الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الثانية والثلاثون

كتاب العواقل

2145 - مسألة: مقدار ما تحمله العاقلة

قال أبو محمد رحمه الله : قالت طائفة : لا تحمل العاقلة من جنايات الخطأ إلا ما كان أكثر من ثلث الدية فصاعدا , فإن كان أقل من الثلث أو كان الثلث , فهو في مال الجاني.

وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان ثلث الدية فصاعدا , فما كان أقل من ثلث الدية فهو في مال الجاني.

وقالت طائفة : الثلث فصاعدا على العاقلة , وما كان أقل من الثلث فعلى قومه خاصة.

وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان نصف عشر الدية فصاعدا , وما كان أقل فهو في مال الجاني.

وقالت طائفة : إن جنت امرأة على رجل أو امرأة , فبلغت ثلث ديتها كان على عاقلته , وإن بلغ أقل ففي ماله.

وقالت طائفة : المراعى في ذلك المجني عليه , فإن كان امرأة فبلغ نصف عشر ديتها حملته عاقلة الجاني رجلا كان أو امرأة وإن كان المجني عليه رجلا فبلغ نصف عشر ديته فإنه على عاقلة الجاني رجلا كان أو امرأة وما كان دون ذلك ففي مال الجاني.

وقالت طائفة : تحمل العاقلة ما قل أو كثر.

وقالت طائفة : الحكم في ذلك على ما اتفقوا عليه , فإن كان تآلفوا على الكثير فقط حملوا الكثير فقط ولم تحد للقليل ، ولا للكثير حدا.

قال أبو محمد : فالقول الأول كما روي عن الزهري , قال : الثلث فما دونه في خاصة ماله وما زاد فهو على العاقلة. والقول الثاني كما روي ، عن ابن وهب , قال : أخبرني ابن سمعان قال : سمعت رجالا من علمائنا يقولون : قضى عمر بن الخطاب في الدية أن لا يحمل منها شيء على العاقلة حتى تبلغ ثلث الدية فإنها على العاقلة عقل المأمومة والجائفة فإذا بلغت ذلك فصاعدا حملت على العاقلة. وعن سعيد بن المسيب , وسليمان بن يسار مثله وعن الزهري مثله. وقال عروة بن الزبير : ما كان من خطأ فليس على العاقلة منه شيء حتى يبلغ ثلث الدية على ذلك أمر السنة. وعن الليث بن سعد أنه سمع يحيى بن سعيد يقول : إن من الأمر القديم عندنا أن لا يكون على العاقلة عقل حتى يبلغ الجرح ثلث الدية. وعن ربيعة لا تحمل العاقلة ما دون الثلث إلا أن يصطلحوا على شيء. وعن ابن جريج , ومعمر عن عبيد الله بن عمر قال : نحن مجتمعون أو قد كدنا أن نجتمع : أن ما دون الثلث في ماله خاصة. وعن يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز قضى في مولى جرح , فكان دون الثلث من الدية ولم يكن له شيء أن يكون دينا يتبع به وبهذا يقول عبد العزيز بن أبي سلمة. والقول الثالث قال مالك : ما بلغ ثلث الدية من الرجل من جناية الرجل جرح رجلا أو امرأة فعلى العاقلة فإن كان أقل من ذلك ففي ماله , وما بلغ ثلث دية المرأة فعلى العاقلة فما كان أقل ففي ماله سواء جرحت رجلا أو امرأة. والقول الرابع كما روي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال : لا تعقل العاقلة ما دون الموضحة. قال وكيع : وسمعت سفيان الثوري يقول : لا تعقل العاقلة موضحة المرأة إلا في قول من رآها كموضحة الرجل

وهو قول ابن شبرمة.

