الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة التسعون

مسائل التعزير وما لا حد فيه

2309 - مسألة : التعزير

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في مقدار التعزير : فقالت طائفة : ليس له مقدار محدود , وجائز أن يبلغ به الإمام ما رآه , وأن يجاوز به الحدود بالغا ما بلغ

وهو قول مالك وأحد أقوال أبي يوسف

وهو قول أبي ثور , والطحاوي من أصحاب أبي حنيفة.

وقالت طائفة : التعزير مائة جلدة فأقل.

وقالت طائفة : أكثر التعزير مائة جلدة إلا جلدة.

وقالت طائفة : أكثر التعزير تسعة وسبعون سوطا فأقل هو أحد أقوال أبي يوسف.

وقالت طائفة : أكثر التعزير خمسة وسبعون سوطا فأقل

وهو قول ابن أبي ليلى , وأحد أقوال أبي يوسف.

وقالت طائفة : أكثر التعزير ثلاثون سوطا.

وقالت طائفة : أكثر التعزير عشرون سوطا.

وقالت طائفة : لا يتجاوز بالتعزير تسعة

وهو قول بعض أصحاب الشافعي.

وقالت طائفة : أكثر التعزير عشرة أسواط فأقل , لا يجوز أن يتجاوز به أكثر من ذلك

وهو قول الليث بن سعد , وقول أصحابنا

قال أبو محمد رحمه الله : فمما روي في القول الأول : ما ناه أحمد بن عمر بن أنس ، حدثنا الحسن بن يعقوب ، حدثنا سعد بن فلحون ، حدثنا يوسف بن يحيى ، حدثنا عبد الملك بن حبيب قال : قال لي مطرف بن عبد الله ثقة : أتي هشام بن عبد الله المخزومي وهو قاضي المدينة ومن صالح قضاتها برجل خبيث معروف باتباع الصبيان قد لصق بغلام في ازدحام الناس حتى أفضى , فبعث به هشام إلى مالك , وقال : أترى أن أقتله قال : وكان هشام شديدا في الحدود , فقال مالك : أما القتل فلا , ولكن أري أن تعاقبه عقوبة موجعة , فقال : كم قال : ذلك إليك , فأمر به هشام فجلد أربع مائة سوط , وأبقاه في السجن , فما لبث أن مات , فذكروا ذلك لمالك , فما استنكر , ولا رأى أنه أخطأ

قال أبو محمد رحمه الله : وذكر محمد بن سحنون بن سعيد في كتابه الذي جمع فيه أحكام أبيه أيام ولايته قضاء مدينة القيروان لأبن الأغلب , قال : شكا إلى أبي رجل يأتي زوجته أنه غيب عنه ابنته , وحال بينه وبينها فبعث في أبي الجارية , قال : أين ابنتك امرأة هذا فقال : والله ما أتتني ، ولا أدري أين هي ، ولا لها عندي علم , قال : فأمر به فحمله إلى وسط السوق , وضرب مائة سوط , ثم سجنه , ثم أخرجه مرة ثانية وجلده في وسط السوق مائة سوط ثم أنا أشك أذكر الثالثة أو الرابعة أم لا قال : فمات الرجل من الضرب في السجن , ثم وجد ابنته في بعض الشعاب عند قوم من أهل الفساد.

وأما القول الثاني فكما ، حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه , قال : توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام , وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه , فلم يرعه إلا حملها وكانت ثيبا , فذهب إلى عمر فزعا فحدثه فقال : أنت الرجل لا تأتي بخير , فأرسل إليها عمر فسألها , فقال : أحبلت قالت : نعم , من مرعوش بدرهمين , فصادف ذلك عنده : عثمان , وعليا , وعبد الرحمن بن عوف , فقال : أشيروا علي وكان عثمان جالسا فاضطجع ,

فقال علي , وعبد الرحمن : قد وقع عليها الحد , فقال : أشر علي يا عثمان قال : قد أشار عليك أخواك , قال : أشر علي أنت , قال عثمان : أراها تستهل به كأنها لا تعرفه , فليس الحد إلا على من علمه , فأمر بها عمر فجلدت مائة ثم غربها , ثم قال : صدقت , والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه. وبه إلى عبد الرزاق عن محمد بن راشد قال : سمعت مكحولا يحدث أن رجلا وجد في بيت رجل بعد العتمة ملففا في حصير , فضربه عمر مائة. وبه إلى عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج ، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان إذا وجد الرجل مع المرأة في لحاف واحد , جلدهما مائة كل إنسان منهما. وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : أتي ابن مسعود برجل وجد مع امرأة في لحاف , فضربهما لكل واحد منهما أربعين سوطا , فذهب أهل المرأة وأهل الرجل فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال عمر لأبن مسعود ما يقول هؤلاء قال : قد فعلت ذلك.

