجة من لم يره ليلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى كما فعلنا في سائر كتابنا : وتلك الأشياء : السكر , والقذف بالخمر , والتعريض , وشرب الدم , وأكل الخنزير , والميتة , وفعل قوم لوط , وإتيان البهيمة , والمرأة تستنكح البهيمة , والقذف بالبهيمة , وسحق النساء , وترك الصلاة غير جاحد لها , والفطر في رمضان كذلك , والسحر. ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون كل ذلك بابا بابا.

2300 - مسألة : السكر

قال أبو محمد : أباح أبو حنيفة شرب نقيع الزبيب إذا طبخ , وشرب نقيع التمر إذا طبخ , وشرب عصير العنب إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه وإن أسكر كل ذلك فهو عنده حلال , ولا حد فيه ما لم يشرب منه القدر الذي يسكر وإن سكر من شيء من ذلك فعليه الحد. وإن شرب نبيذ تين مسكر , أو نقيع عسل مسكر , أو عصير تفاح مسكر , أو شراب قمح , أو شعير , أو ذرة مسكر : فسكر من كل ذلك , أو لم يسكر , فلا حد في ذلك أصلا

قال أبو محمد رحمه الله : وهم يقولون : إن الحدود لا تؤخذ قياسا أصلا فنقول لهم : أين وجدتم هذا التقسيم أفي قرآن , أم في سنة صحيحة , أو سقيمة , أو موضوعة أو في إجماع , أو دليل إجماع أم في قول صاحب , أم في قول أحد قبلكم , أم في قياس , أم في رأي يصح فلا سبيل لهم إلى وجود ذلك في شيء مما ذكر ; لأنهم , إن قالوا : حرم الله تعالى الخمر في القرآن

قلنا : نعم , فمن أين وجدتم أنتم الحد في السكر مما ليس خمرا عندكم , بل هو حلال عندكم طيب , وهو مطبوخ عصير العنب إذا ذهب ثلثاه , ونقيع الزبيب , ونقيع التمر إذا طبخا , ولا خمر هاهنا أصلا

فإن قالوا : جلد رسول الله ﷺ السكران إذ أتي به. ورووا حديث الخمر بعينها , والسكر من غيرها , أو من كل شراب , و اشربوا في الظروف ، ولا تسكروا وما كان في معنى هذه الأخبار

قلنا لهم : وبالله تعالى التوفيق فأنتم أول من خالف ذلك , فإنكم لا ترون الحد على من وجد سكران.

وأيضا : فهل وجدتم أن النبي ﷺ سأله مماذا سكر فإن قال له : من نبيذ عسل , أو شراب شعير , أو شراب ذرة , أطلقه , وقد كان كل ذلك موجودا كثيرا على عهده عليه السلام. وإن قال له : من نبيذ تمر , أو نقيع زبيب , أو عصير عنب : حده. هل جاء هذا قط في نقل صادق أو كاذب فأنى لكم هذا التقسيم السخيف فعنه سألناكم , وعن تحريمكم به , وتحليلكم , وعن إباحتكم به الأشياء المحرمة , أو إسقاطكم حدود الله تعالى الواجبة

فإن قالوا : قد صح الإجماع على حد الشارب بعصير العنب الذي لم يطبخ إذا سكر , واختلف فيما عداه

قلنا لهم : فمن أين أوجبتم الحد على من سكر من نبيذ التمر مطبوخا كان أو غير مطبوخ ومن نبيذ الرطب كذلك , ومن نبيذ الزهو , ومن نبيذ البسر , ومن نبيذ الزبيب كذلك , ولا إجماع في وجوب الحد عليه وقد

روينا عن الحسن وغيره : أنه لا حد على السكران من النبيذ

وكذلك عن إبراهيم النخعي

وهو قول ابن أبي ليلى ، ولا يجدون أبدا قول صاحب , ولا قول تابع بمثل هذا التقسيم.

وكذلك من اضطر إلى الخمر لعطش , أو لأختناق , فشرب منها مقدار ما يزيل عطشه , أو اختناقه , وذلك حلال له عندنا وعندهم فسكر من ذلك وهذا لا يقولونه. فصح يقينا أن السكر لا حد فيه أصلا , وإنما الحد , والتحريم , في المسكر سكر منه أو لم يسكر وقد نجد من يسكر من ثلاثة أرطال أو أربعة سكرا شديدا ونجد من لا يسكر من أزيد من عشرين رطلا من خمر , ولا تتغير له حالة أصلا.