وأما القول الخامس فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا به فراعوا المجني عليه , قالوا : فإن كان المجني عليه امرأة فبلغت الجناية نصف عشر ديتها فصاعدا فهي على العاقلة , فإن بلغت أقل فهي في مال الجاني رجلا كان أو امرأة فإن كان المجني عليه رجلا فبلغت الجناية نصف عشر ديته فصاعدا فهي على العاقلة , فإن بلغت أقل ففي مال الجاني رجلا كان أو امرأة. والقول السادس كما روى عبد الرزاق ، عن ابن جريح عن عطاء , قال : إذا بلغ الثلث فهو على العاقلة , وقال لي ذلك ابن أيمن , ولا أشك ، أنه قال : فما لم يبلغ الثلث فعلى قوم الرجل خاصة. والقول السابع كما روي ، عن ابن وهب أخبرني يونس عن أبي الزناد قال : كل شيء من جراح أو دم كان خطأ , فإن عقل ما ائتلفت عليه القبيلة من الخطأ على ما ائتلفوا عليه إن كانت إلفتهم على الكثير , وليست على القليل , فإن عقل ما ائتلفوا عليه على العاقلة وعقل ما لم يأتلفوا عليه على الجارح في ماله وليس بشيء من ذلك اصطلحت عليه القبيلة بأس. وقد كان عمر بن عبد العزيز ألف معقلة قريش , إذ كان أميرا على المدينة : على أنهم يعقلون ثلث الدية فما فوقها , وأن ما دون ذلك يكون على الجارح في ماله. والقول الثامن قاله عثمان البتي , والشافعي : أن العاقلة تحمل ما قل أو كثر كما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا قول عطاء وغيره : أن العاقلة تحمل ثمن العبد ولم يخص قليلا من كثير

وهو قول الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان , وغيرهم.

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في قول من قال : إن الثلث فما دونه في مال الجاني , وإن ما زاد على العاقلة فوجدناه لا حجة لهم نعلمها أصلا فسقط هذا القول , إذ كل قول لا حجة له , فهو ساقط لا يجوز القول به. ثم نظرنا في القول الثاني فوجدناهم يذكرون : ما رواه يونس بن يزيد عن ربيعة ، أنه قال : إن رسول الله ﷺ ألف بين الناس في معاقلهم فكانت بنو ساعدة فرادى على معقلة يتعاقلون ثلث الدية فصاعدا , ويكون ما دون ذلك على من اكتسب وجنى. وقال ابن وهب : وحدثني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة ، أنه قال : عاقل رسول الله ﷺ بين قريش والأنصار : فجعل العقل بينهم إلى ثلث الدية. وما ناه حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا محمد بن عمر الواقدي ، حدثنا موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال : كنا في جاهليتنا وإنما نحمل من العقل ما بلغ ثلث الدية , ونؤخذ به حالا , فإن لم يوجد عندنا كان بمنزلة الذي يتجازى , فلما جاء الله تعالى بالإسلام كنا فيمن سن رسول الله ﷺ من المعاقل بين قريش والأنصار : ثلث الدية روي عن عمر ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ، رضي الله عنهم ،.

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في هذا الأحتجاج , فوجدناه لا تقوم به حجة ; لأن الخبرين عن ربيعة مرسلان. أما المسند فهالك ألبتة ; لأنه عن الحارث بن أبي أسامة وهو منكر الحديث , ترك بأخرة وهو أيضا عن الواقدي , وهو مذكور بالكذب. ثم عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك وهو مجهول. ورب مرسل أصح من هذا قد تركوه , كالمرسل في : أن في العين العوراء : ثلث ديتها وغير ذلك فسقط هذا القول.

وأما كونه عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل ، عن ابن سمعان وابن سمعان مذكور بالكذب ثم لو صح لما كان في قول أحد دون رسول الله ﷺ حجة. وقد جاء عن عمر بما هو أصح من حكمه : في عين الدابة ربع ثمنها , وكتابه بذلك إلى القضاة في البلاد , ومن خطبته على الصحابة ، رضي الله عنهم ، أن في الضلع جملا , وفي الترقوة جملا. ومن الباطل أن يكون قول عمر قد صح عنه ليس حجة , ويكون قول مكذوب لم يصح عنه حجة فسقط كل ما احتجوا به. ثم نظرنا في قول من قال : لا تحمل العاقلة ما دون نصف العشر من الدية فلم نجد لهم حجة إلا أن قالوا : إن الأموال لا تحملها العاقلة ; لأنه ليس فيها أرش مؤقت لا يتعدى ووجدنا ثلث الدية تحملها العاقلة ; لأن فيها أرشا معلوما لا يتعدى , فوجب أن يكون كذلك كل ما له أرش محدود فتحمله العاقلة , وما لا أرش له محدودا فلا تحمله العاقلة.

