الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الخامسة والسبعون

كتاب المحاربين

2256 - مسألة : قال الله تعالى : {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية

قال أبو محمد : فاختلف الناس , من هو المحارب الذي يلزمه هذا الحكم فقالت طائفة : المحارب المذكور في هذه الآية : هم المشركون. روي ، عن ابن عباس وغيره كما ، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم بن حماد ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا محمد بن أبي بكر هو المقدمي ، حدثنا يحيى , وخالد هما القطان وأبو الحارث , كلاهما عن أشعث عن الحسن البصري في قول الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية , قال : نزلت في أهل الشرك. وبه إلى إسماعيل ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين النبي ﷺ ميثاق فنقضوا العهد , وقطعوا السبيل , وأفسدوا في الأرض , فخير الله تعالى نبيه عليه السلام فيهم إن شاء أن يقتل , وإن شاء أن يصلب , وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وبه إلى إسماعيل ، حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا أشعث ، حدثنا سفيان أنه بلغه عن الضحاك بن مزاحم في هذه الآية قال : نزلت في أهل الكتاب. وبه إلى إسماعيل ، حدثنا محمد بن عبيد ، وإبراهيم الهروي , قال محمد : حدثنا محمد بن ثور , وقال إبراهيم : حدثنا سفيان , ثم اتفق محمد بن ثور , وسفيان , كلاهما عن معمر عن قتادة , وعطاء الخراساني , قالا جميعا في قول الله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} هذه الآية لأهل الشرك , فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فأخذ مالا , وأصاب دما , ثم تاب من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى ، حدثنا حمام القاضي ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا أبو علي الحسن بن سعد ، حدثنا أبو يعقوب الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قال لي عطاء بن أبي رباح , وعبد الكريم : المحاربة شرك قال ابن جريج : وأقول أنا : لا أعلم أحدا يحارب النبي ﷺ إلا أشرك.

وقالت طائفة : هو المرتد كما ، حدثنا أبو سعيد الجعفري ، حدثنا محمد بن علي الإدفوي ، حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي عن عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر ، حدثنا روح بن عبادة ، عن ابن جريج ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : إذا خرج المسلم فشهر سلاحه , ثم تلصص , ثم جاء تائبا أقيم عليه الحد ولو ترك لبطلت العقوبات , إلا أن يلحق ببلاد الشرك ثم يأتي تائبا : فتقبل منه.

وقالت طائفة : اللص ليس مسلما كما ، حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، عن ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال : سألت نافعا مولى ابن عمر عن لص مسلم , أو كافر أتى مسلما وأراد أن يأخذ ماله , ويهريق دمه قال : لو كنت أنا امتنعت هذا الذي يستغيلني ليهريق دمي , ويأخذ مالي , ليس بمسلم.

وقالت طائفة : كل لص فهو محارب : كما ، حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا الحسن بن سعد ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن عبد الكريم أو غيره عن الحسن البصري , وسعيد بن جبير , قالا جميعا : من خرب فهو محارب

قال أبو محمد : المحارب اللص : حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر عن الشعبي قال : اللص محارب لله ولرسوله فاقتله , فما أصابك فيه من شيء من دمه فعلي.

وقالت طائفة : لا يكون المحارب إلا من أخاف السبيل : كما ، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم بن حماد ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمار الدهني قال : جاء مسعر بن فدكي وهو متنكر حتى دخل على علي بن أبي طالب , فما ترك آية من كتاب الله فيها تشديد إلا سأله عنها , وهو يقول , له توبة , قال : وإن كان مسعر بن فدكي قال : وإن كان مسعر بن فدكي , قال : فقلت له : فأنا مسعر بن فدكي فأمني قال : أنت آمن , قال : وكان يقطع الطريق , ويستحل الفروج. وبه إلى إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا عمر بن علي عن مجاهد عن الشعبي عن سعيد بن قيس الهمداني أن حارثة بن بدر التميمي كان عدوا لعلي وكان يهجوه فأتى الحسن , والحسين , وعبد الله بن جعفر ، رضي الله عنهم ، ليأخذوا له أمانا , فأبى علي أن يؤمنه , قال سعيد : فانطلقت إلى علي فقلت : ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا قال : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف الآية قلت : إلا ماذا قال : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم قلت : فإن حارثة بن بدر قد تاب من قبل أن نقدر عليه , قال : هو آمن , قال : فانطلقت بحارثة إلى علي فآمنه.

حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا الحسن بن سعد ، حدثنا أبو يعقوب الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , وعطاء الخراساني , قالا جميعا في هذه الآية إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله قال : هذه الآية في اللص الذي يقطع الطريق فهو محارب

قال أبو محمد : ثم اختلف هؤلاء : فقالت طائفة : حيثما قطع الطريق في مصر أو غيره فهو محارب : كما كتب إلي أبو المرجى بن ذروان المصري ، حدثنا أبو الحسن الرحبي ، حدثنا مسلم الكاتب ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن المغلس قال : ذكر وكيع عن الحكم بن عطية قال : سألت الحسن عن رجل ضرب رجلا بالسيف بالبصرة قال : كانوا يقولون : من شهر السلاح فهو محارب.

حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه عن الزبير قال طاووس : سمعته يقول : من رفع السلاح ثم وضعه : محارب , فدمه هدر قال : وكان طاووس يرى هذا أيضا. حدثنا عبد الرحمن بن سلمة الكناني ، حدثنا أحمد بن خليل ، حدثنا خالد بن سعد ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف فقيه أهل مصر ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا سليمان بن بلال ني علقمة بن أبي علقمة عن أمه : أن غلاما كان لباني , فكان باني يضربه في أشياء يعاقبه فيها , فكان الغلام يعادي سيده , فباعه باني , فلقيه الغلام يوما ومع الغلام سيف يحمله وذلك في إمرة سعيد بن العاص فشهر الغلام السيف على باني وتفلت به عليه , فأمسكه عنه الناس , فدخل باني على عائشة فأخبرها بما فعل به العبد , فقالت عائشة : سمعت رسول الله ﷺ يقول من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه فذكر الحديث , وفيه : أن الغلام قتل. حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا حماد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا علي بن عبد العزيز المديني ، حدثنا محمد بن علي بن مقدم عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن أبي الشعثاء جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال إذا تسور عليهم في بيوتهم بالسلاح قطعت يده ورجله. وبه إلى إسماعيل ، حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا خالد بن الحارث عن أشعث عن الحسن قال : إذا طرقك اللص بالليل فهو محارب. وبه إسماعيل ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا محمد بن سوار عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : إذا دخل عليك ومعه حديدة فهو محارب. قال إسماعيل : وحدثنا نصر بن علي ، حدثنا حرب بن ميمون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : إذا طرقك اللص بالليل فهو محارب. وبهذا يأخذ الشافعي , وأبو سليمان , وأصحابهما. واختلف فيه قول مالك , فمرة قال : لا تكون المحاربة إلا في الصحراء ومرة قال : تكون المحاربة في الصحراء , وفي الأمصار. وقال سفيان : لا تكون المحاربة إلا في الصحراء. قال أبو حنيفة , وأصحابه : لا تكون المحاربة في مدينة , ولا في مصر , ولا بقرب مدينة , ولا بقرب مصر ، ولا بين مدينتين , ولا بين الكوفة والحيرة ثم روي عن أبي يوسف ، أنه قال : إذ كابروا أهل مدينة ليلا , كانوا في حكم المحاربة.

وقال أبو حنيفة : من شهر على آخر سلاحا ليلا أو نهارا فقتله المشهور عليه عمدا فلا شيء عليه , فإن شهر عليه عصا نهارا في مصر فقتله عمدا قتل به وإن كان في الليل في مصر , أو في مدينة , أو في طريق في غير مدينة , فلا شيء على القاتل

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نطلب الحق من أقوالهم , لنعلم الصواب فنتبعه بمن الله تعالى

فنظرنا فيما تحتج به كل طائفة لقولها :

فنظرنا فيما احتج به من قال : إن المحارب لا يكون إلا مشركا أو مرتدا , فوجدناهم يذكرون : ما ، حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب النسائي , أخبرنا العباس بن محمد أنا أبو عامر العقدي عن إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زان محصن , يرجم , أو رجل قتل متعمدا , فيقتل أو رجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله , فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض. وبما ذكره ابن جريج آنفا من قوله : ما نعلم أحدا حارب رسول الله ﷺ إلا أشرك

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا فيما احتجوا به من ذلك فوجدنا الخبر المذكور لا يصح ; لأنه انفرد به إبراهيم بن طهمان وليس بالقوي.