وأما القذف بشرب الخمر فقد ذكرناه قبل هذا بأبواب وقول رجاء بن حيوة وغيره إيجاب الحد فيه , وبينا أن الحد لا يجب في ذلك , إذ لم يأت به قرآن , ولا سنة , ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق.

وأما التعريض في القذف فقد ذكرناه في كلامنا في حد القذف وتقصيناه هنالك أنه لا حد في التعريض ; لأنه لم يوجب الحد فيه قرآن , ولا سنة , عن رسول الله ﷺ لا صحيحة , ولا سقيمة , ولا إجماع ; لأن الصحابة ، رضي الله عنهم ، اختلفوا في ذلك , وليس قول بعضهم أولى من قول بعض وذكرنا صحة الخبر عن رسول الله ﷺ في الذي أخبره : أن امرأته ولدت ولدا أسود وهو يعرض بنفيه. وفي الذي أخبره عليه السلام : أن امرأته لا ترد يد لامس فلم يوجب رسول الله ﷺ عليه حد القذف وبالله تعالى التوفيق.

2301 - مسألة : شرب الدم , وأكل الخنزير , والميتة

قال أبو محمد رحمه الله : أنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج , قلت لعطاء : رجل وجد يأكل لحم الخنزير , وقال : اشتهيته أو مرت به بدنة فنحرها , وقد علم أنها بدنة أو امرأة أفطرت في رمضان أو أصاب امرأته حائضا أو قتل صيدا في الحرم متعمدا أو شرب خمرا فترك بعض الصلاة فذكر جملة فقال عطاء : ما كان الله نسيا , لو شاء لجعل ذلك شيئا يسميه , ما سمعت في ذلك بشيء ثم رجع إلى أن قال : إذا فعل ذلك مرة ليس عليه شيء , وإذا عاود ذلك : فلينكل وذكر الذي قبل امرأته , والذي أصاب أهله في رمضان. وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , قال : إذا أكل لحم الخنزير , ثم عرضت له التوبة , فإن تاب وإلا قتل. به إلى معمر عن الزهري في رجل أفطر في رمضان , فقال : إذا كان فاسقا من الفساق : نكل نكالا موجعا , ويكفر أيضا وإن كان فعل ذلك انتحالا لدين غير الإسلام , عرضت عليه التوبة. وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري في أكل لحم الخنزير في كل ذلك : حد كحد الخمر. والذي نعرفه من قول أبي حنيفة , ومالك , والشافعي , وأصحابهم , وأصحابنا : أنه يعزر فقط. فهذه في الخنزير خمسة أقوال : قول فيه : الحد كحد الخمر وقول فيه : أنه لا شيء فيه أصلا

وهو قول سفيان الثوري وأول قولي عطاء والثالث : أنه يستتاب , فإن تاب وإلا قتل

وهو قول قتادة والرابع : أنه لا شيء عليه في أول مرة , فإن عاد عزر. وقولة خامسة : أنه يعزر

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا فيما يحتج به من رأى أن في ذلك حدا فلم نجد لهم شيئا إلا القياس , فلما كانت الخمر مطعومة محرمة , فيها حد محدود : وجب أن يكون كل مطعوم محرم , فيه حد محدود كالخمر , قياسا عليها وهذا أصح قياس. في العالم إن صح قياس يوما ما. وطائفة قالت : لم يفرضه رسول الله ﷺ ولكن الصحابة أجمعت على فرضه فصار واجبا بالإجماع. وطائفة قالت : إنما فرضت قياسا على حد القذف ; لأنها تؤدي إلى السكر , فيكون فيه القذف.

فأما الفرقة التي قالت : إن رسول الله ﷺ فرض حد الخمر , فمن أصلهم أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه , وهؤلاء يقيسون مس الدبر على مس الذكر ; لأن كليهما عندهم فرج ، ولا يشك ذو حس سليم أنه لو صح القياس , فإن قياس شرب الدم , وأكل الخنزير , والميتة , على شرب الخمر أصح من قياس الدبر على الذكر وكلهم يقيسون حكم ماء الورد , والعسل , تموت فيه الفأرة , أو القطاة , فلا تغير منه لونا ، ولا طعما ، ولا ريحا , على السمن تموت فيه الفأرة وقياس الخنزير , والدم , والميتة , على الخمر أصح من كل قياس لهم , ولو صح يوما ما.