وأما القول الثالث فروينا عن سعيد بن المسيب , ورويناه أيضا ، عن ابن شهاب قال : إن عمر بن الخطاب ضرب رجلا دون المائة وجد مع امرأة في العتمة.

وأما من قال ثلاثون سوطا

فلما رويناه عن سفيان بن عيينة عن جامع عن شقيق قال : كان لرجل على أم سلمة أم المؤمنين حق فكتب إليها يخرج عليها فأمر عمر بأن يجلد ثلاثين جلدة.

وأما من قال عشرون سوطا فكما روينا عن وكيع , وعبد الرحمن , ثم اتفقا كلاهما عن سفيان الثوري عن حميد الأعرج عن يحيى بن عبد الله بن صيفي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى لا يجلد في تعزير أكثر من عشرين سوطا

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك :

فنظرنا في قول من أسقط التعزير جملة , ومن رأى أنه يزاد فيه عشر جلدات , إذ لم يبق غير هذين القولين , إذ سائر الأقوال قد سقط التعلق بها جملة واحدة. فوجدنا المنع منه جملة , كما جاء عن عمر بن الخطاب , وعن عطاء هو كان الأصل لقول رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام. لكن لما قال رسول الله ﷺ : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه كان ذلك مطلقا لتغيير المنكر باليد , فكان هذا أمرا مجملا , لا ندري كيفية ذلك التغيير باليد كيف هو لأن التغيير باليد يكون بالسيف , وبالحجر , ويكون بالرمح , ويكون بالضرب وهذا لا يقدم عليه إلا ببيان من الله تعالى على لسان رسوله عليه السلام. ثم نظرنا في قول مالك : فوجدناه أبعد الأقوال من الصواب , لأنه لم يتعلق بقرآن , ولا بسنة , ولا بدليل إجماع , ولا بقول أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، , ولا برأي سديد :

فنظرنا في ذلك , فوجدنا : ما ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، هو ابن سعد ني يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله بن أبي بردة قال : كان رسول الله ﷺ يقول لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى فكان هذا بيانا جليا لا يحل لأحد أن يتعداه.

وقد روينا عن سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عامر قال : أتي علي بن أبي طالب برجل وجد تحت فراش امرأة , فقال : اذهبوا به فقلبوه ظهرا لبطن في مكان منتن , فإنه كان في مكان شر منه.

ومن طريق محمد بن المثنى ، حدثنا الضحاك بن مخلد عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن رجل : أن رجلا جاء إلى علي بن أبي طالب بمستعد عليه , فقال : هذا احتلم على أمي البارحة فقال له علي : اذهب فأقمه في الشمس واضرب ظله

قال أبو محمد رحمه الله : ومن أتى منكرات جمة , فللحاكم أن يضربه لكل منكر منها عشر جلدات فأقل بالغا ذلك ما بلغ لأن الأمر في التعزير جاء مجملا فيمن أتى منكرا أن يغير باليد , وليس هذا بمنزلة الزاني الذي قد صح الإجماع والنص أن الإيلاج والتكرار سواء ، ولا كالشرب الذي قد صح الإجماع والنص على أن الجرعة والسكر سواء ، ولا كالسرقة التي قد صح الإجماع بأن سارق ربع دينار وسارق أكثر من ذلك سواء ، ولا كالقذف الذي قد صح النص بأن قاذف واحد أو أكثر من واحد سواء وبالله تعالى التوفيق.

2310 - مسألة : هل يقال ذوو الهيئات عثراتهم وكيف يتجاوز عن مسيء الأنصار ، رضي الله عنهم ،

قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ، حدثنا محمد بن بكير البصري ، حدثنا أبو داود السجستاني , وجعفر بن مسافر التنيسي ، حدثنا ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد من ولد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود.

حدثنا حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا أبو عبد الله ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا أبو بكر بن نافع مولى العمريين قال : سمعت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , قالت عمرة : قالت عائشة : قال رسول الله ﷺ : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.

حدثنا أحمد بن قاسم ، حدثنا محمد بن قاسم بن أصبغ ، حدثنا أبي ، حدثنا جدي ، حدثنا مضر بن محمد ، حدثنا مخلد بن مالك ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال ، عن ابن أبي ذئب أخبرني عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه جرح مولى له فاستعدى عليه ابن حزم وهو والي المدينة فقال ابن حزم : سمعت جدتي عمرة عن عائشة : أن النبي ﷺ : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم أو زلاتهم وأنت ذو هيئة , وقد أقلتك.