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا ليس بشيء , وقول كاذب , وباطل موضوع , ولا ندري أين وجدوا هذا إلا بظنون قال الله تعالى {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}. ثم نظرنا في تقسيم أبي حنيفة , ومالك , ومراعاة مالك ثلث دية المرأة إذا كانت هي الجانية , أو ثلث دية الرجل إذا كان هو الجاني , ومراعاة أبي حنيفة نصف عشر الدية في المجني عليه خاصة رجلا كان أو امرأة فوجدناهما تقسيمين لم يسبق أبا حنيفة إلى تقسيمه في ذلك أحد نعلمه , ولا سبق مالكا في تقسيمه هذا أحد نعلمه , ولئن جاز لأبي حنيفة , ومالك أن يقولا قولا برأيهما لا يعرف له قائل قبلهما , فما حظر الله تعالى قط ذلك على غيرهما , ولا أباح لهما من ذلك ما لم يبحه لكل مسلم دونهما , لا سيما من قال بما أوجبه القرآن , وسنة رسول الله ﷺ وأن من صوب لمالك , ولأبي حنيفة قولا بالرأي لم يعرف أن أحدا قال به قبلهما ثم أنكر على من قال متبعا لكلام الله تعالى , وكلام رسوله ﷺ قولا لم يأت عن أحد قبله ، أنه قال به , ولا صح إجماع بخلافه فما ترك للباطل شغبا ثم نظرنا في قول من قال : ما كان ثلث الدية فصاعدا فعلى العاقلة , وما كان أقل من ثلث الدية فعلى قوم الجاني خاصة فوجدناه لا حجة له فيه فسقط. ثم نظرنا فيما حكاه أبو الزناد من أن الحكم في ذلك إنما هو على ما ائتلفت عليه القبائل وتراضت به فقط , فوجدناه مخبرا عن حقيقة الحكم في هذه المسألة. وصح بإخبار أبي الزناد أن هذا أمر لا سنة فيه , وإنما هو تراض فقط فهذا لا يجوز الحكم به قطعا في دين الله تعالى. ثم نظرنا في قول من قال : إن العاقلة تحمل القليل والكثير فوجدنا حجتهم أن قالوا : لما حملت الدية بالنص والإجماع كان حملها لبعض الدية وللقليل أولى , إذ من حمل الكثير وجب أن يحمل القليل وهذا قياس , والقياس كله باطل.

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا وصح أنها آراء مجردة لا سنة في شيء من ذلك ، ولا إجماع وجب الرجوع إلى ما افترض الله تعالى عند التنازع فوجدنا الله تعالى يقول {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} الآية.

وقال تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.

وقال رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. فوجب أن لا تلزم العاقلة غرامة أصلا إلا حيث أوجبها النص والإجماع وقد صح النص بإيجاب دية النفس في الخطأ عليها وصح النص بإيجاب الغرة الواجبة في الجنين على العاقلة أيضا , لم يأت نص ، ولا إجماع بأن تلزم غرامة في غير ما ذكرنا فوجب أن لا يجب عليها غرامة لم يوجبها الله تعالى ، ولا رسوله عليه السلام ، ولا يصح فيها كلمة عن صاحب أصلا , وإنما فيها آثار عن اثني عشر من التابعين مختلفين غير متفقين فصح أنها أقوال عذر قائلها بالأجتهاد وقصد الخير وبالله تعالى التوفيق.


2146 - مسألة: هل يغرم الجاني مع العاقلة أم لا ؟

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة , ومالك , والليث , وابن شبرمة : يغرم القاتل خطأ مع عاقلته. وقال الأوزاعي , والحسن , وأبو سليمان , وأصحابنا : لا يدخل معهم في الغرامة.

وقال الشافعي : هي على العاقلة , فما عجزت عنه العاقلة فهو في ماله.

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها : فوجدنا الموجبين على القاتل خطأ أن يغرم مع عاقلته يقولون : إن سعد بن طارق روى عن نعيم بن أبي هند عن سلمة بن نعيم ، أنه قال : قتلت يوم اليمامة رجلا ظننته كافرا , فقال : اللهم إني مسلم بريء مما جاء به مسيلمة , قال : فأخبرت بذلك عمر بن الخطاب , فقال : الدية عليك وعلى قومك. قالوا :

وروي هذا عن عمر بن عبد العزيز , ولا يعرف لهما من السلف مخالف. وقالوا : إنما الغرم على العاقلة تغرم عنه على وجه النصرة له , فهو أولى بذلك في نفسه ما نعلم لهم حجة غير هذا , ولا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ . ثم نظرنا في قول الشافعي , فوجدناه لا حجة له أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا من قول صاحب , ولا تابع , ولا قياس , ولا وجدناه لأحد قبله فسقط وبالله تعالى التوفيق. ثم نظرنا في قول الأوزاعي , والحسن بن حي , وأبي سليمان , فوجدنا رسول الله ﷺ قد حكم بالدية على عصبة العاقلة : كما رويناه عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة ، هو ابن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد ، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، أنه قال : قضى رسول الله ﷺ في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة , ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت , فقضى رسول الله ﷺ بأن ميراثها لبنيها وزوجها ، وأن العقل على عصبتها.

ومن طريق مسلم ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة قال : ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها وإحداهما لحيانية , فجعل رسول الله ﷺ دية المقتولة على عصبة القاتلة , وغرة لما في بطنها , فقال رجل من عصبة القاتلة : أنغرم دية من لا أكل ، ولا نطق ، ولا استهل , فمثل ذلك يطل فقال رسول الله ﷺ أسجع كسجع الأعراب وجعل عليهم الدية فهذا نص حكم رسول الله ﷺ ببراءة الجانية من الدية جملة , وأن ميراثها لزوجها وبنيها , لا مدخل للغرامة فيه , والدية على عصبتها , وهي ليست عصبة لنفسها , لا في شريعة , ولا في لغة. فصح يقينا أنه لا يغرم الجاني خطأ من دية النفس , ولا من الغرة شيئا

قال أبو محمد رحمه الله : فإن عجزت العاقلة : فالدية , والغرة على جميع المسلمين في سهم الغارمين من الزكاة ; لأنهم غارمون , فحقهم في سهم الغارمين بنص القرآن ولأن رسول الله ﷺ حكم بالدية على أوليائها.

وبرهان آخر : وهو أن الأموال محرمة إلا بنص أو إجماع , وقد صح النص وإجماع أهل الحق على أن العاقلة تغرم الدية , ولم يأت نص ، ولا إجماع بأن القاتل يغرم معهم شيئا , فلم يحل أن يخرج من ماله شيء , وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد رحمه الله والعجب من احتجاجهم بعمر رضي الله عنه وهم قد خالفوه في هذا المكان نفسه , وفي غيره , فمما حضرنا ذكره من ذلك : ما رويناه عن معمر عن قتادة : أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ , فقضى له عمر بن الخطاب بالدية فيها على العاقلة وهم لا يقولون بهذا.


2147 - مسألة: كم يغرم كل رجل من العاقلة

قال أبو محمد رحمه الله : قد قلنا : من العاقلة. ثم وجب النظر : أيدخل فيها : الصبيان , والمجانين , والنساء , والفقراء أم لا فنظرنا في ذلك بعون الله تعالى فوجدنا النبي ﷺ إنما قضى بالدية على العصبة , وليس النساء عصبة أصلا , ولا يقع عليهن هذا الأسم , والأموال محرمة إلا بنص , أو إجماع , ولا نص ، ولا إجماع في إيجاب الغرم على نساء القوم في الدية التي تغرمها العاقلة. ثم نظرنا في الفقراء , فوجدنا الله تعالى يقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. و {لينفق ذو سعة من سعته} إلى قوله : {إلا ما آتاها}. فهذا عموم في كل نفقة في بر , يكلفها المرء , لا يجوز أن يخص بهذا الحكم نفقة دون نفقة لأنها قضية قائمة بنفسها , فلا يحل القطع لأحد : بأن الله تعالى إنما أراد بذلك ما قبلها خاصة فصح يقينا أن الفقراء خارجون مما تكلفه العاقلة. ثم نظرنا في الصبيان والمجانين , فوجدنا اسم " عصبة " يقع عليهم , ولم نجد نصا ، ولا إجماعا على إخراجهم عن هذه الكلفة , بل قد وجدنا أحكام غرامات الأموال تلزمهم , كالزكاة التي قد صح النص بإيجابها عليهم , وأجمع الحاضرون من المخالفين معنا على أن زكاة ما أخرجت الأرض , والثمار عليهم , وأن زكاة الفطر عليهم , وأن النفقات على الأولياء والأمهات عليهم. ولم نحتج بهذا لأنفسنا , لكن على المخالفين لنا , لأنهم يزعمون أنهم أصحاب قياس , وقد أجمعوا على وجوب كل ما ذكرناه في أموال الصبيان , والمجانين , فما الفرق بين لزوم النفقات والزكوات لهم , وبين لزوم الدية مع سائر العصبة لهم لا سيما وهم يرون الدية في مال الصبي والمجنون , إذا قتل , ويرون أروش الجراحات عليهم أيضا وهذا تناقض لا خفاء به

فإن قالوا : فأنتم لا ترون الدية عليهم ، ولا عنهم فيما جنوه , ثم ترونها عليهم فيما جناه غيرهم