وأما القطاة فليست كالفأرة ; لأن القطاة تؤكل , والفأرة لا تؤكل , والقطاة تجزي في الحل والإحرام , ولا يحل قتلها هنالك والفأرة لا تجزي , ويحل قتلها هنالك.

وكذلك ماء الورد والعسل , ليس كالسمن ; لأن العسل عند بعضهم فيه الزكاة , والسمن لا زكاة فيه , وماء الورد لا ربا فيه عند بعضهم , والسمن فيه الربا عند جميعهم فظهر تركهم القياس الذي به يحتجون , وأنهم لا يحسنونه , ولا يطردونه.

وأما الطائفة التي تقول : إن الصحابة ، رضي الله عنهم ، فرضوا حد الخمر , والقياس أيضا لازم لهم , كما لزم الطائفة المذكورة.

وأما الطائفة التي قالت : إن حد الخمر إنما فرض قياسا على حد القذف , والقياس لهؤلاء ألزم ; لأنه كما جاز أن يفرض حد الخمر قياسا على حد القذف , فكذلك يفرض حد أكل الخنزير , والميتة , وشرب الدم , قياسا على حد الخمر وجمهورهم يجيزون القياس على المقيس. فوضح ما قلناه من فساد أقوالهم. ثم نظرنا في قول من قال : يستتاب , فإن تاب وإلا قتل , فوجدناه قد حكم له بحكم الردة عنده وهذا خطأ ; لأنه قول بلا

برهان , ولا يجوز أن يحكم على مسلم بالكفر من أجل معصية أتى بها إلا أن يأتي نص صحيح , أو إجماع متيقن , على أنه يكون بذلك كافرا , وأن ذلك الفعل كفر , وليس معنا نص , ولا إجماع , على أن آكل الخنزير , والميتة , والدم غير مستحل لذلك : كافر , ولكنه عاص , مذنب , فاسق , إلا أن يفعل ذلك مستحلا له , فيكون كافرا حينئذ ; لأن معاندة ما صح الإجماع عليه من نصوص القرآن , وسنن رسول الله ﷺ كفر لا خلاف فيه فسقط هذا القول لما ذكرنا , ولقول رسول الله ﷺ : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة , فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام , وحسابهم على الله.

2302 - مسألة : تارك الصلاة عمدا حتى يخرج وقتها

قال أبو محمد رحمه الله : ذهب مالك , والشافعي إلى أن من قال : الصلاة حق فرض إلا أني لا أريد أن أصلي فإنه يتأنى به حتى يخرج وقت الصلاة , ثم يقتل

وقال أبو حنيفة , وأبو سليمان , وأصحابهما : لا قتل عليه , لكن يعزر حتى يصلي

قال أبو محمد رحمه الله : أما مالك , والشافعي , فإنهما يريان تارك الصلاة الذي ذكرنا مسلما ; لأنهما يورثان ماله ولده , ويصليان عليه , ويدفنانه مع المسلمين , ولا يفرقان بينه وبين امرأته , وينفذان وصيته , ويورثانه من مات قبله من ورثته من المسلمين , فإذ ذلك كذلك فقد سقط قولهما في قتله ; لأنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان , أو زنى بعد إحصان , أو نفس بنفس وتارك الصلاة متعمدا كما ذكرنا لا يخلو من أن يكون بذلك كافرا , أو يكون غير كافر فإن كان كافرا , فهم لا يقولون بذلك ; لأنهم لو قالوه للزمهم أن يلزموه حكم المرتد في التفريق بينه وبين امرأته , وفي سائر أحكامه فإذ ليس كافرا , ولا قاتلا , ولا زانيا محصنا , ولا محاربا , ولا محدودا في الخمر ثلاث مرات , فدمه حرام بالنص , فسقط قولهم بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين. فإن احتجوا بالخبر الثابت الذي ذكرناه آنفا من قول رسول الله ﷺ : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله. وبقول الله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} . قالوا : ولا يجوز تخلية من لم يصل , ولم يزك. وذكروا

ما روينا من طريق مسلم ، حدثنا هداب بن خالد ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة عن الحسن عن ضبة بن محصن عن أم سلمة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال : ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون , فمن عرف برئ ومن أنكر سلم , قال : فمن رضي وتابع , قالوا : أفلا نقاتلهم قال : لا , ما صلوا.

ومن طريق مسلم ، حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أخبرني مولى بني فزارة زريق بن حيان أنه سمع سليم بن قرظة ابن عم عوف بن مالك الأشجعي يقول سمعت عوف بن مالك يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول : خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم , وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ,

قلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك قال : لا , ما أقاموا فيكم الصلاة , لا , ما أقاموا فيكم الصلاة وذكر باقي الخبر. والحديثين اللذين فيهما نهيت عن قتل المصلين فأولئك الذين نهاني الله عن قتلهم و " لا لعله يكون يصلي ".

ومن طريق مسلم ، حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد ، هو ابن زياد عن عمارة بن القعقاع ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي النعم قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله ﷺ بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها وذكر الحديث وفيه فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين , ناشز الجبهة , كث اللحية , محلوق الرأس مشمر الإزار فقال : يا رسول الله اتق الله , فقال : ويلك , ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال : ثم ولى الرجل , فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه قال : لعله يكون يصلي

قال أبو محمد رحمه الله : ومن طريق مسلم ، حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال : بعث علي بن أبي طالب إلى النبي ﷺ بذهبية في تربتها فذكر الخبر. وفيه فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس , فقال : اتق الله يا محمد فقال رسول الله ﷺ فمن يطع الله إن لم أطعه أيأمنني على أهل الأرض , ولا تأمنني ثم أدبر الرجل , فاستأذن رجل من القوم في قتله يرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله ﷺ يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم , يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان , يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية , لئن أدركتهم لاقتلنهم قتل عاد.

قال أبو محمد رحمه الله : فأخبر عليه السلام أنه يقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله , ويقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة , فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم. فصح أنهم إن لم يفعلوا ذلك حلت دماؤهم , ونهى عن قتل الأئمة ما صلوا. فصح أنهم إن لم يصلوا قوتلوا. وصح أن القتل بالصلاة حرام , فوجب أنه بغير الصلاة حلال. وصح أنه نهى عن قتل المصلين. فصح أنه لم ينه عن قتل غير المصلين ما نعلم لهم حجة في إباحة قتل من لا يصلي غير هذا وكله لا حجة لهم فيه , على ما نبين إن شاء الله تعالى : أما الآية فإن نصها قتال المشركين حتى يقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة. ولا يختلف اثنان من الأمة في أن رسول الله ﷺ لم يزل يدعو المشركين إلى الإيمان حتى مات إلى رضوان الله تعالى وكرامته وأنه في كل ذلك لم يثقف من أجابه إلى الإسلام حتى يأتي وقت صلاة فيصلي , ثم حتى يحول الحول فيزكي , ثم يطلقه هذا ما لا يقدر أحد على دفعه.

وأما الأحاديث في ذلك :

فأما حديث أم سلمة , وعوف بن مالك رضي الله عنهما فلا حجة لهم في ذلك , فإنه ليس فيه إلا المنع من قتل الولاة ما صلوا ولسنا معهم في مسألة القتال , وإنما نحن معهم في مسألة القتل صبرا وليس كل من جاز قتله إذا قدر عليه قتل قال الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قوله تعالى : {المقسطين} فأمر الله تعالى بقتال البغاة من المؤمنين إلى أن يفيئوا , ثم حرم قتلهم إذا فاءوا. وهكذا كل من منع حقا من أي حق كان ولو أنه فلس وجب عليه لله تعالى , أو لأدمي , وامتنع دون أدائه فإنه قد حل قتاله ; لأنه باغ على أخيه , وباغ في الدين.

وكذلك كل من امتنع من عمل لله تعالى لزمه وامتنع دونه , ولا فرق , فإذا قدر عليهم أجبروا على أداء ما عليهم بالتعزير والسجن. كما أمر رسول الله ﷺ فيمن أتى منكرا فلا يزال يؤدب حتى يؤدي ما عليه أو يموت غير مقصود إلى قتله وحرمت دماؤهم بالنص والإجماع , وتارك الصلاة الممتنع منها واحد من هؤلاء , إن امتنع قوتل , وإن لم يمتنع لم يحل قتله ; لأنه لم يوجب ذلك نص ، ولا إجماع , بل يؤدب حتى يؤديها أو يموت كما

قلنا غير مقصود إلى قتله ، ولا فرق.