وأما قول ابن جريج " ما نعلم أحدا حارب رسول الله ﷺ إلا أشرك " فإن محاربة الله تعالى , ومحاربة رسوله عليه السلام تكون على وجهين : أحدهما من مستحل لذلك , فهو كافر بإجماع الأمة كلها , لا خلاف في ذلك إلا ممن لا يعتد به في الإسلام وتكون من فاسق عاص معترف بجرمه , فلا يكون بذلك كافرا , لكن كسائر الذنوب , من الزنا , والقتل , والغصب , وشرب الخمر , وأكل الخنزير , والميتة , والدم , وترك الصلاة , وترك الزكاة , وترك صوم شهر رمضان , وترك الحج : فهذا لا يكون كافرا , لما قد تقصيناه في " كتاب الفصل " وغيره. ويجمع الحجة في ذلك : أنه لو كان فاعل شيء من هذه العظائم كافرا بفعله ذلك , لكان مرتدا بلا شك , ولو كان بذلك مرتدا لوجب قتله , لأمر رسول الله ﷺ بقتل من ارتد , وبدل دينه وهذا لا يقوله مسلم

قال أبو محمد : فإن قال قائل : إننا لا نسلم أن من عصى بغير الكفر لا يكون محاربا لله تعالى ولرسوله عليه السلام

قلنا له : وبالله تعالى التوفيق : {قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} الآية. كتب إلي أبو المرجى بن ذروان قال : حدثنا أبو الحسن الرحبي ، حدثنا أبو مسلم الكاتب ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن المغلس ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن خالد الخياط ، حدثنا عبد الواحد مولى عروة عن عروة عن عائشة , قالت : قال رسول الله ﷺ : قال الله تعالى (من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي).

وقال الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قوله {فأصلحوا بين أخويكم} .

وقال رسول الله ﷺ : تقتل عمارا الفئة الباغية فصح أنه ليس كل عاص محاربا , ولا كل محارب كافرا , ثم نظرنا في ذلك أيضا , فوجدنا الله تعالى قد حكم في المحارب ما ذكرنا من القتل , أو الصلب , أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف , أو النفي من الأرض وإسقاط ذلك كله عنه بالتوبة قبل القدرة عليه , فلو كان المحارب المأمور فيه بهذه الأوامر كافرا : لم يخل من ثلاثة أوجه , لا رابع لها : إما أن يكون حربيا مذ كان.

وأما أن يكون ذميا فنقض الذمة وحارب فصار حربيا.

وأما أن يكون مسلما فارتد إلى الكفر. لا بد من أحد هذه الوجوه ضرورة , ولا يمكن ، ولا يوجد غيرها , فلو كان حربيا مذ كان , فلا يختلف من الأمة اثنان في أنه ليس هذا حكم الحربيين وإنما حكم الحربيين القتل في اللقاء كيف أمكن حتى يسلموا , أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون , ومن كان منهم كتابيا في قولنا وقول طوائف من الناس. أو من كان منهم من أي دين كان ما لم يكن عربيا في قول غيرنا. أو يؤسر فيكون حكمه ضرب العنق فقط بلا خلاف , كما قتل رسول الله ﷺ عقبة بن أبي معيط , والنضر بن الحارث , وبني قريظة , وغيرهم , أو يسترق , أو يطلق إلى أرضه , كما أطلق رسول الله ﷺ ثمامة بن أثال الحنفي , وأبا العاص بن الربيع وغيرهما. أو يفادى به كما قال الله تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} . أو نطلقهم أحرارا ذمة , كما فعل رسول الله ﷺ بأهل خيبر. فهذه أحكام الحربيين بنص القرآن , والسنن الثابتة , والإجماع المتيقن ,

ولا خلاف في أنه ليس الصلب , ولا قطع الأيدي والأرجل , ولا النفي , من أحكامهم. فبطل أن يكون المحارب المذكور في الآية حربيا كافرا وإن كان ذميا فنقض العهد فللناس فيه أقوال ثلاثة لا رابع لها : أحدها أنه ينتقل إلى حكم الحربيين في كل ما ذكرنا.

والثاني أنه محارب حتى يقدر عليه فيرد إلى ذمته كما كان ، ولا بد. والثالث أنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف. وقد فرق بعض الناس بين الذمي ينقض العهد فيصير حربيا وبين الذمي يحارب فيكون له عندهم حكم المحارب المذكور في الآية , لا حكم الحربي فصح بلا خلاف أن الذمي الناقض لذمته المنتقل إلى حكم أهل الحرب ليس له حكم المحارب المذكور في الآية بلا خلاف. وبين هذا قول الله تعالى {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} إلى قوله : {لعلهم ينتهون} فأمر الله تعالى بقتالهم إذا نكثوا عهدهم حتى ينتهوا وهذا عموم يوجب الأنتهاء عن كل ما هم عليه من الضلال , وهذا يقتضي ، ولا بد أن لا يقبل منهم إلا الإسلام وحده , ولا يجوز أن يخص بقوله تعالى لعلهم ينتهون انتهاء دون انتهاء , فيكون فاعل ذلك قائلا على الله تعالى ما لا علم له به , وهذا حرام , قال الله تعالى {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} . وإن كان المحارب المذكور في الآية مرتدا عن إسلامه , فقد بين رسول الله ﷺ حكم المرتد بقوله من بدل دينه فاقتلوه. وبينه الله تعالى بقوله {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم} . فصح يقينا أن حكم المرتد الذي أوجب الله تعالى في القرآن , وعلى لسان رسوله عليه السلام هو غير حكمه تعالى في المحارب فصح يقينا أن المحارب ليس مرتدا.

وأيضا فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم المرتد المقدور عليه ليس هو الصلب , ولا قطع اليد والرجل , ولا النفي من الأرض فصح بكل ما ذكرنا أن المحارب ليس كافرا أصلا , إذ ليس له شيء من أحكام الكفر , ولا لأحد من الكفار : حكم المحارب. والرواية ، عن ابن عباس فيها الحسن بن واقد وليس بالقوي وهو أيضا من قول ابن عباس لا مسندا , فإذ قد صح ما ذكرنا يقينا فقد ثبت بلا شك أن المحارب إنما هو مسلم عاص , فإذ هو كذلك فالواجب : أن ننظر ما المعصية التي بها وجب أن يكون محاربا وأن يكون له حكم المحارب

فنظرنا في جميع المعاصي من الزنا , والقذف , والسرقة , والغصب , والسحر , والظلم , وشرب الخمر , والمحرمات , أو أكلها , والفرار من الزحف , والزنا , وغير ذلك فوجدنا جميع هذه المعاصي ليس منها شيء جاء نص أو إجماع في أنه محارب , فبطل أن يكون فاعل شيء منها محاربا.

وأيضا فإن جميع المعاصي التي ذكرنا والتي لم نذكر لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون فيها نص بحد محدود أو لا يكون فيها نص بحد محدود , فالتي فيها النص بحد محدود فهي الردة , والزنا , والقذف , والخمر , والسرقة , وجحد العارية وليس لشيء منها الحكم المذكور في الآية في المحارب فبطل أن يكون شيء من هذه المعاصي محاربة وهذا أيضا إجماع متيقن

وأما ما ليس فيه من الله تعالى حد محدود لا في القرآن ، ولا على لسان رسول الله ﷺ فلا يحل لأحد أن يلحقها بحد المحاربة , فيكون شارعا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى , وهذا لا يحل , بل قد قال رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام. فوجب يقينا أن لا يستباح دم أحد , ولا بشرته , ولا ماله , ولا عرضه إلا بنص وارد فيه بعينه , من قرآن , أو سنة عن رسول الله ﷺ أو إجماع متيقن من الصحابة ، رضي الله عنهم ، راجع إلى توقيف رسول الله ﷺ . فبطل أن يكون شيء من المعاصي المذكورة هي المحاربة , فإذ لا شك في هذا فلم يبق إلا قاطع الطريق , والباغي , فهما جميعا مقاتلان , المقاتلة هي المحاربة في اللغة :

فنظرنا في ذلك , فوجدنا " الباغي " قد ورد فيه النص , بأن يقاتل حتى يفيء فقط , فيصلح بينه وبين المبغي عليه , فخرج الباغي عن أن يكون له حكم المحاربين , فلم يبق إلا " قاطع الطريق , ومخيف السبيل " هذا مفسد في الأرض بيقين , وقد قال جمهور الناس : إنه هو المحارب المذكور في الآية , ولم يبق غيره , وقد بطل كما قدمنا أن يكون كافرا , ولم يقل أحد من أهل الإسلام في أحد من أهل المعاصي : إنه المحارب المذكور في الآية , إلا قاطع الطريق المخيف فيها , أو في اللص

فصح أن مخيف السبيل المفسد فيها : هو المحارب المذكور في الآية بلا شك. وبقي أمر اللص