قلنا نعم ; لأننا لا نقول بالمقاييس في الدين , ولا أن الشريعة موضوعة على ما توجبه الآراء , بل نكفر بهذا القول , ونبرأ إلى الله تعالى منه. وقد وجدنا القاتل يقتل عددا من المسلمين ظلما فيعفو عنه أولياؤهم , فيحرم دمه , ويمضي سالما لا شيء عليه , ثم يسرق دينارا , أو يزني بأمة سوداء فيعفو عنه رب الدينار , وسيد السوداء , فلا يسقط عنه القطع , ولا القتل بالحجارة إن كان محصنا وأين هذا والدينار من قتل النفس المحرمة ووجدناكم تقولون : إن زكاة الفطر على المرأة , ولا تؤديها عن نفسها , بل يؤديها عنها غيرها وهو زوجها. ويقول الحنفيون : الأضحية فرض على المرأة فلا تؤديها هي , لكن يؤديها عنها زوجها , فإذا قلتم هذا حيث لم يوجبه الله سبحانه وتعالى ، ولا رسوله عليه السلام , وأنتم أهل آراء وقياس في الدين فنحن أولى بأن نقول ما أوجبه الله تعالى ورسوله ﷺ والحمد لله رب العالمين.

فإن قيل : فإن احتجاجكم بقول رسول الله ﷺ : رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصبي حتى يبلغ , والمجنون حتى يفيق.

قلنا : نحن ولله الحمد قائلون به , ومسقطون عن الصبي والمجنون كل حكم ورد بخطاب أهل ذلك الحكم ; لأنهما غير مخاطبين بيقين لا شك فيه , فهما خارجان عمن خوطب بذلك الحكم , ونحن نلزمهما كل غرامة في مال جاء الحكم في ذلك المال بغير خطاب لأهله , والحكم هاهنا جاء بأن النبي ﷺ حكم بأن الدية والغرة على عصبة القاتلة ولم يخاطب العصبة , ولا التفت عليه السلام إلى اعتراض من اعترض منهم , بل أنفذ الحكم عليهم , فنحن ننفذ الحكم بإيجاب الدية في مال العصبة ، ولا نبالي صبيانا كانوا أو مجانين أو غيبا أو حاضرين , ولم نوجب ذلك فيما جناه صبي أو مجنون ; لأن الدية إنما وجبت بنص القرآن فيما قتله مخاطب الكفارة , وليس هذا من صفات الصبيان والمجانين والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد رحمه الله : ثم نظرنا في مقدار ما يؤخذ من كل إنسان من العصبة فوجدنا قوما قالوا : لا يؤخذ من كل واحد إلا أربعة دراهم أو ثلاثة. وقوما قالوا : يؤخذ من الغني نصف دينار , ومن المقل ربع دينار فكانت هذه حدودا لم يأت بها حكم من الله تعالى ، ولا من رسوله ﷺ فوجب أن لا يلتفت إليها ووجب أن ننظر ما الواجب في ذلك فوجدنا الله تعالى يقول لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

وقال تعالى {ما جعل عليكم في الدين من حرج}.

وقال تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. وحكم رسول الله ﷺ بالدية , وبالغرة على العاقلة , فوجب أن يحملوا من ذلك ما يطيقون , وما لا حرج عليهم فيه , وما لا يبقون بعده في عسر , فإن الله تعالى لم يرد ذلك أعني العسر بنا قط , فيؤخذ من مال المرء ما لا يبقى بعده معسرا , أو يعدل بينهم في ذلك , فمن احتمل ماله أبعرة كثيرة , ولم يجحف ذلك به كلف ذلك ومن لم يحتمل إلا جزءا من بعير كذلك : أشرك بين الجماعة منهم في البعير , هكذا حتى تتم الدية وهكذا في حكم الغرة , وبالله تعالى التوفيق. إنما ينظر إلى مال المرء منهم وعياله , فتفرض الدية , والغرة على الفضلات من أموالهم التي يبقون بعدها لو ذهبت أغنياء فيعدل بينهم في ذلك , كما قال تعالى {اعدلوا هو أقرب للتقوى}. والعدل : هو الأخذ بالسنة , لا بأن يساوى بين ذي الفضلة القليلة , والفضلة الكثيرة فيؤخذ منهم سواء لكن يؤخذ من الكثير كثير , ومن القليل قليل وهذا قول أصحابنا وهو الحق وبالله تعالى التوفيق.