فصح أن هذين الحديثين حديث أم سلمة , وحديث عوف إنما هو في باب القتال للأئمة , لا في باب القتل المقدور عليه لا يصلي.

وأما حديث أبي سعيد الخدري " لعله يصلي " فإنما فيه المنع من قتل من يصلي , وليس فيه قتل من لا يصلي أصلا , بل هو مسكوت عنه , وإذا سكت رسول الله ﷺ عن حكم فلا يحل لأحد أن يقوله عليه السلام ما لم يقل , فيكذب عليه , ويخبر عن مراده بما لا علم له به فيتبوأ مقعده من النار

قال أبو محمد رحمه الله : وأما نهيت عن قتل المصلين و " أولئك الذين نهاني الله عنهم " فنعم , لا يحل قتل مصل إلا بنص وارد في قتله , وليس فيه ذكر لقتل من ليس مصليا إذا أقر بالصلاة , أصلا. وقد

قلنا : إنه لا يحل لأحد أن ينسب إلى رسول الله ﷺ ما لم يقل. ويقال لمن جسر على هذا : أقال رسول الله ﷺ هذا الذي تقول فإن قال : نعم , كذب جهارا , وإن قال : لم يقل , لكنه دل عليه قيل له : أين دليلك على ذلك فلا سبيل له إلى دليل أصلا , إلا ظنه الكاذب فلم يبق لهم دليل أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة ، ولا من إجماع , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا رأي صحيح وما كان هكذا من الأقوال فهو خطأ بلا شك

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا الكلام كله إنما هو مع من قال بقتله , وهو عنده غير كافر

وأما من قال بتكفيره بترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها , فليس هذا مكان الكلام فيه معهم , فسيقع الكلام في ذلك متقصى في " كتاب الإيمان " من الجامع إن شاء الله عز وجل

قال أبو محمد رحمه الله : فإذ قد بطل هذا القول فإنا نقول وبالله تعالى التوفيق : إنه قد صح على ما ذكرنا في قول رسول الله ﷺ : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فكان هذا أمرا بالأدب على من أتى منكرا والأمتناع من الصلاة , ومن الطهارة من غسل الجنابة , ومن صيام رمضان , ومن الزكاة , ومن الحج , ومن أداء جميع الفرائض كلها ومن كل حق لأدمي بأي وجه كان كل ذلك منكر , بلا شك وبلا خلاف من أحد من الأمة ; لأن كل ذلك حرام , والحرام منكر بيقين. فصح بأمر رسول الله ﷺ إباحة ضرب كل من ذكرنا باليد. وصح عن رسول الله ﷺ أن لا يضرب في التعزير أكثر من عشرة على ما نورد في " باب كم يكون التعزير " إن شاء الله تعالى. فإذ ذلك كذلك فواجب أن يضرب كل من ذكرنا عشر جلدات فإن أدى ما عليه من صلاة أو غيرها , فقد برئ ، ولا شيء عليه , وإن تمادى على الأمتناع فقد أحدث منكرا آخر بالأمتناع الآخر , فيجلد أيضا عشرا وهكذا أبدا , حتى يؤدي الحق الذي عليه لله تعالى أو يموت غير مقصود إلى قتله ، ولا يرفع عنه الضرب أصلا حتى يخرج وقت الصلاة وتدخل أخرى فيضرب ليصلي التي دخل وقتها , وهكذا أبدا إلى نصف الليل , فإذا خرج وقت العتمة ترك ; لأنه لا يقدر على صلاة ما خرج وقتها ثم يجدد عليه الضرب إذا دخل وقت صلاة الفجر حتى يخرج وقتها ثم يترك إلى أول الظهر , ويتولى ضربه من قد صلى , فإذا صلى غيره خرج هذا إلى الصلاة ويتولى الآخر ضربه وبالله تعالى التوفيق حتى يترك المنكر الذي يحدث أو يموت , فالحق قتله , وهو مسلم مع ذلك وبالله تعالى التوفيق.