فنظرنا فيه بعون الله تعالى فوجدناه إن دخل مستخفيا ليسرق , أو ليزني , أو ليقتل ففعل شيئا من ذلك مختفيا فإنما هو سارق , عليه ما على السارق , لا ما على المحارب بلا خلاف. أو إنما هو زان , فعليه ما على الزاني , لا ما على المحارب بلا خلاف. أو إنما هو قاتل , فعليه ما على القاتل بنص القرآن والسنة , فيمن قتل عمدا وإن كان قد خالف في هذا قوم خلافا لا تقوم به حجة , فإن اشتهر أمره ففر وأخذ , فليس محاربا ; لأنه لم يحارب أحدا , وإنما هو عاص فقط , ولا يكون عليه له حكم المحاربة , لكن حكم من فعل منكرا , فليس عليه إلا التعزير وإن دافع وكابر : فهو محارب بلا شك ; لأنه قد حارب وأخاف السبيل , وأفسد في الأرض , فله حكم المحارب كما قال الشعبي , وغيره.

قال أبو محمد رحمه الله : وأما قول من قال : لا تكون المحاربة إلا في الصحراء , أو من قال : لا تكون المحاربة في المدن إلا ليلا : فقولان فاسدان , ودعوتان ساقطتان , بلا

برهان , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا من إجماع , ولا من قول صاحب , ولا من قياس , ولا من رأي سديد , وما يبعد أن يكون فيهم من هان عنده الكذب على الأمة كلها , فيقول : من حارب في الصحراء فقد صح عليه اسم محارب ومن كتاب المحاربين

قال أبو محمد رحمه الله : فإن اعترض معترض في أن المحارب لا يكون إلا من شهر السلاح : بما ، حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن راهويه أرنا الفضل بن موسى ، حدثنا معمر عن عبد الله بن طاووس ، عن ابن الزبير عن رسول الله ﷺ قال : من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر قال إسحاق : أرناه عبد الرزاق بهذا الإسناد مثله , ولم يرفعه , يريد , أنه جعله من كلام ابن الزبير قال ابن شعيب : وأنا أبو داود ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن طاووس عن أبيه ، عن ابن الزبير قال : من رفع السلاح ثم وضعه فدمه هدر.

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية أخبرني أحمد بن شعيب أنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرني ابن وهب أنا مالك , وأسامة بن زيد , ويونس بن يزيد : أن نافعا أخبرهم عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله ﷺ قال : من حمل علينا السلاح فليس منا

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا كله حق , وآثار صحاح لا يضرها إيقاف من أوقفها , إلا أنه لا حجة فيها لمن لم ير المحارب إلا من حارب بسلاح ; لأن رسول الله ﷺ إنما ذكر في هذين الأثرين : من وضع سيفه وشهر سلاحه فقط , وسكت عما عدا ذلك فيها , ولم يقل عليه السلام أن لا محارب إلا من هذه صفته , فوجب من هذين الأثرين حكم من حمل السلاح وبقي حكم من لم يحمل السلاح أن يطلب في غيرهما ففعلنا , فوجدنا : ما ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا مهدي ثنا ابن ميمون عن غيلان بن جرير عن زياد بن رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ في حديثه ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي بذي عهدها فليس مني. فقد عم رسول الله ﷺ كما تسمع " الضرب " ولم يقل بسلاح , ولا غيره.

فصح أن كل حرابة بسلاح , أو بلا سلاح فسواء قال : فوجب بما ذكرنا أن المحارب : هو المكابر المخيف لأهل الطريق , المفسد في سبيل الأرض سواء بسلاح , أو بلا سلاح أصلا سواء ليلا , أو نهارا في مصر , أو في فلاة أو في قصر الخليفة , أو الجامع سواء قدموا على أنفسهم إماما , أو لم يقدموا سوى الخليفة نفسه فعل ذلك بجنده أو غيره منقطعين في الصحراء , أو أهل قرية سكانا في دورهم , أو أهل حصن كذلك , أو أهل مدينة عظيمة , أو غير عظيمة كذلك واحدا كان أو أكثر كل من حارب المار , وأخاف السبيل بقتل نفس , أو أخذ مال , أو لجراحة , أو لأنتهاك فرج : فهو محارب , عليه وعليهم كثروا أو قلوا حكم المحاربين المنصوص في الآية ; لأن الله تعالى لم يخص شيئا من هذه الوجوه , إذ عهد إلينا بحكم المحاربين وما كان ربك نسيا. ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن الله سبحانه لو أراد أن يخص بعض هذه الوجوه لما أغفل شيئا من ذلك , ولا نسيه ، ولا أعنتنا بتعمد ترك ذكره حتى يبينه لنا غيره بالتكهن والظن الكاذب.