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا عبد الملك بن زيد المديني عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة عن عائشة أن النبي ﷺ قال : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا سويد ، هو ابن نصر ، حدثنا عبد الله ، هو ابن المبارك عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة أن رسول الله ﷺ قال : تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة

قال أبو محمد رحمه الله : حديث عبد الملك كان يكون جيدا لولا أن محمد بن أبي بكر مقدر أنه لم يسمعه من عمرة , لأن هذا الحديث إنما هو عن أبيه أبي بكر عن عمرة

وأما أبو بكر بن نافع فهو ضعيف ليس هو بشيء وليس هو أبا بكر بن نافع مولى ابن عمر , ذلك عال ثقة , وهذا متأخر وأحسنها كلها حديث عبد الرحمن بن مهدي فهو جيد والحجة به قائمة.

ومن طريق مسلم ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : الأنصار كرشي وعيبتي , والناس سيكثرون ويقلون , فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم.

حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن يحيى أبو علي الصائغ ، حدثنا شاذان أخو عبدان ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة بن الحجاج عن هشام بن زيد قال : سمعت أنس بن مالك يقول مر أبو بكر , والعباس , بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون , فقال : ما يبكيكم فقالوا : ذكرنا مجلس النبي ﷺ منا , فدخل إلى النبي ﷺ فأخبره بذلك , قال : فخرج النبي ﷺ وقد عصب رأسه بحاشية برد , فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي , وقد قضوا الذي عليهم , وبقي الذي لهم , فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم. وبه إلى البخاري ، حدثنا أحمد بن يعقوب ، حدثنا ابن المغلس قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت ابن عباس يقول خرج رسول الله ﷺ وعليه ملحفة متعصبا بها على منكبيه وعليه عصابة دسماء , حتى جلس على المنبر , فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : أما بعد : أيها الناس , فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار , حتى يكونوا كالملح في الطعام.

فإن قال قائل : فكيف تجمع هذه الآثار مع قوله ﷺ : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع ومع ما حدثكموه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبدان ، هو ابن عثمان ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا يونس ، هو ابن يزيد عن الزهري أخبرني عروة عن عائشة , قالت : ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه في شيء يؤتى إليه , حتى ينتهك من حرمات الله , فينتقم لله عز وجل

قال أبو محمد رحمه الله : فنقول وبالله تعالى التوفيق : إن جميعها كلها حق ممكن ظاهر , وذلك ما كان من إساءة لا تبلغ منكرا وجب أن يتجاوز فيها عن الأنصاري في التعزير , ولم يخفف عن غيرهم , وما كان من حد خفيف أيضا من الأنصار ما لا يخفف عن غيرهم , مثل أن يجلد الأنصاري في الخمر بطرف الثوب , وغيره باليد , أو بالجريد , والنعال , ويقال ذو الهيئة وهو الذي له هيئة علم وشرف عثرة في جفا , ونحو ذلك ما لم يكن حدا أو منكرا , فلا بد من إقامة الحدود , والتعزير وبالله تعالى التوفيق.


2311 - مسألة : هل يقتل القرشي فيما يوجب القتل من رجم المحصن إذا زنى , والقود , والحرابة , والردة , وإذا شرب الخمر , بعد أن حد فيها ثلاث مرات أم لا

قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا أبو بكر أحمد بن الفضل الدينوري ، حدثنا محمد بن جرير الطبري ، حدثنا عبد الله بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ني عمي يعقوب بن إبراهيم ني شعبة بن الحجاج عن عبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مطيع بن الأسود عن أبيه مطيع أخي بني عدي بن كعب وكان اسمه العاص , فسماه رسول الله ﷺ : مطيعا قال : سمعت رسول الله ﷺ بمكة يقول لا تغزى مكة بعد هذا العام أبدا ، ولا يقتل رجل من قريش بعد هذا العام صبرا.

حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا أحمد بن الفضل بن بهرام ، حدثنا محمد بن جرير ثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، هو ابن عيينة عن زكريا ، هو ابن أبي زائدة عن الشعبي قال : قال الحارث بن مالك بن البرصاء : قال رسول الله ﷺ : لا تغزى مكة بعد اليوم أبدا.

حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، حدثنا محمد بن عبيد عن زكريا ، هو ابن أبي زائدة عن عامر الشعبي عن الحارث بن مالك بن برصاء قال : سمعت رسول الله ﷺ يوم فتح مكة وهو يقول لا تغزى بعدها إلى يوم القيامة

قال أبو محمد رحمه الله : الحارث هذا هو الحارث بن مالك بن قيس بن عود بن جابر بن عبد مناف بن كنانة بن سجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة لا يعرف للشعبي سماع من عبد الله بن مطيع وعبد الله بن مطيع هذا قتل مع عبد الله بن الزبير في الحصار الأول , ولا يعرف له أيضا سماع من الحارث بن مالك بن البرصاء فحصل الخبران منقطعين , ولا حجة في منقطع. ثم لو صح لكان المراد بذلك أنه عليه السلام لا يغزوها أبدا , ولا يقتل هو قرشيا بعد ذلك اليوم صبرا , فهذا من أعلام نبوته ﷺ .

وبرهان صحة هذا التأويل : هو قول الله تعالى {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} فأخبر تعالى أننا سنقاتل فيه ونقتل ونقتل.

روينا من طريق مسلم ، حدثنا قتيبة بن سعيد , وأبو بكر بن أبي شيبة , وإسحاق ، هو ابن إبراهيم واللفظ لقتيبة , قال إسحاق : أخبرنا , وقال الآخران : حدثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد الله ابن القبطية , قال : دخل الحارث بن أبي ربيعة , وعبد الله بن صفوان , وأنا معهما على أم سلمة أم المؤمنين فقالت : قال رسول الله ﷺ : يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كان ببيداء من الأرض خسف بهم , فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارها قال : يخسف به معهم , ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته

قال أبو محمد رحمه الله : أسقطنا من هذا الخبر كلاما لبعض رواته ليس من الحديث في شيء , وهو غلط , وهو أنه ذكر أن ذلك كان أيام ابن الزبير وهو خطأ , لأن أم سلمة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، ماتت أيام معاوية , فإنما الغرض من الحديث كلام رسول الله ﷺ لا كلام من دونه فلا حجة فيه.

ومن طريق مسلم ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن أمية بن صفوان سمع جده عبد الله بن صفوان يقول : أخبرتني حفصة أنها سمعت النبي ﷺ يقول ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بهم بأوسطهم , وينادي أولهم آخرهم , ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم.

ومن طريق مسلم ني محمد بن حاتم بن ميمون ، حدثنا الوليد بن صالح ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، حدثنا يزيد بن أبي أنيسة عن عبد الملك العامري عن يوسف بن ماهك أخبرني عبد الله بن صفوان عن أم المؤمنين : أن رسول الله ﷺ قال : سيعود بهذا البيت قوم ليس لهم منعة ، ولا عدد ، ولا عدة يبعث إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم. قال يوسف : وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة. قال عبد الله بن صفوان : أما والله ما هو بهذا الجيش

ومن طريق مسلم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني عن محمد بن زياد عن عبد الله بن الزبير قال : إن عائشة قالت عبث رسول الله ﷺ في منامه , .

فقلنا : يا رسول الله صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله , قال : العجب , إن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش قد لجأ بالبيت , حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم .

فقلنا : يا رسول الله , فإن الطريق قد تجمع الناس , قال : نعم , فيه المستبصر , والمجبر , وابن السبيل , يهلكون مهلكا واحدا , ويصدرون مصادر شتى حتى يبعثهم الله على نياتهم.

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا خبر صحيح في غاية الصحة عن ثلاثة من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وعن ابن الزبير وهو صاحب قد أنذر النبي ﷺ بأن مكة تغزى بعده.

وأما قتل القرشي صبرا .

فلما روينا من طريق مسلم ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي عن عثمان بن غياث عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال : بينما رسول الله ﷺ في حائط من حوائط المدينة استفتح رجل فذكر الحديث. وفيه ثم استفتح رجل آخر فقال : افتح وبشره بالجنة على بلوى تكون , قال : فذهبت فإذا عثمان بن عفان قال : ففتحت له وبشرته بالجنة , فقلت الذي قال , فقال : اللهم صبرا والله المستعان.

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع , ويحيى بن سعيد القطان ، واللفظ له قالا جميعا : حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك حدثهم أن النبي ﷺ صعد أحدا فتبعه أبو بكر , وعمر , وعثمان , فرجف بهم , فضربه نبي الله ﷺ برجله : اثبت أحد , فإنما عليك نبي , وصديق , وشهيدان

قال أبو محمد رحمه الله : وأنذر رسول الله ﷺ بأن الكعبة يهدمها ذو السويقتين من الحبشة وهذا لا يكون إلا بعد غزوها بلا شك وقد صرح رسول الله ﷺ بأنها تغزى بعده , وصرح بأن عثمان تصيبه بلوى كما ترى فهذا أنذر بأنه سيقتل , وهو قرشي. وصح يقينا : أن حديث الشعبي ، عن ابن مطيع , وعن الحارث بن برصاء , لو صح وهو لا يصح لكان معناه : أنه عليه السلام لا يغزوها بعد يومه ذلك أبدا إلى يوم القيامة , وأنه عليه السلام لا يقتل قرشيا صبرا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة , وهكذا كان , فإذ هذا معنى ذلك الحديث لو صح بلا شك فقد ثبت أن القرشي كغير القرشي في أن يقتل إذا وجب عليه القتل صبرا , كما يقتل غيره , وأن الحدود تقام عليه , كما تقام على غير قرشي , ولا فرق , مع أن هذا أمر مجمع عليه بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق.